وحي القلم/الجمهور

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الجمهور

الجمهور - وحي القلم

الجمهور

وقال صاحب سر 'م' باشا: كان من بعض عملي في الحكومة سنة 1922 أن أراقب الحركات والسكنات، وأبث العيون والأرصاد، وأعرف المضطرب والمنقلب في أيام الفتن ونوازل المحنة، محافظة على الأمن، ومبادرة لما يتوقع ؛ فكنت كالمرصد المهيأ بآلاته لتدوين حركات الزلازل.وانتهى إلينا يوما أن راجفة من هذه الزلازل سترجف بفلان من أهل الرأي الحر ؛ الذي يستقل ولا يتابع، وينتقد ولا يحابي، ويصرح ولا يجمجم، وأن قوما ثوروا عليه الغبار الآدمي من العامة وأشباه العامة، وأنهم يتحينون الوقت لتوجيه المكيدة له في شكلها المفترس من هذا الجمهور الناقم.أما فلان هذا فرجل سياسي عنيد أضاع الحق كله لأنه لا يرضى بنصف الحق. . .وكلمته في السياسة كأنما تلقى على لسانه من الغيب ؛ فلا يتحول عنها ولا يملك أن يتكلم إلا بما يتكلم ؛ وقد ذهب بصوته أنه في قوم لا يسمعون إلا ما أرادوا، فهو بينهم كالحق المغلوب ؛ لا يموت لأنه غير باطل، ثم لا يحيا لأنه لا ينتصر.وقد كان رجلا كالمصباح الوهاج فألقوا عليه الغطاء، فإذا هو في طبيعته ويبدو للناس بغير طبيعته، وتركه رأيه الحر الصريح كالنبي المكذوب يرد صدقه ؛ لا لأنه غير صدق، ولكن لأنه غير مستطاع، أو غير ملائم.ومن آفاتنا - نحن الشرقيين - أننا نستمرئ العداوة، وننقاد لأسبابها، ونتطاوع لها تطاوع الصغار بأنفسهم لما في أنفسهم ؛ كأن المستبدين الذين كانوا في تاريخنا قد انتقلوا إلى طبائعنا ؛ فرد الفكر على الفكر في مناقشة تجري بيننا لا يكون من دفع الحقيقة للحقيقة، ولكن من رد الاستبداد على الاستبداد، ومن توثب الطغيان على الطغيان ؛ فهو الثلب ؛ والطعن والتجريح، وهو الجفوة والخصومة واللدد، وهو المنازعة والعنف والتحامل ؛ وهو بهذه وتلك شر وفساد وسقوط.والجدال بين العقلاء يبعث الفكر فينتهي إلى الحق، ولكنه فينا نحن يهيج الخلق فينتهي إلى الشر، والرد على عظيم منا كأنه يرد على منزلته في الناس لا على منزلته ي الرأي، وكشف الخطأ عندنا تعبير بالخطأ لا تبصير بالصواب، واستلاب الحجة من صاحبها وإفسادها عليه كاستلاب الملك من مالكه وطرده منه. . .ومن ثم كان الدفاع بالمكابرة أصلا من أصول الطبيعة فينا، وكان الاضطهاد حجة للحجة العاجزة، وكان الإعنات دليلا للدليل الذي لا ينهض بنفسه، ومتى اعتبر كل إنسان نفسه إمبراطوراً على الحق. . .فلا جرم لا ترد كلمة على كلمة إلا بحرب.قال صاحب السر: وكبر الأمر على الباشا، فجمع رؤوس المؤتمرين بذلك الرجل الحر، وأخذ يقلبهم تقليبه بين التودد والملاطفة، وقال لهم فيما قال: إن فضيلة الجمهور هي التي تضمن تربية الفضيلة وحفظها وغلبتها على الرذائل، وإن كل صحيح يكون فاسداً إذا لم يكن الجمهور صحيحا، وإن غير العقلاء هم الذين يقبلون الحقيقة في يوم ثم يرفضونها هي ذاتها في يوم آخر، فإن ذهبت تجادلهم وتحتج عليهم بأنهم قبلوها، قالوا: هذا كان أمس. . .فكأنما الفاصل بين زمنين يجعل الشيء الواحد ضدين.ثم سألهم: ما هو ذنب الرجل ؟ فقال منهم قائل: إنه خارج علينا في الرأي.فقال الباشا: إن المعنى في أنه يخالفكم هو أنكم أنتم تخالفونه ؛ فقد تكافأت الناحيتان، وخلاف بخلاف ؛ فما الذي جعل لكم حق رده عن الرأي دون أن يكون له مثل هذا الحق في ردكم أنتم ؟قالوا: إننا الكثرة.قال الباشا: يا أصدقائي، إن خوف الكثرة من رأي فرد أو أفراد هو أسوأ المعنيين في تفسير رأيها هي ؛ وعشرة جنيهات لا تعبأ بالجنيه الواحد.فإنها تستغرقه ؛ بيد أن هذه ليست حال عشرة قروش يا أصدقائي. . .نعم إن قطع الخلاف ضرورة من ضرورات الوطنية، ولكن إذا كان الأمر في ظاهره وباطنه كالخلاف في أيهما أطول: العصا أو المئذنة ؟ فذلك جدال محسوم من نفسه بلا جدال.إن أساس انخذالنا - نحن الشرقيين - في قلوبنا، إذ لا نعتبر المعاني العامة إلا من جهة أنها قائمة بالرجال، ثم لا نعتبر الرجال إلا من ناحية ما في أنفسنا منهم، ثم لا نعتبر أنفسنا إلا من جهة ما يرضينا أو يغضبنا، وقد لا يغضبنا إلا الحق والجد، وقد لا يرضينا إلا الباطل والتهاون، ولكنا لا نبالي إلا ما نرضى وما نغضب.لستم أحراراً في أن تجعلوا غيركم غير حر، فإن يكون الرأي الذي يعارضكم رأيا حقا وتركتم منابذته فقد نصرتم الحق ؛ وإن يكن باطلا فإظهاره باطلا هو برهان الحق الذي أنتم عليه ؛ ولن تجردوا أحداً من اختيار الرأي إلا إذا تجردتم أنتم من اختيار العدل، فإن فعلتم فهذه كبرياء ظالمة، تدعي أنها الحق، ثم تدعي لنفسها حكمة، فقد كذبت مرتين.اسمعوا أيها السادة: قامت بين اثنين من فلاسفة الرأي مناظرة في صحيفة من الصحف، وتساجلا في مقالات عدة، فلما عجز أضعفهما حجة وكعمه الجدال، كتب مقالته الأخيرة فجاءت سقيمة، فلم ترضه فبيتها ونام عنها على أنه يرسلها من الغداة بعد أن يردد نظره فيها ويصحح آراءه بالحجج التي يفتح بها عليه.قالوا: فلما نام تمثلت له المقالة في أحلامه جسما حيا موهونا مترضضا، مخلوعا من هنا مكسورا من هناك، مجروحا مما بينهما ؛ ثم كلمته فقالت له: ويحك أيها الأبله ! إن أردت أن تغلب صاحبك وتسكته عنك، فاحمل مقالتك إلى رأسه في العصا لا في الجريدة. . .قال صاحب السر: وضحك القوم جميعا، وأذعنوا وانصرفوا مقتنعين، قد خلصت دخلتهم لذلك الرجل الحر وتنصلوا من جريمة كانت في أيديهم، وما جاء الباشا بمعجز من القول، ولكن تصويره للمسألة كان حلا لها في نفوسهم.فلما أدبروا تنفس الباشا كأنما خرج من البحر وكان يتعاطى إنقاذ غريق ويعاني فيه حتى نجا ؛ ثم قال لي: إن هذا كان جوابا عن شيء في أنفسهم، ولكنه هو سؤال عن شيء في أنفسنا: ما الذي يجعل الناس عندنا يخشون المعارضة في الرأي الوطني حتى أنهم ليجازون عليها بهذه العقوبة الشعبية المنكرة ؟ وما بالهم لا يعطون الرأي حكمه وحقيقته، بل يعطونه من حكم أنفسهم وحقائقها وشهواتها المتقلبة، حتى لترجع الفروق الضعيفة المتجانسة في أبناء الوطن الواحد وكأنها من الخلاف والمباينة فروق جنسية كالتي تكون بين إنسان من أمة، وإنسان من أمة أخرى تعاديها.قلت: إن رأي الكثرة قانون يا باشا.قال: هذا صحيح، ولكن بشرطين لا بشرط واحد: الأول ألا يخرج الرأي على القانون، والثاني ألا تكون الحقيقة في الرأي الذي يناقضه ؛ ومحاولة إكراه المعارضة نقص للشرطين معا ؛ ثم إن أساس الوطنية سلامة القلوب وصفاء النيات، واستواء الموافق والمخالف في هذا الحكم، ومتى وقع الخلاف بين اثنين وكانت لنية صادقة مخلصة، لم يكن اختلافهما إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأييين، وما من ذلك بد.الحقيقة يا بني أن الجماهير الشرقية ليست في تربيتها من الجماهير السياسية التي يعتد بها، إذ لا تزال في أول عمرها السياسي، وبهذا السبب وحده كان اختلاف الكبراء في السياسة لا يشبهه إلا الخصمين بغير شهود ولا قاض نافذ الحكم، فهو نزاع قوة تفوز بوسائلها، لا نزاع حق يستعلي بأدلته.وهذه المجالس النيابية الشرقية كلها صور ممثلة جافة، منقطعة النماء من أسبابها، كالفرع المقطوع من الشجرة، وإنما يتنضر الفرع ويثمر أثماره إذا قام بشجرته لا بنفسه، وما شجرة الفرع السياسي إلا الجمهور السياسي.فسبيل الإصلاح في كل مملكة شرقية أن ينهض أهل الرأي من كل مدينة فيها بين عالم وأديب ومحام وسري، ومن كان بسبيل من هؤلاء، فيجعلوا لمدينتهم دار ندوة للاجتماع والبحث والمشورة، وقول 'نعم' بالحجة وقول 'لا' بالحجة.ثم يعلنون ذلك في جمهورهم وينزلون منه منزلة الأستاذ والأب والصديق في تعليمه وهدايته وإرشاده ؛ وتتصل هذه الدور في كل مملكة بعضها ببعض، وتنتهي بالمجالس النيابية.وبغير ذلك لا يملأ الفراغ الذي نراه خاويا بين الشعب والحكومة، وبين الكبراء والجماهير، وإنما أكثر مصائبنا من هذا الفراغ ؛ فهو الذي يضيع فيه ما يضيع فيه، ويختفي ما يختفي.منا قوم موظفون في الحكومة ؛ لكن أين القوم الذين تكون الحكومة نفسها موظفة عندهم ؟'اعتذار': بهذا المقال انتهت أحاديث الباشا ؛ فقد أنبأنا صاحب السر أنه سيكتم السر. . .^جاء يمشي هادئا يتخيل في مشيته، ويرجف بين الخطوة والخطوة كأنه من كبره يشعرك أن الأرض مدركة أنه يمشي فوقها. . .ولا ينقل قدمه إذا خطا حتى ينهض برأسه يحركه إلى أعلى، فما تدري أهو يريد أن يطمئن إلى أن رأسه معه. . .أم يخيل إليه أن هذا الرأس العظيم قد وضع على جسمه في موضع راية الدولة، فهو يهزه هز الراية. . .وأخذته عيني وليس بيني وبينه إلا طول غرفة وعرضها، فإذا هو زائغ البصر كأنما وقع في صحراء يقلب عينه في جهاتها متحيراً مترددا، ثم كأنما رفع له في أقصاها جبل فأخذ إلى ناحيته. . .ورحبت به، وأجلسته إلى جانبي، فأخذ يستعرف إلي بذكر اسمه وجماعته وبلده، لا يزيد على ذلك شيئا، كأنه عنترة بني عبس، لأرضه من طبيعتها جغرافيا، ومن اسمه جغرافيا حدة. . .فلما رآني لا أثبته معرفة قال: 'إن بك نسياناً'.قلت: وكثيرا ما أنسى غير أن اسمك ليس من هذه الأسماء التي تذكر بتاريخ.قال: 'هذه غلطة الجرائد. . .ومهما تنسى من شيء فلا تنس أنك أستاذ 'نابغة القرن العشرين'.فسرحت فيه نظري، فإذا أنا بمجنون ظريف أمرد أهيف، يكاد برخاوته وتفككه لا يكون رجلا، ويكاد يبدو امرأة بجمال عينيه وفتورهما.وتوسمت فإذا وجه ساكن منبسط الأسارير ممسوح المعاني، ينبئ بانقطاع صاحبه مما حوله، كأن دنياه ليست دنيا الناس، ولكنها دنيا رأسه. . .تأملت فإذا طفولة متلبدة قد ثبتت في هذا الوجه لتخرج من بين الرجل والطفل مجنونا لا هو طفل ولا رجل.وتفرست فإذا آثار معركة بادية في هذه الصفحة، قتلاها أفكار المسكين وعواطفه.وتبينت فإذا رجل مسترخ، متفتر البدن، حائر النفس، كأنه قائم لتوه من النوم فلا تزال في عينه سنة، وكأنه يتكلم من بقايا حلم كان يراه.وخيل إلي من هذا الخمول في هذا الشاب، أن عليه جوا من تثاؤبه، وأن المكان كله يتثاءب، فتثاءبت. . .فلما رأى ذلك مني ضحك وقال: إن 'نابغة القرن العشرين' رجل مغناطسي عظيم ؛ فها هو ذا قد ألقى عليك النوم. . .وحسبك فخرا أن تكون أستاذه وأخاه وثقته، 'فليس على ظهرها اليوم أديب غيري وغيرك. . .'.قلت في نفسي: إنا لله، ما يعتقد الرجل أن على ظهرها مجنونا غيره وغيري، وكأنما ألم بذلك فقال: لست مجنوناً ؛ ولكني كنت في البيمارستان. . .قلت: أهو البيمارستان الذي يسمى مستشفى المجاذيب ؟قال: لا ؛ إن هذا الذي تسميه أنت، هو هو مستشفى المجاذيب ؛ أما الذي سميته أنا فهو مستشفى فقط. . .وذكرت عندئذ أن من المجانين قوما ظرفاء يدخلهم الفساد في عقولهم من ناحية فكرة ملازمة لا تبرح، فلا يكون جنونهم جنونا إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء، غير أنهم بذلك طياشون متقلبون، إذا ازدهي لم يطقه الناس من زهوه وكبريائه وتنطعه، كأنه واحد الدنيا في هذ الفكرة، وكأن بينه وبين الله أسراراً، ويظن عند نفسه أنه أعقل الناس في أرقى طبقات عقله، وما جنونه إلا في هذه الطبقة وحدها.ومثل هذا لا بد له ممن يستجيب لهذيانه كيما يحرك فيه خفته وطيشه وزهوه، وليكون عنده الشاهد على هذا الوجود الخيالي المبدع الذي لا يوجد إلا في عقله المختل، فإذا هو ظفر بمن يحاسنه، أو يصانعه، أو يجاريه، حسبه مذعنا مؤمنا مصدقا، فلا يدعه من بعدها ويتعلق به أشد التعلق، ويراه كأنه في ملكه. . .فيتخذه صفيا وهو يعتقد أنه رقيق، وقد يزعمه أستاذه ليفهمه من ذلك بحساب عقله. . .أنه تلميذه.وخشيت أن يكون 'نابغة القرن العشرين' لم يسمني أستاذه إلا بحساب من هذا الحساب، فهو سيعطي الأستاذية حقها، ولكن كما هو حقها في لغة جنونه. . .فأصبح في رأيه تلميذه وصنيعته، ومحدث هذيانه، وثقته وملجأه، والمحامي من ورائه.قلت في نفسي: إذا أنا تركته جالسا كان هذا المجلس مثابته من بعد، فلا يعرف له محلا غيره، ويصبح كما يقال في تعبير القانون 'محله المختار'، فيتطرأ إلي لسبب ولغير سبب، ويقع في أوقاتي وقوع السهو لا حساب عليه، ويضيع فيه ما يضيع، فأجمعت أن أصرفه راضيا باليأس، وقد انتهت نفسه من معرفتي، وانتهى عقله إلى الرأي أني لا أصلح له أستاذا، لا بحسابه هو ولا بحساب الناس.فقلت له: ظني بك أنك أستاذ نفسك، ولا يحسن بنابغة القرن العشرين أن يكون له في القرن العشرين أستاذا ؛ وأراك قد فرغت للأدب، أما أنا فمشغول بأعمال وظيفتي، وقد جاء من العمل ما تراه، وتكاد لا تفي به الساعات الباقية من الوقت و. . .فقطع علي وقال: إن الوقت ليس في الساعة ؛ والدليل أني أعطلها فيتعطل الوقت، ولا يكون فيها يوم ولا ساعة ولا ثانية ولا دقيقة.فقلت: ولكنك إذا عطلتها لم تتعطل الشمس التي تعين منازل النهار، فسيمر الظهر ويحين العصر و. . .قال: ويأتي غد، وإنما أنا معك اليوم فقط. . .ويجب أن تغتبط بأنك أستاذ 'نابغة القرن العشرين'، فقد قرأت الكثير في الأدب وقرأتك، فما كان لي رأي إلا رأيته لك. . .ولا صحت عندي نظرية إلا رأيتك قد أبديتها، وأنا لا أعتقد أدبا في مصر إلا ما توافينا عليه معا 'ولا أسلم جدلا، ولا جدلا أسلم أن في مصر أدباء ينالون مني شيئا، فهو أنا وأنا هو'، ولئن لم يذعنوا 'لنابغة القرن العشرين' فليعلمن أنهم 'وقعوا مني موقع نملة على صخرة. . .هذا من جهة، ومن جهة أريد سجائر وليس معي ثمنها'.فتهللت واستبشرت، وقلت له: هذا قرش فهلم فاشتر به دخائنك، وفي رعاية الله، ثم استويت للقيام، ولكنه لم يقم ؛ بل تمكن في مجلسه. . .وكرهت أن أتغير له وما أشك أنه في هذا صحيح التمييز ؛ فما أسرع ما قال: إن 'نابغة القرن العشرين' فتى قوي الإرادة ؛ فإذا هو لم يصبر عن التدخين ساعات فما هو بصبور. . .وإذا لم يثبت لك هذا الأمر عن معاينة. . .فما أعطيته حقه.فقلت في نفسي: لقد غرست الرجل من حيث أردت اقتلاعه، وأيقنت أنه من عقلاء المجانين الذين تتغير فيهم العاطفة أحيانا فتلهمهم آيات من الذكاء لا يتفق مثلها إلا لنوابغ المنطق ؛ وذكرت 'بهلول' المجنون الذي حكوا عنه أن إبراهيم الشيباني مر به وهو يأكل خبيصاً فقال له: أطعمني.قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته إلي لآكله لها. . .وقالوا: إنه مر بسوق البزازين فرأى قوما مجتمعين على باب وكان قد نقب، فنظر فيه وقال: أتعلمون من عمل هذا ؟ قالوا: لا.قال: فأنا أعلم.فقالوا: هذا مجنون يراهم بالليل ولا يتحاشونه، فألطفوا به لعله يخبركم.ثم قالوا: أخبرنا.قال: أنا جائع.فجاءوه بطعام سني وحلواء ؛ فلما شبع قام فنظر في النقب وقال: هذا عمل اللصوص. . .وكانت مجلة 'الرسالة' في يد 'نابغة القرن العشرين'، فوصل الكلام بها وقال: إنه يقرأ كل مقالاتي، وإنه وإنه، وإنها وإنها.قلت: فما استحسنت منها ؟ قال: 'مقالة السيما'. . .فقلت: متى كان آخر عهدك برؤية السيما ؟ قال: أمس.قلت: فأنا لم أكتب مقالا عن السيما، ولكنك أعجبت بما رأيت أمس فتحول ما رأيته حلما في مقالة.فأعجبه هذا التأويل وقال: بمثل هذا أنا 'نابغة القرن العشرين'، فأقرأ مقالتك في الغيب من قبل أن تكتبها. . .قلت: إنك تكثر أن تقول عن نفسك 'نابغة القرن العشرين'، وهذا يحصر نبوغك في قرن بعينه ؛ فلو قطعت الكلمة وقلت: 'نابغة القرن'، لصح أن تكون نابغة القرن التاسع عشر والثامن عشر، وما قبلهما وما بعدهما.فرأيت به شدهة كأنه يفكر في جنونه، ثم أفاق وقال: لا.لا ؛ وإن هاهنا موضع نظر، فلو رضيت بنابغة القرن فقط، لجاء من يقول: إني نابغة قرن خروف. . .فقلت في نفسي: حمأة مدت بماء، وإن هذه الوساوس لا تنفك تعرو هذا المسكين ما وجد من يكلمه ؛ والأفكار في ذهنه مجتمعه مختلطة مسترسلة كأنها ثورة من الكلام لا نظام لها، فلأسكت عنه ولأتشاغل بما بين يدي.وسكت وأعرضت عنه ؛ فجعل طائفه يعتريه، وكأن السكوت قد سلط أفكاره عليه، وكأنها أخذت تصيح به في رأسه كما يصيح غلمان الطرق بالمجنون، لا يزالون به حتى يحردوه ويفقدوه البقية من صبره وعقله معا.فغضب 'نابغة القرن العشرين' ونقله الغضب إلى حالة زمهرت فيها عيناه، وكلح وجهه حتى خفت أن يثور به الجنون، فأقبلت عليه وتعللت بسؤاله: ألك إخوة ؟ ألم ينبغ فيهم نابغة ؟قال: إن له أخا يعذبه، ويوقع به ضربا، ويعلله بالسلاسل، ويشده 'بأمراس كتان إلى صم جندل'، وأنه أنزل به العذاب ما لو أنزله بحجر لتألم.قلت: فأنت في حاجة إلى راحة، ويحسن بك أن تأوي إلى مكان تتمدد فيه.قال: إني منصرف وسأجلس في ندي كذا 'هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن القهوة'.قلت: فهذا قرش تدفعه ثمنا لها، فاذهب فاستمتع بها وبالتدخين وبالراحة في ذلك الندى، فالمكان ههنا كثير الضجيج والحركة.واستوفزت للقيام ؛ ولكنه لم يتحلحل من مجلسه.ثم قال: أراك الآن مستبصراً أني 'نابغة القرن العشرين' بعينه.قلت: بل بعينيه اليمنى واليسرى معاً. . .قال: لا.لا ؛ إنك نسيت أن العرب تقول في التوكيد: عينه ونفسه وذاته.'أي أنا نابغة القرن العشرين بعينه ونفسه وذاته، فليس غيري نابغة القرن العشرين'.وكادت نفسي تخرج غيظا، ولكني رأيت الحلم على مثل هذا يجري مجرى الصدقة ؛ وقلت: إن أدباء المجانين كثيراً ما يتفق لهم الإبداع الطريف إذا عللوا شيئا، كذلك القاص الذي كان يقص على العامة سيرة يوسف - عليه السلام - فقال لهم فيما قال: إن الذئب الذي أكل يوسف كان اسمه كذا، فردوا عليه: إن يوسف لم يأكله الذئب.قال: فهذا هو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.فقلت للمجنون: فما العلة عندك في أن العرب لم يقولوا في التوكيد: عينه وأذنه وأنفه وفمه ويده ورجله ؟فنظر نظرة في الفضاء ثم قال: ليسوا مجانين فيخلطوا هذا الخلط، وإلا وجب أن يقولوا مع ذلك: وعمامته وثوبه ونعله وبعيره وشاته ودراهمه.'هذا من جهة، ومن جهة ليس معي أجرة السيارة إلى بلدي وهي قرشان'.قلت: هذه هي أجرة السيارة وصحبتك السلامة، ونهضت واقفاً ؛ ولكنه لم يتحرك.ثم قال: إنك لم تعرف بعد 'أني أقول الشعر في الغزل والنسيب والمدح والهجاء والفخر ؛ وأني في الخطابة قس بن ساعدة أو أكثم بن صيفي، وأني صخر لا ينفجر. . .يابس لا ينعصر، لست كالحجاج بل كعمر'.قلت: هذا شيء يطول بيننا ولا حاجة لك بهذه البراهين كلها، فقد آمنت أنك نابغة القرن العشرين في الأدب والشعر والخطابة والترسل.قال: والفلسفة ؟قلت: والفلسفة وكل معقول ومنقول ؛ وقد انتهينا على ذلك.قال: ولكنك تحسبني مجنونا أو ممروراً 'كما حسبتني الجرائد التي زعمت أن اختفائي في البيمارستان كان لجنوني الفكري أو لذكائي الطبيعي، وهو الأصح. . .فبين لهذه الجرائد أني خرجت، وأني سأطبع الأدب بطابع جديد'.قلت: ولكني لست مراسل جرائد.قال: 'فاجعلني رسالة وراسلها عني أو أكتب لك أنا ما ترسله، وما جئتك إلا لهذا ؛ ويجب أن تلحقني بجريدة كبيرة، وهذه الجرائد تعرفني كلها، وقد تناولتني من جميع النواحي الأدبية ؛ فضلا عن أني كاتب فذ، وخطيب فذ، وشاعر فذ، وهذا قليل من كثير، فهل أعول عليك في صلتي بالجرائد أو لا ؟ '.قلت: إنك تعرفهم ويعرفونك، وقد بلوتهم وبلوا منك، فلست في حاجة إلي عندهم.قال: إنهم يخشون بأسي، وقد حسبوني مجنوناً استهوته الشياطين ؛ وما علموا أن شيطان الشعر هو الذي استهواني، كما أن شيطان الحب هو الذي استهواك. . .هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن الغداء، ولا أكلفك شيئا. . .'.قلت: فهذا قرش للغداء في مطعم الشعب، وهم الآن يتغذون ويوشك إذا أبطأت أن توافقهم وقد استنفدوا الطعام، وأنت لا تجهل أن القرش في مطعم الشعب هو قرشان في القيمة.قال: صدقت ؛ يوشك أن أوافقهم وقد فرغوا من طعامهم وغسلوا الآنية.فلأبق هذا للعشاء وسأطوي إلى الليل.قلت: فمعك الآن ثمن الدخان، والقهوة، والغداء، وأجرة السيارة إلى بلدك.وقد كان نابغة القرن الثالث للهجرة واسمه 'طاق البصل' يغني بقيراط ولا يسكت إلا بدانق.هذا من جهة، ومن جهة فخذ هذا القرش ثمنا لسكوتك وانصرف.فشق ذلك عليه وقام مغضبا وتنفست بعده الصعداء الطويلة. . .وفتحت النافذة واستقبلت الهواء النقي وأخذت في رياضة التنفس العميق، ثم زاغت عيني إلى الباب ؛ فإذا 'نابغة القرن العشرين' مقبل مع نابغة قرن آخر. . .^رأيت المجنونين يدخلان معا، فكأنما سدا الباب وسوياه بالبناء وتركا الغرفة حائطا مصمتا لا باب فيه، مما اعتراني من الضيق والحرج، وقلت في نفسي: إنه لا مذهب للعقل بين هذين إلا أن يعين كلاهما على صاحبه، فأرى أن أدعهما وأكون أنا أصرفهما ؛ ويا ربما جاء من النوادر في اجتماع مجنونين ما لا يأتي مثله من عقلين يجتمعان على ابتكاره ؛ غير أني خشيت أن أكون أنا المجنون بينهما، ثم لا آمن أن يثب أحدهما بالآخر إذا خطرت به الخطرة من شيطانه، فرأيت أن يكون لي ظهير عليهما، إن لم يحق به العون فلا أقل من أن يطول به الصبر. . .وكان إلى قريب مني الصديق 'ا.ش' فأرسلت في طلبه.أما هذا المجنون الثاني الذي جاء به 'نابغة القرن العشرين' فقد رأيته من قبل، وهو كالكتاب الذي خلطت صحفه بعضها في بعض فتداخلت وفسد ترتيبها، وانقلب بذلك العلم الذي كان فيها جهلا وتخليطا، يثب الكلام بعد كل صفحة إلى صفحة غريبة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها.وهو طالب أزهري كان أكبر همه أن يصير حافظا كالحفاظ الأقدمين من الرواة والفقهاء، فجعل يستظهر كتابا بعد كتاب ومتنا بعد متن ؛ وكانت له أذن واعية، فكل ما أفرغ فيها من درس أو حديث أو خبر، نزل منها كالنقر على آلة كاتبة، فينطبع في ذهنه انطباع الكتابة: لا تمحى ولا تنسى.ثم التاث هذه اللوثة وهو يحفظ متنا في فقه الشافعي 'رضي الله عنه'، فغبر سنين يتحفظه، كلما انتهى إلى آخره نسيه من أوله ؛ فيعود في حفظه وربما أثبت منه الشيء بعد الشيء ولكنه إذا بلغ الآخر لم يجد معه الأول ؛ فلا يزال هذا دأبه لا يمل ولا يجد لهذا العناء معنى، ولا يزال مقبلا على الكتاب يجمعه، ثم لا يزال الكتاب يتبدد في ذاكرته.وترك المعهد الذي هو فيه وتخلى في داره للحفظ، وأجمع ألا يدع هذا المتن أو يحفظه، كأن فيه الموضع الذي فارقه عقله عنده، وبذلك رجع المسكين آلة حفظ ليس لها مساك ؛ وأصبح كالذي يرفع الماء من البحر، ثم يلقيه في البحر، لينزح البحر. . .وجاء 'ا.ش' فقلت له، وأومأت إلى المجنون الأول: هذا نابغة القرن العشرين.قال: وهل انتهى القرن العشرون فيعرف من نابغته ؟فقلت: للمجنون: أجبه أنت.فسأله: وهل بدأ القرن الواحد والعشرون ؟ قال: لا.قال: فإن هذا الذي إلى جانبي نابغة القرن الواحد والعشرين. . .فكما جاز أن يكون هو نابغة قرن لم يبدأ، جاز أن أكون أنا نابغة قرن لم ينته.قلت: ولكنك زدت المشكلة تعقيدا من حيث توهمت حلها ؛ فكيف يكون معك في آن وبينك وبينه خمس وستون سنة ؟فنظر نظرة في الفضاء، وهو كلما أراد شيئا عسيراً نظر إلى اللاشيء.ثم قال: هذه الأمور لا تشتبه إلا على غير العاقل. . .وكيف لا يكون بيني وبينه خمس وستون سنة وأنا أتقدمه في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة ؟قلت للآخر: أكذلك ؟قال: مما حفظناه عن الحسن: أدركنا قوما لو رأيتموهم لقلتم: مجانين.ولو أدركوكم لقالوا: شياطين.فضحك الأول وقال: إنه تلميذي.قال الثاني: لقد صدق فهو أستاذي، ولكنه حين ينسى لا يذكره غيري. . .قلت: لا غرو 'فمما حفظناه' عن الزهري: إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل. . .فغضب نابغة القرن العشرين وقال: ويح لهذا الجاهل، الأحمق، الجاحد للفضل، مع جنونه وخبله، أيذكرني وهو منذ كذا وكذا سنة يحفظ متنا واحدا لايمسكه عقله إلا كما يمسك الماء الغرابيل ؟ صدق - والله - من قال: عدو عاقل خير، خير، خير، فقال الثاني: خير من صديق جاهل، ها أنا ذا قد ذكرتك من نسيان، وها أنت ذا رأيت.فضحك النابغة وقال: ولكني لم أرد أن أقول هذا، بل أريد أن أؤلف كلاما آخر. . .عدو عاقل خير، خير، خير، خير من مجنون جاهل. . .ورأيت أن في التقاء مجنونين شيئا طريفا غير جنونهما، وصح عندي أن المجنون الواحد هو المجنون ؛ أما الاثنان فقد يكون من اجتماعهما وتحاورهما فن ظريف من التمثيل، إذا وجدا من يصرفهما في الحديث، ويستخرج ما عندهما، ويستكشف منهما قصتهما العقلية. . .ولم أكن أعرف أن 'نابغة القرن العشرين' من المجانين الذين لهم أذن في غير الأذن، وعين في غير العين، وأنف بغير الأنف ؛ إذ تتلقى أدمغتهم أصواتا وأشباحا وروائح من ذات نفسها لا من الوجود، وتدركها بالتوهم لا بالحاسة، فتتخلق هواجسهم خلقا بعد خلق، وتخطر الكلمة من الكلام في ذهن أحدهم فيخرج منها معناها يتكلم في دماغه أو يمشي أو يلاطفه أو يؤذيه أو يفعل أفعالا أخرى.وبينا أنا أدير الرأي في إخراج فصل تمثيلي من الحوار بين هذين المجنونين، إذ قال 'نابغة القرن العشرين': صه، إن جرس 'التلفون' يدق.قال 'ا.ش': لا أسمع صوتا، وليس ههنا 'تلفون'.فاغتاظ المجنون الآخر وقال: إنك تتقحم على النوابغ ولست من قدرهم، وما عملك إلا أن تنكر ؛ والإنكار، ويلك، أيسر شيء على المجانين وأشباه المجانين، والعامة وأشباه العامة ؛ وقد أنكرت نبوغه آنفا، وأراك الآن تنكر 'تلفونه'. . .قال 'ا.ش': وأين 'التلفون' وهذه هي الغرفة بأعيننا ؟ فضحك 'نابغة القرن العشرين' وقال: صه - ويحك - لقد خلطت علي ؛ إن الجرس يدق مرة أخرى، وأنا لا أريد أن أكلمها حتى يطول انتظارها، وحتى تدق ثلاث مرات، وأخشى أن تكون قد دقت الثالثة وذهب رنينها في صوتك ولغطك. . .قال المجنون الآخر: هي صاحبته التي يهواها وتهواه ؛ وقد استهامها وتيمها وحيرها وخبلها، حتى لا صبر لها عنه ؛ فوضعت له تلفونا في رأسه. . .قال 'النابغة': وهذا التلفون لا يسمعني صوتها فقط، بل هو ينشقني عطرها أيضاً.وقد تكلمني فيه الملائكة أحياناً، وأنا ساخط على هذه الحبيبة فإنها غيور تخشى سطواتها على اللائي تغار منهن، ولولا ذلك لكلمتني في هذا التلفون إحدى الحور العين. . .قلنا: أو تغار منها الحور العين ؟قال المجنون الثاني: بل الأمر فوق ذلك، فإن الحور العين يشتمنها ويلعنها ؛ 'فمما حفظناه' هذا الحديث: 'لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذه قاتلك الله ؛ فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا'.قال 'نابغة القرن العشرين': ويلي على المجنون إنه يريد أن يخلو له موضعي فهو يتمنى هلاكي وانتقالي وشيكا في هذه الدنيا.وهو يقول بغير علم لأنه أحمق ليس له عقدة من العقل، فيزعم أنها تؤذيني، ولو هي آذتني لغضبت قبل ذلك، ولو غضبت لرفعت التلفون.صه إن الجرس يدق.قال ا.ش: إن للنوابغ لشأنا عجبا، ففي مديرية الشرقية رجل نابغة ماتت زوجته وتركت له غلاما، فتزوج أخرى وهو يعيش في دار أبيه.فلما كان عيد الأضحى سأل أباه مالا يبتاع به الأضحية فلم يعطه.وهو رجل يحفظ القرآن، فذكر إبراهيم 'عليه السلام' ورؤياه في المنام أنه يذبح ابنه، فخيل إليه أن هذا باب إلى النبوة، وأن الله قد أوحى إليه، فأخذ الغلام في صبيحة العيد وهم بذبحه، ولولا أن صرخ الغلام فأدركه الناس فاستقنذوه. . .قال 'نابغة القرن العشرين': هذا مجنون وليس بنابغة ؛ بل هذا من جهلاء المجانين ؛ بل هو مجنون على حدته.وقد رأيته في البيمارستان في حين كنت أنا في المستشفى. . .فكان يزعم أنه ائتمر في ذبح غلامه بإرادة الله.ولو كانت إرادة الله لنفذت بالذبح، ولو كان الأمر وحيا لنزل عليه من السماء كبش يذبحه. . .وهكذا أنا في المنطق 'نابغة القرن العشرين'.ثم إنه أشار إلى المجنون الثاني وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة كاملة.قلت: ولكنك ذكرت هذا من قبل فلم عدت فيه الآن ؟قال: إن السبب قد تغير فتغير معنى الكلام ؛ وقد بدا لي أنه يتمنى هلاكي ليكون هو نابغة القرن العشرين.فمعنى الكلام الآن ؛ أنه لو عاش خمسا وستين سنة 'يحفظ المتن' لما بلغ مبلغي من العلم.هذا رجل نصفه ميت جنونا موتا حقيقيا، ونصفه الآخر ميت جهلاً بالموت المعنوي.قال ا.ش: حسبه أن يقلدك تقليد العامي لإمامه في الصلاة وعسى ألا تستكثر عليه هذا فإنه تلميذك.قال المجنون الثاني 'مما حفظناه': لو صور العقل لأضاء معه الليل، ولو صور الجهل لأظلم معه النهار. . .ونابغة القرن العشرين هذا لا يعرف كيف يصلي، فقد وقف منذ أيام يصلي بالشعر. . .ولما رأيته ناسيا فذكرته ونبهته أن الصلاة لا تجوز بالشعر، التفت إلي وهو راكع فسبني وشتمني وصرخ في وقال: ما شأنك بي ؟ هل أنا أصلي لك أنت ؟فغضب 'النابغة' وقال: والله إن تحسبونني إلا مجنونا فتريدون أن يقلدني هذا الأحمق الذي ليس له رأي يمسكه.ولولا ذلك لما اعتقدتم أن تقليدي من السهل الممكن، ولعرفتم أن نابغة القرن العشرين نفسه لم يستطع تقليد نابغة القرن العشرين.قلنا: هذا عجيب، وكيف كان ذلك ؟فضحك وقال: لا أعدكم من الأذكياء إلا إذا عقلتم كيف كان ذلك ؟ قال ا.ش: هذا لم يعرف مثله فكيف نعرفه ؟ ولم يتوهمه أحد، فكيف نتوهمه ؟قال: لو لم تكن أستاذ نابغة القرن العشرين لما عرفتها ؛ وهذا نصف الصواب ؛ وما دمت أستاذي، فلو أننا اختلفنا في رأي لكان خلافك لي صوابا لأنه منك، وكان خلافي لك صوابا لأنه مني ؛ فأنت 'غير مخطئ' وأنا مصيب، وإذا أسقطنا كلمة 'غير' أظل أنا مصيبا وتكون أنت مخطئا. . .أنا لم أر 'نابغة القرن العشرين' في الرؤيا، ولكني رأيته في المرآة عند الحلاق. . .ورأيته يقلدني في كل شيء حتى في الإشارة والقومة والقعدة ولكني صرخت فيه وسببته ففتح فمه، ثم خافني ولم يتكلم. . .وأومأ إلى المجنون الآخر وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة.قال ا.ش: لقد قلتها مرتين كلتاهما بمعنى واحد، فما معناك في هذه الثالثة ؟قال: هذا الغر يزعم أني لا أعرف كيف أصلي، ويستدل لذلك بأني صليت بالشعر وأني شتمته وأنا راكع ؛ ولو كان عاقلاً لعلم أن شتمي إياه وأنا راكع ثواب له. . .ولو كان نابغة لعلم أن الشعر كان في مدح دولة النحاس باشا وأولي النهى.قلنا: ولكن الشعر على كل حال لا تجوز به الصلاة ولو في مدح دولة النحاس باشا.قال: لم أصل به، ولكن خطر لي وأنا أصلي أني نسيت القصيدة فأردت أن أتحقق أني لم أنسها. . .فإذا أنا نابغة القرن العشرين في الحفظ، وهي ستة أبيات.لا كهذا المعتوه الذي صبر على المتن صبر الغريب على الغربة الطويلة، ومع ذلك لم يحفظه.قال ا.ش: فأمل علينا هذا الشعر.فأملى عليه:

يا حليف السهد قل لي. . . . . . . .أين من في الدهر خال

إن تكن تهوى غزالا. . . . . . . .أكحل العينين مال

أنا أهواها ولكن. . . . . . . .لا سبيل إلى الوصال

منذ ولت قلت مهلا. . . . . . . .منذ غابت في خيال

أنا مجنون بليلى. . . . . . . .ليل يا ليلى تعال

قلنا: ولكن ليس هذا مدحاً، فضحك وقال: أردت أن تعرفوا أني أقول في الغزل، أما المديح فهو:

شغف الورى بمناصب وأماني. . . . . . . .وشغفت يا نحاس بالأوطان

حسبوا الحياة تفاخرا وتنعما. . . . . . . .وحسبتها لله والأوطان

ثم أرتج عليه فسكت.قال المجنون الآخر: إنها ستة أبيات، وقد نسيت أربعة، ولست أريد أن أذكرك.فقال 'النابغة': أظنه قد حان وقت الصلاة وأريد أن أصلي. . .ونظر إلى اللاشيء في الفضاء، ثم قال.والبيت الآخير:

لا أبتغي في المدح غير أولي النهى. . . . . . . .أو صادق أو شوقي أو مطران

ثم أمر ا.ش.أن يقرأ عليه الشعر فقرأه، فقال: أحسنت، انظر إلى فوق.فنظر، ثم قال: انظر إلى تحت.فنظر ثم سكت.قال ا.ش: وبعد ؟ قال: وبعد فإن الناس ينظرون إما إلى فوق وإما إلى تحت. . .وكان الضجر قد نال مني، فرجوت ا.ش.أن يلبث معهما وأذنت لنابغة القرن العشرين أن يلقاني في الندي وانصرفت. . .قال ا.ش وهو ينبئني: فما غبت عنا حتى أخذ المجنون يشكو ويتوجع ويقول: لقد حاق بي الظلم، وإن 'الرافعي' رجل عسوف ظالم، لأني أكتب له كل مقالاته التي ينشرها في 'الرسالة'. . .وأجمع نفسي لها، وأجهد في بيانها، وأذيب عقلي فيها، وهو مستريح وادع، وليس إلا أن ينتحلها ويضع توقيعه عليها، ويبعث بها إلى المجلة، ثم هو يقبض فيها الذهب وينال الشهرة، ولا يدفع لي عن كل مقالة إلا قرشين. . .قال ا.ش: فما يمنعك أن ترسل أنت هذه المقالات إلى المجلة فتقبض فيها الذهب ؟ قال: إن هناك أسراراً أنا محصنها وكاتمها، ولا ينبغي أن يعلمها أحد فإنها أسرار. . .قال له: فدع 'الرافعي' واكتب لي أنا هذه المقالات، وأنا أعطيك في كل مقالة ذهبين لا قرشين.قال: هذه أسرار ولا أستطيع أن أكتب إلا للرافعي، لأن 'نابغة القرن العشرين' لا يجوز أن يدعي كلامه إلا أستاذ نابغة القرن العشرين، ولو ادعاه غيره لكان هذا حطا من قدر نابغة القرن العشرين، وهذا بعض الأسرار لا كل الأسرار.قلت: ثم جاء المجنونان في العشية إلى الندي.^وكنا في الندي ثلاثة: أنا وا.ش، وس.ع ؛ وقد هيأت تدبيرا توافقنا عليه لتحريك هذين المجنونين، وتدوين ما يجيء منهما.فلما أقبلا تحفينا بهما وألطفناهما، وقمنا ثلاثتنا ببسطهما وإكرامهما، حتى حسبا أن في كلمة 'مجنون' معنى كلمة أمير أو أميرة. . .ورأيت في عيني 'نابغة القرن العشرين' - وهو أعين أنجل - ما لو ترجمته لما كانت العبارة عنه إلا أنه يعتقد أن له نفسا أنثى أعشقها أنا. . .فكان مسددا فكه اللسان، تستملح له النادرة، وتستظرف منه الحركة.ولما تمكن منه الغرور، واحتاج الجنون كما يحتاج الجمال إلى كبريائه إذ حاطته الأعين، أدار بصره في المكان، ثم قال: أف لكم ولما تصبرون عليه من هذا الندي في ضوضائه ورعاعه وغوغائه.إن هؤلاء إلا أخلاط وأوشاب وحثالة.هذا الجالس هناك.هذا الواقف هنالك.هذا المستوفز.هذان المتقابلان.هؤلاء المتجمعون.هذا كله خيال حقيقة في رأسي.ما هي ؟ ما هي ؟هذا التصايح المنكر.هذا الضرب بحجارة النرد.هذه الزحمة التي انغمسنا فيها.هذا المكان الهائج من حولنا، هذا كله خيال حقيقة في رأسي.هي، هي، هي.فانزعج المجنون الآخر، ووقع في تهاويل خياله، ونظر إلينا تدور عيناه، وتوجس شراً، ثم زاغ بصره إلى الباب، واستوفز وجمع نفسه للقيام ؛ فلما رأى صاحبه ما نزل به، قهقه وأمعن في الضحك وقال: إنما خوفته الصبيان والضرب ليثبت لكم أنه مجنون. . .فحرد الآخر واغتاظ وجعل يتمتم بينه وبين نفسه.قال 'النابغة': ما كلام تطن به طنين الذبابة أيها الخبيث ؟قال: 'مما حفظناه': أن من علامات الأحمق أنه إذا استنطق تجلف، وإذا بكى خار، وإذا ضحك نهق.كما فعلت أنت الساعة، تقول: هاء، هوء، هيء. . .فتغير وجه 'النابغة'، ونظر إليه نظرة منكرة، وهم أن يقتحم عليه، وقال: أيها المجنون، لماذا تضطرني إلى أن أجيبك جواب مجنون. . .لا نجوت إن نجوت مني !فأسرع ا.ش، وأمسك به ؛ واعترض من دونه س.ع، وقال له: أنت بدأته والبادئ أظلم.قال: ولكن - ويحه - كيف قال هذا ؟ كيف لم يقل إلا هذا ؟ كيف لم يجد إلا هذا يقوله ؟ أنابغة القرن العشرين أحمق، وقد أوحده الله في القرن العشرين ؟ لهممت - والله - أن أكسر الذي فيه عيناه ؛ فما يقول إلا أني أحمق القرن العشرين. . .قلت: إن كان هذا هو الذي أغضبك منه ؛ ففي الحديث الشريف: 'ليس من أحد إلا وفيه حمقة، فبها يعيش'.والحياة نفسها حماقة منظمة تنظيما عاقلا ؛ وما يقبل الإنسان على شيء من لذاتها إلا هو مقبل على شيء من حماقاته، وأمتع اللذة ما طاش فيه العقل وخرج من قانونه ؛ ولولا هذا الحمق في طبيعة الإنسان لما احتمل طبيعة الحياة، أليس يخيل إليك أن أكثرك غائب عن الدنيا وأقلك حاضر فيها، وأن يقظتك الحقيقية إنما هي في الحلم وما يشبه الحلم، كأنك خلقت في كوكب وهبطت منه إلى كوكبنا هذا، فما فيك للأرض ولا فيها لك إلا القليل يلتئم بعضه ببعضه، وأكثركما متنافر أو متناقض أو متراجع ؟قال: بلى.قلت: فهذا القليل هو الحمقة التي بها تعيش، وهو أرضية الأرض فيك ؛ أما سماوية السماء فبعيدة لا تحتملها طبيعة الأرض ؛ ولهذا يعيش أهل الحقيقة عيش المجانين في رأي المغرورين الذي غرتهم الحياة الفانية، أو المخدوعين الذين خدعتهم الظواهر الكاذبة ؛ فكلما أتوا عملا من الأعمال السامية انتهى إلى الحمقى معكوسا أو محولا أو معدولا به ؛ ولعل هذا أصح تفسير للحديث الشريف: 'أكثر أهل الجنة البله'.قال المجنون الآخر: 'مما حفظناه': أكثر أهل الجنة البله.فقال 'النابغة': المصيبة فيك أنك أنت هو أنت ؛ ألا فلتعلم أنك من بلهاء البيمارستان لا من بله الجنة. . .قلت: ثم إن الموت لا بد آت على الناس جميعا، فيسلبهم كل ما نالوه من الدنيا، ويلحق من نال بمن لم ينل ؛ فمن ذا الذي يسر بأن ينال ما لا يبقى له، إلا أن يكون سروره من حماقته ؟ ومن ذا الذي يحزن على أن يفوته ما لا يبقى له، إلا أن يكون حزنه حماقة أخرى ؟ وأي شيء في الحب بعد أن ينقضي الحب إلا أنه كان حماقة ضربت في الحواس كلها ملأت النفس ؛ ثم ملأت النفس حتى فاضت على الزمن ؛ ثم فاضت على الزمن حتى خبلت العاشق تخبيلا لذيذا تصغر فيه الأشياء وتكبر، ويجعل الواقع في النفس غير الواقع في دنياها ؟ يشبه كل عاشق حبيبته بالقمر، فهب القمر سمع هذا وفهمه وعناه أن يجيب عنه، فماذا عساه يقول إلا أن يعجب من هذا الحمق في هذا التشبيه ؟فهدأ 'النابغة' وسكن غضبه وقال: صدقت، ولهذا أنا لا أشبه حبيبتي بالقمر.قلت: فبماذا تشبهها ؟قال: لا أقول لك حتى أعلم بماذا تشبه أنت حبيبتك.قلت: وأنا كذلك لا أشببها بالقمر.قال: فبماذا تشبهها ؟ قلت: حتى أعلم بماذا تشبه أنت. . .قال: هذا لا يرضى منك وأنت أستاذ 'نابغة القرن العشرين'، ولك حبائب كثيرات عدد كتبك، وقد أعجبتني منهن تلك التي في 'أوراق الورد'، وأظنك أحببتها في شهر مايو من سنة. . .من سنة. . .قال المجنون الآخر: من سنة 1935 ؛ ها أنا ذا قد نبهتك.قال: يا ويلك ! إن 'أوراق الورد' ظهرت من بضع سنين، إنما أنت من بلهاء البيمارستان لا من بله أوراق الورد. . .ماذا كنت أقول ؟قال ا.ش: كنت تقول: هذا لا يرضى منك ولك حبائب كثيرات.قال: نعم، لأنك إذا شبهت واحدة منهن بالقمر، انتهى القمر وفرغ التشبه فيظل الأخريات بلا قمر. . .ثم إن كلمة القمر لا تعجبني، فلونها أدكن مغبر يضرب أحيانا إلى السواد. . .فإذا عشقت زنجية فههنا محل التشبيه بالقمر. . .أما البيض الرعابيب فتشبيههن بالقمر من فساد الذوق.قال س.ع: وللألفاظ ألوان عندك ؟قال: لو كنت نابغة لأبصرت في داخلك أخيلة من الجنة ؛ ألم يقل أستاذنا آنفا عن 'نابغة القرن العشرين': إنه هبط من كوكب إلى كوكب ؟ ففي كوكبنا الأول يكون لنا سمع ملون ؛ وحس ملون نسمع قرع الطبل أزرق، ونفخ البوق أحمر، ورنين النغم الحلو أخضر، والوجود كله صور ملونة، سواء منه ما يرى وما يحس، وما هو مستخف وما هو ظاهر.ثم أومأ إلى المجنون الآخر وقال: واسم هذا الأبله كلفظ الحبر، لا أسمعه إلا أسود.وسكت 'النابغة' وسكتنا ؛ فقال له س.ع: ما لك لا تتكلم ؟ قال: لأني أريد السكوت.قال: فلماذا تريد السكوت ؟ قال: لأني لا أريد أن أتكلم.وتحرك في نفسه الغيظ من المجنون الآخر، فرمى بعينه الفضاء ينظر اللاشيء وقال: إذا أصبح كل النساء ذوات لحى أصبح هذا عاقلا. . .فدق الآخر برجله دقات معدودة ؛ فثار 'النابغة' وقال: من هذا يشتمني ؟قال: س.ع: لم يشتمك أحد، هذا خفق رجل على الأرض.قال: بل شتمني هذا الخبيث، وسمعي لا يكذبني أبداً، وأنا رجل ظنون، أسيء الظن بكل أحد، وعلامة الحازم 'العاقل' سوء ظنه بالناس.فهبه مكما قلت قد خفق بنعله، أو خبط برجله ؛ فهو ما يعني من ذلك، وأنا أسمع ما يعنيه، لقد طفح الشعر على قلبي فلا بد لي من هجائه، ولا بد لي أن أذبحه ولو بالكلام، فإني إذا هجوته رأيت دمه في كلماتي، وأريد أن أجعله كالعنز التي كانت عندنا وذبحناها.ثم انتزع قلم س.ع، وقال: هذه هي السكين.ولكن أسألك يا أستاذي أن تذبحه أنت بكلمتين وتصف له جنونه، فقد عزب عني الشعر. . .إن خفقة رجل على الأرض تستطير الأرانب فزعاً ؛ فينفرن إلى أجحارهن ويتهاربن، وما كانت أبيات الشعر في ذهني إلا أرانب.أنتم لا تعرفون أن من كان حصيفا ثبيتا مثلي، كان دقيق الحس ؛ ومن كان فدما غبيا مثل هذا، كان بليد الحس غليظا كثيفاً ؛ فإذا أنا استشعرت البرد رأيتني قد سافرت إلى القطب الشمالي ؛ أما هذا المجنون فهو إذا استشعر بردا سافر إلى عباءته أو لحافه. . .إذ هو لا يعرف جغرافيا، ولا يدري ما طحاها.قلت: هذا منك أظرف من نادرة أبي الحارث.قال: وما نادرة أبي الحارث ؟ وهل هو نابغة ؟قلت: جلس يتغدى مع الرشيد وعيسى بن جعفر، فأتي بخوان عليه ثلاثة أرغفة، فأكل أبو الحارث رغيفه قبلهما، والرشيد ملك عظيم، لا يأكل أكل الجائع، وإنما هو التشعيث من هنا وهناك ؛ فكان رغيفه لا يزال باقيا ؛ فصاح أبو الحارث فجأة: يا غلام، فرسي.ففزع الرشيد وقال: ويلك ما لك ؟ قال: أريد أن أركب إلى هذا الرغيف الذي بين يديك. . .قال 'النابغة': ولكن فرقا بين أبي الحارث وبين 'نابغة القرن العشرين'، فإن من العجائب أني ربما نظرت إلى الرجل وهو يأكل فأجد الشبع، حتى كأنه يأكل ببطني لا ببطنه، ولكن من العجائب أن هذا لا يتفق لي أبدا حين أكون جائعا. . .أما هذا المجنون الذي أمامنا، فربما أبصر الحمار على ظهره الحمل، فيشعر كأن الحمل على ظهره هو لا على ظهر الحمار.قال الآخر: 'مما حفظناه' أنه سرق لأعرابي حمار، فقيل له أسرق حمارك ؟ قال: نعم، وأحمد الله.فقيل له: على ماذا تحمده ؟ قال: على أني لم أكن عليه حين سرق. . .فأنا إذا رأيت حماراً مثقل الظهر، حمدت الله على أن الحمل لم يكن علي، لا كما يقول هذا.ثم دق برجله دقات. . .فاستشاط 'النابغة' وقال: أسمعتم كيف يقول إني مجنون، ثم لا يكتفي بهذا بل يقول إني حمار على ظهره الحمل ؟قلت: ينبغي أن تتكافا، وهذا لا يعيبك منه ولا يعيبه منك، فإن من تواضع 'النوابغ' أن يشعروا ببؤس الحيوان، فإذا شعروا ببؤسه دخلتهم الرقة له، فإذا دخلتهم الرقة صار خيال الحمل حملا على قلوبهم الرقيقة ؛ وقد يصنعون أكثر من ذلك: حكى الجاحظ عن ثمامة قال: كان 'نابغة' يأتي ساقية لنا سحراً ؛ فلا يزال يمشي مع دابته ذاهبا وراجعا في شدة الحر أيام الحر، وفي البرد أيام البرد، فإذا أمسى توضأ وقال: اللهم اجعل لنا من هذا الهم فرجا ومخرجا، فكان كذلك إلى أن مات !قال المجنون الآخر: 'مما حفظناه': ثمرة الدنيا السرور، ولا سرور للعقلاء، فلو لم يكن هذا أعقل العقلاء لما محق سروره في الدنيا هذا المحق إلى أن مات غما، رحمه الله !قال: س.ع: فاعف الآن عن صاحبك ولا تذبحه بالهجاء.قال: لقد ذكرتني من نسيان، وهذا المجنون يرى نسياني من مرض عقلي، وكان الوجه - لو تهدى إلى الحقيقة - أن يراه شذوذا في العقل، أي نبوغا عظيما كنبوغ ذلك الفيلسوف الذي أراد أن يتثبت في كم من الزمن تسلق البيضة ؛ فأخذ بيده الساعة وبيده الأخرى بيضة، ثم نسي نسيان النبوغ، فألقى الساعة في الماء على النار، وثبتت عينه على البيضة ينظر فيها على أنها هي الساعة.ولو قد رآه هذا الأبله لزعمه مجنونا كما يزعمني، فإن المجانين يرون العقلاء مرضى بمواهبهم وأعمالهم التي يعملونها.وأنا فليس تهيجني شيء ما تهيجني كلمات ثلاث: أن يقال لي: مجنون، أو أبله، أو أحمق.فمن رغب في صحبتي فليتجنب هذه الثلاث كما يتجنب الكفر والكفر والكفر. . .قال ا.ش: فإذا قيل لك مثلا.مثلا.أي على التمثيل: مغفل.فحك رأسه قليلا وقال: لا، هذه ليست من قدري.قلت: فبعض الكلمات إذا قطعت عندك غيرت الحقائق، كذلك القرن الذي قطع فرد البقرة فرسا ؟قال: وكيف كان ذلك ؟قلت: زعموا أن أعرابيا خرج إخوته يشترون خيلا، فخرج معهم فجاء بعجل يقوده ؛ فقيل له: ما هذا ؟ قال: فرس اشتريته.قالوا: يا مائق هذه بقرة، أما ترى قرنيها ؟فرجع إلى منزله فقطع قرنيها، ثم قادها إليهم وقال لهم: قد أعدتها فرسا كما تريدون.قال 'النابغة': هذا غير بعيد، فقد رأيتنا حين ذبحنا العنز وكسرنا قرنيها أعدناها كلبة سوداء، فتقذرتها وعفت لحمها ولم أطعم منها.ثم أومأ إلى الآخر وقال: هذا لا يدري ما طحاها، وهو مثل العنز: تحسب قرنيها للقتال والنطاح ومنهما تمسك للذبح ؛ فقل في هذا يا أستاذ 'نابغة القرن العشرين'.قلت للآخر: أيرضيك أن أقول في المعنى لا فيك أنت ؟ قال: نعم.فكتبت هذه الأبيات على ما يريد النابغة:

قل لعنز ناطحاها. . . . . . . .لقتال سلحاها

ما لها قد طرحاها. . . . . . . .في يدين ذبحاها ؟

شيمة مني نحاها. . . . . . . .عقل غر فلحاها

ليس يدري ما طحاها. . . . . . . .بل يرى شمس ضحاها

حجرا مثل رحاها. . . . . . . .ويرى الليل محاها

ظلما طالت لحاها

وسر 'النابغة' وازدهى، وجعل يقول: طالت لحالها، طالت لحاها، وما كان هذا إلا السرور الأصغر ؛ أما سروره الأكبر فمجيء ساعي 'البريد المستعجل' إلى الندي، وفي يده رسالة عنوانها: نابغة القرن العشرين فلان، بندي كذا.وجعل الرجل يهتف بالعنوان يسأل عن صاحبه ؛ فتطاولت أعناق الناس، ورفعوا أبصارهم ينظرون إلى 'نابغة القرن العشرين' وقد مد يده يتناول الرسالة وكأنه ملك من القدماء أسقط له كتاب بالفتح العظيم ويضم دولة إلى دولته.ثم ترك الرسالة بين أصابعه يقلبها ولا يفضها ونحن في دهشة من أمره ؛ فنظر فيها المجنون وقال له: هذا عجيب يا أخي، كيف هذا ؟ إن هذا لا يصدق ؛ إنك لم تلقها في صندوق البريد إلا منذ ساعة. . .^ضاق 'نابغة القرن العشرين' بحمق المجنون الآخر ؛ ورآه داهية دواه، كلما تعاقل أو تحاذق لم يأت له ذلك إلا بأن يكشف عن جنونه هو ؛ فلا يبرح يجرعه الغيظ مرة بعد مرة، ولا يزال كأنه يسبه في عقله، فأراد أن يحتال لصرفه عن المجلس، فدفع إليه الرسالة التي جاء بها 'البريد المستعجل' وقال له: خذ هذه فاذهب فألقها في دار البريد، فسيجيء بها الساعي مرة أخرى، ثم تذهب الثانية فتلقيها، ويعود فيجيء بها، وتكون أنت تذهب ويكون هو يجيء، فنضحك منه ويضحكون.قال س.ع: ولكن كم يذهب هذا وكم يجيء ذاك ؟فغمزه 'النابغة' بعينه أن اسكت ؛ فتغافل س.ع، وقال: كم تريد أن يجيء الساعي ليهتف بنابغة القرن العشرين ؟قال المجنون الآخر: هذا هو الرأي، فلست قائما حتى أعرف كم مرة أذهب ؛ فإن الساعي لا يجيء إلا راكبا، وأنا لا أذهب إلا راجلا، وإن لي رجلي إنسان لا رجلي دابة. . .قال 'النابغة': سبحان الله ؟ بقليل من الجنون يخرج من الإنسان مجنون كامل مستلب العقل.بيد أنه لا يأتي النابغة إلا من كثير وكثير، ومن النبوغ كله بجميع وسائله وأسبابه على تعددها وتفرقها وصعوبة اجتماعها لإنسان واحد 'كنابغة القرن العشرين'، فهو الذي توافت إليه كل هذه الأسباب، وتوازنت فيه كل تلك الخلال.إنه ليس الشأن في العلم ولا في التعليم ؛ ولكنما الشأن في الموهبة التي تبدع الابتكار، كموهبة 'نابغة القرن العشرين'، فبها تجيء أعماله منسجمة دالة بنفسها على نفسها ؛ ومتميزة مع كونها منسجمة دالة بنفسها على نفسها، متلائمة مع كونها متميزة دالة بنفسها على نفسها. . .هذا س.ع، كان الأول بين خريجي مدرسة دار العلوم، مدرسة الأدب والعربية، والمنطق والتحذلق، وبلاغة اللسان وصحة النظر ؛ وهو يعرف أن الكتاب يلقى في البريد وعليه طابع واحد، فيصل إلى غايته بهذا الطابع، ثم يرى بعيني رأسه أربعة طوابع على هذه الرسالة المعنونة باسم 'نابغة القرن العشرين'، فلا يدرك بعقله أن معنى ذلك أن من حق هذه الرسالة أن تصل إلي أنا أربع مرات.فطرب المجنون الآخر، واهتز في مجلسه، وصفق بيديه، وقال: 'مما حفظناه' هذا الحديث: 'يحاسب الله الناس على قدر عقولهم'.فلا تؤاخذ س.ع، فإن مدرسة دار العلوم تعلمهم: 'فيها قولان'، وفيها ثلاثة أقوال، وفيها أربعة أوجه، ولكنها لا تعلمهم فيها أربعة طوابع. . .ثم التفت إلى س.ع، وقال له: لا عليك، فأنا صاحبه وخليطه، وحامل علمه وراوية أدبه، وأكبر دعاته وثقاته، وما علمت هذه الحكمة منه إلا في هذه الساعة.قال ا.ش: فإذا كان هذا، فإن لقائل أن يقول: لماذا لم يضع على كتابه عشرة من الطوابع، فيجيء به الساعي عشر مرات.قال 'النابغة': وهذا أيضا ؟'وما شر الثلاثة أم عمرو بصاحبك الذي لا تصحبين' ؛ إن الشمعة في يد العاقل تكون للضوء فقط، ولكنها في يد المجنون للضوء ولإحراق أصابعه، كم الساعة الآن ؟قلنا: هي التاسعة.قال: ومتى ينصرف أهل هذا الندي ؟قلنا: لتمام الثانية عشرة.قال: فإذا كان الساعي يتردد في كل ساعة مرة، فهي أربع مرات إلى أن ينفض المجتمعون هنا، وبين ذلك ما يكون قد ذهب قوم عرفوا 'نابغة القرن العشرين'، وجاء قوم غيرهم فيعرفونه، وأما بعد ذلك فلا يجد الساعي هنا أحدا ؛ فلا تكون فائدة من مجيئه.فصفق المجنون الآخر وقال: هذا وأبيك هو التهدي إلى وجه الرأي وسداده، وهذا هو الكلام الرصين الذي يقوم على أصول الحساب والجغرافيا. . .'ومما حفظناه' هذا الحديث: 'لا مال أعود من العقل'.فأربعة طوابع، لأربع مرات، في أربع ساعات ؛ وما عدا هذا فإسراف وتبذير ؛ ولا مال أعود من العقل.ورضي 'النابغة' عن صاحبه وقال له: لئن كانت فيك ضعفة إن فيك لبقية تعقل بها. . .ثم أخذ منه الرسالة ودسها في ثوبه.قلنا: ولكن ألا تفضها لنعرف ما فيها ؟فضحك وقال: أئن جاريتكم في باب المطايبة والنادرة، وجاريت هذا الأبله في باب جنونه وحمقه تحسبون أن الأمر على ذلك، وأن الرسالة فارغة إلا من عنوانها، وأن نابغة القرن العشرين هو أرسلها إلى نابغة القرن العشرين، كما قال سعد باشا: 'جورج الخامس يفاوض جورج الخامس' ؟ لحق - والله - أن العقل الكبير الذي يأبى الصغائر، هو الذي تأتي منه الصغائر أحيانا لتثبت أنه عقل كبير، وهكذا تسخر الحقيقة من كبار العقول 'كنابغة القرن العشرين'. . .فغضب المجنون الآخر وهم أن يتكلم، فقال له 'النابغة': أنت كاذب فيما ستقوله.قلنا: ولكنه لم يقل شيئا بعد، فكما يجوز أن يكون كاذبا يجوز أن يكون صادقا.قال: وسيخطئ في رأيه الذي يبديه.قلنا: ولم يبد شيئا من رأيه.قال: ولا يعرف الحقيقة التي سيتكلم عنها.قلنا: ويحك، أدخلت في عقل الرجل أم تعلم الغيب ؟قال: لا هذا ولا ذاك، ولكنه قياس منطقي يتوهم اطراده.إنه سيقول: إني مجنون. . .فأخرج الآخر لسانه. . .قال 'النابغة': تبا لك، لقد رأيت الكلمة في لسانك كأنها مكتوبة بحروف المطبعة.ويحك يا مرقعان، ألا تعرف أن لك دماغا مخروقا تسقط منه أفكارك قبل أن تتكلم بها، ولولا أنه مخروق لحفظت المتن ! إن كل تخطئة لي منك هي اعتراف لي منك بصواب.فنظر الآخر إليه نظرة كان تفسيرها في حواجبه، إذ مط حواجبه ورقصها.فقال 'النابغة': ونظراته خبيثة ملحة الطعم، مزعوقة كماء البحر المر أخذ من البحر وأضيف إلى ملحه الطبيعي ملح، أكاد أتهوع من هذه النظرة فأقيء.الآن فهمت معنى قولهم: 'ملحة في عين الحسود'.فإن الملح لا يغلبه إلا الملح، كالحديد بالحديد يفلح، هاتوا كأسا من معتقة الخمر، ثم لينظر فيها الخبيث هذه النظرة، فإن الخمر لا بد مستحيلة 'شربة ملح إنجليزي'. . .هذا الأبله ثقيل الدم كأن دمه مأخوذ من مستنقع. . .أهذا الذي لا يستطيع أن يقول لشيء في الدنيا: هو لي، إلا الفقر والجنون والخرافة، يكذب ما في الرسالة التي جاء بها البريد المستعجل، ولا يصدق أنها مرسلة إلى نابغة القرن العشرين من صاحب السمو الأمير ؟هذا الذاهب العقل هو كالجبان المنقطع في وحشة القفر، في ظلام الليل: إذا توجس حركة ضعيفة انقلبت في وهمه قصة جريمة ماؤها الرعب وفيها القتل والذبح ؛ ولهذا يخشى ما في الرسالة التي جاءت من صديقي صاحب السمو.هاؤم اقرءوا الرسالة.وفضضنا الغلاف، فإذا ورقتان ممهورتان بتوقيع أمير معروف، إحداهما صك بألف جنيه تدفع 'لنابغة القرن العشرين'، والثانية أمر بالقبض على المجنون الآخر. . .وإرساله إلى المارستان. . .وذهبت أصلح بينهما صلحا فقلت: إن في الحديث الشريف: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ مر به رجل، فقال بعض القوم: هذا مجنون.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'هذا مصاب ؛ إنما المجنون المقيم على معصية الله'.فقال صاحب المتن: 'مما حفظناه' إنما المجنون المقيم على معصية الله.قلت: وليس فيكما مقيم على معصية الله.قال المجنون: 'مما حفظناه': وليس فيكما مقيم على معصية الله.قلت: هذا ليس من الحديث ولكنه من كلامي. . .قال 'النابغة': أنبأتكم أن هذا الأبله يضل في داره كما يضل الأعرابي في الصحراء ؛ وإن الأسطول الإنجليزي لو استقر في ساقية يدور فيها ثور، لكان ذلك أقرب إلى التصديق من استقرار العقل في رأس هذا الأبله ؟فاحتدم الآخر وهم أن يقول: 'مما حفظناه'، ولكني أسكته وقلت 'للنابغة': إنك دائما في ذروة العالم، فلا غرو أن ترى المحيط الأعظم ساقية.'والنوابغ' هم في أنفسهم نوابغ، ولكنهم في رأي الناس مرضى بمرض الصعود الخيالي إلى ذروة العالم.ومن هذا يكون المجانين هم المرضى بمرض النزول الحقيقي إلى حضيض الآدمية ؛ فهناك يعملون فتكون أفكارهم من أعمالهم، ثم تكون عقولهم من أفكارهم، فيكون هذا هو الجنون في عقولهم، وذلك معنى الحديث: 'إنما المجنون المقيم على معصية الله'.قال 'النابغة': لعمري إن هذا هو الحق ؛ فنبوغ العقل مرض من أمراض السمو فيه ؛ فالشاعر العظيم مجنون بالكون الذي يتخيله في فكره، والعاشق مجنون بكون آخر له عينان مكحولتان ؛ والفيلسوف مجنون بالكون الذي يدأب في معرفته ؛ ونابغة القرن العشرين مجنون. . .لا.لا.قد نسينا ا.ش، فهو مجنون، وس.ع فهو مجنون.

وكل الناس مجنون بليلى. . . . . . . .وليلى لا تقر لهم بذاك

ومن حق ليلى ألا تقر لهم، إذ هي لا تقر إلا لنابغة القرن العشرين وحده ؛ وما أعجب سحر المرأة في الكون النفساني للرجال ! أما في الكون الحقيقي فهي أنثى كإناث البهائم ليس غير.وأعقل الرجال من كان كالحمار أو الثور أو غيرهما من ذكور البهائم.فالحمار لا يعرف الحمارة إلا أنها حمارة، والثور لا يعرف البقرة إلا أنها بقرة ؛ ولا ينظمون شعراً، ولا يكتبون 'أوراق الورد'. . .وإناث البهائم أمَّات لا غير، ولكن العجيب أن ذكورتها ليست آباء ؛ فهذه الذكورة طفيلية في الدنيا، والطفيلي لا يأكل إلا بحيلة يحتال بها، فيكون صاحب نوادر وأضاحيك وأكاذيب.ولهذا كان عشق الرجال للنساء ضروبا من الخداع والأكاذيب والأضاحيك والحيل والغفلة والبلاهة ؛ وإذا نظرنا إليه من أوله فهو عشق، أما آخره فهو آخر الحيلة والأكذوبة، وهو قول الطفيلي: قد شبعت وقد رويت. . .ويحكم، أين أول الكلام ؟قلنا: أوله ما أعجب سحر المرأة في الكون النفساني للرجال !قال: نعم هذا هو.إنه سحر لا أعجب منه في هذا الكون النفساني إلا سحر الذهب ؛ فلو مسخت المرأة الجميلة شيئا من الأشياء لكانت سبيكة ذهبية تلمع ؛ ولهذا يوجد الذهب اللصوص في الدنيا، وتوجد المرأة الجميلة لصوصا آخرين، فيجب أن يصان الذهب وأن تصان المرأة.قلت: ولكن أليس من المال فضة، وهي توجد اللصوص كالذهب ؟قال: نعم، وفي النساء كذلك فضة، وفيهن النحاس ؛ ولو أنت ألقيت ريالا في الطريق لأحدثت معركة يختصم فيها رجلان، ثم لا يذهب بالريال إلا الأقوى، ولو كنت قرشا لتضارب عليه طفلان، ثم لا يفوز به إلا من عض الآخر. . .ولكن 'فورد' الغني الأمريكي العظيم الذي يجمع يده على أربعمائة مليون جنيه، لا يتكلم عن القرش ؛ و'نابغة القرن العشرين' الذي يملك 'ليلى'، لا يتكلم عن غيرها من قروش النساء. . .قلت: فإني أحسبك أعلمتني أن اسمها فاطمة لا ليلى.قال: هل يستقيم الشعر إذا قلت: وكل الناس مجنون بفاطمة، وفاطم لا تقر لهم ؟ قلت: لا.قال: إذن فهي 'ليلى' ليستقيم الشعر. . .أما حين أقول: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل، فهي فاطمة ليصح الوزن.قلت: يشبه - والله - ألا يكون اسمها ليلى ولا فاطمة ؛ وإنما هي تسمى حسب الوزن والبحر، فاسمها فعولن أو مفاعلتن.ثم قلنا له: فما رأيك في الحب، فإنه ليقال: إنك أعشق الناس وأغزل الناس ؟قال: إن ذلك ليقال 'وهو الأصح'، ثم أطرق يفكر.وبدا عليه أنه مدهوش ذاهب العقل، كأنه من قلبه على مسافة أبعد من المسافة التي بينه وبين عقله.وخيل إلي أن النساء قد حشرن جميعا في رأسه، ومرت كل واحدة تعرض مفاتنها وغزلها، وتلائم هذيانه بهذيان من جمالها، فهو يرى ويسمع ويعرض ويتخير.ثم اضطرب كالذي يحاول أن يمسك بشيء أفلت منه ؛ فلم ينبهه إلا قول المجنون الآخر: 'مما حفظناه' أن أعرابية سئلت عن العشق فقالت: إنه داء وجنون.قال: اسكت يا ويلك لقد أطفأت الأنوار بكلمتك المجنونة.كان في رأسي مرقص عظيم تسطع الأنوار فيه بين الأحمر والأخضر والأبيض ؛ وترقص فيه الجميلات من الطويلة والقصيرة والممشوقة والبادنة، فجئت بالداء والجنون - قبحك الله - فأخرجتني عنهن إليك.أحسب أنك لو انتحرت لصلح العالم أو صلحت أنا على الأقل. . .فإذا أردت أن تشنق نفسك فأنا آتيك بالحبل الذي كنت مقيدا فيه أي الحبل الذي عندي في الدار. . .على أن رأسك الفارغ مشنوق فيك وأنت لا تدري.قال الآخر: ما أنت منذ اليوم إلا في شنقي وتعذيبي أو في شنق عقلي 'على الأصح'.'ومما حفظناه' قول الأحنف بن قيس: إني لأجالس الأحمق ساعة فأتبين ذلك في 'عقلي'.فلم يرعنا إلا قيام المجنون مسلحا بحذائه في يده. . .وهو حذاء عتيق غليظ يقتل بضربة واحدة ؛ فحلنا بينهما وأثبتناه في مكانه.وقلنا: هذا رجل قد غلب على عقله فلا يدري ما يقول ؛ فإذا هو دل على أنه مجنون، أفلا تدل أنت على أنك عاقل ؟ ما سألناك في انتحاره وجنونه، بل سألناك رأيك في الحب ؛ وما نشك أنك قد أطلت التفكير ليكون الجواب دقيقا، فإنك 'نابغة القرن العشرين'، فانظر أن يكون الجواب كذلك.قال: نعم إن العاقل إذا ورد عليه السؤال أطال الفكر في الجواب، فاكتب يا فلان 'س.ع':'جلس نابغة القرن العشرين مجلس الإملاء مرتجلا فقال: قصة الحب هي قصة آدم، خلق الله المرأة من ضلعه.فأول علامات الحب أن يشعر الرجل بالألم كأن المرأة التي أحبها كسرت له ضلعا. . .وكل قديم في الحب هو قديم بمعنى غير معقول، وكل جديد فيه هو جديد بمعنى غير مفهوم ؛ فغير المعقول وغير المفهوم هو الحب.والجمرة الحمراء إذا قيل إنها انطفأت وبقيت جمرة فذلك أقرب إلى الصدق من بقاء الحب حيا بمعناه الأول إذا انطفأ أو برد.والعاشق مجنون.وجنونه مجنون أيضاً، فهو كالذي يرى الجمرة منطفئة، ويرى مع ذلك أنها لا تزال حمراء، ثم يمعن في خياله فيراها وردة من الورد. . .وإذا سألته أن يصف الجمال الذي يهواه كان في ذلك أيضا مجنون الجنون، كالذي يرى قمر السماء أنه قد تفتت وتناثر ووقع في الروضة، فكان نثاره هو الياسمين الأبيض الجميل الذكي. . .والمجنون يرى الدنيا بجنونه والعاقل يراها بعقله ؛ ولكن العاشق المخبول لا ينظر من يهواه إلا بقية من هذا وبقية من ذلك، فلا يخلص مع حبيبه إلى جنون ولا عقل.'والمجهول' إذا أراد أن يظهر في دماغ بشري لم يسعه إلا أحد رأسين: رأس المجنون ورأس العاشق. . .ولا صعوبة في الحكم على شيء بأنه خير أو شر إلا حين يكون الخير والشر امرأة معشوقة.أما أوصاف الشعراء والكتاب للجمال والحب فهي كلها تقليد قد توسعوا فيه ؛ والأصل أن ثوراً أحب بقرة فكان يقول لها: يا نجمة القطب التي نزلت من السماء لتدور في الساقية كما درات في الفلك.قال 'النابغة': هذا رأيي في حب العاشقين ؛ أما حبي أنا 'نابغة القرن العشرين' فيجمعه قولك: فل، ورد، زهر. . .قلنا ما هذه الألغاز ؟ وهل للحب متن كقولهم: حروف القلقلة يجمعها قولك 'قطب جد'، وحروف الزيادة يجمعها قولك 'سألتمونيها' ؟فتضاحك 'النابغة'، وقال: تكاثرت الظباء على خراش، فلكيلا ننسى. . .إن كل حرف هو بدء اسم، الفاء فاطمة، واللام ليلى، والواو وردة، والراء رباب، والدال دلال، والزاي زكية، والهاء هند، والراء رباب. . .قلنا: رباب قد مضت في 'ورد'.قال: كنا تهاجرنا مدة ثم اصطلحنا بعد هند. . .قلت: هكذا 'النوابغ' فإن رجلا أديبا كانت كنيته 'أبا العباس' فلما 'نبغ' صيرها 'أبا العير' وفتق له نبوغه أن يجعلها تاريخا يعرف منها عمره.قالوا فكان يزيد فيها كل سنة حرفا حتى مات وهي هكذا:أبو العير طرد طيل طليري بك بك بك. . .^ثم إن 'نابغة القرن العشرين' استخفه الطرب لذكر صواحبه وجميلاته من فاطمة إلى رباب ؛ ومن طبع المجنون أنه إذا كذب صدق نفسه، فإن قوة الضبط في عقله إما معدومة وإما مختلة ؛ وكل وجه تخيل منه خيالا فهو وجه من وجوه العلم عنده، إذ كان عالمه أكثره في داخله لا في العالم، فإذا توهم أو أحس أو شعر، فإنما يكون ذلك بطريقته هو لا بطريقة الناس العقلاء ؛ فليس يحتمل عقله إلا فكرة واحدة تمضيمنفردة بنفسها مستقلة بمعناها كأنها قدر غالب على جميع أفكاره الأخرى، فلا شأن لها بالواقع، ولا شأن للواقع بها، وإنما هي تحقق معناها كما تخطر له، لا كما تتمثل فيما حوله.فبين كل مجنون وبين ما حوله دماغه المتدجي بالغيوم العقلية، لا تزال تعرض له الغيمة بعد الغيمة من اختلال بعض المراكز العصبية فيه، وفساد أعمالها بهذا الاختلال، وقيام الطبيعة فيها على هذا الفساد.ومن ذلك تنقلب الكلمة من الكلام، وإنها لحادثة تامة في عقل المجنون كالقصة الواقعة لها زمان ومكان وبدء ونهاية، لا يخامره فيها الشك، ولا يعتريها التكذيب ؛ وكيف وهي قائمة في ذهنه من وراء سمعه وبصره قيام الحقيقة في الأبصار والأسماع ؟ولحواس المجنون جهتان في العمل، لأنها بين كونين ؛ أحدهما الكون الخرب الذي في دماغه ؛ وفي هذا يقول 'نابغة القرن العشرين': إن في داخل عينيه منظاراً يرى به الأشياء في غير حقائقها، أي في حقائقها. . .وحدثنا الدكتور محمد الرافعي قال: إن في دار المجانين بمدينة ليون بفرنسا نابغة كنابغة القرن العشرين، ذكرت أمامه قيصرة روسيا وخبر مقتلها، فأحفظه هذا وأرمضه وقال يا ويحهم ! كذبوا عليها وعلي، فسأله الدكتور: وكيف ذلك ؟قال: كان من خبر القيصرة أنها رأتني فأحبتني، وعلمت من كل وجه يمكن أن يعلم منه قلبها أني أنا رجلها لا القيصر ؛ فما زالت بعدها تناكد القيصر وتلتوي عليه ولا تصلح له في شيء حتى يئس منها فطلقها، فحملت كنوزها وجلاها ولجأت إلى حبيبها، ثم تبعتها نفس القيصر ولم يطق العيش بعدها فانتحر. . .ثم طلبها الشيوعيون لما معها من كنوز، فأخفاها هو في مكان حريز لا يعلمه إلا هو ؛ ثم إنه هو لا يصل إلى هذا المكان الذي أحرزها فيه إلا إذا نام. . .كيلا يراه أحد من الشيوعيين فيتعقبه فيعلم مقرها ؛ ولهذا كان من الحكمة أن ينسى المكان إذا استيقظ. . .فقد يزل مرة فيخبر به أو يغلبه الشوق مرة على 'عقله'. . .فيذهب إليه ؛ فعسى أن يراه من ينم بذلك، فتفتضح الحبيبة وتؤخذ منه.قال: وإن القيصرة هي تحتاط أيضا مثل ذلك فتراسله كل يوم باللاسلكي رسائل تقع من الجو في دماغه فيقرؤها وحده، وإن أخوف ما يخافه أن يغلبها جنون الحب يوما فتطيش طيش المرأة، فتزوره في هذا المارستان. . .فقد تقتل إذا رآها الشيوعيون.قال الدكتور: وهاك 'نابغة' آخر ثبت في ذهنه أن امرأة من أجمل النساء قد استهامت به وأنها مبتلاة في حبها إياه بجنون الغيرة، وقد تناهت فيه حتى أنها لتقتل نفسها إذا علمت أن لصاحبها هوى في امرأة أخرى.وخبلته هذه الفكرة، فاعتقد أن حبيبته من جنون غيرتها واقعة بين السلامة والتلف ؛ ثم توهم ذات يوم أن واشيا قد أعلمها أن النساء افتتن به ؛ فطار صوابها، فهي آتية إليه في المارستان لتوبخه وتشفي غيظها منه، ثم تنتحر أمام عينيه. . .وأدار 'النابغة' الفكر في إقناعها لتعلم أنه لم يخنها بالغيب. . .فلم يهتد إلى مقنع تستيقن به المرأة أن لا أرب للنساء فيه إلا أن. . .ففعل وجب خصيتيه بيده ليقدمهما برهانا أنه لها وحدها. . .قلنا: وطرب 'نابغة القرن العشرين' لذكر صواحبه وجميلاته، فجعل يترنم بهذا الشعر:

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم. . . . . . . .ما لذة العيش إلا للمجانين

فقال المجنون الآخر: 'مما حفظناه': ما لذة 'الخبز' إلا للمجانين. . .فضحك 'النابغة' وقال: ما أسخفك من أحمق.إذا كان هذا هو المعنى فقل: ما لذة 'الكعك'.ألم أقل لكم إن هذا الأبله لو تهجأ كلمة خبز قال: إنها ل.ح.م.ولو تهجأ كلمة لحم لقال: ف.و.ل.إنه طفل عمره ثلاثون سنة وفيه دائما غضب الطفل ونزقه وحماقته، وفيه كذلك سرور الطفل وطيشه وأحلامه ؛ غير أنه ليس فيه عقل الطفل. . .وهو من الضعف، وشدة الحاجة إلى العناية في حياطته وسياسته والبر به كطفل صغير بحيث يخيل إلي أحيانا أنني أمه.قلنا: وتنسى في هذه الحالة أنك رجل ؟قال: وأنتم كذلك تتهمونني بالنسيان، وهو شرعا جهة ملزمة للحكم بالجنون فما النسيان إلا الكلمة الأخرى لمعنى ضعف العقل ؛ وضعف العقل هو اللفظ الآخر لمعنى جنوني ؛ وقد أعلمتكم ما أكره من الكلام.قلت: لا، النسيان لا يكون منك نسيانا بمعناه في المجانين، بل بمعناه فيك أنت من تواثب الأفكار النابغة وتزاحمها في تواردها على العقل، فإذا تواثبت وتزاحمت كان أمرها إلى أن ينسى بعضها بعضا، فلا ينطلق منها إلا القوي النابغ حق نبوغه، فيجيء كالمنقطع مما قبله ؛ فيحسب ذلك نسيانا وما هو به.وقد تصطلح الأفكار في هذه المعركة الذهنية إذا كان النابغة مسروراً محبورا يرقص طرباً. . .فيكون أمرها إلى أن تجيء كلها معا على اختلاف معانيها وتناقضها ؛ فيحسب ذلك ضربا من الذهول عند من يجهل العلة 'النبوغية' ؛ وعذره جهل هذه العلة، وهي في دلالة العقل ليست نسيانا ولا ذهولا.قال: فأعلمني كيف نسيان المجانين، فقد خفي على أن أدرك هذا الأمر العجيب فيهم، ولست أدري كيف يفوتهم ما استدنى لهم من الفكر بعد أن يكون قد استقر وحصل في عقولهم ؟قلت: لا يكون النسيان تهمة بالجنون إلا في أحوال ثلاث، جاءت بكلها الرواية الصحيحة المحفوظة:فأما الأولى: فما يروى عن رجل كان سريا غنيا وعمر حتى أدركه الخرف ؛ فجاءه كاتبه يوما يستعينه على تجهيز أمه وقد ماتت، فدفع إلى غلام له دنانير يشتري بها كفنا، ودنانير أخرى يتصدق بها على القبر، ثم قال لغلام آخر ؛ امض إلى صاحبنا وغاسل موتانا فلان فادعه يغسلها.قال الكاتب: فاستحييت منه وقلت: يا سيدي ابعث خلف فلانة وهي جارة لنا تغسلها.قال: يا فلان: ما تدع عقلك في حزن ولا فرح.كيف ندخل عليها من لا نعرفه ؟قال الكاتب: نعم تأذن بذلك.قال: لا - والله - ما يغسلها إلا فلان.فضاق الكاتب بهذا الحمق وقال: يا سيدي كيف يغسل رجل امرأة ؟قال: وإنما أمك امرأة ؟ والله لقد أنسيت. . .وأما الحالة الثانية: فما يروى عن رجل كان نائما في ليلة باردة فخرجت يده من الفراش فبردت، فأدناها إلى جسده وهو نائم فأحس بردها فأيقظته، فانتبه فزعا فقبض عليها بيده الأخرى وصاح: اللصوص.اللصوص. . .هذا اللص قد قبضت عليه، أدركوني لئلا تكون في يده حديدة يضربني بها، فجاءوا بالسراج فوجدوه قابضا بيده على يده وقد نسي أنها يده. . .وأما الثالثة: فهي رواية عن رجل قد ورث نصف دار، ففكر طويلا كيف تخلص الدار كلها له ثم اهتدى إلى الوسيلة ؛ فذهب إلى رجل وقال له: أريد أن أبيعك حصتي من الدار وأشتري بثمنها النصف الباقي لتصير الدار كلها لي.قال 'النابغة': لعمري إن هذا لهو الجنون، وما يذكر مع هؤلاء مجنون المتن ولا 'غيره'.فقال الآخر: تالله لولا أن 'نابغة القرن العشرين' يرفع نفسه عن الجنون لجاء في الجنون بما يذهل 'العقول'.ثم نظر فإذا النابغة يتحفز له. . .فأسرع يقول: 'مما حفظناه': كن حذرا كأنك غر، وكن ذاكرا كأنك ناس.فهذا هو نسيان نابغة القرن العشرين، نسيان حكماء لا نسيان مجانين.قال 'النابغة': ولكن قد فسد قول الشاعر: ما لذة العيش إلا للمجانين ؛ فما بقيت مع الجنون لذة.قلت: إن الشاعر لا يريد المجانين الذين هم مجانين بالمرض، وإنما يريد العشاق المجانين بالجمال ؛ وجنون العاشق في هذا الباب كعيوب العظماء من أهل الفن، وهي عيوب تدافع عن نفسها بحسنات العظمة، فليست كغيرها من العيوب.قال: فيجب أن أصنع بيتا آخر يفسر ذلك الشعر ليستقيم لي التمثل به، ثم فكر وهمهم، ثم كتب في ورقة ثم طواها وقال: اصنع أنت أول، وسأئتمن س.ع.على شعري ودفع إليه الورقة:فنظرت وقلت: يجب أن يكون الشعر هكذا:

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم. . . . . . . .ما لذة العيش إلا للمجانين

العقل إن حكم العشاق أثقل من. . . . . . . .فقر تحكم في رزق المساكين

ونشر س.ع.الورقة فإذا فيها:

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم. . . . . . . .ما لذة العيش إلا للمجانين

إن العيوب عن المجنون دافعة. . . . . . . .بأنه نابغ في القرن العشرين

وضحكنا جميعا ؛ فقال النابغة: أبعدك الله يا س.ع.إن من ائتمن المجنون على سر وقال له اكتمه فكأنما قال له: انشره. . .ثم قال: وددت - والله - أن يكون س.ع.هذا 'نابغة'، ولكني سأجعله نابغة، فقد صار له علي حق الصديق وهو حق لا أضيعه ولا أخل به.فإذا احتجت يا س.ع.إلى خطاب رنان تلقيه في حفل عظيم، أو قصيدة تمدح بها وزير المعارف، فالجأ إلي فإني ملجأ لك.ومتى انتحلت شعري كنت عند الناس المتنبي أو البحتري.أو ابن الرومي، فإن هؤلاء القدامى لم ينفعهم إلا أنني لم أكن فيهم، ولما لم أكن فيهم أعجبوا الناس إذ إنني لم أكن فيهم. . .قلنا فما حكمك عليهم في الأدب ؟قال: إذا حكمت عليهم فقد جعلت نفسي بينهم، فمن الطبيعي ألا يعجبني منهم أحد.إن 'نابغة القرن العشرين' لا يقول لمعنى هذا أحسن، فإنه هو فوق الأحسن، ولا يقول عن نابغة هذا أشهر، فإنه هو فوق الأشهر.قلت: كأن الدنيا تحت قدميك وأنت فيها الزاهد العظيم الذي لا يقول في حسن هذا أحسن لأنه فوق الشهوة، ولا في نعيم هذا أطيب لأنه فوق الطمع، ولا في مال هذا أكثر لأنه فوق الحرص.وأحسبك لو كنت ترعى غنما لكنت الحقيق في عصرنا بقول تلك الراعية الزاهدة: أصلحت شأني بيني وبينه فأصلح بين الذئب والغنم.قال: وكيف ذلك ؟قلت: حكي عن بعض الصالحين أنه فكر ذات ليلة فقال في نفسه: يا رب ! من زوجتي في الجنة ؟ فأري في منامه ثلاث ليال أنها جارية سوداء في أرض كذا، فجاء تلك الأرض فسأل عن الجارية، فقال له رجل: ما هذا ؟ تسأل عن جارية سوداء مجنونة كانت لي فأعتقتها ؟ قال: وماذا رأيتم من جنونها ؟ قال: كانت تصوم النهار فإذا أعطيناها فطورها تصدقت به، وكانت لا تهدأ الليل ولا تنام فضجرنا منها.قال: فأين هي ؟ قال ترعى غنما للقوم في الصحراء.فذهب إلى الصحراء فإذا هي قائمة في صلاتها، ونظر إلى الغنم فإذا ذئب يدلها على المرعى وذئب يسوقها.فملا فرغت من صلاتها سلم عليها فأنبأته أنه زوجها في الجنة وأنبأها أنه بشر بها ؛ ثم سألها ما هذه الذئاب مع الأغنام ؟ قالت: نعم أصلحت شأني بيني وبينه فأصلح بين الذئب والغنم.قال 'النابغة': هذا كذب لأنه عجيب، وهو عجيب لأنه كذب.قلت: وأي عجيب في هذا ؟ إن الذئب والشاة، والأسد والغزال، والثعبان والعصفور، وكل آكل ومأكول من الأحياء، لو هي دخلت في دائرة الصلاة الحقيقية لانتظمت كلها صفا واحداً يركع ويسجد.فهذه الجارية نشرت روح الصلاة والتقوى على كل ما حولها من قلبها الطاهر المطمئن بالإيمان فوقع الذئب منها في دائرة مغناطيسية، فسلب وحشيته ورجع مسخراً لفكرة الصلاح والخير إذ تجانست فيه الحياة بما حولها، وانسجم النوع والنوع في حركة متجاوبة انسجام الرجل المغناطيسي هو ومن ينومه في إرادة واحدة وفكرة واحدة.قال 'النابغة': فإذا دخل الذئب مسجداً يرتج بالمصلين، أتراه يصف أربعته ويقف بينهم للصلاة، أم يصلي صلاته الذئبية في لحومهم ؟قلت: وأين هم الذين يصلون بحقيقة الصلاة، فيخرجون بها من النفس إلى الكون، ومن الزمن إلى الأبد، ومن الأسباب إلى مسببها، ومما في القلب إلى ما فوق القلب ؟ إن هؤلاء جميعا يصلون بجوارحهم وبينهم وبين أرواحهم طول الدنيا وعرضها ؛ وما منهم إلا من يتصل فكره بما يغلب عليه، كما يتصل فكر اللص بيده، وفكر العاشق بعينه، وفكر الطفيلي بمعدته.فاسمها عندهم الصلاة، وحقيقتها عند الله كما ترى.قال 'النابغة': ولكنه ذئب من طبيعته أن يأكل الشاة لا أن يرعاها، فلا أفهم شيئا.وقال الآخر: 'مما حفظناه' رتع الذئب في الغنم، ولم يقولوا صلى الذئب في الغنم، فلا أفهم شيئا.قلت: سأزيدكما عدم فهم. . .إن قلب تلك المرأة العظيمة الطاهرة متصل بالله، وليس فيه شيء من طباعها الإنسانية ولا ظل من ظلال الدنيا ؛ وقد تجلى فيه سر الحياة، وهو السر الذي لا يطعم ولا يشرب ولا يلبس ولا يشتهي ولا يطمع في شيء ولا يحرز شيئا، وإنما طبيعته أشواقه الكونية، واتصاله بنفحات القوة الأزلية المسخرة للوجود كله.فانتشرت هذه الموجة الكهربائية الأثيرية حول الجارية من قلبها، وجاء الذئب فالتج فيها وغمرته الروحانية الغالبة، فإذا هو يفتح عينه على كون غريب قد تجلى السلام عليه، فليس فيه إلا قوة آمرة أمرها بائتلاف كل شيء مع كل شيء، واجتماع المتنافرين في حالة معروفة لا في حالة إنكار.فصار الذئب مستيقظا، ولكنه في روح النوم، وشلت فيه الذئبية الطبيعية، فإذا هو يحمل الأنياب والأظافر وقد أنسي استعمالها ؛ وبقيت حركته الحيوانية، ولكن تعطلت بواعثها فبطل معناها.ومن كل ذلك اختفى الذئب الذي هو في الذئب، وبقي الحيوان حيا ككل الأحياء، فناسب الشاة وفزع إليها إذ لم تكن العلاقة بينهما علاقة جسم الآكل بجسم الأكيلة، بل علاقة الروح الحي بروح حي مثله.قال 'النابغة': أما أنا فقد فهمت ولكن هذا المجنون لم يفهم.أكتب يا س.ع: جلس نابغة القرن العشرين مجلسه للفلسفة على غير إعداد ولا تمكن، وبدون كتبه ألبتة. . .وكان هذا أجمع لرأيه وأذهن له وأدعى لأن يتوفر على الإملاء بكل 'مواهبه العقلية' ؛ ولما أن فكر النابغة أعطي النظر حقه وجمع في عقله الفذ جزالة الرأي إلى قوة التفنن والابتكار، قال مرتجلا: إن فلسفة الذئب والشاة حين لم يأكلها ولم تنطحه، هي بالنص والحرف كما قال أستاذ نابغة القرن العشرين.'حاشية' وإن مجنون المتن لم يفهم هذه الفلسفة.فامتعض الآخر وقال 'مما حفظناه':

وبات يقدح طول الليل فكرته. . . . . . . .وفسر الماء بعد الجهد بالماء

فقال 'النابغة': ويلك يا أبله ! أما - والله - لو كنت نفطويه أو سيبويه لما كنت عندي إلا جحشويه أو بغلويه. . .لقد كنت أرى الكلام في تلك الفلسفة طريقا نزها جميلا حفته الأشجار والأزهار عن جانبيه، واندفعت في سوائه 'تمبيلات' الأفكار خاطفة كالبرق.فلما تكلمت أنت انتهينا من سخافتك إلى طريق حجري تقعقع فيه عربات النقل تجرها البغال البطيئة.فقال الآخر وهو يعتذر إليه: ما أردت والله مساءتك ولو أردتها لقلت: وفسر الماء بعد الجهد بالسبرتو. . .فهذا هو الخطأ، أما تفسير الماء بعد الجهد بالماء فهو صحيح.قال 'النابغة': ولكنه تفسير مفرط السقوط كتفسير المجانين، فهو يقول: إني مجنون.قلت: كلا، إن تفسير المجانين يكون على غير هذا الوجه، كالذي حكاه الجاحظ قال: سمعت رجلا يقول لآخر: ضربنا الساعة زنديقا.قال الآخر: وأي شيء الزنديقا ؟ قال الذي يقطع المزيقا.قال: وكيف علمت أنه يقطع المزيقا ؟ قال: رأيته يأكل التين بالخل. . .^

تتمة

وطال المجلس بنا وبالمجنونين، والكلام على أنحائه يندفع من وجه إلى وجه، ويمر في معنى إلى معنى ؛ فأردت أن أبلغ به إلى الغاية التي جمعت من أجلها بين هذين المجنونين، بعد ما انطلقنا في القول وانفتح القفل الموضوع على عقل كل منهما.وكان قد مر في الندي بائع روايات مترجمة 'بوليسية وغرامية ولصوصية ! ' يحمل الرجل منها مزبلة أخلاق أوروبية كاملة لينفضها في نفوس الأحداث من فتياننا وفتياتنا، فقلت 'لنابغة القرن العشرين': أتقرأ الروايات ؟ قال: لا، إلا مرة واحدة ثم لم أعاود، إذ جعلتني الرواية رواية مثلها.قلنا: هذا أعجب ما مر بنا منذ اليوم، فكيف صرت رواية ؟قال: أنتم لا تعرفون طبيعة النوابغ، إذ ليس لكم حسهم المرهف، ولا طبعهم المستحكم، ولا خصائصهم الغيبية، ولا خواطرهم المتعلقة بما فوق الطبيعة.قلت: نعم أعرف ذلك ؛ وما من 'نابغة' إلا وهو بين عالمين على طرف مما هنا وطرف مما هناك، فهو خراج ولاج بين العالمين ؛ وله نفس مركبة تركيبها على نواميس معروفة وأخرى مجهولة ؛ فهي تأخذ من الظاهر والباطن معا، ويحصرها المكان مرة ويفلتها مرة، وتكون أحيانا في زمان الأرض، وأحيانا في زمن الكواكب من القمر فصاعداً. . .ولكن. . .فقطع علي وقال: أضف إلى ذلك أن هذه العقول التي تحصر من يسمونهم العقلاء في الزمان والمكان، لا توجد أهلها إلا الهموم والأحزان، والمطامع السافلة، والأفعال الدنيئة، فإنهم يعيشون فوق التراب.قلت: نعم، وإذا عاشوا فوق التراب فباضطرار أن تكون معاني التراب فوقهم وتحتهم ومن حولهم وبين أيديهم، فليسوا يقطعون على هذه الأرض إلا عمرا ترابيا في كل معانيه ولكن. . .قال: وزد على ذلك أنهم مقيدون تقييد المجانين، غير أن حبالهم وسلاسلهم عقلية غير منظورة ؛ وبتغليلهم تغليل المجانين يسمون أنفسهم عقلاء، وأعقلهم أثقلهم قيودا، وهذا من الغرابة كما ترى.قلت: نعم، أما العقلاء بحقيقة العقل، فهم الذين يضحكون على هؤلاء ويسخرون منهم، إذ كانوا في حال كحال المنطلق من المقيد، وفي موضع كموضع المعافى من المبتلى ولكن. . .قال: وفوق هذا وذاك، إنهم لا يملكون السعادة، إذ ليس لهم العقل الضاحك الساخر العابث الذي خص به النوابغ وكان الأوحد فيه 'نابغة القرن العشرين'.قلت: نعم، وإذا ملكوا السعادة لم يشعروا بها، أما 'النوابغ' فقد لا يملكونها، ولكن لا يفوتهم الشعور بها أبداً فيجيئهم الفرح من أسبابه ومن غير أسبابه ما دام لهم العقل الضاحك الساخر العابث الذي دأبه أبداً أن ينسى ليضحك، ولا قانون له إلا إرادة صاحبه، على مشيئة صاحبه، لمنفعة صاحبه.ولكن. . .قال: والذي هو أهم من كل ما سبق ؛ أن أعظم خصائص هذا العقل الضاحك الساخر العابث أن يطرد عن صاحبه ما لا يحب ويجنبه أن يخسر شيئا من نفسه ؛ فهو لذلك يجعل حسابه مع الأشياء حسابا يهودياً لا بد فيه من ربح خمسين في المائة.قلت: نعم، وهو دائما كالطفل ؛ وما أظرف بلاهة الطفل وما أجداها عليه، إذ يضع بلاهته دائما في أرواح الأشياء وأسرارها فتخرج بلهاء مثله، وتنقلب له الدنيا كأنها أم تضاحك ابنها وتلاعبه ولكن. . .قال: ولكن هذا مبلغ لا تبلغه الإنسانية إلا شذوذا في أفرادها من جبابرة العقول 'كنابغة القرن العشرين'.قلت: نعم 'ولكن' كيف صار 'نابغة القرن العشرين' رواية حين قرأ الرواية ؟قال: هذه نكتة النبوغ ؛ فلو أن مؤلفها كان نابغة مثلنا يتلقى في نفسه وحي الأثير وإشارات الروح الأعظم ؛ لعلم من الغيب أن 'نابغة القرن العشرين' سيقرأ روايته، فكان يتحرى معاني غير معانيه ويتوخى بهذه القصة وضعا آخر لا تكون فيه حبيبة خائنة، ولا لص عارم، ولا قاتل سفاح، ولا سجن مظلم، ولا محكمة تقول حيث وحيث. . .قلت: وما عليك من حبيبة خائنة في الورق، ولص بين الحروف المطبعية وقاتل لا يقتل إلا كلاما، وسجن ومحكمة على الصحيفة لا على الأرض ؟قال: هذه نكتة النبوغ، فما استوعبت القصة حتى غمرتني أشخاصها، وأقحمت منها على هول هائل، فخانتني الخائنة لعنها الله. .ولولا خوف السجن والمحكمة لقتلتها أشنع قتلة، ومثلت بها أقبح تمثيل.ويح الخائنة كيف استمالها ذلك الدميم الطويل العملاق المشبوح العظام المفتول العضل ؟ ولكني لست عملاقا ولا مبنيا بناء الحائط، ثم كان مجنونا بشهواته جنون الفيل الهائج، وكنت في شهواتي عاقلا عقل الإنسان، ثم كان غنيا غنى الجهال، وكنت فقيرا فقر العلماء.والنساء ؛ قبح الله النساء.إنهن زينة تطلب زينة مثلها وإن المرأة لتمنح وجهها للقرد يقبله إذا كان الذهب يتساقط من قبلاته.أما من كان مثلي، أمواله الشباب والجمال والعقل والنبوغ، فهو مفلس عندهن إفلاس القرد في الغابة، فهو عندهن قرد لهذه المشابهة.قلت: هذا ليس عجيبا فإن اللغويين يجرون على الشيء اسم ما يقاربه في المعنى.قال المجنون الآخر: 'مما حفظناه': أن اللغويين يجرون على الشيء اسم ما يقاربه في المعنى. . .فتربد وجه 'النابغة' غضباً وقال: أبي يلعب هذا المجنون ؟ إنه يزعم أن اللغويين يسمونني قرداً، فهاتوا القواميس كلها وارجعوا إلى مادة 'قرد' ومادة 'نابغة'. . .سوأة عليك أيها الصبي المعمر. . .ألا فدعوني أؤدبه أدب الصبيان فإن اللطمة القوية على وجه الطفل المكابر في حقيقة تلمسه الحقيقة التي يكابر فيها إذ تدخلها إلى عقله من أقرب طريق. . .قال ا.ش: أنت قلت: لا هو.على أنك لست قرداً أبداً إلا عند امرأة جميلة فاتنة متخيلة متماجنة، قد نضع البرذعة على ظهر الأمير وتجعله حمارها، فيعجب الأمير أن يكون حمارها.ولست قرداً مع قراد إلى جانب عنز وكلب.قال: الآن علمت السبب، فإن الخائنة كانت متخيلة مؤلفة كتب وروايات، والمرأة التي تؤلف الكتب، غير بعيد أن تؤلف الرجل أيضاً، وتجعله قصة هو فيها قرد. . .وهذا إن كانت جميلة كامرأة الرواية.أما إن كانت دميمة مجموعة من المتناقضات، أو عجوزاً مجموعة من السنين ؛ فهذه وهذه كل أيامها كيوم الأحد عند النصارى. . .يوم للعطلة لا بيع فيه ولا شراء ولا مساومة.هذه وهذه كلتاهما تجعل الرجل كالماء في سبيل التجمد. . .لا يشتعل، فضلا عن أن يستعر، فضلا عن أن يحترق.ومؤلفة الكتب لا يكون وجهها إلا إحدى وثيقتين: فإما جميلة، فوجهها وثيقة بأن لها ديونا على الرجال ؛ وإما غير جميلة، فوجهها 'مخالصة' من كل الديون. . .قلنا: هذا في الخائنة.فيكف سرقك اللص ولست غنيا ؟قال: هذه هي نكتة النبوغ ؛ وفي النبوغ أشياء لا ينكشف تفسيرها، وليس في جهلها مضرة على أحد، وجهل لا يضر هو علم لا ينفع، لكنه علم.والبحث في بعض أعمال 'النابغة' هو كالبحث عن سر الحياة فيه، إذ يعمل أعماله تلك بسر الحياة لا بسر العقل، أي بالعقل النابغ الخاص به وحده لا بالعقل الطبيعي المشترك بين الناس.قلت: ومن عجائبك أنك لا تقرأ الروايات، ولكنك مع ذلك تؤلفها. . .قال: إن ذلك ليكون، وإن لم أؤلفها أنا تألفت هي لي.فإذا تقدم الليل ونام الناس جميعا انتبهت أنا وحدي لرواية العالم فأرى ما شئت أن أرى.وفي ضوء النهار أجد الناس عقلاء ولكني في ظلمة الليل أبصرهم مجانين.فهذا الليل برهان الطبيعة على جنون الناس وضعف عقولهم إذ هو يثبت حاجة هذه العقول إلى ضرب من النسيان الأبله التام لولاه ما عقلت في نهارها ولا استقام لها أمر.يصرع الناس في الليل صرعة المجانين يغمضون أعينهم ولا يرون شيئا.أما أنا فأرى العالم في الليل مسرحا هزليا يضج بالضحك من الإنسان الأحمق الذي يقطع سراة نهاره، وهو معتقد أنه قابض على الوجود بالأعين والآذان والأناف. . .أئن رأيت الأسد بعينك أيها الأحمق وسمعت في أذنيك زئيره، ادعيت الدعوى العريضة، وزعمت أنك ملكته وقبضت عليه، ولا تدري في هذا أنك كالمعتوه إذا قبض على الظل بيده، وصاح هاتوا الحبل لأقيده لا يفلت.قلت: فإذا كان العالم كله روايتك فأخرج لنا فصلا من الرواية.قال: أيما أحب إليكم، أن أكتب أو أمثل ؟قلنا: بل التمثيل أحب إلينا.فنظر إلى المجنون الآخر وقال: وإن المجنون في طبيعته ينبوع من الأشخاص يفيض حالا بعد حال، كينبوع الماء يسح الدفعة بعد الدفعة، فهنا المسرح، والرواية الآن رواية الطبيب والمجنون. . .أنت يا س.ع.عم هذا المجنون.فإذا قال لك يا عم.قل له: أنا لست عمك ولكني أخو أبيك. . .لننظر أيتنبه على الفرق بين الصيغتين أم لا ؛ فإنه فرق عقلي دقيق تمتحن به العقول. . .تعال أيها المريض فإني أرجو أن يكون شفاؤك على يدي، وفي يدي هذه لمسة من لمسات المسيح، لأن 'نابغة القرن العشرين' هو الآن طبيب القرن العشرين. . .اتقوا أن تغضبوه أو تخيفوه، وأقيموا له كل ما يحتاج إليه، وتحروا مسرته دائماً، فإن إدخال بعض السرور إلى نفس المجنون هو إدخال بعض العقل إلى رأسه.متى أنكرت يا س.ع عقل ابن أخيك وما كان السبب ؟ وكيف غلب على عقله ؟ وهل ا.ش هو خاله أو أخو أمه ؟لطف الله لك أيها المسكين.قل لي: أتتذكر أمس ؟ أتتذكر غداً ؟ إن الأمس والغد ساقطان جميعا من حساب المجانين ؛ ومن الرحمة بهم أن الدنيا تبدأ لهم كل يوم فقد استراحوا من ثلثي هموم الزمن في العقلاء، وهم لا يصلحون أن ينفعوا الناس كالعقلاء، غير أنهم صالحون أكثر من العقلاء للانتفاع بأنفسهم في الضحك والمرح والطرب، وهذا حسبهم من النعمة عليهم.قل لي أيها المجنون: أتحس أن الدنيا تصنع لك نفسك، أم نفسك هي تصنع لك الدنيا ؟ إن هذه مسألة يحلها كل مجنون على طريقته الخاصة به، فما هي طريقتك في حلها ؟ما لك لا تجيب أيها الأبله ؟ 'هذا من جهة ومن جهة' أعطوه قرشا لينطلق لسانه، وآتوا الطبيب أجره وافيا وهو لا يقل عن قرشين. . .ثم مال 'النابغة' على مجنون المتن وساره بشيء.فقلنا ما أمر المال بسر ؛ هذا قرش للمريض وهذان قرشان للطبيب.فقال المجنون: 'مما حفظناه' كفى بالسلامة داء.قال 'الطبيب': هذا مريض بنوع من الجنون اسمه 'مما حفظناه' وهو جنون النسيان الذي يضع في مكان العقل كلمة ثابتة لا يتذكر المجنون إلا بها ؛ ومن أعراضه جنون الشك فكل ما حول المريض مشكوك فيه، وقد يترامى إلى جنون اللمس، فلو لمسته بإصبعك توهمها عقربا فخاف من الإصبع تلمسه خوفه من العقرب تلدغه،ولكن بقيت أشياء لا بد من التدقيق في فحصها، فليس هذا من مجانين العبقرية التي انحرفت عن طريقها أو شذت في قوتها ؛ ولا هو ممن يتجان ويتحامق التماسا للرزق والعيش كما قال بعضهم: حماقة تعولني خير من عقل أعوله.فقال المجنون: 'مما حفظناه' حماقة تعولني. . .فضحك 'النابغة' وقال: هو كما بينت لكم مصاب بجنون 'مما حفظناه' وهو أقل الجنون وأهونه، وعلاجه البسط والسرور والقرش، والضرب أحيانا. . .فإذا ثابر عليه الداء تحول إلى جنون 'مما ضربناه'. . .فيعتدي المصاب على كل من يراه أو يوقع به ضربا، وعلاجه حينئذ القميص المرقوم ؛ فإذا فدحت العلة انقلب المرض إلى جنون 'مما قتلناه'.وعلاجه يومئذ السلاسل والأغلال.والحق أقول لكم إن آخر ما انتهت إليه فلسفة الطب في القرن العشرين أن الناس جميعا مجانين ولكن بعضهم أوفر قسطا من بعض.كأن سلب العقل هو أيضا حظوظ كحظوظ موهبة العقل.وأهل المريخ من أجل ذلك يسمون الأرض بيمارستان الفلك.ولكن بقيت أشياء لا بد من التدقيق في فحصها ؛ وعندي في الدار عاطوس إذا أشممته هذا المجنون عطس به عطسة قوية فخرج جنونه من أنفه. . .قل لي أيها المسكين: أتخاف إذا سرت وحدك في ميدان واسع كأن الميدان سيلتف عليك ؟ أتضطرب إذا مشيت في مضيق كأن المكان سينطبق عليك ؟ وإذا كنت في عربة القطار فهل يخيل إليك أن البيمارستان قد جره القطار وانطلق به هاربا ؟ وهل شعرت مرة أنه أوحي إليك أن تنتحر ؟أرني هذا القرش الذي في يدك.فمد إليه المجنون يده بالقرش.قال 'النابغة': انظر الآن هل تحدثك نفسك أن تغصبني هذا القرش أو تسرقه مني ؟ قال: نعم.قال 'النابغة': إذن يجب أن أحرزه في جيبي. . .وأسرع فأخفاه في جيبه.فصاح الآخر وشغب، وقال: سلبني ونهبني.قلنا لا ينبغي أن يتصل بينكما شر في تمثيل الرواية فهذا قرش آخر، ولكن أفي الفلسفة عند 'النابغة' إباحة السرقة والغصب ؟قال: فالرواية الآن هي رواية الفيلسوف العظيم أفلاطون وتلميذه أرسطو.قل لي ويحك يا أرسطو.أعلمت أن في المجانين أغنياء يسرقون الشيء القليل لا قيمة له وهم أغنياء وليست بهم حاجة إليه.فما علة ذلك عندك وما وجهه في مقولة الجنون ؟أعجزت عن الجواب ؟ إذن فاعلم يا أرسطو أن المصاب بهذا الضرب من الجنون إذا اشترى هذا الشيء بدرهم كانت قيمته من الدرهم وحده، وهو غني لا قيمة للدرهم في ماله فلا يحفل بالشراء بيد أنه إذا سرقه كانت قيمته عنده من عقله وحيلته فيجيئه بلذة لا تشتريها كل أمواله ولا كل أموال الدنيا.فهذا جنون باللذة لا بالسرقة، وهو بذلك ضرب من العشق يجعل الشيء إذا لم يسرق كأنه المرأة المعشوقة الممتنعة على عاشقها.والجياع إذا سرقوا ليأكلوا ويمسكوا الرمق على أنفسهم، لا يقال في لغة الفلسفة إنهم سرقوا بل أخذوا. . .فباضطرار جاعوا وباضطرار مثله أكلوا، والسارق هنا هو الغني الذي منعهم الإحسان والمعونة.فالدنيا معكوسة منقلبة أوضاعها يا أرسطو، لو استقامت هذه الأوضاع لوجدت السعادة في الأرض لأهل الأرض جميعا.وكيف لك بالسعادة والناس مخلوقون بعيوبهم ؟ ويا ليتهم مخلوقون بعيوبهم فقط، ولكن الطامة الكبرى أن عيوبهم تعمل دائما على أن ترى في الآخرين عيوبا مثلها.كل حمار فهو يريد أن يملأ جوفه تبنا وفولاً وشعيراً، غير أني لم أر حماراً قط يريد أن يملأ لنفسه الإصطبل ؛ فإذا وجد حمار هذه همته وهذا عمله فاسمه إنسان لا حمار.يا أرسطو إن معضلة المعضلات أن يحاول إنسان حل مشكلة داخلية محضة قائمة في نفس حمار أو ثابتة في ذهنه الحماري. . .ومثل هذا أن يحاول حمار حل مشكلة نفسية في ذهن إنسان أو في قلبه، فلا حل لمشاكل العالم أبداً ما دام كل إنسان مع غيره كحمار مع إنسان.والمعضلات النفسية من عمل الشياطين، فكان ينبغي أن تجيء الملائكة لتحارب الشياطين بالبرق والرعد دفاعا عن الإنسانية ؛ ولكن الله - تعالى - منعها، وأرسل للإنسان ملائكة أخرى إن شاء هذا الإنسان عملت، وإن شاء عجزت ؛ وهي فضائل الأديان المنزلة.فإذا منحها الإنسان إرادته وقوته، فعملت عملها كان الإنسان هو الملك بل فوق الملك، وإذا أضعفها ومحقها كان الإنسان هو الشيطان وأسفل من الشيطان.يا أرسطو: 'هذا العالم عندي كتلة من العدم اتفقت على الظهور وستختفي.والعالم عندي ضعف ركب وقوة ركبت.والعالم عندي لا شيء.والعالم بين بين.والعالم قسمان: منهم الفلاح الزراعي وذلك أفضل فلسفة طبيعية.والعالم في حاجة إلى الموت والموت في حاجة إليه.والأدب هو الحياة ولا حياة بلا أدب.والأدب ضربان: أدب نفساني وأدب مكتسب، وقد يكون طبيعيا كما هو عند نابغة القرن العشرين.ومن هو نابغة القرن العشرين ؟ هو شخص مات بلا موت، ويحيا بلا حياة'.أتريد يا أرسطو أن تعرف سر تركيب العالم ؟ الأمر يسير غير عسير، فإن سر تركيبه كسر تركيب القرش الذي في يدك، فدعني أظهرك على هذه الحقيقة ومد يدك بالقرش لأبين لك سر التركيب فيه.ولكن المجنون الآخر أسرع فغيب القرش في جيبه.فقال 'النابغة': هذا سياسي داهية خبيث.والرواية الآن رواية سياسي القرن العشرين.ليس في حقيقة السياسة إلا الرذل من أفعال السياسيين.والألفاظ السياسية التي تحمل أكثر من معنى هي التي لا تحمل معنى.فليحذر الشرق من كل لفظ سياسي يحتمل معنيين، أو معنى ونصف معنى، أو معنى وشبه معنى ؛ فإن قالوا لنا: 'أحمر' قلنا لهم: اكتبوه بهذا اللفظ ؛ فإذا كتبوه قلنا لهم: ارسموا إلى جانبه معناه باللون الأحمر لتشهد الطبيعة نفسها على أن معناه أحمر لا غير. . .وعلى هذه الطريقة يجب أن تكتب المعاهدات السياسية بين أوروبا والشرق. . .إنهم يكتبون لنا جريدة بأسماء الأطعمة ثم يقولون: أكلتم وشبعتم. . .ولقد رأيت 'مظاهرات' كثيرة ولا كالمظاهرة التي أتمناها ؛ فما أتمنى إلا أن يخرج كل المجانين في مظاهرة. . .وهذا الأبله الذي أمامنا ليس وطنيا ولا فيه ذرة من الوطنية ؛ فإن كان وطنيا أو زعم أنه وطني، فليخرج القرش الذي في جيبه. . .ليكون فألا حسنا لخروج جيش الاحتلال من مصر. . .ولكن المجنون لم يخرج القرش وترك جيش الاحتلال في مكانه.فقال 'النابغة': الرواية الآن رواية الشرطي واللص.وبحق من القانون يكون للشرطي أن يفتش هذا اللص ليخرج القرش من جيبه. . .غير أن المجنون امتنع.فقال 'النابغة': كل ذلك لا يجدي مع هذا الخبيث، فالرواية الآن رواية هارون الرشيد مع البرامكة، ويجب أن ينكب الرشيد هؤلاء البرامكة ليستصفي القرش.بيد أننا منعناه أن ينكب 'البرامكة' فقال: الرواية الآن رواية العاشق والمعشوقة، ونظر طويلا في المجنون وصعد فيه عينه وصوب فلم ير إلا ما يذكر بأنه رجل، فتهدى إلى رأي عجيب.فوقع على قدميه وتوهمه امرأة في حذائها. . .وجعل يناجي الحذاء بهذه المناجاة:إن سخافات الحب هي أقوى الدليل عند أهله على أن الحب غير سخيف ؛ فكل فكرة في الحب مهما كانت سخيفة، عليها جلال الحب ؛ وللحذاء في قدميك يا حبيبتي جمال الصندوق المملوء ذهبا في نظر البخيل، وكل شيء منك أنت فيه سر جمالك أنت.والحذاء في قدميك ليس حذاء، ولكنه بعض حدود جسمك الجميل، فلا أكون كل العاشق حتى أحيط بكل حدودك إلى الحذاء.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي