وحي القلم/شيطان وشيطانة

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

شيطان وشيطانة

شيطان وشيطانة - وحي القلم

شيطان وشيطانة شغلني ما شغل الناس من حديث الجامعة المصرية وما أراده طلبتها من ورع يحجزهم عن محارم الله، ودين يخلص به الإيمان إلى قلوبهم، فلا يكون لفظ المسلم على المسلم كأنه مكتوب على ورقة ؛ ثم ابتغوه من الفصل بين الشبان والفتيات، تطهيراً للطباع ونوازع النفس، واتقاء لسوء المخالطة، وبعداً عن مطية الإثم، وتوفيراً لأسباب الرجولة على الرجل ولصفات الأنوثة على الأنثى.وقرأت كل ما نشرته الصحف، واستقصيت وبالغت، ونظرت في الألفاظ ومعانيها ومعاني معانيها ؛ وكنت قبل ذلك أتتبع باب 'فلان وفلانة' في المجلات الأسبوعية التي تكتب عن حوادث الاختلاط في الجامعة وتسمى الأسماء وتصف الأوصاف وتذكر النوادر ؛ فملأ كل ذلك صدري واجتمع الكلام يترجم نفسه إلي في رؤيا رأيتها وها أنذا أقصها:رأيتني عند باب الجامعة وكأني ذاهب لأقطع باليقين على الظن، وقد علمت أن الظنة تقوم في حكمة التشريع مقام الحقيقية ؛ لخفائها وكثرة وجودها ؛ فإن كان في اختلاط الجنسين ما يخشى أن يقع فهو كالواقع. . . .ثم رأيت شيطانة قد خرجت من الجامعة ومضت تتبع أنفها تتشمم الهواء وتستروحه كأنه كأن فيه شيئاً، حتى مالت إلى خمر هناك من ذلك الشجر الملتف عن يمين الطريق، فوقفت عنده تتنفس وتتنهد ؛ ثم تبصرت فإذا شيطان مقبل إلى الجامعة إقبال المغير في غارته، فأومأت له، فعدل إليها وحياها بتحية الشياطين، ثم قال لها: ما وقوفك هنا أيتها الخبيثة ؟ وكيف تركت صاحبتك التي أنت موكلة بها ؟ وما عسى أن يعمل الشيطان بين الجنسين إذا لم تؤازره الشيطانة ؟قالت: إنما اجتذبتني إلى هنا رائحة عاشقين كانا في هذا الظل يواريهما عن الأعين، وما أراك إلا مزكوماً، أفكنت في الأزهر. .؟فجعل الشيطان يتضاحك وقال: أنا مرسل من مستشفى المجانين مدداً لشياطين الجامعة ؛ فقد احتاجوا إلى النجدة. .ولكن أنت كيف تركت صاحبتك من أجل رائحة قبلة على خمسمائة متر ؟ ما أحسبها الآن إلا جالسة تكتب في منع اختلاط الجنسين ووجوب إدخال التعليم الديني في الجامعة !قالت الشيطانة: إن صاحبتي لأبرع مني في البراعة، وأدق في الحيلة وأهدى للمعاذير، وأنفذ إلى الغرض، ومثلها قليل هنا، ولكن قليل الشر ليس قليلاً، فإنه وصلة وطريق كما تعلم ؛ وما تجد الفتاة خيراً من هذا المكان ينفي عنها الريبة وهو يدنيها منها بهذا الاختلاط مع الفتيان، ويهيئ لعقلها أسباباً تكون فيها أسباب قلبها ؛ وقد كنت في أوربا، أفما رأيت هناك شابّاً وشابة حول كتاب علم وكأنهما على زجاجة خمر ؟إن هذا العلم شيء ومخالطة الشبان شيء آخر ؛ فذلك يطلق فكرها يتجاوز الحدود والاختلاط يجعل فكرها، يحصرها في حدود إحساسها ؛ وأحدهما يرهف ذهنها لإدراك الأشياء، والآخر يرهف عواطفها لإدراك الرجل ؛ وقد فرغ الله من خلقة الأنثى فما تخلق هنا مرة أخرى على غير الطبيعة المفطورة على الحب في صورة من صورة الممكنة، والصورة هي الشاب هنا ؛ وأنا الشيطانة قد تعلمت في الجامعة أن قاعدة: 'لا حياة في العلم'، هي التي تقرر في بعض الأحيان قاعدة: 'لا حياة في الحب'.قال الشيطان: أنت أدري بسلطان الطبيعة في المرأة، ولكن الذي أعرفه أنا أن مفاسد أوربا تدخل إلى الشرق في أشياء كثيرة، منها الخمر والنساء والعادات والقوانين والكتب ونظام المدارس !قالت الشيطانة: وإن سلطان الطبيعة في المرأة يبحث دائماً عن رعيته ما لم يكبح ويرد عن البحث ؛ إذ هو لا يتحقق أنه سلطان إلا بنفاذ حكمه وجواز أمره ؛ ومن رعيته نظرات الإعجاب، وكلمات الثناء، وعبارات الإغراء، وعواطف الميل، ومعاني الخضوع ؛ ورب كلمة من الرجل للمرأة لا يكون فيها شيء ويكون الرجلكله فيها ذاهباً إلى قلبها متدسساً إلى خيالها ؛ وكم من أم ترى ابنتها راجعة إلى الدار وتحس بالغريزة النسوية أن مع ابنتها خيالاً من الجنس الآخر !.ومم ينبعث الحب إلا من الألفة والمخاطبة والمجاذبة والمنازعة التي يسمونها هنا منافسة بين الجنسين ويعدونها حسنة من حسنات الاختلاط ؟ نعم إنها مشحذة للأذهان وداعية إلى بلوغ الغاية من الاجتهاد، وبها يرق اللسان وتنحل عقدته، ويصبح الشاب كما يقولون: 'ابن نكتة ويفهم الطايره. . .' وتعود الفتاة وهي تجتهد أن تكون حلاوة تذوقها الروح ؛ ولكن الأعمال بالنيات والأمور بخواتيمها: والطبيعة نفسها توازن العقل العلمي بالجهل الخلقي، ولعل أكثر الناس فنوناً في فسقه وفجوره لا يكون إلا عالماً من أهل الفن أو زنديقاً من أهل العلم، ولا يصحح هذه الموازنة إلا الدين، فهو الذي يقرر القواعد الثابتة في كلتا الناحيتين، وهذا ما يطلبه المجانين من شبان هذه الجامعة ويوشك أن يظفروا به، لولا أن هذه الأمة مبتلاة في كل حادثة من دينها بإجالة الرأي حتى يضيع الرأي.اسمع - ويحك - هذا الفتى الذي يقرأ. .فألقى الشيطان سمعه فإذا طالب يقرأ على جماعة كلاماً في صحيفة لإحدى خريجات الجامعة تقول فيه: 'ولهذا أصرح أن تجربة اشتراك الجنسين في الجامعة نجحت إلى أبعد غاية: ولم يحدث خلالها قط ما يدعو إلى قلق القلقين والمناداة بالفصل ؛ بل بالعكس حدث ما يدعو إلى تشجيع الأخذ بالتجربة أكثر مما هي عليه اليوم'.فقهقه الشيطان وقال: 'قلق القلقين'. .ما رأيت كلاماً أغلظ ولا أجفى من هذا ؛ إنها لو دافعت عن الشيطان بهذه القافات لخسر القضية. . .ثم إنه لهز الشيطانة لهزة وقال لها: كذبت علي أيتها الخبيثة، فما لك عمل في الجامعة وأنت تخرجين لرائحة قبلة بين عاشقين على مسافة خمسمائة متر ؛ إن هذه القافات لهي الدليل أقوى الدليل على أن الفتاة هنا تنظر فتاة حين ترى، ولكنها تسمع رجلاً حين تتكلم !قالت الشيطانة: ولكن ألم تسمع قولها: 'تشجيع التجربة أكثر مما هي عليه اليوم'. .؟ ألا يرضيك هذا الذي لا بد أن يدعو 'إلى قلق القلقين ؟ ' ثم إني أنا فلانة الشيطانة قد كنت السبب في حادثة وقعت وطر فيها طالب من الجامعة، أفلا يرضيك الإغراء والكذب في بضع كلمات ؟قال الشيطان: كل الرضى، فهذا فن آخر والعلم الذي ينكر حادثة وقعت من تلميذة ولا يقر بأنها وقعت، لا يكون إنكاره إلا إجازة لوقوع مثلها !قالت الشيطانة: وهب الحادثة لم تقع، فكيف تعرف الجامعة ما يحدث في القلوب ؟ ومن هذا الذي يستطيع أن يقرأ قصة تؤلفها أربع أعين في وجهين ؟ وكيف تكشف الحقيقة التي أول وجودها كتمان الكلام عنها، وأول الكلام عنها الهمس بين اثنين دون غيرهما ؟ ومن ذا الذي طاقته أن يمد بيده إلى قلبين في تلقي الرسائل كصندوقي البريد. .؟اسمع اسمع هذا الآخر. .فاسترق الشيطان السمع فإذا طالب يقرأ في صحيفة أخرى على جماعته:'والذين يزعمون أن الاتصال بين الطالبات والطلة خطر، إنما يسيئون إلى أخلاقكم. .والحق أيها الأصدقاء أن الذي حملني على أن أغصب وأثور إنما هو الدفاع عن الكرامة الجامعية'.قال الشيطان: كل الرضا كل الرضا. .هذا كلام داهية أريب، فلقد أحسن قائله الله ! إنها عبارات جامعية محكمة السبك تقوم على أصولها من فن السياسة الخطابية ؛ وكل من أظنوه بتهمة فلا يستطيع أن يمخرق على الناس بأحسن من هذا ولا بمثل هذا.وليس لنا أقوى من هذا الطبع القوي الذي يشعر بالنقص فلا هم له إلا إثبات ذاته في كل ما يجادل فيه دون إثبات الصواب ولو كان الناس جميعاً في هذا الجانب وكان هو وحده في جانب الخطأ.ولكن أف ! ماذا صنع هذا القائل ؟ وأين التهمة التي لا تبدل اسمها في اللغة ؟ وأين الذنب الذي يرضى أن توضع اليد عليه ؟ وهل إنكار المذنب إلا احتجاج من كرامته الزائفة وإظهار الغضب في بعض ألفاظ ؟. .إن هذا كغيره من الضعفاء حين يمارون ؛ ألا ما أكذب الكذب هنا ! فإن الفساد ليقع من اختلاط الجنسين في الجامعة الأوروبية ثم لا يعد ذلك عندهم إساءة إلى الأخلاق، ولا غضّاً من الكرامة الجامعية ؛ وفي فرنسا يجتمع الشبان والفتيان من طلبة الجامعة ويحتسون الخمر ويتراقصون ويتواعدون ثم لا تقول لهم الأخلاق: أين أنتم ؟. .وهناك في الأندية الخاصة بالطلبة ينتخبون ملكة الجمال من بين الطالبات كل سنة، ثم ينزعون بأيديهم ثيابها التي تسمى ثياباً، ويطوفون بها غرف النادي كعروس واحدة مجلوة على مائة زوج في المعنى، 'وبلنسوار' أيتها الكرامة الجامعية. .والاختلاط هناك يقرب أن يكون ضرباً من المذاهب الاشتراكية، وكل ما بقي عندهم من لغة الحياء هو أن يتلطفوا فيقولوا: إن هذه الطالبة صديقة فلان الطالب ؛ يعبرون بلفظ الصداقة عن أول المعنى ويدعون سائر أحواله ؛ إذ لا يبالي أمرهما أحد لا من الطلبة ولا من الأستاذين. .وهناك يعتذر للشباب في مثل هذا بأنه شاب، فتقوم كلمة الشباب في العرف بمعنى كلمة الضرورة في الشرع !وهم قد عرفوا أن الجامعة لحرية الفكر، ومن حرية الفكر حرية النزعة، ومن هذه حرية الميل الشخصي، ومن حرية الميل حرية الحب ؛ وهل يعرف الحب في الجامعة أنه في الجامعة فيستحي ويكون شيئاً آخر غير ما هو في كل مكان ؟ أو ليس في لغة الزواج عنهم عبارة 'نسيان ماضي الفتاة'. .ولكن اسمعي اسمعي. .فأصاخت الشيطانة ؛ فإذا طالب من الأزهر يقرأ لطالب من كلية الحقوق في صحيفة من دفاع أحد خريجي الجامعة !'وما بال إخواننا الأزهريين يسخطون على الجامعة واختلاط الجنسين فيها، وفي مصر نواحٍ أخرى هي أحق بحربهم وأولى باهتمامهم ؟ لعلهم قد نسوا حالنا في الصيف على شواطئ البحر، والناس يمكثون هناك شهوراً عرايا أو كالعرايا'.فقالت الشيطانة: ما له ولهذا ؟ لقد أخزى نفسه وأخزى الجامعة، وهل صنع شيئاً إلا أنه يقول للأزهريين: إن أهون الفساد من هذا الاختلاط في الجامعة، وأكثره في شواطئ البحر ؛ فما بالكم تدعون أشده وتأخذون على أهونه ؟قال الشيطان: ويحه ! وهل يأخذون على أهونه في الجامعة ؛ إلا لأنه في الجامعة لا في مكان آخر ؟ ولكن اسمعي، ما هذا. . .؟فأرعيا الصوت سمعهما، فإذا طالب يقرأ في مجلة: 'ظهرت الآنسة فلانة وهي تلبس فستاناً أحمر شفتشي بمبي كريبي مشجر ببني وفيونكة أحمر على أبيض'. .قالت الشيطانة: هذا هذا، فهل هي إلا ألوان أفكار تحت ألوان ثياب ؟ وهل يظهر سلطان الطبيعة في المرأة بحثاً عن رعيته إلا في ألوان جميلة هي، أسئلة للعيون ؟ لقد مثل سرب من الطالبات في هذه الجامعة فصلاً في بعض الحفلات سموه 'عرض الأزياء' والفتاة تعرض الثوب، والثوب يعرض الجسم، والجسم والثوب معاً يعرضان الفتاة ! وعرض الأزياء في الجامعة هو أمر من الجامعة بإهمال هذه الآية: { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ }.قال الشيطان خبريني عن صاحبتك التي أنت موكلة بها، أتريها كانت تأتي إلى هذه الجامعة لو ألبسوهن مثل ثوب الراهبة وخمروهن بالخمار وأضاعوا مساحة الجسم في مساحة الثوب وأجلسوهن في آخر الصفوف كأنهم في المسجد ؟ لقد فعلوا مثل هذا في بعض جامعات أوربا، فحرموا صبغ الشفاه على الفتيات، ومنعوهن إبداء الزينة ؛ فامتنعت الزينة والمتزينة معاً، وهجرن الجامعة، وقلن فيما قلن: إن المرآة والأحمر والأبيض ونحوها هي الحقائق في علم المرأة، وهي من أساليب بحث كل فتاة عن رجلها المخبوء بين الرجال في الجامعة أو غير الجامعة، والعلم وسيلة عيش، والرجل وسيلة مثلها، غير أنه هو أجدى الوسيلتين على المرأة وأحقهما بالعناية ؛ إذ هي لا تتزوج الكيمياء ولا الطبيعة ولا القانون، ومعنى هذا بغير اللغة التي هنا في الجامعة المصرية أن وجود الفتاة مع الشبان للتعليم، هو كذلك وجودها بينهم للاستمالة والمكر النسوي الجذاب.اسمعي اسمعي ؛ ما هذا الصوت المنكر الجافي الخشن ؟فتسمعت، فإذا الطالب الأزهري يقول لصاحبه وهو يحاوره: قالوا: ويحرم على المرأة أن ترى شيئاً من الرجل ولو بلا ميل ولا خوف الفتنة، وإذا هي اضطرت إلى مداواة أو أداء شهادة أو تعليم أو بيع أو نحو ذلك - جاز نظرها بقدر الضرورة.فقالت الشيطانة: هذا كلام رحمه الله. .لقد كان ذلك سائغاً لو أن الشبان يتعلمون في الجامعة ليحملوا معهم الحق كما يحملون معهم العلم ؛ وكيف لهم بهذا ومعاني الدين قد أصبحت منهم كأسماء البلاد البعيدة في كتاب الجغرافيا: لا هم رأوها ولا هم حققوها ؟ إنهم يريدون تعليم الدين هنا.فيقول لهم رؤساؤهم: ألم تعرفوا الصلاة وأنها الصلاة، والصيام وأنه الصيام، والزكاة وأنها الزكاة، والحج وأنه الحج ؟ وهذا كلام يشبه درس مواقع البلاد على الخريطة، فباريس كلمة، ولندن كلمة، لا غير ؛ أما الحقيقة العظيمة الهائلة فشيء غير هذا الكلام الجغرافي التعليمي ؛ إذ ما هي كل فروض الدين إلا أعمال دقيقة ثابتة يجب فرضها على الجميع لتحقيق النفسية الواحدة في الجميع، وهي سر القوة والعظمة والنجاح ؛ فتعليم الدين في الجامعة هو إقناع النفس بجعل فروضه من قوانينها الثابتة، لا بأداء هذه الفروض فقط، أي باعتباره علم فلسفة الروح العملية للأمة، ثم يجعل المدرسين أول العاملين به ؛ ليتحقق معنى الإقناع، فلا ينقلب الدرس هزءاً وسخرية ؛ وبذلك يخرج الشاب من الجامعة وفي روحه قوة ثابتة تعمل به العمل الصالح، وتوجهه إلى الخير، وتحفظه بين أهواء الحياة وشدائدها، وتجعله دائماً يشعر أنه في موضعه السامي من الإنسانية وإن كان في أقل مراتب المال والجاه، ومن ثم يرجع الشبان في الأمة آلات قوة منظمة عاملة، وأيسر ما تعمله هذه الآلات، إزالة المنكرات، وصنع الشعب صنعة جديدة للسلم والحرب. .قال الشيطان: وماذا أيتها الخبيثة ؟ لقد هولت علي !قالت: وطردنا نحن الشياطين من الجامعة !قال: اسكتي ويحك ! فما أرسلت من مستشفى المجانين إلا لهذا ؛ فلن يقع الفصل بين الجنسين، ولن يدخل التعليم الديني في الجامعة، وسيدافعون بأن هذا كله ضرب من الجنون. .^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي