وحي القلم/سر القبعة

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

سر القبعة

سر القبعة - وحي القلم

سر القبعة وحدثني صاحب سر 'م' باشا، قال: نجمت في مصر حركة بعقب أيام البدعة التركية، حين لم تبق لشيء هناك قاعدة إلا القاعدة الواحدة التي تقررها المشانق.فمن أبى أن يخلع العمامة عن رأسه خلعوا رأسه ؛ ومن قال: 'لا' انقلبت' 'لا' هذه مشنقة فعلق فيها.وكانت فكرة اتخاذ القبعة في تركيا غطاء للرأس، قد جاءت بعد نزعات من مثلها كمات يجيء الحذاء في آخر ما يلبس اللابس، فلم يشك أحد أنها ليست قبعة على الرأس أكثر مما هي طريقة لتربية الرأس المسلم تربية جديدة، ليس فيها ركعة ولا سجدة ؛ وإلا فنحن نرى هذه القبعة على رأس الزنجي والهمجي، وعلى رأس الأبله والمجنون، فما رأيناها جعلت الأسود أبيض، ولا عرفناها نقلت همجيا عن طبعه، ولا عم أحد أنها أكملت العقل الناقص أو ردت العقل الذاهب، أو انقلبت آلة لحل مشكلات الرأس البليد، أو غصبت الطبيعة شيئا وقالت: هذا لحاملي دون حامل الطربوش والعمامة.وقد احتجوا يومئذ لصاحب تلك البدعة أنه لا يرى الوجه إلا المدنية، ولا يعرف المدنية إلا مدنية أوروبا، فهو يمتثلها كما هي في حسانتها وسيئاتها، وما يحل وما يحرم وما يكون في حاجة إليه وما يكون في غنى عنه ؛ حتى لو أن الأوروبيين كانوا عورا بالطبيعة، لجعل هو قومه عورا بالصناعة ليشبهوا الأوروبيين.نعم إنها حجة تامة لولا نقص قليل في البرهان، يمكن تلافيه بإخراج طبعة جديدة من كتب الفتوح العثمانية، يظهر فيها الخلفاء العظام والأبطال المغاوير الذين قهروا الأوروبيين لابسين قبعات، ليشبهوا الأوروبيين.قال صاحب السر: وتهور في هذه الضلالة رهط من قومنا، وأخذوا يدعون إلى التقبع في مصر احتذاء لتركيا، وذهب بعضهم إلى سعد باشا 'رحمه الله' يطلب رأيه، فكان رأيه 'لا' بمد الألف. . .وعهد إلي بعضهم أن أسأل الباشا، فقال:ويحهم ! ألا يخجلون أن نكون - نحن المصريين - مقلدين للتقليد نفسه ؟ إن هذه بدعة تنحط عندنا درجة عن الأصل، فكأنها بدعتان.ثم ضحك الباشا وقال: كان في القديم رجل سمع أن البصل بالخل نافع للصفراء، فذهب إلى بستان يملكه وقال لوكيله: ازرع لي بصلا بخل. . .هكذا يريدون من القبعات ؛ أن تخرج لهم تركا بأوروبيين.ليست هذه القبعة في تركيا هي القبعة، بل هي كلمة سب للعرب ورد على الإسلام، ضاقت بها كل الأساليب أن تظهرها واضحة بينة، فلم يف بها إلا هذا الأسلوب وحده.وهي إعلان سياسي بالمناوأة والمخالفة والانحراف عنا واطراحنا.فإن الذي يخرج من أمته لا يخرج منها وهو في ثيابها وشعارها ؛ فبهذا انفتح لهم باب الخروج في القبعة ودون غيرها مما يجري فيه التقليد أو يبدعه الابتكار ؛ وإلا فأي سر في هذه القبعات، ومتى كانت الأمم تقاس بمقاييس الخياطين ؟ههنا سيف أراد أن يكون مقصا فعمل أولا ما يعمل الحسام البتار، فأجاد وأبدع وأكبره الناس وأعظموه ؛ ثم صنع ما يصنع المقص، فماذا عساه يأتي به إلا ما ينكره الأبطال والخياطون جميعاً ؟أكتب علينا أن نظل دهرنا نبحث في التقليد الأعمى، وألا يحيا الشرقي إلا مستعبدا ينتظر في كل أموره من يقول له: اشرع لي ؟ إن بحثنا فلنبحث في زي جديد نتميز به، فتكون القوى الكامنة فينا وفي طبيعة أرضنا وجونا هي التي اخترعت لظاهرها ما يجعله ظاهرها.كما يخرج زور الأسد لبدة الأسد.غاية في المنفعة والجمال والملائمة.أنا ألبس ما شئت، ولكني عند القبعة أجد حدا تقف إليه ذاتيتي الفردية، فلا أرى ثمة موضع انفراد ولكن موضع مشاكلة، ولا أعرف صفة منفعة لي بل صفة حقيقة مني، ويعترضني من هناك المعنى الذي يصير به النوع إلى الجنس.والواحد إلى الجماعة وما دمت مسلما أصلي وأركع وأسجد، فالقبعة نفسها تقول لي: دعني فلست لك.وهؤلاء الرجال الذين لبسوها في مصر، إنما اشتقوها من المصدر نفس المصدر الذي يخرج منه التهتك في النساء، وكلاهما منزع من المخالفة، وكلاهما ضد من صفة اجتماعية تقوم بها فضيلة شرقية عامة.وليس يعدم قائل وجها من القول في تزيين القبعة، ولا مذهبا من الرأي في الاحتجاج لها، غير أن المذاهب الفلسفية لا يعجزها أن تقيم لك البرهان جدلا محضا على أن حياء المرأة وعفتها إن هما إلا رذيلتان في الفن. . .وإن هما إلا مرض وضعف، وإن هما إلا كيت وكيت، ثم تنتهي الفلسفة إلى عدهما من البلاهة والغفلة، وما الغفلة والبلاهة إلا أن تريد فلسفة من فلسفات الدنيا أن تقحم في كتاب الصلاة مثلا فصلا في. . .في. . .في الدعارة.لا يهولنك ما أقرر لك: من أن القبعة الأوروبية على رأس المسلم المصري، تهتك أخلاقي أو سياسي أو ديني أو من هذه كلها معا، فإنك لتعلم أن الذين لبسوها لم يلبسوها إلا منذ قريب، بعد أن تهتكت الأخلاق الشرقية الكريمة وتحلل أكثر عقدها، وبعد أن قاربت الحرية العصرية بين النقائض حتى كادت تختلط الحدود اللغوية، فحرية المنفعة مثلا تجعل الصادق والكاذب بمعنى واحد، فلا يقال: إلا أنه وجد منفعته فصدق، ووجد منفعته فكذب ؛ وعند الحرية العصرية أنه ما فرق بين اللفظين وجعل لكل منهما حدوداً إلا جهل القدماء، وفضيلة القدماء، ودين القدماء.وهذه الثلاثة: الجهل والفضيلة والدين، هي أيضا في المعجم اللغوي الفلسفي الجديد مترادفات لمعنى واحد، هو الاستعباد أو الوهم أو الخرافة.ومتى أزيلت الحدود بين المعاني، كان طبيعيا أن يلتبس شيء بشيء وأن يحل معنى في موضع معنى غيره، وأصبح الباطل باطلا بسبب وحقا بسبب آخر، فلا يحكم الناس إلا مجموعة من الأخلاق المتنافرة، تجعل كل حقيقة في الأرض شبهة مزورة عند من لا تكون من أهوائه ونزعاته، فيحتاج الناس بالضرورة إلى قوة تفصل بينهم فصلا مسلحا، فيكسبون القانون بمدنيتهم قوة همجية تضطره أن يعد للوحشية الإنسانية، وتدفع هذه الوحشية أن تعد له.ومن اختلاط الحدود تجيء القبعة على رأس المسلم، وما هي إلا حد يطمس حدا، وفكرة تهزم فكرة، ورذيلة تقول لفضيلة: ها أنذا قد جئت فاذهبي.ما هو الأكبر من شيئين بينهما لتعيين الصغر ؛ وما هو الأصغر من شيئين لا حد بينهما لتعيين الكبر ؟ إنها الفوضى كما ترى ما دام الحد لا موضع له في التمييز ولا مقر له في العرف ولا فصل به في العادة ؛ ومن هنا كان الدين عند أقوام أكبر كلمات الإنسانية في عامة لغاتها وأملأها بالمعنى، وكان عند آخرين أصغرها وأفراغها من المعنى، وما كبر عند أولئك إلا من أنه يسع الاجتماع الإنساني وهو محدود بغاياته العليا، وما صغر عند هؤلاء إلا بأن الاجتماع لا يسعه فلا حد له، وكأنه معنى متوهم لا وجود له إلا في أحرف كلمته.فجماعة القبعة لا يرون لأنفسهم حدا يحدونها به من أخلاقنا أو ديننا أو شرقيتنا، وقد مرقوا من كل ذلك وأصبحوا لا يرون في زينا الوطني ما فيه من قوة السر الخفي الذي يلهمنا ما أودعه التاريخ من قوميتنا ومعاني أسلافنا.وأنا أعرف أن منا قوماً يرى أحدهم في ظن نفسه أنه قانون من قوانين التطور ؛ فهو فيما يلابسه لا ينظر إلى أنه واحد من الناس، بل واحد من النواميس. . .ومن هنا الثقل والدعوى الفارغة، وما هو أكبر من الثقل وفراغ الدعوى.وإنه لحق أن يكون بعض الناس أنبياء، ولكن أقبح ما في الباطل أن يظن كل إنسان نفسه نبيا.واعلم أنه كثيراً مما يزينونه للشرقي من رذائل المدنية الأوروبية، إن هو إلا منطق شهواته في جملته، ولقد تسمع الجائع يتكلم عن الطعام، فترى كلاماً تحته معان ومعان لا يعدها غير الجائع إلا حماقة ساعتها.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي