وحي القلم/عاصفة القدر

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

عاصفة القدر

عاصفة القدر - وحي القلم

عاصفة القدر على شاطئ النيل في إقليم 'الغربية' من هذا البر، قرية ليس فيها من جبل، ولكن روح الجبل في رجل من أهلها، فإذا أنت اعتبرته بالرجال قوة وضعفاً رأيته ينهض فيهم بمنكبيه نهضة الجبل فيما حوله ؛ وهو بطل القرية ولواء كل معركة تنشب فيها بين فتياتها وبين فتيان القرى المتناثرة حولها ؛ ولا تزال هذه المعارك بين شبان القرى كأنها من حركة الدم الحر الفاتح المتوارث فيهم من أجيال بعيدة ينحدر من جبل إلى جبل وفيه تلك القطرات الثائرة التي كانت تغلي وتفور، وهي كعهدها لا تزال تفور وتغلي، ويلقبون هذا الرجل الشديد 'بالجمل' ؛ لما يعرفونه من جسامة خلقه وصبره على الشدائد، واحتماله فيها، وكونه مع ذلك سلس القياد سليم الفطرة رقيق الطبع ؛ على أنه أبطش ذي يدين إن ثار ثائره، وله إيمان قوي يستمسك به كما يتماسك الجبل بعنصره الصخري، إلا أنه يخلطه ببعض الخرافات ؛ إذ لابد له من بعض الجرائم الشريفة التي يمل عليها فرط القوة والمروءة في مثله مع مثله.وليس في تلك القرية من بحر، غير أن فيها شاباً أعنف طيشاً وعتوًاً من الموجة على بحرها في يوم ريح عاتية، حلو المنظر لكنه مر الطعم، صافي الوجه لكن له غوراً بعيداً من الدهاء والخبث، وهو ابن عمدة البلدة وواحد أبويه والوارث من دنياهما العريضة، يبسط يديه على خمسمائة فدان، وقد أفسدته النعمة وأهانته عزته على أهله ؛ ولو اجتمعت حسنتان التخرج منهما سيئة من السيئات بأسلوب من الأساليب، لما وسعها إلا أسلوب نشأته من أبويه الطيبين، تعلم وهو يعرف أنه لا حاجة به إلى العلم، فجعلت تلفظه المدارس واحدة بعد واحدة كأنه نواة ثمرة إنسانية فإذا قيل له في ذلك قال: إن خمسمائة فدان لا تسعها مدرسة. . . .وذهب إلى فرنسا يطلب العلم الذي استعصى عليه في مصر، فأرهف ذلك العلم خياله وصقل حسه، ورجع من باريس رقيق الحاشية خنثاً متطرفاً لا يصلح شرقياً ولا غربياً !وليس في تلك القرية غاية لكن فيها عذراء تلتف من جسمها في رداء الجمال الطبيعي الرائع، ولها نفس أشد وعورة مما تنطوي الغابة عليه ؛ ففي ظاهرها الرونق الذي يفتن فيجذب إليها، وفي باطنها القوة التي تلتوي فتدفع عنها ؛ وهي ابنة عم 'الجمل' واسمها 'خضراء' وكأن فيها زهو خضرة الربيع، ولم تكن تعشق إلا القوة، فما يزين لها من الرجال إلا ابن عمها، وهي شديدة الإعجاب به، وإنما إعجاب المرأة برجل من الرجال مفتاح من مفاتيح قلبها.وكانت 'خضراء' جاهلة كنساء القرى، بيد أنها تلميذة بارعة للطبيعة التي نشأت فيها وزاولت أعمالها ؛ فهي بذلك أقوى نفساً وأشد مراساً من الفتيات المتعلمات ؛ إذ اتخذت شكلاً ثابتاً من أشكال الحياة، والحياة هي صنعتها هذه الصنعة أو قامتها على هذه الهيئة، على حين أن المتعلمات يمضين أيام النشأة وسن الغريزة في التلقي عن الألفاظ والكتب، وفي توهم الصور المختلفة للاجتماع دون مباشرتها وفي توقي أعمال الحياة بدلاً من مخالطتها ؛ فيؤول ذلك منهن إلى قوة في التخيل قلما ترضي الحقيقة الإنسانية المؤلمة حين تصادمها يوماً ما ؛ وتتم الواحدة منهن، ولكن باعتبار أنها تمت تلميذة للمدرسة لا امرأة للحياة بما فيها مما يعجب وما لا يعجب.وكانت خضراء أشبه بدورة النهار: تفتح أجفانها على أشعة الفجر كل يوم، ولا تزال نهارها في دأب وعمل، فنفى ذلك عن أخلاقها ما يجلبه السكون من الخمول والميل إلى العبث والدعابة، وحصلت لها من الحياة حقيقة عرفت منها أن المرأة عامل من أكبر العوامل في النظام الإنساني ؛ عليه أن يصبر على الكد والتعب إذا أراد أن يظهر بطبيعته الحقيقية لا بطبيعته المزورة المصنوعة ؛ ورأت الرجل يستأثر بجلائل الأعمال ولا يترك للمرأة إلا كما يترك عقرب الساعات لعقرب الثواني في الرقعة التي تجمعها ؛ فهذا الصغير لا يبرح يضطرب في 'دائرته الضيقة' يهتز من جزء إلى جزء، حتى إذا أتم الدقيقة في ستين هزة كاملة ذهب الأول بفضلها كلها وخطا بها خطوة واحدة: ثم يعود المستضعف المسكين إلى مثل عمله ولا يزال دأبهما وإن أكثرهما عملاً وتبعاً هو أقلهما قيمة وظهوراً ؛ ولكن هذا الضعيف المغبون لم ينله ما ناله إلا من كونه هو وحده الذي بني في هذا النظام على فضيلة الصبر والدقة، ليكون أساساً للآخر ؛ فعرفت 'خضراء' كيف تقيد طبيعتها من تلقاء نفسها، وتقرها على الصبر والرضا والسكون إلى حظها الطبيعي والاغتباط به ؛ إذ كان فضل الرجل على المرأة ليس في كونه أكثر منها فضلاً أو أسباب فضل، بل في كونها هي أكثر منه حبّاً وتسامحاً وصبراً وإيثاراً ؛ ففضائلها الحقيقية هي التي جعلته الأفضل، كما تجوع الأم لتطعم ابنها !.ورآها 'ابن العمدة' ولما تمض أيام على رجوعه من أوربا، وقد لبث هناك بضع سنين، وكان عهده بالفتاة صغيرة، فوثبت إلى نفسه في وثبة واحدة، ورأى شباباً وجمالاً وروعة زينتها في قلبه، وسولت له مطمعاً من المطامع، وجعلته يرى ما يرى بمعنى ويفهم منه ما يفهم بمعنى غيره.وكانت حين رآها واقفة على النيل تملأ جرتها مع نساء من قومها وهن يتعابثن ويتضاحكن، كأن لخصب الأرض في أرواحهن أثراً بادياً، فإذا ما أقبلن على النهر لشأن من شؤونهن تندت روح الماء على ذلك الأثر فاهتز واهتزت المرأة به، فإن كانت ذات مسحة من جمال رأيت لها رفيفاً كرفيف الزهرة حين يمسحها الندى، وذهبت تتموج في جسمها، وقد حسرت عن ذراعيها، ولمس الماء دمها الجذاب فأرسل فيه تياراً من العافية والنشاط يتصل منها بقلب من يراها إن هو كان شاعراً يحس ؛ فإن كانت روح الرجل ظمأى ورأى المرأة على هذه الهيئة، فما أحسبه إلا يشرب منها بعينيه شرباً يجد له في قلبه نشوة كنشوة الخمر ؛ وكذلك وقعت الفتاة من نفس هذا الفتى فزينها له الخبث الذي فيه أضعاف ما زينها له الجمال الذي فيها، وقذفها القدر إلى قلبه ليخرج من هذا القلب تاريخ جريمة ؛ فوقف يتأملها بعين أحد من آلة التصوير لا تفوتها حركة، وسلط عليها فكره وذوقه، وأيقظ لها في نفسه المعاني الراقدة، فنصبت في قلبه عدة من تماثيل الجمال تجسدت في كل واحد منها على شكل كأنما أفرغت فيه إفراغاً.وكانت نفس ابن العمدة من النفوس الخيالية المتوثبة ؛ إذ قامت من نشأتها على أن تطلب فتجاب، وتأمر فتطاع، وتشتهي فتجد ؛ وكأنه ما خلق إلا ليستعيد قلبي والديه، وكانا ساذجين لا يعرفان من علم التربية إلا أن للحكومة مدارس للتربية، وموسرين لا يفهمان من معنى الحاجة في هذه الدنيا إلا أنها الحاجة إلى المال، منقطعين من النسل إلا منه، فكأنه لم يولد لهما، بل قد ولدا له. .فله الأمر عليهما من كونه لا أمر لهما عليه ؛ وبذلك أسرف له من فضائل الرقة والحنان والإشفاق وما إليها، وهي في نفسها فضائل، ولكن متى أسرف بها الآباء على أولادهم لم تنشئ في أولادهم إلا مما يكون من أضدادها، كالشجر تفرط عليه الري فلا يحدث فيه إلا اليبس والذوي، وإنما أنت تستقيه الموت ما دمت ترويه بمقدار من هواك بمقدار حاجته.ونشأ الفتى في أحوال اجتماعية مختلفة جعلت من أخص طباعه تمويه نفسه على الناس، والتباهي بالغنى، والتنبل بالأصدقاء والحاشية من وزرائه وعماله، والتهيؤ بالثياب والأزياء ؛ فانصرف باطنه إلى تجميل ظاهره، ورد ظاهره على باطنه بالشهوات والدنايا، وأعانه على ذلك أنه جميل فاتن كأنما خلقت صورته 'للصفحة الحساسة' من قلوب النساء ؛ وذلك ملك عظيم لم يكن أبوه الرجل الطيب منه إلا كما يكون وزير مالية الدولة. .ولما أرسل إلى باريس وقع منها في بلد عجيب كأنه خيال متخيل لا يؤمه رجلاً في الدنيا من كامل أو ناقص وعالم أو جاهل وشريف أو ساقط إلا رأى فيه ما يملأ كل مداخل نفسه ومخارجها، فلو قامت مدينة من أحلام النفوس الإنسانية في خيرها وشرها وطهرها وفجورها واختلالها ونظامها لكانت هي باريس ؛ وانقطع الشاب هناك إلى نفسه وإلى صور نفسه من أصدقاء السوء، فلا أهل فيلزموه الفضيلة، ولا إخوان فيردوه إلى الرأي، ولا خلق متبين فيعتصم به، ولا نفس مرة فيفيء إليها، ولا فقر. . .فيحد له حدوداً في الشهوات يقف عندها ؛ وما هو إلا خيال متوقفد ومزاج مشبوب وتربية مدللة وطبع جريء ومال يمر في إنفاقه، ومن ورائه أب غني مخدوع كأنه في يد ابنه كرة الخيط: كلما جذب منها مدت له مداً، ثم ما هنالك من فنون الجمال ومتع اللذات وأسباب اللهو، مما يتناهى إليه فساد الفاسد، وما هو في ذاته كأنه عقوبة مستأصلة للأخلاق الطيبة ؛ فكان الشيطان الباريسي من هذا المسكين في سمعه وبصره ورجله ويده، ويجهه حيث شاء ؛ وبالجملة فقد ذهب ليدرس فدرس ما شاء ورجع أستاذاً في كل علوم النفس المختلة الطائشة وفنونها، وأضاف إلى هذه وتلك كلمات يلوي بها لسانه من علوم وأقاويل ليس فيها إلا ما ما يدل الحاذق على أن هذا الشاب لم يفلخ قط في مدرسة.فلما وقعت 'خضراء' منه ذلك الموقع وأخذت مأخذها في نفسه، اعتدها نزوة من نزواته ؛ فما بمثله أن يحب مثلها، ولا هي كفايته في شيء إلا أن تكون لهو ساعة من ساعاته، أو حادثة تجري فيها حال من أحواله الغرامية ؛ وحسبها امرأة ليس لقلبها أبواب تمتنع على مثله، فقدر أن غناه وفقرها يقتلعان باباً، وعلمه وجهلها يحطمان باباً آخر، وجماله وحده يضع ما بقي من الأقفال عما بقي من الأبواب ! وكان يحسب أن جمال المرأة من المرأة كالحلية من بائعيها ؛ فكل من ملك ثمنها فليس بينه وبينها إلا هذا الثمن ؛ ولكن الأيام جعلت تأتي وتمر وهو لا يزيد على أن يعرض لها وهي ترميه من صدودها كل يوم بداعية من دواعي الهوى ؛ وكان لا يجد بنفسه قوة أن يزيدها على النظر شيئاً، وترك لوجهه وثيابه ونظراته وغناه أن تصل بين قلبه وقلبها بسبب، فلم ينل طائلاً ؛ وتمادى في حبه، واستولت عليه فكرة مرته بهذه المرأة ؛ أما هي فأشعرتها غريزتها بما في قلبه منها، وكانت مسماة لابن عمها فكانت تتحاشى هذا الشاب وتحذره حذراً شديداً، وتتوهم أن الناس يحصون عليها النظرة والالتفاتة ويحصون عليه في مثلهما، ووقع في نفسها أن لهذا الرجل شأناً غير شأن الرجال الآخرين، فهم لا يستطيعون معها حيلة وهو يستطيعها بغناه ومنزلته.وكان للرجل خادم داهية قد تخرج في مجالس القضاء. .من كثرة ما حكم عليه في تزوير واحتيال وغش وادعاء وإنكار ونحوها، وقد استخلصه لنفسه واتخذه موانساً ورفيقاً ؛ وجعله دسيساً إلى شهواته السافلة وكان يسميه فيما بينهما 'إبليس' ؛ فلما أراد أن يرميها به قال: يا سيدي، هذه قضية احتيال عليها، فإذا دخل ابن عمها خصماً في الدعوى كانت قضية احتيال على عمري أنا ! قال: ويحك أيها الأبله ! فأين دهاؤك ومكرك ؟ وإنما أرسلك إلى امرأة فقيرة عيشها كفافها، وأنت تعدها وتمشيها وتبذل عني ما شئت، ومتى أطمعتها في المال فإن هذا المال سيوجد ما يوجده في كل مكان، فيشري ما لا يشرى، ويبيع ما لا يباع ! قال 'إبليس': نعم يا سيدي، وكذلك هو ولكن خوف العار يطرد حب المال ! قال: فأنت إذن لا تقبل ؟ قال: ولا أرفض. .قال الشاب: قاتلك الله ! لقد فهمت سأشتريها منك بثمنين: أحدهما لك والآخر لها ؛ ولكن أخبرني كيف تصنع معها ومن أين تبلغ إليها ؟ قال 'إبليس': لما كنت في السجن عرفت لصّاً فاتكاً أعيا قومه خبثاً وشرّاً ؛ وهذا السجن يحسبه عقاباً وردعاً ومنهاة عن الإثم، على أنه المدرسة التي تنشئها الحكومة بنفسها لتلقي علوم الجريمة عن كبار أساتذتها ؛ إذ لا يمكن أن يجتمع كبارهم في مكان من الأرض إلا فيه ؛ فالسجن طريقة من طرق حل المشكلة الإنسانية، ولكنه هو نفسه يحدث للإنسانية مشكلة لا تحل ! قال الفتى: ويحك ! أين يذهب بك ؟ إنما أرسلك إلى المرأة إلى السجن ! قال: ترسلني أنت إليها ولكن لا يعلم إلا الله أين يرسلني ابن عمها: إلى السجن أم إلىالمستشفى. .! فاسمع يا سيدي: كان من نصائح أستاذي في ذلك السجن: أن الحيلة على رجل ينبغي لإحكامها أن يكون في بعض أسبابها امرأة، والكيد لامرأة يجب أن يكون في بعض وسائله رجل. .صه ! انظر انظر !فالتفت الشاب، فإذا 'الجمل' مقبل يتكفأ في مشيته، وكان غليظاً، فإذا خطا شد على الأرض بقدميه وتكدس بعضه في بعض ؛ وكان منطلقاً وقتئذ إلى بعض مذاهبه، فلما حاذاهما قال: السلام عليكم ! فرد جميعاً، ورمى ابن العمدة بنظرة، ثم مضى لوجهه فلم يجاوز غير بعيد حتى بلغه صوت الشاب يناديه: يا فلان ! فانكفأ إليه، فقال له الشاب: لقد بعد عهدك بالقوة على ما أرى.قال: فما ذاك ؟ قال: أما بلغك أن فلاناً في هذه القرية التي تجاوزنا سيقترن بزوجته بعد أيام، وأنت تعرف الموقعة التي كانت بيد بلدنا وتلك البلدة يوم عرس فلان في السنة الماضية، وكيف اندفعوا على أهل بلدنا وحطموا فيهم تلك الحطمة الشديدة ولولا أنت أدركتهم ورميتهم بنفسك حتى دفعتهم عن الناس وسقتهم أمامك سوق النعاج، لكانت بلدنا اليوم أذلّ البلاد، ولاستطالوا علينا بأنهم غلبونا ؛ ولقد حدثني صاحبي هذا كيف تلقيت بهراوتك يومئذ خمساً وعشرين هراوة، فأطرتها كلها في جولتك، وهزمت أصحابها بعد أن أحاطوا بك وتكلبوا عليك ؛ فأنت فخر بلدنا وصاحب زعامتها، وما أرى لك إلا أن تنتهز هذه الفرصة وتسرع الوثنية إليهم برجالك، فتجزيهم في أرضهم صنيعاً بصنع مثله !فهز الجمل كتفيه العريضتين وقال: بل سأنتظرهم في يوم عرسي بابنة عمي. . .! قال الشاب: أبلغت ما أرى فإنك لتخافهم ! قال: لا أخافهم ولكن أخاف الحكومة أن تؤخر يوم زواجي. . .سنة أو سنتين ! قال الفتى: فإن عملك هذا لا يشد من نفوس رجالنا، ولا بد أن أولئك سينتظرونكم ويعدون لكم، فإذا لم تناجزوهم في بلدهم عدوها عليكم هزيمة من الهزائم، وكأنهم ضربوكم بلا ضرب !قال الجمل: هم لا يعرفون معنى الضرب بلا ضرب ؛ لأنهم رجال ؛ والذي يضرب بلا ضرب لا يكون رجلاً. . .والسلام عليكم ! ثم انطلق، فلما أبعد قال الشاب: لقد بدأت الحرب ولا بد لي أن أحطم هذا الفلاح اللعين ! ولقد عرفت الآن من وجهه أن عينه علي، ولست أشك في أن بنت عمه لا تمتنع بقوتها بل بقوته، ولولا معرفتي أنه من انحطاط الغريزة كالوحش في الدفاع عن أنثاه لقال 'إبليس': لقد تأملت القصة فرأيت أنه لا سبيل لك إلى الفتاة وهي بعد فتاة، فإذا هو وصل إلى امرأته قطعت أنت بهذه الخطوة نصف الطريق إليها. . .وستبلو هي من غلظته وخشونة طبيعة ما يسهل لك أن تعلمها قيمة ظرفك ورقتك، وستجد من سوء معاملته وقبح تسلطه ما يفتح قلبها لمن يأتيها قبل الرفق واللين، وستصب عنده من ضيق المعيشة وقلتها ويبسها ما يفهمها معنى ذلك العيش الحلو الخضر الذي تعرضه عليها ؛ ثم إنه لا بد مبتليها بغيرته العمياء بعد ما عرف من حبك إياها، والغيرة منك هي توجدك بينهما دائماً وتنبه المرأة إليك كلما كرهت من رجلها شيئاً لا ترضاه.ولم تكن إلا مدة يسيرة حتى أهديت المرأة إلى زوجها، وإنما تعجل الزفاف ليأتي أنه أن ينصب يده القوية حجاباً بينهما وبين هذا المفتون، وليكتسب من القانون حقّاً لم يكن له من قبل إذا هو مد هذه اليد وعصر في قبضتها تلك الرقبة التي تتطلع إلى امرأته ؛ ورأى الشاب أن هذه الحال لا تعتدل به وبخصمه معاً، وكانت الغيرة تأكل من قلبه أكلاً، وكان يعرض للمرأة كلما خرجت بمكتلها إلى السوق أو بجرتها إلى الماء ؛ لأنه حينئذ يكون في الطريق الذي لا يملكه أحد. .فكانت إذا رأته لم تزد على ما يكون منها إذا هي أبصرت حماراً يمد عينه إليها !.فعمد إلى امرأة مقينة تزف العرائس، وهي التي زفت 'خضراء' فأكرمها وأتحفها وسألها أن تسعفه ببعض ما تحتال به، وأن يكون سبيله إلى المرأة ؛ وتحمل عليها 'بإبليسه' حتى استوثق منها، فكانت تتحدث عنه أمام 'خضراء' ؛ تستجر بذلك أن تلفتها إلى نعمته وجماله، ولكن المرأة أغلظت لها وسبتها وحذرتها أن تعود إلى مثل كلامها، وقالت لها آخر ما قالت: واعلمي أنني لو دفعت إلى طريقين وكان لا بد من أحدهما، ثم كان أحدهما حصاه الدنانير وهو طريق العار، والآخر حصباؤه الجمر ويفضي إلى الشرف، إذن لتنزهت أن أدنس نعلي بالذهب ولنثرت لحم قدمي على الجمر نثراً.والحب لا يبقى حبّاً أبداً، فإما فاز فبرد ورجع سلواً، وإما خاب فاضطرم وتحول إلى حقد ونقمة ؛ وكذلك انفجر الشاب غيظاً، ووجد على الخيبة موجدة شديدة، وأخذ يدير رأيه، ففتقت له الحيلة أن يقتل الشهم بشهامته، والمرأة العفيفة بعفتها ؛ فواطأ إبليسه على أن يدفع إلى تلك المقيَّنة منديلاً من الحرير عقد طرفه على دينار من الذهب، تلقيه في صندوق 'خضراء' وتدسه في طي من أطواء ثيابها فذهبت المرأة، وما زالت بخضراء تستصلحها وتعتذر إليها حتى استلت ضغينة قلبها، ثم سألتها أن تأتيها 'بالعيش والملح' لتصيب كلتاهما منه وتتحرم بحرمته ؛ فلما نهضت تأتيها أسرعت الخبيثة إلى الصندوق فدست المنديل في أبعد مواضع وأخفاها ؛ وكان مندّى بالعطر ؛ لينم على نفسه إذا لم ينم أحد عليه، ثم رجعت بما فعلت إلى الشاب، فأطلق خادمه يهمس لبعض أصدقاء الجمل أنه رأى اليوم في يد 'خضراء' ديناراً ذهباً على ندرة الذهب وعزته ؛ فجعل هذا الدينار يطير من نفس إلى نفس بقوة الذهب الذي فيه، والحب الذي أعطاه، والجمال الذي أخذه ؛ ثم انتهى إلى الجمل، فكأنما حمله وطار به إلى داره كالمجنون وقد حمى دمه الحرُّ، وجاش جأشه العنيف ولم تكن امرأته في الدار، فنثر ما في الصندوق، وما كادت تفعمه رائحة العطر حتى نفخ الشيطان بها نفخة الغضب الكافر، ثم عثر على المنديل، ورأى بصيص الدينار، فدارت به الأرض، وأيقن أن العار قد طرق ببابه، وأن الباب قد فتح له ؛ ثم رد نفسه على مكروهها ورد معها كل شيء إلى موضعه، وتلقف رأيه على جريمتين، وخرج وروحه تصرخ من ضربة بمنديل، وهو الذي كانت تتهاوى عليه الضربات القاتلة تهشم منه ولا يتأوه !وذكر أن 'حماته' أثنت من عهد قريب على ابن العمدة ووصفته بالرقة والغنى، فوجه إليها أن تأتي فتبيت عند امرأته ؛ لأنه على سفر، وكان كالأعمى في ضلالته: لا يرى الأشياء إلا كما يتخيلها في نفسه دون ما هي في نفسها، فسألته زوجته: أين أزمعت من سفرك وكم تلبث عنا ؟ فكأنه سمعها تقول: ارحل إلى مكان بعيد وغب عنا زمناً طويلاً، فبنا إلى غيابك حاجة شديدة ! وكاد يبطش بها، ولكنه كاتم صدره اللوعة اسم جهة بعيدة ومضى الانكسار يعرف فيه !فزع الناس بعد أيام في جوف الليل، فإذا بيت الجمل يحترق من أرضه وسمائه، واقتحموه فإذا المرأة وأمها فحمتان: وانطلقت أسرار الألسنة، وقبض على الرجل في بلد آخر، وتولى ابن العمدة توجيه البينة عليه، وشهد الشهود على الدينار، وشهد الدينار على النار، وأنكر 'الجمل' ولم يقصر في إقامة الحجة ودافع عن امرأته وبالغ في أمانتها وعفتها وشهد أنه لا يعلم عليها من سوء، وإنها أطهر النساء وأبرّهن، ثم كان الحكم أن قضى عليه بالموت شنقاً !فلما كان يوم إنفاذ الحكم سئل الرجل: هل من شيء تريده ؟ فطلب دخينة فقدمها له قيم السجن، فأشعلها ونفخ من دخانها نفخة.ثم أخذ يتكلم وعمره يفنى مع الدخينة نفساً في نفس، وعاد هذا الدخان المتطاير كأنه سحاب يسبح فيه الوحي بين حدود الدنيا وحدود الآخرة ؛ قال المسكين: لم أتعلم، ولو تعلمت ما وقفت هنا ؛ ولكن ربما كنت خرجت نذلاً كبعض المتعلمين الذين يعيشون أشرافاً وفيهم أرواح القتلة واللصوص !لم أقر لأحد بجريمتي خشية أن تذكر كلمة العار مع اسمي، وآثرت أن أموت بالشنق على أن أحيا ويموت اسمي بالعار !ولكني سأعترف الآن أمامكم وأنتم الساعة على قبري، فكونوا كالملائكة لا يشهدون بما عرفوا إلا عند الله وحده.أعترف أني قتلت زوجتي وأمها ؛ وقد تقولون: إنه ليس من عمل الرجل أن يقتل امرأة فضلاً عن اثنتين ؛ إنني رجل سأشنق، أما النساء فلا يشنقن وإنما يرسلن الرجال إلى المشنقة. .لم أر أبي ؛ إذ تركني طفلاً، ولكن يقال: إنه كان رجلاً، فأنا رجل وابن رجل، ولم يذلني رجل قط، ولكن لو خلق الله قوة مائة جبار في جسم رجل واحد لأذلته امرأة !إنه ليس من شيمة الرجل أن يقتل النساء، ولكن المرأة تذل الرجل ذلاً يهون عليه قتل نفسه، فكيف لا يهون عليه قتلها ؟علموا المتعلمين ليصيروا في الشرف والأمانة والعفة كرجل جاهل مثلي: لا يرى للحياة كلها قيمة إذا كان فيها معنى العار، ويقدم عنقه للمشنقة حتى لا ينكس رأسه للذل.أصلحوا القانون الذي يحكم بالموت شنقاً ويزهق الأرواح الكبيرة في حين تغلبه الأرواح الصغيرة بحيلها الدنيئة !ومع ذلك سألقى الله وهو يعلم سريرتي إن كنت بريئاً أو مجرماً !قيم السجن: ستلقاه طاهراً.السجين: أرأيتم مني خلق سوء ؟ أتعتقد علي ذنباً مدة سجني ؟القيم: كلنا راضون عنك.السجين: هذا مثل من أخلاقي، والحمد لله على أن آخر كلمة أسمعها من إنسان على الأرض - كلمة الرضا.أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله !نظرت ريشة من زغب العصفور إلى النجوم فحسبتها ريشاً متناثراً، فامتطت العاصفة وقالت: إلى السماء ! ودارت بها العاصفة ما شاء الله أن تدور، ثم رمت بها حيث وقعت لم تبال في موضع نفع أم ضر ؛ فأقبلت الريشة تتسخط وتزعم أنها فوضى ثائرة لا حكمة في خلقها، وأن الرياح بعثرة في نظام العالم. . .وكان إلى جانبها شجرة تهتز ولا تطير. . .فلما وعت مقالتها أقبلت عليها فقالت: أيتها الريشة ! إن الرياح لا تكون بعثرة في نظام العالم إلا إذا كان العالم ريشاً كله !^أقبل علي صاحبي الأديب وقال: انظر، هذه هي، وقد حلت بهذا البلد وما لي عهد بها منذ سنة.ومد إلي يده فنظرت إلى صورة امرأة كأحسن النساء وجهاً وجسماً، تتأود في غلالة من اللاذ.وكأن شعاع الضحى في وجهها، وكأنها القمر طالعاً من غيمة، ويكاد صدرها يتنهد وهي صورة، وتبدو هيئة فمها كأنها وعد بقبلة، وفي عينها نظرة كالسكوت بعد الكلمة التي قيلت همساً بينها وبين محبها. .فقلت: هذه صورة ما أراها قد رسمها إلا اثنان: المصور وإبليس ؛ فمن هي ؟ قال: سلها، أما تراها تكاد تثب من الورقة ؟ إنها إلا تخبرك بشيء أخبرك عنها وجهها أنها أجمل النساء وأظرفهن وأحسن من شاهدت وجهاً وأعيناً، وثغراً وجيداً والذي بعد ذلك. .قلت: ويحك، لقد شعرت بعدي، إن هذا شعر موزون:وأحسن من شاهدت وجهاً وأعيناوثغراً وجيداً والذي بعد ذلكا. . .قال: إن شيطان هذه لا يكون إلا شاعراً ؛ ألست تراه ناظماً من فنونها على الرسم شعراً معجزاً كل شاعر ؟قلت: وهذا أيضاً شعر موزون:ألست تراه ناظماً من فنونهاعلى الرسم شعراً معجزاً كل شاعرقال: بلى والله إنه الشيطان، إنه شيطانها، يريك لهذا الجسم روحاً رشيقة، تلين كلين الجسم، بل هي أرشق.قلت: وهذا أيضاً، والقافية التي بعد هذا البيت: وبها شقوا. . .فضحك صاحبنا وقال: حرك الصورة في يدك، فإنك ستراها وما تشك أنها ترقص.قلت: الآن انقطع شيطانك، فهذا ليس شعراً ولا يجيء منه وزن.وتضاحكنا وضحك الشيطان، وظهر الوجه الجميل في الرسم كأنه يضحك.قال صاحب القلب المسكين: انظر إلى هاتين العينين، إنها من العيون التي تفتن الرجل وتسحره متى نظرت إليه، وتعذبه وتضنيه متى غابت عنه ؛ إن في شعاعهما قدرة على وضع النور في القلب السعيد، كما أن في سوادهما القدرة على وضع الظلمة في القلب المهجور.وانظر إلى هذا الفم، إلى هذا الفم الذي تعجز كل حدائق الأرض أن تخرج وردة حمراء تشبهه.وانظر إلى هذا الجيد تحته ذلك الصدر العاري، فوقه ذلك الوجه المشرق ؛ تلك ثلاثة أنواع من الضوء: أما الوجه ففيه روح الشمس، وأما الجيد ففيه روح النجم، وأما الصدر ففيه روح القمر الضاحي.انظر إلى هذه المسافة البيضاء من أعلى جبينها إلى أسفل نهديها، تلك منطقة القبلات في جغرافيا هذا الجمال. . .وانظر إلى الصدر يحمل ذينك الثديين الناهدين ؛ إنه المعرض الذي اختارته الطبيعة من جسم المرأة الجميلة للإعلان عن ثمار البستان. . .انظر إلى النهدين لم برزا في صدر المرأة إلا إذا كانا يتحديان الصدر الآخر. . .؟ !وانظر لهذا الخصر الدقيق وما فوقه وما تحته، ألا تراه فتنة متواضعة بين فتنتين متكبرتين. . .؟انظر إليها كلها، انظر إلى كل هذا الجمال، وهذا السحر، وهذا الإغراء ؛ ألا ترى الكنز الذي يحول القلب إلى لص. .؟هذه مخلوقة مرتين: إحداهما من الله في العالم، والأخرى من حبي أنا في نفسي أنا: فكلمة 'جميلة' التي تصف المرأة التامة، لا تصفها هي بعض الوصف ؛ ورسمها هذا الذي تراه هو حدود لتلك الروح التي فيها قوة التسلط، وهيهات يظهر من تلك الروح إلا ما يظهر من الجمرة المشتعلة رسم هذه الجمرة في ورقة.أشهد ما نظرت مرة إلى هذا الرسم ثم نظرت إليها إلا وجدت الفرق بينها في نفسها وبينها في الصورة، كأنه اعتذار ناطق من آلة التصوير بأنها ليست إلا أداة.قلت: اللهم غفرا ؛ ثم ماذا يا صديقي المجنون ؟فأطرق الأديب مهموماً، وكانت أفكاره تنفجر في دماغه انفجاراً هنا وانفجاراً هناك ؛ ثم رفع إلى رأسه، وقال:هذه الغانية قد حبست أفكاري كلها في فكرة واحدة منها هي ؛ وأغلقت أبواب نفسي ومنافذها إلى الدنيا، وألهبت في دمي جمرة من جهنم فيها عذاب الإحراق وليس فيها الإحراق نفسه ؛ كيلا ينتهي منها العذاب !وبيننا حب بغير طريقة الحب، فإن طبيعتي الروحانية الكاملة تهوى فيها طبيعتها البشرية الناقصة، فأنا أمازجها بروحي فأتألم لها، وأتجنبها بجسمي فأتألم بها.حب عقيم مهما يكن من شيء فيه لا يكن فيه شيء من الواقع. . .حب عجيب لا تنتفي منه آلامه ولا تكون فيه لذاته. . . . .حب معقد لا يزال يلقي المسألة بعد المسألة، ثم يرفض الحل الذي لا تحل المسألة إلا به. . .حب أحمق يعشق المرأة المبذولة للناس، ولا يراها لنفسه إلا قديسة لا مطمع فيها. . .حب أبله لا يزال في حقائق الدنيا كالمنتظر أن تقع على شفتيه قبلة من الفم الذي في الصورة. . .حب مجنون كالذي يرى الحسناء أمام مرآتها فيقول لها اذهبي أنت وستبقي في هذه التي في المرآة. . .قلت: اللهم رحمة ؛ ثم ماذا يا صاحبي المسكين ؟قال: ثم هذه التي أحبها هي التي لا أريد الاستمتاع بها ولا أطيقه ولا أجد في طبيعتي جرأة عليه، فكأنها الذهب وكأني الفقير الذي لا يريد أن يكون لصّاً ؛ يقول له شيطان المال: تستطيع أن تطمع ؛ ويقول له شيطان الحاجة: وتستطيع أن تفعل ؛ ويقول هو لنفسه: لا أستطيع إلا الفضيلة !إن عذاب هذا بشيطانين لا بشيطان واحد، غير أن لذته في انتصاره كلذة من يقهر بطلين كلاهما أقوى منه وأشد.قلت: اللهم عفواً ؛ ثم ماذا يا قاهر الشيطانين ؟فأطرق مليّاً كالذي ينظر في أمر قد حيره لا يتوجه له في أمره وجه، ثم تنهد وقال: يا طول علة قلبي ! من أين أجيء لأحلامي بغير ما تجيء الأحلام به، وإنما هي تحت النوم ووراء العقل، وفوق الإرادة ؟ لقد بلغ بين هواها أن كل كلمة من كلام الحب في كتاب أو رواية أو شعر أو حديث - أراها موجهة إليّ أنا. .ثم قال: انطلق بنا فتراها حتى تعلم منها علماً، فهي في ذلك المسرح، هي في ذلك الشر، هي في تلك الظلمات، هي كاللؤلؤة لا تتربى لؤلؤة إلا في أعماق بحر.وذهبنا إلى مسرح يقوم في حديقة غناء مترامية الجهات بعيدة الأطراف، تظهر تحت الليل من ظلماتها وأنوارها كأنها مثقلة بمعاني الهجر والعشق.وتقدمنا نسير في الغبش، فقال صاحبنا المحب: إني لأشعر أن الظلام هنا حي كأن فيه غوامض قلب كبير، فما أرى فرقاً بين أن أجلس فيه وبين الجلوس إلى فيلسوف عظيم مهموم بهم اللانهاية، فتعال نبرز إلى ذلك النور حول المسرح لنراها وهي مقبلة، فإن رؤيتها سيدة غير رؤيتها راقصة، ولهذه جمال فن ولتلك فن جمال.ولم نلبث إلا يسيراً حتى وافت، ورأيتها تمشي مشية الخفرات كأنما تحترم أفكار الناس، يزهوها على ذلك إحساس نبيل كإحساس الملكة الشاعرة بمحبة شعبها، وانتفض مجنونا وأغمض عينيه كأنها تمر بين ذراعيه لا في طريقها، وكأن لذة قربها منه هي الممكن الذي لا يمكن غيره. . .وكان عجباً من العجب أن تحرك الهواء في الحديقة واضطربت أشجارها، فقال: أنت ترى ؛ فهذا احتجاج من راقصات الطبيعة على دخول هذه الراقصة ! قلت: آه يا صديقي ! إن المرأة لا تكون امرأة بمعانيها إلا إذا وجدت في جو قلب يعشقها.ونفذنا إلى المسرح، وتحرى صاحبنا موضعاً يكون فيه منظر العين من صاحبته ويكون مستخفياً منها، ثم رفع الستار عنها بين اثنين يكتنفانها، وقد لبسن ثلاثتهن أثواب الريفيات، وظهرن كهيئتهن حين يجنين القطن.وبرزت 'تلك' في ثوب من الحرير الأسود، وهي بيضاء بياض القمر حين يتم وقد شدت وسطها بمشدة من الحرير الأحمر، فتحبكت بها وظهرت شيئين:أعلى وأسفل ؛ ثم ألقت على شعرها الذهبي قلنسوة حمراء من ذلك الحرير أمالتها جانباً فحبست شيئاً منه وأظهرت سائره، وأخذت بيديها صفاقتين وأقبل الثلاث يرقصن ويغنين نشيد الفلاحة.لم أنظر إلى غيرها، فقد كانت صاحبتاها دليلين على جمالها لا أكثر ولا أقل، وما أحسب الحرير الأحمر، كان معها أحمر ولا الأسود كان عليها أسود، ولا لون الذهب في معصمها كان لون الذهب ؛ كلا كلا، هذه ألوان فوق الطبيعة ؛ لأن الوجه يشرق عليها بالجمال والحياة، وذلك الجسم يفيض لها بالخفة والطرب وتلك الروح تبعث فيها المرح والنشوة ؛ هذا مزيج من خمر الألوان لا من الألوان نفسها.وقال مجنوننا: إن أجمل الجمال في المرأة الفاتنة هو ذاك الذي يجعل لكل إنسان نوع شعوره بها، وأنا أشعر الساعة أن قلبي نصف قلب فقط، وأن نصفه الآخر في هذه وحدها ؛ فما شعورك أنت ؟قلت: يا صديقي.إن الله رحيم، ومن رحمته أنه أخفى القلب وأخفى بواعثه ليظل كل إنسان مخبوءاً عن كل إنسان ؛ فدعني مخبوءاً عنك !قال: لا بد !قلت: إن المصباح في الموضع النجس لا يبعث النور نجساً، وما أشعر إلا أن النور الذي في قلبي قد امتزج بالنور الذي في عينيها.ثم كأنها أحست بأن إنساناً قد امتلأ بها، فأدارت وجهها وهي ترقص، فتلمحت صاحبنا، وجعلت تقطع الطرف بينها وبينه كأنها تعرفه وتجهله، ثم تبينت إلحاح نظره فضحكت ؛ لأنها تعرفه ولا تجهله !أما هو، أما المجنون، أما صاحب القلب المسكين !. . . .^.. .أما صاحب القلب المسكين فرأى الضحكة التي ألقت بها صاحبته وهي ترقص حين عرفته - غير ما رأيتها أنا وغير ما رأى الناس: كانت لنا نحن ابتساماً عذباً من فم جميل يتم جماله بهذه الصورة، وكانت له هو لغة من هذا الفم الجميل يتم بها حديثاً قديماً كان بينهما ؛ واعترانا منها الطرب واعتراه منها الفكر، ووصفت لنا نوعاً من الحسن ووصفت له نوعاً من الشوق، ومرت علينا شعاعاً في الضوء ووقعت في يده هو كبطاقة الزيارة عليها اسم مكتوب. . .وقوي إحساس الراقصة الجميلة بعد ذلك فانبعث يدل على نفسه ضروريا من الدلالة الخفية، ورجعت بهذا الإحساس كالحقيقة الشعرية الغامضة المملوءة بفنون الرمز والإيماء، وكأنها زادت بهذا الغموض زيادة ظاهرة ؛ وللمرأة لحظات تكون فيها بكفرين حينما يكون أحد الفكرين ماثلاً أمامها في رجل تهواه ؛ ففي هذه الساعة تتحدث المرأة بكلام فيه صمت يشرح ويفسر، وتضطرب بحركة فيها استرخاء يميل ويعتنق، وتنظر بألحاظ فيها انكسار يأمر ويتوسل ؛ وكانت هي في هذه الساعة. . .فغلبت - والله - على صاحبها المسكين وتركت نفسه كأنها تقطع فيه من أسف وحسرة ؛ ثم كانت له كالزهرة العبقة: بينه وبينها جمالها وعطرها هواؤها والحاسة التي فيه.وجعل يستشفها من خلال أعضائها، ثم قال لي: أنظر - ويحك - ! لكأن ثيابها تضمها وتلتصق بها ضم ذي الهوى لمن يهوى.قلت: ما هي إلا كهاتين اللتين ترقصان معها: امرأة بين امرأتين وإن كانت أحسن الثلاث.قال: كلا، هذه وحدها قصيدة من أروع الشعر، تتحرك بدلاً من أن تقرأ وترى بدلاً من أن تسمع ؛ قصيدة بلا ألفاظ، ولكن من شاء وضع لها ألفاظاً من دمه إذا هو فهمها بحواسه وفكره وشعوره.قلت: والأخريان ؟قال: كلا كلا، هذا فن آخر، فالواحدة من هؤلاء المسكينات إنما ترقص بمعدتها. .ترقص للخبز لا غير ؛ أما 'تلك' فرقصها الطرب مصنوعاً على جسمها ومصنوعاً من جسمها ؛ إنها كالطاووس يتبختر في أصباغه.في ريشه، في خيلائه، بخترة يضاعفها الحسن ثلاث مرات ؛ ولو خلق الله جسمين أحدهما من الجواهر أحمرها وأخضرها وأصفرها وأزرقها، والآخر من الأزهار في ألوانها ووشيها، ثم اختال الطاووس بينهما ناشراً ذيله في كبرياء روحه الملوثة لظهر فيه وحده اللون الملك بين ألوان هي رعيته الخاضعة.وانتهى رقص الحسناء الفاتنة وغابت وراء الستارة بعد أن أرسلت قبلة في الهواء. .فقال صاحبنا: آه ! لو أن هذه الحسناء تصدقت بدرهم على فقير، لجعلته لمسة يدها درهماً وقبلة. .قلت: يا عدو نفسه ! هذه قبلة محررة مسددة وقد رأيتها وقعت هنا. .ولكنك دائماً في خصام بين نفسك وبين حقائق الحياة ؛ تعشق القبلة وتخاصم الفم الذي يلقيها، وتبني العش وتتركه فارغاً من طيره ؛ إن امرأة تحبك لابد منتهية إلى الجنون ما دامت معك في غير المفهوم وغير المعقول وغير الممكن.ثم بدأ فصل آخر على المسرح، وظهر رجال ونساء وقصة ؛ وكان من هؤلاء الرجال شيخ يمثل فقيهاً، وآخر يمثل شرطياً ؛ فقال صاحبنا الفيلسوف: لقد جاءت هذه الثياب فارغة وكأنها الآن تنطق أن صحة أكثر الأشياء في هذه الحياة صحة الظاهر فقط، ما دام الظاهر يخلع ويلبس بهذه السهولة ؛ فكم ي هذه الدنيا من شرفاء لو حققت أمرهم وبلوت الباطن منهم - إنما يشرفون الرذائل لأنهم يرتكبونها بشرف ظاهر. .وكم من أغنياء ليس بينهم وبين اللصوص إلا أنهم يسرقون بقانون. .وكم من فقهاء ليس بينهم وبين الفجرة إلا أنهم يفجرون بمنطق وحجة. .ليست الإنسانية بهذه السهولة التي يظنها من يظن، وإلا ففيم كان تعب الأنبياء وشقاء الحكماء وجهاد أهل النفوس ؟العقدة السماوية في هذه الأرض أن الله - سبحانه وتعالى - لم يخلق الإنسان إلا حيواناً ملطفاً تلطيفاً إنسانياً، ثم أراه الخير والشر وقال له: اجعل نفسك بنفسك إنساناً وجئني.قلت: يا عدو نفسه ! فما تقول في حبك هذه الراقصة وأنت حيوان ملطف تلطيفاً إنسانياً ؟قال: ويحك ! وهل العقدة إلا هنا ؟ فهذه مبذولة ممكنة، ثم هي لي كالضرورة القاهرة، فلا يكون حبها إلا إغراء بنيلها، ولا تكون سهولة نيلها إلا إغراء لذلك الإغراء ؛ فأنا منها لست في امرأة وحب، ولكني في امتحان شديد عسر ؛ أغالب ناموساً من نواميس الكون، وأدافع قانوناً من قوانين الغريزة وأظهر قوتي على قوة الضرورة الميسرة بأسبابها، وهي أشد الضرورات عنفاً وإلحاحاً وقهراً للنفس، من قيل أنها ضرورة لازمة، وأنها مهيأة سهلة ؛ فلو أن هذه المرأة المحبوبة كانت ممنعة بعيدة المنال، لما كانت لي فضيلة في هذا الحب العنيف، ولكنها دانية ميسرة على الشغف والهوى ؛ فهذا هو الامتحان لأصنع أنا بنفسي فضيلة نفسي !ومر الفصل الذي مثلوه وما نشعر منه بتمثيل، فقد كان كالصورة العقلية المعترضة للعقل وهو يفكر في غيرها، وكانت 'الحقيقة' في شيء آخر غير هذا ؛ ومتى لم يتعلق الشعور بالفن لم يكن فيه فن ؛ وهذا هو سر كل امرأة محبوبة، فهي وحدها التي تثير المحب في نفسه فيشعر من حسنها بحقيقة الحسن المطلق، ويجد في معانيها جواب معانيه، وتأتيه كأنها صنعت له وحده، وتجعل له في الزمان زمناً قلبيّاً يحصر وجوده في وجودها.وليس فن الحب شيئاً إلا استطاعة الحبيب أن يجعل شهوات المحب شاعرة به ممتلئة منه متعلقة عليه، كأن به وحده ظهور جسدية هذا الجسد وروحانية هذا الروح ؛ وكل ما يتزين به المحبوب للمحب، فإنما هو وسائل من المبالغة لإظهار تلك المعاني التي فيه، كيما تكبر فيدركها المحب بدقة، وتثور فيحسها العاشق بعنف وتستبد فيخضع لها المسكين بقوة.والشهوات كالطبيعة الواحدة في أعصاب الإنسان، وهي تتبع فكره وخياله ؛ ولا تفاوت بينهما إلا بالقوة والضعف، أو التنبه والخمود، أو الحدة والسكون، غير أنها في الحب تجد لها فكراً وخيالاً من المحبوب، فتكون كأنها قد عبرت طبيعتها بسر مجهول من أسرار الألوهية ؛ ومن هنا يتأله الحبيب وهو هو لم يزد ولم ينقص ولم يتغير ولم يتبدل، وتراه في وهم محبه يفرض فروضاً ويشرع شريعة من حيث لا قيمة لفروضه وشريعته إلا في الشهوة المؤمنة به وحدها.ومن ثم لا عصمة على المحب إلا إذا وجد بين إيمانين، أقواهما الإيمان بالحلال والحرام ؛ وبين خوفين، أشدهما الخوف من الله ؛ وبين رغبتين، أعظمهما الرغبة في السمو.فإن لم يكن العاشق ذا دين وفضيلة فلا عصمة على الحب إلا أن يكون أقوى الإيمانين الحرص على مكانة المحبوب في الناس، وأشد الخوفين الخوف من القانون. . .وأعظم الرغبتين الرغبة في نتيجة مشروعة كالزواج.فإن لم يكن شيء من هذا أو ذاك فقلما تجد الحب إلا وهو في جراءة كفرين، وحماقة جنونين، وانحطاط سفالتين ؛ وبهذا لا يكون في الإنسان إلا دون ما هو في بهيمتين !ثم جاء الفصل الثالث وظهرت هي على المسرح، ظهرت هذه المرة في ثوب مركزة أوروبية تخاصر عشيقاً لها، فيرقصان في أدب أوروبي متمدن. . .متمدن بنصف وقاحة ؛ متأدب. . .متأدب بنصف تسفل ؛ مشروع. . .مشروع بنصف كفر ؛ هو على النصف في كل شيء، حتى ليجعل العذراء نصف عذراء والزوجة نصف زوجة. .!وكان الذي يمثل دور العشيق فتاة أخرى غلامية مجممة الشعر ممسوخة بين المرأة والرجل ؛ فلما رآها صاحبنا قال: هذا أفضل. .وهشت الحسناء وتبسمت وأخذت في رقصها البديع، فانفصل عني الصديق، وأهملني وأقبل عليها بالنظرة بعد النظرة بعد النظرة، كأنه يكرر غير المفهوم ليفهمه ورجع وإياها كأنه في عالم من غير زمننا تقدمه عن عالمنا ساعة أو تؤخره ساعة ؛ وكانت جملة حاله كأنها تقول لي: إن الدنيا الآن امرأة ! وكان من السرور كأنما نقله الحب إلى رتبة آدم، ونقل صاحبته إلى رتبة حواء، ونقل المسرح إلى رتبة الجنة !والعجب أن القمر طلع في هذه الساعة وأفاض نوراً جديداً على المسرح المكشوف في الحديقة، فكأنه فعل هذا ليتم الحسن والحب ؛ وأخذ شعاع القمر السماوي يرقص حول هذا القمر الأرضي، فكانت الصلة تامة وثيقة بين نفس صاحبنا وبين الأرض والسماء والقمرين.ما هذا الوجه لهذه المرأة ؟ إنه بين اللحظة واللحظة يعبر تعبيراً جديداً بقسماته وملامحه الفتانة ؛ كل البياض الخاطف في نجوم السماء يجول في أديمه المشرق، وكل السواد الذي في عيون المها يجتمع في عينيه، وكل الحمرة التي في الورد هي في حمرة هاتين الشفتين.ما هذا الجسم المتزن المتموج المفرغ كأنه يتدفق هنا وهنا ؟ إنه جسم كامل الأنوثة، إنه صارخ صارخ، إنه عالم جمال كما تقول الفلسفة حين تصف العالم: فيه 'جهة فوق' و'جهة تحت' ؛ لو امتدت له يد عاشقه لجعل في خمس أصابعها خمس حواس. . .ما هذا ؟ لقد ختم الرقص بقبلة ألقاها الخليل على شفتي الخليلة، وكانت تركت خصرها في يديه وانفلتت تميل بأعلاها راجعة برأسها إلى خلف، نازلة به رويداً رويداً إلى الأرض، هاربة بشفتيها من الفم المطل، وكان هذا الفم ينزل رويداً رويداً ؛ ليدرك الهارب. . .وقبل أن تقع القبلة التفتت لفتة إلي. .ثم تلقَّت القبلة، أما هو، أما مجنوننا، أما صاحب القلب المسكين ؟. . .^أما صاحب القلب المسكين فرمقها وهي تلتفت إليه التفات الظبية بسواد عينيها: يجعل سوادهما الجميل في النظرة الواحدة نظرتين لعاشق الجمال، تقول إحداهما: أنت، وتقول الأخرى: أنا، ثم رآها وقد كسرت أجفانها وتفترت في يدي الممثل العشيق وأفصح منظرها ببلاغة. .بلاغة جسم المرأة المحبوبة بين ذراعي من تحبه ؛ ثم اختلجت وصوبت وجهها، وأهدفت شفتيها.وتلقت القبلة.وكان به منها ما الله عليم به، فانبعث من صدره آهة معولة تئن أنيناً، غير أنها كلمته بعينيها أنها تقبله هو ؛ فلا ريب قد حملت إليه إحدى النسمات شيئاً جميلاً عن ذلك الفم، لمست به النفس النفس، والقبلة هي هي ولكن وقع خطأ في طريقة إرسالها. .وليس تحت الخيال شيء موجود، ولكن الخيال المتسرح بين الحبيبين تكون فيه أشياء كثيرة واجبة الوجود ؛ إذ هو بطبيعته مجرى أحلام من فكر إلى فكر، ومسرح شعور يصدر ويرد بين القلبين في حياة كاملة الإحساس متجاورة المعاني ؛ وبهذا الخيال يكون مع القلبين المتحابين روح طبيعي كأنه قلب ثالث ينقل للواحد عن الآخر، ويصل السر بالسر، ويزيد في الأشياء وينقص منها، ويدخل في غير الحقيقي فيجعله أكثر من الحقيقي ؛ ومن هنا لم يكن فرح ولا حزن، ولا أمل ولا يأس، ولا سعادة ولا شقاء، إلا وكل ذلك مضاعف للمحب الصادق الحب بقدر قلبين ؛ والذين يعرفون قبلة الشغف والهوى، يعرفون أن العاشق يقبل بلدة أربع شفاه.وانسدلت بعد هذه القبلة ستارة المسرح، وغابت الجميلة المعشوقة غيبة التمثيل فقلت لصاحب القلب المسكين: إن روحيكما متزوجتان. .قال: آه ! ومدها من قلبه كأنه دنف سقيم.قلت: وماذا بعد آه ؟قال: وماذا كان قبلها ؟ إنه الحب: فيه مثل ما في 'عملية جراحية' من تنهدات الألم ولذعاته، غير أنها مفرقة على الأوقات والأسباب، مبعثرة غير مجموعة ! 'آه' هذه هي الكلمة التي لا تفرغ منها القلوب الإنسانية، وهي تقال بلهفة واحدة في المصيبة الداهمة، ولألم البالغ، والمرض المدنف والحب الشديد ؛ الشديد ؛ فحينما توشك النفس أن تختنق تتنفس 'بآه' !قلت: أما رأيتها مرة وقد أوشكت نفسها أن تختنق. . .؟قال: لقد هجت لي داء قديماً ؛ إن لهذه الحبيبة ساعات مغروسة في زمني غرس الشجر، فبين الحين والحين تثمر هذه الساعات مرها وحلوها في نفسي كما يثمر الشجر المختلف ؛ ولقد رأيتها ذات مرة في ساعة همها ! ثم ضحك وسكت.قلت: يا عدو نفسه ! ماذا رأيت منها ؟ وكيف أراك الوجد ما رأيت منها ؟قال: أتصدقني ؟ قلت: نعم.قال: رأيت الهم على وجه هذه الجميلة كأنه هم مؤنث يعشقه هم مذكر ؛ فله جمال ودلال وفتنة وجاذبية، وكأن وجهها يصنع من حزنها حزنين: أحدهما بمعنى الهم لقلبها، والآخر بمعنى الثورة لقلبي !قلت: يا عدو نفسه ! هذا كلام آخر ؛ فهذه امرأة ناعمة بضة مطوي بعضها على بعضها، لفاء من جهة هيفاء من جهة، ثقيلة شيء وخفيفة شيء، جمعت الحسن والجسم وفناً بارعاً في هذا وفنّاً مفرداً في ذاك ؛ وهي جميلة كل ما تتأمل منها، ساحرة كل ما تتخيل فيها، وهي مزاحة دحداحة وهي تطالعك وتطعمك ؛ وأنت امرؤ عاشق ورجل قوي الرجولة ؛ فالجميلة والمرأة هما لك في هذا الجسم الواحد، إن ذهبت تفصلهما في خيالك امتزجتا في دمك ؛ ولو أمسكت آلة التصوير نظراتك إليها لبانت فيها أطراف اللهب الأحمر مما في نفسك منها ؛ ولعمري لو مرت عربة تدرج في الطريق ونظرت إليها نظرتك لهذه المرأة بهذه الغريزة المحتسبة المكفوفة لظننتك سترى العجلة الخلفية عاشقاً مهتاجاً يطارد العجلة الأمامية وهي تفر منه فرار العذراء !فضحك وقال: لا، لا ؛ إن نوع التصوير لإنسان هو نوع المعرفة لهذا الإنسان، ومن كل حبيب وحبيبة تجتمع مقدمة ونتيجة بينهما تلازم في المعنى، والمقدمة عندي أن إبليس هنا في غير إبليسيَّته، فلا يمكن أن تكون النتيجة وضعه في إبليسته ؛ وما أتصور في هذه الجميلة إلا الفن الذي أسبغه الجمال عليها، فهي معرفتي وخيالي كالتمثال المبدع إبداعه: لا يستطيع أن يعمل عملاً إلا إظهار شكله الجميل التام حافلاً بمعانيه.وليست هذه المرأة هي الأولى ولا الثانية ولا الثالثة فيمن أحببت ؛ إنها تكرار وإيضاح وتكملة لشيء لا يكمل أبداً، وهو هذه المعاني النسوية الجميلة التي يزيد الشيطان فيها من عشق كل عاشق ؛ إن بطن المرأة بلد، ووجه المرأة يلد !قلت: هذا إن كان وجهها كوجه صاحبتك، ولكن ما بال الدميمة ؟قال: لا، هذا وجه عاقر. .قلت: ولكن الخطأ في فلسفتك هذه أنك تنظر إلى المرأة نظرة عملية تريد أن تعمل، ثم تمنعها أن تعمل، فتأتي فلسفتك بعيدة من الفلسفة، وكأن تغذو المعدة الجائعة برائحة الخبز فقط.قال: نعم هذا خطأ، ولكنه الخطأ الذي يخرج الحقائق الخيالية من هذا الجمال ؛ فإذا سخرت من الحقيقة المادية بأسلوب فبهذا الأسلوب عينه تثبت الحقيقة نفسها في شكل آخر قد يكون أجمل من شكلها الأول.أتعلم كيف كانت نظرتي إلى نور القمر على هذه وإلى حسن هذه على القمر ؟ إن القمر كان ينسيني بشريتها فأراها متممة له كأنه ينظر وجهه في مرآة، فهي خيال وجهه ؛ وكانت هي تنسيني مادية القمر فأراه متمماً له كأنه خيال وجهها.أتدري ما نظرة الحب ؟ إن في هذا القلب الإنساني شرارة كهربائية متى انقدحت زادت في العين ألحاظاً كشافة، وزادت في الحواس أضواء مدركة ؛ فينفذ العاشق بنظره وحواسه جميعاً في الحقائق الأشياء، فتكون له على الناس زيادة في الرؤية وزيادة في الإدراك يعمل بها عمَّا فيما يراه وما يدركه ؛ وبهذه الزيادة الجديدة على النفس تكون للدنيا حالة جديدة في هذه النفس ؛ ويأتي السرور جديداً ويأتي الحزن جديداً أيضاً ؛ فألف قبلة يتناولها ألف عاشق من ألف حبيب، هي ألف نوع من اللذة ولو كانت كلها في صورة واحدة ؛ ولو بكى ألف عاشق من هجر ألف معشوق لكان في كل دمع نوع من الحزن ليس في الآخر !قلت: فنوع تصورك لهذه الراقصة التي تحبها، أن إبليس هنا في غير إبليستيه !قال: هكذا هي عندي، وبهذا أسخر من الحقيقة الإبليسية.قلت: أو تسخر الحقيقة الإبليسية منك، وهو الأصح وعليه الفتوى. . .؟فضحك طويلاً، وقال: سأحدثك بغريبة: أنت تعرف أن هذه الغادة لا تظهر أبداً إلا في الحرير الأسود ؛ وهي رقيقة البشرة ناصعة اللون، فيكون لها من سواد الحرير بياض البياض وجمال الجمال ؛ فلقد كنت أمس بعد العشاء في طريقي إلى هذا المكان لأراها، وكان الليل مظلماً يتدجى، وقد لبس وتلبس وغلب على مصابيح الطريق فحصر أنوارها حتى بين كل مصباحين ظلمة قائمة كالرقيب بين الحبيبين يمنعهما أن يلتقيا ؛ فبينا أقلب عيني في النور والغسق وأنا في مثل الحالة التي تكون فيها الأفكار المحزنة أشد حزناً - إذ رفع لي من بعيد شبح أسود يمشي مشيته متفتراً قصير الخطو يهتز ويتبختر ؛ فتبصرته في هيئته فما شككت أنها هي، وفتحت الجنة التي في خيالي وبرزت الحقائق الكثيرة تلتمس معانيها من لذة الحب ؛ وكان الطريق خالياً، فأحسست به لنا وحدنا كالمسافة المحصورة بين ثغرين متعاشقين يدنو أحدهما من الآخر، وأسرعت إسراع القلب إلى الفرصة حين تمكن ؛ فلما صرت بحيث أتبين ذلك الشبح إذا هو. .إذا هو قسيس. .فقلت: يا عجباً ! ما أظرف ما داعبك إبليس هذه المرة ! وكأنه يقول لك: إيه يا صاحب الفضيلة. . .وكان الممثلون يتناوبون المسرح ونحن عنهم في شغل ؛ إذ لم تكن نوبتها قد جاءت بعد ؛ وألقى الشيطان على لساني فقلت لصاحبنا: ما يمنعك أن تبعث إليها فلاناً يستفتح كلامها ثم يدعوها، فليس بينك وبينها إلا كلمة 'تعالي' أو تفضلي ؟قال: كلا، يجب أن تنفصل عني لأراها في نفسي أشكالاً وأشكالاً ؛ ويجب أن تبتعد لألمسها لمسات روحية ؛ ويجب أن أجهل منها أشياء لأحقق فيها علم قلبي ؛ ويجب أن تدع جسمها وأدع جسمي وهناك نلتقي رجلاً وامرأة ولكن على فهم جديد وطبيعة جديدة.بهذا الفهم أنا أكتب، وبهذه الطبيعة أنا أحب !ما هو الجزء الذي يفتنني منها ؟ هو هذا الكل بجميع أجزائه.وما هو هذا الكل ؟ هو الذي يفسر نفسه في قلبي بهذا الحب.وما هو هذا الحب ؟ هو أنا وهي على هذه الحالة من اليأس.نعم أنا بائس، ولكن شعور البؤس هو نوع من الغنى في الفن: لا يكون هذا الغنى إلا من هذا الشعور المؤلم، والحبيب الذي لا تناله هو وحده القادر قدرة الجمال والسحر ؛ يجعلك لا تدري أين يختبئ منه جماله فيدعك تبحث عنه بلذة ؛ ولا تدري أين يسفر جماله منه فيدعك تراه بلذة أخرى ؛ أنا أنضج هذه الحلوى على نار مشبوبة، على نار مشبوبة في قلبي !قلت: يا صديقي المسكين ! هذه مشكلة عرضت بها المصادفة وستحلها المصادفة أيضاً.وما كان أشد عجبي إذ لم أفرغ من الكلمة حتى رأينا 'المشكلة' مقبلة علينا.أما هو: أما صاحب القلب المسكين. . .؟^أما صاحب القلب المسكين فما كاد يرى الحبيبة وهي مقبلة تتيممنا حتى بغته ذلك، فساوره القلق، واعتراه ما يعتري المحب المهجور إذا فاجأه في الطريق هاجره ؛ أرأيت مرة عاشقاً جفاه الحبيب وامتنع عليه دهراً لا يراه، وصارمه مدة لا يكلمه، فنزع نومه من ليله، وراحته من نهاره، ودنياه من يده، وبلغ به ما بلغ من السقم والضنى، ثم بينا هو يمشي إذ باغته ذلك الحبيب منحدراً في الطريق ؟إنك لو أبصرت حينئذ قلب هذا المسكين لرأيته على زلزلة من شدة الخفقان، وكأنه في ضرباته متلعثم يكرر كلمة واحدة: هي هي هي. .ولو نفذت إلى حس هذا البائس لرأيته يشعر مثل شعور المحتضر أن هذه الدنيا قد نفته منها !ولو اطلعت على دمه في عروقه لأبصرته مخذولاً يتراجع كأن الدم الآخر يطرده.إنها لحظة يرى فيها المهجور بعينيه أن كل شهواته في خيبة، فيرد عليه الحب مع كل شهوة نوعاً من الذل، فيكون بإزاء الحبيب كالمنهزم مائة مرة أمام الذي هزمه مائة مرة.لحظة لا يشعر المسكين فيها من البغتة والتخاذل والاضطراب والخوف إلا أن روه وثبت إلى رأسه هو هوت فجأة إلى قدميه !غير أن صاحبنا نحن لم يكن مهجوراً من صاحبته، ولكن من عجائب الحب أنه يعمل أحياناً عملاً واحداً بالعاطفتين المختلفتين ؛ إذ كان دائماً على حدد الإسراف ما دام حبّاً، فكل شيء فيه قريب من ضده، والصدق فيه من ناحية مهيأ دائماً لأن يقابل بتهمة الكذب من الناحية الأخرى، واليقين معد له الشك بالطبيعة ؛ والحب نفسه قضاء على العدل، فإنه لا يخضع لقانون من القوانين، والحبيب - مع أنه حبيب - يخافه عاشقه من أجل أنه حبيب !وقد يصفر العاشق لمباغتة اللقاء كما يصفر لمباغتة الهجر، وهذه كانت حال صاحبنا عندما رآها مقبلة عليه ؛ وكان مع ذلك يخشى إلمامتها به، توقياً على نفسه من ظنون الناس ؛ وأكثر ما يحسنه الناس هو أن يسيئوا الظن ؛ وهو رجل ذو شأن ضخم، ومقالة السوء إلى مثله سريعة إذا رؤي مع مثلها، وكأنها هي ألمت بكل هذا أو طالعها به وجهه المتوقر المتزمت ؛ فعدلت عن طريقها إلينا ووقفت على رئيس فرقة الموسيقى، وما بيننا وبينها إلا خطوات ؛ ورأيتها قد هيأت في عينيها نظرة غاضبتنا بها، ثم لم تلبث أن صالحتنا بأخرى !وكأنها ألقت لرئيس الموسيقى أمراً ليتأهب أهبته لدورها، ثم همت أن ترجع، ثم عادت إليه فجعلت تكلمه وعيناها إلينا ؛ فقال صاحبنا وأعجبه ذلك من فعلها: إنها نبيلة حتى في سقوطها !ولا أدري ماذا كانت تقول لرئيس الموسيقى، ولكن هذا الرجل لم يظهر لي وقتئذ إلا كأنه تليفون معلق !كانت عيناها إلى صاحبها لا تنزلان عنه ولا تتحولان إلى غيره، ولا تسارقه النظر بل تغلبه عليه مغالبة ؛ ورأيته كذلك قد ثبتت عيناه عليها فخيل إلي أن هذا الوجود قد انحصر جماله بين أربعة أعين عاشقة ؛ وكانت تطارحه ويطارحها كلاماً مخبوءاً تحت هذه النظرات، وقد نسيا ما حولهما، وشعرا بما يشعر به كل حبيبين إذا التقيا في بعضه لحظات الروح السامية: أن هذا العالم العظيم لا يعمل إلا الاثنين فقط: هو وهي. .وكان فمها الجميل لا يزال يساقط ألفاظه لرئيس الموسيقى، وكأنها تسرد له حكاية مروية، أو تعارض بحافظته كلاماً تحفظه من كلام التمثيل أو الغناء ؛ فهي تتحدث وعيناها مفكرتان شاخصتان، فلم ينكر الرجل هيئتها هذه ؛ ولكن كيف كانت عيناها ؟لقد أرادت في البدء أن تجعل قوة نظراتها كلاماً، حتى لحسبت أن هذه النظرات الأولى تهتف من بعيد: أنت يا أنت !ثم بدا في عينيها فتور الظمأ، ظمأ الحب المتكبر المتمرد ؛ لأنه حب المرأة المعشوقة، ولأن له لذتين، إحداهما في أن يبقى ظمأ إلى حين. .ثم أرسلت الألحاظ التي تتوهج أحياناً فوق كلام المرأة الجميلة في بعض حالاتها النفسية، فتضرم في كلامها شرارة من الروح تظهر الكلام كأنه يحرق ويحترق. .ثم توجعت النظرات ؛ لأنها تصلها بالرجل الذي لا يشبه الرجال، فلا يستوهب خضوعها ولا يشتريه ؛ والرجل كل الرجل عند هذه المرأة هو الذي لا يشبه الباقين ممن تعرفهم، فإذا أحبها فكأنما أحبها عذراء خفرة لم تمس، وكأنه من ذلك يصلها بماضيها وطهارتها وحياتها وما لا يمكن أن تتمثله إلا في مثل حبه.ثم ذبلت عيناها الجميلتان، وما هو ذبول عيني امرأة تنظر إلى محبها ؛ إنه هو استسلام فكرها لفكرة، أو عناد معنى فيها لمعنى فيه، أو توكيد خاطرة تحتاج إلى التوكيد ؛ ومرة هو كقولها: لماذا ؟ وتارة هو كقولها: أفهمت ؟ وأحياناً، وأحياناً هو انتهاء مقاومة.وتمت الحكاية المروية التي كانت تلقيها للتليفون. .فكرت راجعة إلى المسرح بعد أن صاحت نظراتها مرة أخرى كما بدأت: أنت يا أنت. .فقلت لصاحبنا: ويحك يا عدو نفسه ! لو اختار الشيطان عينين ساحرتين ينظر بهما إليك نظر الفتنة، لما اختار إلا عينيها، في وجهها، في هيئتها، في موقفها ؛ وأراك مع هذا كمنتظر ما لا يوجد ولا يمكن أن يوجد ؛ وأراها معك في حبها كالحيوان الأليف إذا طمع في المستحيل.قال: وما هو المستحيل الذي يطمع فيه الحيوان الأليف ؟قلت: ذلك يطمع في أن تكون له حقوق على صاحبه فوق الألفة والمنفعة.قال: لقد أغمضت في العبارة فبين لي شيئاً من البيان.قلت: هب كلبة تألف صاحبها وتحبه فهي له ذليلة مطواع، ثم يبلغ بها الحب أن تطمع في أن يكون لها تمام الشرف، فلا يقول صاحبها عنها: هذه كلبتي، بل يقول: هذه زوجتي. .قال: وي منك ! وي منك لقد ضربت على رأس المسمار كما يقولون هذا هو المستحيل الذي بيني وبينها، هذا هو المثل.يا لفظ الحلوى ! يا لفظ الحلوى ! لو كررتك بلساني ألف مرة فهل تضع في لساني طعمها. .؟قلت: خفض عليك يا صاحب القلب المسكين، فلست أكثر من عاشق.قال: بل أنا مع هذه أكثر من عاشق ؛ لأن في العاشق راغباً وفي أنا راهب، وفيه الجريء وفي المنكمش، ويغترف الغرفة من الشلال المتحدر فيحسوها فيرتوي وأغترف أنا الغرفة بيدي، وأبقيها في يدي، وأطمع أن تهدر في يدي كالشلال أنا أكثر من عاشق ؛ فإنه يعشق لينتهي من ألم الجمال، وأعشق أنا لأستمر في هذا الألم !هذه هذه ؛ العجيب يا صديقي أن خيال الإنسان يلتقط صوراً كثيرة من صور الجمال تجيء كما يتفق، ولكنه يلتقط صورة واحدة بإتقان عجيب، هي صورة الحب ؛ فهذه هذه.ألم أقل لك إن إبليس هنا في غير حقيقته الإبليسية ولم تفهم علي ؟ فافهم الآن أننا إن كنا لا نرى الملائكة فإنه ليخيل إلينا أننا نراها فيمن نحبهم ؛ وما دام سر الحب بيدل الزمن والنفس ويأتي بأشياء من خارج الحياة، فكل حقائق هذا الحب في غير حقيقتها.هذه هذه ؛ لا أطلب في غيرها امرأة أجمل منها، فهذا كالمستحيل، ولكني ألتمس فيها هي امرأة أطهر منها، وهذا كالمستحيل أيضاً ؛ إنها أجمل جسم، ولكن وا أسفاه ! إنها أجمل جسم للمعاني التي يجب أن أبتعد عنها !وسكت صاحبنا ؛ إذ رفعت ستارة المسرح وظهرت هي مرة أخرى، ظهرت في زينة لا غاية بعدها، تمثل العروس ليلة جلوتها ؛ ألا ما أمرَّها سخرية منك أيتها المسكينة ! عروس ولكن لمن ؟كانت تبرق على المسرح كأنها كوكب دري نوره نور وجمال وعواطف شعر.وأقبلت تتمايل بجسم رخص لين مسترسل الأعطاف يتدفق الجمال والشباب فيه من أعلاه إلى أسفله.وأظهر وجهها حسناً وأبدى جسمها حسناً آخر، فتم الحسن بالحسن.واقفة كالنائمة، فالجو جو الأحلام، وكان الحب يحلم، وكان السرور يحلم !مهتزة كالموج في الموج، هل خلقت روح البحر في جسمها المترجرج فشيء يعلو وشيء يهبط وشيء يثور ويضطرب ؟ثم دقت الموسيقى بألحانها المتكلمة، ودقت أعضاء هذا الجسم بألحانها المتحركة، وأحسسنا كأن روح الحديثة جالسة بيننا تنظر إليها وتتعجب.تتعجب من قوامها للغصن الحي، ومن بدنها للزهر الحي، ومن عطرها للنسيم الحي.أما صاحب القلب المسكين. .^أما صاحب القلب المسكين فتزعزعت كبده مما رأى ؛ وجعل ينظر إلى هذه الفتانة تمثل العروس وقد أشرق فيها رونقها وسطعت ولمعت، فبدت له مفسرة في هذه الغلائل غلائل العرس ؛ وما غلائل العرس ؟إنها تلك الثياب التي تكسو لابستها إلى ساعة فقط. .ثياب أجمل ما فيها أنها تقدم الجمال إلى الحب، فأزهى ألوانها اللون المشرق من روح لابستها، وأسطع الأنوار عليها، النور المنبعث من فرح قلبين.تلك الثياب التي تكون سكباً من خالص الحرير ورفيع الخز، وحين تلبسها مثل هذه الفاتنة تكاد تنطق أنها ليست من الحرير ؛ إذ تعلم أن الحرير ما تحتها.ثم تنهد المسكين وقال: أفهمت ؟قلت: فهمت ماذا ؟قال: هذا هو انتقامها.قلت: يا عجباً ! أتريدها في ثياب راهبة مكبكبة فيها كما ألقيت البضاعة في غرارة، بين سواد هو شعار الحداد على الأنوثة الهالكة، وبياض هو شعار الكفن لهذه الأنوثة ؟قال: أنت لا تعرفها ؛ إن الرواية التي تمثل فيها بين الروح والجسم، هي التي احتاجت إلى هذا الفصل يقوى به المعنى ؛ وكل عاشقة فعشقها هو الرواية التي تمثل فيها، يؤلفها هذا المؤلف الذي اسمه الحب، ولا تدري هي ماذا يصنع وماذا يؤلف، غير أنه لا يفتأ يؤلف ويصنع وينفع كما تتنزل به الحال بعد الحال، وكما تعرض به المصادفة بعد المصادفة ؛ وعليها هي أن تمثل. .قلت: فهذا ؛ ولكن كيف يكون هذا انتقاماً ؟قال: إن الأفكار أشياء حقيقية، ولو كشف لك الجو هذه الساعة لرأيته مسطوراً عبارات عبارات كأنه مقالة جريدة.هذا الفصل حوار طويل في الهموم والآلام ورقة الشوق وتهالك الصبوة، ولو كتب له عنوان لكان عنوانه هكذا: ما أشهاها وما أحظاها ! إن الهواء بين كل عاشقين متقاتلين يأخذ ويعطي. .قلت: يا عدو نفسه ! ما أعجب ما تدقّق ! لقد أدركت الآن أن المرأة تتسلح بما شاءت، لا من أجل أن تدافع، ولكن لتزيد أسلحتها في سلاح من تحبه، فتريده قوة على قهرها وإخضاعها. .أما هذه 'العروس' فكانت أفكارها لا تجد ألفاظاً تحدها فهي تظهر كيفما اتفق، مرسلة إرسالاً في اللفتة والحركة والهيئة والقومة والقعدة، وهي من علمت ؛ امرأة تعيش للحقائق، وبين الحقائق، ككل ذي صنعة في صنعته فكانت في تماديها خطر أي خطر على صاحب القلب المسكين، تمثل شيئاً لا أدري أهو ظاهر بخفائه أم هو خافٍ بظهوره ؛ وقد وقع صاحبنا منها فيما لم يدخل في حسابه، فكانت الخبثة الماجنة كأنها تسكره بمسكر حقيقي، غير أنه من جسمها لا من زجاجة خمر.وكانت لذهنه المتخيل كالسحابة الممتلئة بالبرق ؛ تومض كل لحظة بأنوار بعد أنوار، وبين الفترة والفترة ترمي الصاعقة.وظهرت كأنها امرأة مخلوقة من دم ولهب ؛ فلقد أيقنت حينئذ أن الحب إن هو إلا الغريزة البهيمية بعينها محاولة أن تكون شيئاً له وجود فني إلى وجوده الطبيعي، فهو مصيبتان في واحدة، وكل عمله أن يجعل اللذة ألذ، والألم أشد، والقلة كثرة، والكثرة أكثر، وما هو نهاية كأنه لا نهاية. .هذه 'العروس' كانت قبل الآن واقفة على حدود صاحبها، أما الآن فإنها تقتحم الحدود وتغزو غزوها وتمتلك. . .يا لسحر الحب من سحر ! كل ما في الطبيعة من جمال تظهره الطبيعة لعاشقها في إحدى صور الفهم، أما الحبيب الجميل فهو وحده الذي يظهر لعاشقه في كل صور الفهم، وبهذا يكون الوقت معه أوقاتاً مختلفة متناقضة، ففي ساعة يكون العقل وفي ساعة يكون الجنون.يا لسحر الحب ! لقد أرادت هذه المرأة أن تذهب بعقل صاحبها، وأن تنقله إلى وحشية الإنسان الأول الكامن فيه، وأن تقذف به إلى بعيد بعيد وراء فضائله وعصمته ؛ فسنحت له كما يسنح الصيد للصائد يحمل في جسمه لحمه الشهي. .وتركت شعوره جائعاً إلى محاسنها بمثل جوع المعدة. .وبرزت له صريحة كما هي، ولما هي ؛ ومن حيث إنها هي هي ؛ وكل ذلك حين ألبست جسمها ثياب الحقيقة المؤنثة.آه من 'هي' إذا امتلأت الهاء والياء من قلب رجل يحب ! وآه من 'هي' إذا خرجت هذه الكلمة من لغة الناس إلى لغة رجل واحد !إن في كل امرأة. .امرأة يقال لها 'هي' باعتبار الضمير للتأنيث فقط، كما يعتبر في الدابة والحشرة والإدارة ونحوها من هذه المؤنثات التي يرجع عليها هذا الضمير ؛ ولكن 'هي' المفردة في الكون كله لا توجد في النساء إلا حين يوجد لها 'هو'. .أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، قد كابدت من شدة الحب وإفراط الوجد ما يفعم قلبين مسكينين لا قلباً واحداً ؛ وكانت لي 'هي' من إلهيات عانيت فيها الحب والألم دهراً طويلاً ؛ وقد ذهبت بي في هواها كل مذهب إلا مذهباً يحل حراماً، أو مذهباً يخل بمروءة ؛ ولقد علمت أن الشيء السامي في الحب هو ألا يخرج من العاشق محرم.فالشأن كل الشأن أن يستطيع الرجل الفصل بين الحب من أجل جمال الأنثى يظهر عليها، وبين الحب من أجل الأنثى تظهر في جمالها ؛ فهو في الأولى يشهد الإلهية في إبداعها السامي الجميل، وفي الأخرى لا يرى غير البشرية حيوانيتها المتجملة. .وقد أدركت من فلسفة الحب أن الحقيقة الكبرى لهذا الجمال الأزلي الذي يملأ العالم - قد جعلت حنين العشق في قلب الإنسان هو أول أمثلتها العملية في تعليمه الحنين إليها إن شاء أن يتعلم، فكما يحب إنسان بروح الشهوة يحب إنسان آخر بروح العبادة ؛ وهذا هو الذي يسميه الفلاسفة: 'تلطيف السر'، أي جعله مستعداً للتوجه إلى النور والحق والخير، وقد عدوا فيما يعين عليه، الفكر الدقيق والعشق العنيف.وكذلك تبينت مما علمني الحب أن طرد آدم وحواء من الفردوس، كان معناه ثقل معاني الفردوس وعرضها لكل آدم وحواء يمثلان الرواية. .فإذا 'قطفا الثمرة' طردا من معاني الجنة، وهبط بعد ذلك من أخيلة السماء إلى حقائق الأرض.نعم هو الحب شيء واحد في كل عاشق لكل جميل، غير أن الفرق بين أهله يكون في جماله العمل أو قبح العمل ؛ وهذه النفوس مصانع مختلفة لهذه المادة الواحدة ؛ فالحب في بعضها يكون قوة وفي بعضها يكون ضعفاً ؛ وفي نفس يكون الهوى حيوانيّاً يراكم الظلم على الظلمة في الحياة، وفي أخرى يكون روحانيّاً يكشف الظلام عن الحياة.والمعجزة في هذا الإنسان الضعيف أنه مع طبيعة كل شيء طبيعية الإحساس به، فهو مستطيع أن يجد لذة نفسه في الألم، قادر على أن يأخذ هبة من معاني الحرمان ؛ وبهذه الطبيعة يسمو من يسمو، وهي على أتمها وأقواها في عظماء النفوس، حتى لكأن الأِياء تأتي هؤلاء الظلمة سائلة: ماذا يريدون منها ؟فمن أراد أن يسمو بالحب فليضعه في نفسه بين شيئين: الخلق الرفيع، والحكمة الناضجة ؛ فإن لم يستطع فلا أقلّ من شيئين: الحلال، والحرام.أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، أعرف هذا كله، وبهذا كله فهمت قول صاحب القلب المسكين: إن ظهور صاحبته في فصل العروس هو انتقامها، حاصرت عيناها عينه، وزحفت معانيها على معانيه، وقاتلت قتال جسم المرأة المحبوبة في معركة حبها، وبكلمة واحدة: كأنما ليست هذه الثياب لتظهر له بلا ثياب. .وأردت أن أعيبها بما صنعت نفسها له، وأن أعيبه هو بدخوله فيما لا يشبهه، وقلت في غير طائل ولا جدوى، فما كنت إلا كالذي يعيب الورد بقوله: يا عطر الشذى، ويا أحمر الخدين !وقد أمسك عن جوابي، وكانت محاسنها تجعل كلماتي شوهاء، وكان وضوحها يجعل معانيَّ غامضة، وكانت حلاوتها تجعل أقوالي مرة، وكانت ثياب العروس وهي تزف تريه ألفاظي في ثياب العجوز المطلقة ؛ وكلما غاضبته مع نفسه أوقعت هي الصلح بينه وبين نفسه.والعجيب العجيب في هذا الحب أن فتح العينين على الجميل المحبوب هو نوع من تغميضهما للنوم ورؤيا الأحلام ؛ ليس إلا هذا، ولا يكون أبداً إلا هذا ؛ فمهما أعطت من جدل فإقناعك المحب المستهام كإقناعك النائم المستثقل ؛ وكيف وله ألفاظ من عقله لا من عقلك، وبينك وبينه نسيانه إياك، وقد تركك على ظاهر الدنيا وغاص هو في دنيا باطنه لا يملك فيها أخذاً ولا رداً إلا ما تعطي وما تمنع.ثم. . . .ثم غابت 'العروس' بعد أن نظرت له وضحكت.ضحكت بحزن. .حزن الذي يسخر من حقيقة ؛ لأنه يتألم من حقيقة غيرها ؛ وكان منظرها الجميل المنكسر فلسفة تامة مصورة للخير الذي اعتدى عليه الشر فأحاله، والإرادة التي أكرهها القدر فأخضعها، والعفة المسكينة التي أذلتها ضرورة الحياة، والفضيلة المغلوبة التي حيل بينها وبين أن تكون فضيلة !ويا ما كان أجملها ناظرة بمعاني البكاء ضاحكة بغير معاني الضحك ؛ تتنهد ملامح وجهها وفمها يبتسم !كان منظرها ناطقاً بأن قلبها الحزين يسأل سؤالاً أبداه على وجهها بلطف ورقة ؛ كان يسأل إنساناً: ألا تحل هذه العقدة ؟. . .وانقضى التمثيل وتناهض الناس.أما صاحب القلب المسكين ؟. .^أما صاحب القلب المسكين فقام ؛ ليخرج وقد تفارطته الهموم وتسابقت إليه فانكسر وتفتر ؛ وكأنما هو قد فارق صاحبته باكياً وباكية من حيث لا يرى بكاءه غيرها ولا يرى بكاءها غيره !ورأيته ينظر إلى ما حوله كأنما تغشى الدنيا لون نفسه الحزينة ؛ إذ كانت نفسه ألقت ظلها على كل شيء يراه ؛ وجعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه.إنه ليس أخفُّ وزناً من الدمع، ولكن النفوس المتألمة لا تحمل أثقل منه، حتى لينثر على النفس أحياناً وكأنه وكأنها بناء قائم يتهدم على جسم ؛ وبعض التنهدات على رقتها وخفتها، قد تشعر بها النفس في بعض همها كأنها جبل من الأحزان أخذته الرجفة فمادت به، فتقلقل، فهو يتفلق ويتهاوى عليها.آه حين يتغير القلب فيتغير كل شيء في رأي العين ! لقد كان صاحبنا منذ قليل وكأن كل سرور في الدنيا يقول له: أنا لك ! فعاد الآن وما يقول له: 'أنا لك' إلا الهم ؛ والتقى هو والظلام والعالم الصامت !جعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه ؛ ومتى وقع الطائر من الجو مكسور الجناح، انقلبت النواميس كلها معطلة فيه، وظهر الجو نفسه مكسوراً في عين الطائر المسكين ؛ وتنفصل روحه عن السماء وأنوارها، حتى لو غمره النور وهو ملقى في التراب لأحسه على التراب وحده لا على جسمه. .ثم خرجنا، فانتبه صاحبنا مما كان فيه ؛ وبهذه الانتباهة المؤلمة أدرك ما كان فيه على وجه آخر، فتعذب به عذابين: أما واحد فلأنه كان ولم يدم وأما الآخر فلأنه زال ولم يعد ؛ والسرور في الحب شيء غير السرور الذي يعرفه الناس ؛ إذ هو في الأول روح تتضاعف به الروح، فكل ما سرك وانتهى شعرت أنه انتهى ؛ولكن ما ينتهي من سرور العاشق المستهام يشعره أنه مات، فله في نفسه حزن الموت وهمّ الثكل، وله في نفسه هم الثكل وحزن الموت !وينظر صاحب القلب المسكين فإذا الأنوار قد انطفأت في الحديقة، وإذا القمر أيضاً كأنما كان فيه مسرح وأخذوا يطفئون أنواره.كان وجه القمر في مثل حزن وجه العاشق المبتعد عن حبيبته إلى أطراف الدنيا، فكان أبيض أصفر مكمداً، تتخايل فيه معاني الدموع التي يمسكها التجلد أن تتساقط.كان في وجه القمر وفي وجه صاحبنا معاً مظهر تأثير القدر المفاجئ بالنكبة.وبدت لنا الحياة تحت الظلمة مقفرة خاوية على أطلالها، فارغة كفراغ نصف الليل من كل ما كان مشرقاً في نصف النهار ؛ يا لك من ساحر أيها الحب ؛ إذ تجعل في ليل العاشق ونهاره ظلاماً وضوءاً ليسا في الأيام والليالي !أما الحديقة فلبسها معنى الفراق، وما أسرع ما ظهرت كأنما يبست كلها لتوها وساعتها، وأنكرها النسيم فهرب منها فهي ساكنة، وتحولت روحها خشبية جافة، فلا نضرة فيها على النفس ؛ وبدت أشجارها في الظلام، قائمة في سوادها كالنائحات يلطمن ويولولن، وتنكر فيها مشهد الطبيعة كما يقع دائماً حين تنبت الصلة بين المكان ونفس الكائن.ماذا حدث ؟لا شيء إلا ما حدث في النفس، فقد تغيرت طريقة الفهم، وكان للحديقة معنى من نفسه فسلب المعنى، وكان لها فيض من قلبه فانحبس عنها الفيض ؛ وبهذا وهذا بدت في السلب والعدم والتنكر، فلم يبق إبداع في شيء مبدع، ولا جمال في منظر جميل.أكذا يفعل الحب حين يضع في النفس العاشقة معنى ضئيلاً من معاني الفناء كهذا الفراق ؟أكذا يترك الروح إذا فقدت شيئاً محبوباً، تتوهم كأنها ماتت بمقدار هذا الشيء ؟مسكين أنت أيها القلب العاشق ! مسكين أنت !ومضينا فملنا إلى نديّ نجلس فيه، وأردت معابثة صاحبنا المتألم بالحب والمتألم بأنه متألم، فقلت له: ما أراك إلا كأنك تزوجتها وطلقتها فتبعتها نفسك !قال: آه ! من أنا الآن ؟ وما بال ذلك الخيال الذي نسق لي الدنيا في أجمل أشكالها قد عاد فبعثرها ؟ أتدري أن العالم كان في ثم أخذ مني فأنا الآن فضاء فضاء.قلت: أعرف أن كل حبيب هو العالم الشخصي لمحبه.قال: ولذلك يعيش المحب المهجور، أو المفارق، أو المنتظر، وكأنه في أيام خلت، وتراه كأنما يجيء إلى الدنيا كل يوم ويرجع.قلت: إن من بعض ما يكون به الجمال جمالاً أنه ظالم قاهر عنيف، كالملك يستبد ليتحقق من نفاذ أخره، وكأن الجميل لا يتم جماله إلا إذا كان أحياناً غير جميل في المعاملة !قال: ولكن الأمر مع هذه الحبيبة بالخلاف ؛ فهي تطلبني وأتنكبها، وهي مقبلة لكنها مقبلة على امتناعي ؛ وكأنها طالب يعدو وراء مطلوب يفر، فلا هذا يقف ولا ذلك يدرك.قلت: فإن هذه هي المشكلة، ومتى كانت الحبيبة مثلها، وكان المحب مثلك، فقد جاءت العقدة بينهما معقودة من تلقاء نفسها فلا حل لها.قال: كذلك هو، فهل تعرف في البؤس والهم كئوس العاشق الذي لا يتدبر كيف يأخذ حبيبته، ولكن كيف يتركها ؟ ما هي المسافة بيني وبينها ؟ خطوة، خطوتان ؟ كلا، كلا ؛ بل فضائل وفضائل تملأ الدنيا كلها، إن مسافة ما بين الحلال والحرام متراخية ممتدة ذاهبة إلى غير نهاية ؛ وإذا كان الحب الفاسد لا يقبل من الحبيب إلا 'نعم' بلا شرط ولا قيد ؛ لأنه فاسد، فالحب الطاهر يقبل 'لا' لأنه طاهر ! ثم هو لا يرضى 'نعم' إلا بشرطها وقيدها من الأدب والشريعة وكرامة الإنسانية في المرأة والرجل.وإذا لم ينته الحب بالإثم والرذيلة، فقد أثبت أنه حب ؛ وشرفه حينئذ هو سر قوته وعنصر دوامه.أتعرف أن بعض عشاق العرب تمنى لو كان جملاً وكانت حبيبته ناقة. .إنه بهذا يود ألا يكون بينهما العقل والقانون وهذا الحرمان الذي يسمي الشرف، وألا يكون بينهما إلا قيد غريزتها الذي ينحل من تلقاء نفسه في لحظة ما، وأن يترك لقوته وتترك هي لضعفها ؛ والقوة والضعف في قانون الطبيعة هما ملك وتمليك واغتصاب وتسليم.قلت: وهذا ما يفعله كل عاشق لمثل هذه الراقصة إذا لم يكن فيه إلا الحيوان ؛ فإن بينهما قوة وضعفاً من نوع آخر، فمعه الثمن وبها الحاجة، وهما في قانون الضرورة ملك وتمليك.قال: وهذا مما يقطع في قلبي ؛ فلو أن للأمة ديناً وشرفاً لما بقي موضع الزوجة فارغاً من رجل، وإن هذه وأمثالها إنما ينزلن في تلك المواضع الخالية أول ما ينزلن، فكل بغي هي في المعنى دين متروك وشرف مبتذل في الأمة.قلت: فحدثني عنك ما هذا الوجد بها وما هذا الاحتراق فيها، وأنت قد كنت بين يديها خياليّاً محضاً كأنما جمعتها في حواسك فأخذتها وتركتها في وقت معاً، وحواسك هذه لا تزال كما هي، بل هي قد زادت حدة، فكما صنعت لك من قرب تصنع لك من بعد ؟قال: أنا في محضرها أحبها كما رأيت بالقدر الذي تقول هي فيه إنك لا تحبني، إذ كان بيننا آخر اسمه الخلق ؛ ولكن يفي غيابها أفقد هذا الميزان الذي يزن المقدار ويحدده، وإذا كنت لم تعلم كيف يصنع العاشق في غيبة المعشوق، فاعلم أن كبرياءه حينئذ لا ترى بإزائها ما تقاومه، فتتخلى عنه وتخذله ؛ وفضيلته لا تجد ما تستعلن فيه، فتتوارى وتدعه ؛ وشخصيته لا تجد ما تبرز له، فتختفي وتهمله ؛ فما يكون من كل ذلك إلا أن يظهر المسكين وحده بكل ما فيه من الوهن والنقص وحدة الشوق ؛ وهنا ينتقم الحب مما زورت عليه الكبرياء والفضيلة والشخصية، فيضرب بحقائقه ضربات مؤلمة لا تقوم لا القوة، ويجعل غياب الحبيب كأنه حضوره مستخفياً لرؤية الحقيقة التي كتمت عنه ؛ وكم من عاشقة متكبرة على من تهواه تصد وتباعده، وهي في خلوتها ساجدة على أقدام خياله تمرغ وجهها هنا وهنا على هذه القدم وعلى هذه القدم !لا إنه لا بد في الحب من تمثيل رواية الامتناع أو الصد أو التهاون أو أي الروايات من مثلها ؛ ولكن ثياب المسرح هي دائماً ثياب استعارة ما دام لابسها في دوره من القصة.ثم وضع المسكين يده على قلبه وقال: آه ! إن هذا القلب يغاضب الحياة كلها متى أراد أن يشعر صاحبه أنه غضبان.مَنْ مِنَ الناس لا يعرف أحزانه ؟ ولكن من منهم الذي يعرف أسرار أحزانه وحكمتها ؟ أما إنه لو كشف السر الأفراح والأحزان عملاً في النفس من أعمال تنازع البقاء ؛ فهذا الناموس يعمل في إيجاد الأصلح والأقوى، ثم يعمل كذلك لإيجاد الأفضل والأرق، ومن ثم كانت آلام الحب قوية حتى لكأنها في الرجل والمرأة تهيئ أحد القلبين ؛ ليستحق القلب الآخر.آه من هذا اللواعج ! إنها ما تكاد تضطرم حتى ترجع النفس وكأنها موقد يشتعل بالجمر، وبذلك يصهر المعدن الإنساني ويصنع صنعة جديدة ؛ وإلى أن ينصهر ويتصفى ويصنع، ماذا يكون للإنسان في كل شيء من حبيبه ؟يكون له في كل شيء روحه النازي.قلت: بخ بخ ! هكذا فليكن الحب ؛ إنها حين تهيج في نفسك الحنين إليها تعطيك ما هو أجمل من جمالها وما هو أبدع من جسمها ؛ إذ تعطيك أقوى الشعر وأحسن الحكمة.قال: وأقوى الألم وأشد اللوعة ! يا عجباً ! كأن الحياة لا تقدم في عشق المحبوب إلا عشقها هي ؛ فإذا وقعت الجفوة، أو حم البين، أو اعترى اليأس - قدم الموت نفسه فكل ذلك شبه الموت.إن الحزن الذي يجيء من قبل العدو يجيء معه بقوة تحمله وتتجلد له وتكابر فيه ؛ ولكن أين ذلك في حزن مبعثه الحبيب ؟ ومن أين القوة إذا ضعف القلب ؟قلت: لا يصنع الله بك إلا خيراً ؛ فإذا كان غد وانسلخ النهار من الليل جئنا إليها فرأيناها في المسرح، ولعل الأمر يصدر مصدراً آخر، قال: أرجو. .ولم يكد ينطق بهذه الرجية حتى مر بنا سبعة رجال يقهقهون، ثم تلاقينا وجئنا ؛ ويا ويلتنا على المسكين حين علم أنها رحلت ؛ لقد أدرك أن الشيطان كان يضحك بسبعة أفواه. .من قوله: أرجو. .ولماذا رحلت ؟ لماذا ؟ وأما هو. .؟^وأما صاحب القلب المسكين فما علم أنها قد رحلت عن ليلته حتى أظلم الظلام عليه، كأنها إذا كانت حاضرة أضاء شيء لا يرى، فإذا غابت انطفأ هذا الضوء ؛ ورأيته واجماً كاسف البال يتنازعه في نفسه ما لا أدري، كأن غيابها وقع في نفسه إنذار حرب.لماذا كان الشعراء ينوحون على الأطلال ويلتاعون بها ويرتمضون منها وهي أحجار وآثار وبقايا ؟ وما الذي يتلقاهم به المكان بعد رحيل الأحبة ؟ يتلقاهم بالفراغ القلبي الذي لا يملؤه من الوجود كله إلا وجود شخص واحد ؛ وعند هذا الفراغ تقف الدنيا مليّاً كأنها انتهت إلى نهاية في النفس العاشقة، فتبطل حينئذٍ المبادلة بين معاني الحياة وبين شعور الحي ؛ ويكون العاشق موجوداً في موضعه ولا تجده المعاني التي تمر به، فترجع منه كالحقائق تلم بالفراغ من وعي سكران.يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب ! ما الذي يجعل فيك تلك القدرة الساحرة ؟ أهو فصلك بين زمن وزمن، أم جمعك الماضي في لحظة ؛ أم تحويلك الحياة إلى فكرة، أم تكبيرك الحقيقة إلى إضعاف حقيقتها، أم تصويرك روحية الدنيا في المثال الذي تحسه الروح، أم إشعارك النفس كالموت أن الحياة مبنية على الانقلاب، أم قدرتك على زيادة حالة جديدة للهم والحزن، أم رجوعك باللذة ترى ولا تمكن، أم أنت كل ذلك ؛ لأن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ويمتلئ بك وحدك ؟يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب ! ما هذه القوة السحرية فيك تجتذب بها الصدر ليضمك، وتستهوي بها الفم ليقبلك، وتستدعي الدمع لينفر لك، وتهتاج الحنين لينبعث فيك ؟ أكل ذلك لأنك أثر الحبيب، أم لأن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ولا يجد ما يخفق عليه سواك ؟ووقف صاحبنا المسكين محزوناً كأن شيئاً يصله بكل هموم العالم ؛ وتلك هي طبيعة الألم الذي يفاجئ الإنسان من مكمن لذته وموضع سروره، فيسلبه نوعاً من الحياة بطريقة سلب الحياة نفسها، ويأخذ من قلبه شيئاً مات فيدفنه في قبر الماضي، يكون ألماً ؛ لأن فيه المضض، وكآبة ؛ لأن فيه الخيبة، وذهولاً ؛ لأن فيه الحسرة ؛ وتتم هذه الثلاثة الهموم بالضيق الشديد في النفس ؛ لاجتماع ثلاثتها على النفس ؛ فإذا المسكين مبغوت كأن الآلام أطبقت عليه من الجهات الأربع، فقلبه منها صدوع صدوع. .وجعلت أعذل صاحبنا فلا يعتذِل، وكلما حاولت أن أثبت له وجود الصبر كنت كأنما أثبت له أنه غير موجود ؛ ثم تنفس وهو يكاد ينشق غيظاً وقال: لماذا رحلت ؟ لماذا ؟قلت: أنت أذللت جمالها بهذا الأسلوب الذي ترى أنك تعز جمالها به، وقد اشتددت عليها وعلى نفسك، وتعنَّتَّ على قلبك وقلبها ؛ كانت ظريفة المذهب في عشقها وكنت خشناً في حبك، وسوغتك حقّاً فرددته عليها، وتهالكت وانقبضت أنت، ورفعت قدرك عن نفسها تحبباً وتودداً فخفضت قدرها عن نفسك من اطراح وجفاء، واستفرغت وسعها في رضاك فتغاضبت، ونضت عن محاسنها شيئاً شيئاً تسأل بكل شيء سؤالاً فلم تكن أنت من جوابها في شيء. .ومن طبع المرأة أنها إذا أحبت امتنعت أن تكون البادئة، فالتوت على صاحبها وهي عاشقة، وجاحدت وهي مقرة ؛ إذ تريد في أن تتحقق أنها محبوبة، وفي الثانية أن يقدم لها البرهان على أنها تستحق المهاجمة، وفي الثالثة هي تريد ألا تأخذها إلا قوة قوية فتمتحن هذه القوة، ومع هذه الثلاث تأبى طبيعة السرور فيها والاستمتاع بها إلا أن يكون لهذا السرور وهذا الامتناع شأن وقيمة، فتذيق صاحبها المر قبل الحلو ؛ ليكبر هذا بهذا.غير أنها إذا غلبها الوجد وأكرهها الحب على أن تبتدئ صاحبها، ثم ابتدأت ولم تجد الجواب منه، أو لم يأتِ الأمر فيما بينها وبينه على ما تحب، فإن الابتداء حينئذ يكون هو النهاية، وينقلب الحب عدو الحب ؛ وأنا أعرف امرأة وضعتها كبرياؤها في مثل هذه الحالة وقالت لصاحبها: سأتألم ولكن لن أغلب، فكان الذي وقع واأسفاه - أنها تألمت حتى جنت، ولكن لم تغلب. .قال: فما بال هذه ؟ أما تراها تبتدئ كل يوم رجلاً ؟قلت: إنها تبتدئ متكسبة لا عاشقة، فإذا أحبت الحب الصحيح أرادت قيمتها فيما هو قيمتها ؛ وأنا أحسبها تحب فيك هذا العنف وهذه القسوة وهذه الروحية الجبارة ؛ فإنها لذات جديدة للمرأة التي لا تجد من يخضعها ؛ وفي طبيعة كل امرأة شيء لا يجد تمامه إلا في عنف الرجل، غير أنه العنف الذي أوله رقة وآخره رقة ؟أما والله إن عجائب الحب أكثر من أن تكون عجيبة ؛ والشيء الغريب يسمى غريباً فيكفي ذلك بياناً في تعريفه، غير أنه إذا وقع في الحب سمي غريباً فلا تكفيه التسمية، فيوصف مع التسمية بأنه غريب فلا يبلغ فيه الوصف، فيقع التعجب مع الوصف والتسمية من أنه شيء غريب، ثم تبقى وراء ذلك منزلة للإغراق في التعجب بين العاشق وبين نسفه ؛ وهكذا يشعرون.فكل أسرار الحب من أسرار الروح ومن عالم الغيب ؛ وكأن النبوة نبوتان: كبيرة وصغيرة، وعامة وخاصة.فإحداهما بالنفس العظيمة في الأنبياء، والأخرى بالقلب الرقيق في العشاق ؛ وفي هذه من هذه شبه ؛ لوجود العظمة الروحية في كلتيهما غالبة على المادة، مجردة من إنسان الطين من النور، محركة هذه الطبيعة الآدمية حركة جديدة في السمو، ذاهبة بالمعرفة الإنسانية إلى ما هو الأحسن والأجمل، واضعة مبدأ التجديد في كل شيء يمر بالنفس، منبعثة بالأفراح من مصدرها العلوي السماوي.بيد أن في العشق أنبياء كذبة ؛ فإذا تسفل الحب في جلال، واستعلنت البهيمية في عظمة، وتجرد من إنسان الطين إنسان الحجر، وتحركت الطبيعة الآدمية حركة جديدة في السقوط، وذهبت المعرفة الإنسانية إلى ما هو الأقبح.والأسوأ، وتجدد لكل شيء في النفس معنى فاسد، وانبعثت الأفراح من مصدرها السفلى - إذا وقع كل هذا من الحب فما عساه يكون ؟لا يكون إلا أن الشيطان يقلد النبوة الصغيرة في بعض العشاق، كما يقلد النبوة الكبيرة في بعض الدجالين.هكذا قال صاحب القلب المسكين وقد تكلم عن الحب ونحن جالسان في الحديقة، وكنا دخلناها ليجدد عهداً بمجلسه فلعله يسكن بعض ما به ؛ واستفاض كلامنا في وصف تلك العبهرة الفتانة التي أحلته هذا المحل وبلغت به ما بلغت وكان في رقة لا رقة بعدها، وفي حب لا نهاية وراءه لمحب ؛ وخيل إلى أنه يرى الحديث عنها كأنه إحضارها بصورة ما !وأنفع ما في حديث العاشق عن حبه وألمه أن الكلام يخرجه من حالة الفكر، ويؤنس قلبه بالألفاظ، ويخفف من حركة نفسه بحركة لسانه، ويوجه حواسه إلى الظاهر المتحرك ؛ فتسلبه ألفاظه أكثر معانيه الوهمية، وتأتيه بالحقائق على قدرها في اللغة لا في النفس ؛ وفي كل ذلك حيلة على النسيان، وتعلل إلى ساعة ؛ وهو تدبير من الرحمة بالعاشقين في هذا البلاء الذي يسمى الفراق أو الهجر.وكان من أعجب ما عجبت له أن صديقاً مر بنا فدعاه صاحبنا وقال وهو يومئ إلي: أنا وفلان هذا مختلفان منذ اليوم ؛ لا هو يقيم عذراً ولا أنا أقيم حجة، وأحسب أن عندك رأياً فاقض بيننا. . .ويسأله الصديق: ما القضية ؟ فيقول وهو يشير إلي:إن هذا قد تخرق قلبه من الحب فلا يدري من أين يجيء لقلبه برقعة. .وإنه يعشق فلانة الراقصة التي كانت في هذا المسرح، ويزعم لي. .أنها أجمل وأفتن وأحلى من طلعت عليه الشمس، وأنه ليس بين وجهها وبين القمر وجه امرأة أخرى في كل ما يضيء القمر عليه، وأن عينيها مما لا ينسى أبداً أبداً أبداً. . .لأن ألحاظها تذوب في الدم وتجري فيه، وأن الشيطان لو أراد مناجزة العفة والزهد في حرب حاسمة بينه وبين أزهد العباد لترك كل حيله وأساليبه وقدم جسمها وفنها. .فيقول له المسؤول: وما رأيك أنت ؟فيجيبه: لو كان عنها صاحياً لقد صحا.إن المشكلة في الحب أن كل عاشق له قلبه الذي هو قلبه، وحسبها أن مثل هذا هو يصفها ؛ وما يدرينا من تصاريف القدر بهذه المسكينة ما عليها مما لها، فلعلها الجمال حكم عليه أن يعذب بقبح الناس، ولعلها السرور قضي عليه أن يسجن في أحزان !وقلت له: يا صديقي المسكين ! أوَكل هذا لها في قلبك ؟ فما هذا القلب الذي تحمله وتتعذب به ؟قال: إنه - والله - قلب طفل، وما حبه إلا التماسه الحنان الثاني من الحبيبة، بعد ذلك الحنان الأول من الأم ؛ وكل كلامي في الحب إنما هو إملاء هذا القلب على فكره كأنه يخلق به خلق تفكيره.آه يا صديقي ! من السخرية بهذه الدنيا وما فيها أن القلب لا يستمر طفلاً بعد زمن الطفولة إلا في اثنين: من كان فيلسوفاً عظيماً، ومن كان مغفلاً عظيماً !وافترقنا ؛ ثم أردت أن أتعرف خبره فلقيته من الغد، وكان لي في أحلامي تلك الليلة شأن عجيب، وكان له شأن أعجب ؛ أما أنا فلا يعني القراء شأني وقصتي.وأما هو ؟. . .^وأما هو فحدثني بهذا الحديث العجيب من لطائف إلهامه وفنه، قال: انصرفت إلى داري وقد عز عليَّ أن يكون هذا منها وأن يكون هذا مني، وهي إن غابت أو حضرت فإنها لي كالشمس للدنيا: لا تظلم الدنيا في ناحية إلا من أنها تضيء في ناحية ؛ فظلمتها من عمل نورها ؛ وكانت ليلتي فارغة من النوم فبت أتململ، وجعل القلب يدق في جنبي كأنه آلة في ساعة لا قلب إنسان ؛ وكان في الدنيا من حولي صمت كصمت الذي سكت بعد خطبة طويلة، وفي أنا صمت آخر كصمت الذي سكت بعد سؤال لا جواب عليه ؛ وكان الهواء راكداً كالسكران الذي انطرح من ثقله السكر بعد أن هذى طويلاً وعربد ؛ والوجود كله يبدو كالمختنق ؛ لأن معنى الاختناق في قلبي وأفكاري ؛ ونظرت نظرة في النجوم فإذا هي تتغور نجماً بعد نجم، كأن معنى الرحيل انتشر في الأرض والسماء إذ رحلت الحبيبة ؛ وكأن كل وجه مضيء يقول لي كلمة: لا تنتظر !فلما عسعس الليل رميت بنفسي فنمت والعقل يقظان، وصنعت الأحلام ما تصنع، فرأيتها هي في تلك الشفوف التي ظهرت فيها عروساً ؛ وما أعجب كبرياء المرأة المحبوبة ! إنها لتبدو لعيني محبها كالعارية وراء ستر رقيق يشف عنها كالضوء، ثم تدل بنفسها أن ترفع هذا الستر، فإن لم يتجرأ هو لم تتجرأ هي ؛ وكأنها تقول له: قد رفعته بطريقتي فارفعه أنت بطريقتك. .وكانت مصورة في الحلم تصويراً آخر ؛ فلا ينسكب من جسمها معنى الحسن الذي أتأمله وأعقله، ولكن معنى السكر الذي يترك المرء بلا عقل ؛ ولم تكن غلائلها عليها كالثياب على المرأة، ولكنها ظهرت لي كاللون على الوردة الزاهية: تظهر فتنة وتتم فتنة.أيتها الأحلام، ماذا تبدعين إلا مخلوقات الدم الإنساني، ماذا تبدعين ؟قلت: يا صديقي دع الآن هذه الفلسفة وخذ في قص ما رأيت، ثم ماذا بعد الوردة ولون الوردة ؟قال: إنه القلب المسكين دائماً، إنه القلب المسكين، لقد ضحكت لي وقالت: ها أنذا قد جئت ! وأقبلت ترائيني بوجهها، وتتغزل بعينيها، وتتنهد بصدرها، وألقت يديها في يدي، فأحسست اليدين تتعانقان ولا تتصافحان ؛ ثم تركناهما نائمتين إحداهما على الأخرى، وسكتنا هنيهة وقد خيل إلينا أننا إذا تكلمنا استيقظت يدانا !أما صافحتك امرأة تحبها وتحبك ؟ أما أحسست بيدها قد نامت في يدك ولو لحظة ؟ أما رأيت بعينيك نعاس يدها وهو ينتقل إلى عينيها فإذا هما فاترتان ذابلتان، وتحت أجفانهما حلم قصير ؟قلت: يا صديقي دع الفلسفة ؛ ثم كان ماذا بعد أن نامت يد على يد ؟قال: ثم كانت سخرية من الشيطان أقبح سخرية قط.قلت: حسبي لكأنك شرحت لي ما بقي. .فضحك طويلاً، وقال: إن الشيطان يسخر الآن منك أيضاً، وكأني به يقول لك: وكان ما كان مما لست أذكره. .أفتدري ما الذي كان وما بقية الخبر ؟لقد كنت مولعاً بامتحان قوتي في الضغط بيدي على أعواد منصوبة من الحديد، أو على أيدي الأقوياء إذا سلمت عليهم ؛ فلما صافحتني لبثت مدة من الزمن ثم شددت على يدها قليلاً قليلاً، فتنبهت في هذه العادة، فمسخت الحلم وانصرف وهمي إلى أقبح صورة وأشنعها وأبعدها مما أنا فيه من الحب ولذات الحب ؛ فإذا بإزائي وجه، وجه من ؟ وجه مصارع ألماني كنت أعرفه من عشرين سنة وأضغط على يده. .قلت: إنما هذه كبرياؤك أو عفتك تنبهت في تلك الشدة من يدك، ولا يزال أمرك عجيباً ؛ فهل معك أنت ملائكة ومع الناس شياطين ؟قال: والذي هو أعجب أني رأيت في أضغاث أحلامي كأن قلبي المسكين يخاصمني وأخاصمه ؛ وقد خرج من أحناء الضلوع كأنه مخلوق من الظل يرى ولا يرى إذ لا شكل له ؛ وسبني وسببته، وقلت له وقال لي، وتغالظنا كأننا عدوان ؛ فهو يرى أني أنا أمنعه لذاته، وأرى أنه هو يمنعني، وأنه أشفى بي على ما أشفى ؛ وقلت له فيما قلت: لا قرار على جنايتك، فاذهب عني ولا تتسم باسمي فإنه لا فلان لك بعد اليوم ؛ ولولا أنك مخذول في الحب لعلمت أن لمسة يد الرجل ليد المرأة الجميلة نوع مخفف من التقبيل، فإذا هي تركته يرتفع في الدم انتهى يوماً إلى تقبيل فمه لفمها ؛ ولولا أنك مخذول في الحب لعلمت أن هذا الضم بين اليدين نوع مخفف من العناق، فإذا هي تركته يشتد في الدم انتهى يوماً إلى ضم الصدر للصدر ؛ ولكنك مخذول في الحب، ولكنك مخذول !.وقال لي فيما قال: وأنت أيها الخائب ؟ أما علمت أن أناملها الرخصة هي أناملها، لا أعوادك من الحديد ؟ فكيف شددت عليها ويحك تلك الشدة التي أخرجت لك وجه المصارع ؟ ولكنك خائب في الحب، ولكنك خائب !قلت: فهذه قضية بيني وبينك أيها القلب العدو ؛ لقد تركتني من الهموم كالشجرة المنخربة قد بليت وصارت فيها التخاريب ؛ فلا حياتها بالحياة ولا موتها بالموت، وكم علقتني بفاتنة بعد فاتنة لا عنها إقصار ينتهي ولا فيها مطمع يبتدئ ؛ ما أنت فيّ إلا وحش أكبر لذته لطع الدم !واستدار الحلم فلم ألبث أن رأيتني في محكمة الجنايات، وكأني شكوت قلبي إليها فهو جالس في القفص الحديدي بين المجرمين ينتظر ما ينتظرون من الفصل في أمرهم ؛ وقد ارتفع المستشارون الثلاثة إلى منصة الحكم، وجلس النائب العام في مجلسه يتولى إقامة الدعوى وبين يديه أوراقه ينظر فيها، ورأيت منها غلافاً كتب على ظاهره: قضية القلب المسكين.وتكلم رئيس المحكمة أول من تكلم فقال: ليس في قضية القلب محامٍ، فابغوه من يدافع عنه ؛ ثم التفت إليه وقال: من عسى تختار للدفاع عنك ؟قال القلب: أوَهنا موضع للاختيار يا حضرة الرئيس ؟ إنه ليس تحت هذه - وأومأ إلى السماء - ولا فوق هذه - وأومأ إلى الأرض - إلا. . .فبدر النائب العام وقال: إلا الحبيبة ؟ أكذلك ؟ غير أنها أستاذة في الرقص لا في القانون !- القلب: ولكنني لا أختار غيرها محكوماً لي أو محكوماً علي ؛ أنا أريد أن أنظر فيها وانظروا أنتم في القضية. .- الرئيس: فليكن ؛ فهذه جريمة عواطف إيذن لها أيها الآذن.فنادى المحضر: الأستاذة ! الأستاذة !وجاءت مبادرة، ودخلت تمشي مشيتها وقد افتر ثغرها عن النور الذي يسطع في النفس ؛ وأومضت بوجهها يميناً وشمالاً، فصرف الناس جميعاً أبصارهم إليها وقد نظروا إلى فتنة من الفتن ؛ وثارت في كل قلب نزعة، وغلبت الحقيقة البشرية فانتقضت طباع الموجودين في قاعة الجلسة، وأبطل قانون جمالها قانون المحكمة، فوقعت الضجة وعلت الأصوات واختلطت ؛ وترددت بين جدران المكان صدى في صدى كأن الجدران تتكلم مع المتكلمين.أصوات أصوات: سبحان الله ! سبحان الله ! تبارك الله ! تبارك الله ! آه آه ! آه آه ! وسمع صوت يقول: اتهموني أنا أيضاً. .فنفرت الكلمات: وأنا، وأنا، وأنا ! واختفت المحكمة وانبعث المسرح بدخول فاتنته الراقصة ؛ وكان المستشارون والنائب العام في أعين الناس كأنهم صور معلقة على الحائط ؛ لا يخشاها أحد أن تنظر إلى ما يصنع !فصاح الرئيس: هنا المحكمة ! هنا المحكمة ! سبحان الله. .المحكمة المحكمة !- النائب العام: هذا بدء لا ترضاه النيابة ولا تقبل أن تنسحب عليه، نعم إن هذا الوجه الجميل أبرع محام في هذه القضية، ونعم إن جسمها. .آه ماذا ؟ إنكم تأتون بالشهوة الغالبة القاهرة لتدافع عن المشتهي. .عن المتهم، هذا وضع كوضع العذر إلى جانب الذنب، وكأنكم يا حضرات المستشارين. .فبدرت المحامية تقول في نغمة دلال وفتور: وكأنكم يا حضرات المستشارين قد نسيتم أن النائب العام له قلب أيضاً. . .واشتد ذلك على النائب، وتبين الغضب في وجهه ؛ فقال: يا حضرة الرئيس. .- الرئيس مبتسماً: واحدة بواحدة، وأرجو ألا تكون لها ثانية، ومعنى هذا كما هو ظاهر ألا تكون لها ثالثة. .'ضحك'.قال صاحب القلب المسكين: وكنت بلا قلب. .فلم ألتفت للجمال، بل راعني ذكاء المحامية ونفاذها وحسن اهتدائها إلى الحجة في أول ضرباتها، وتعجبت من ذلك أشد التعجب، وأيقنت أن النائب العام سيقع في لسانها، لا كما يقع مثله في لسان المحامي القدير، ولكن كما يقع زوج في لسان زوجة معشوقة متدللة تجادله بحجج كثيرة بعضها الكلام. .وقلت في نفسي: يا رحمة الله لا تجعلي من النساء الجميلات الفاتنات محاميات في هذه المحاكم، فلو ألبسوهن لحى مستعارة لكان الصوت الرخيم وحده من تلك الأفواه الجميلة العذبة، نداء قانونيّاً للقبلات. .ونهضت المحامية العجيبة فسلطت عينيها الساحرتين على النائب، ثم قالت تخاطب المحكمة: قبل النظر في هذه القضية قضية الحب والجمال، قضية قلبي المسكين. .أريد أن أتعرف الرأي القانوني في اعتبار الجريمة.أهي شخصية، فتقصر على صاحبها ؛ أو خاصة، فتضر غير جانبها، أو عامة، فيتناولها العموم المحدود لمن تجمعهم جامعة الحب ؛ أو هي أعم، فيتناولها العموم المطلق للهيئة الاجتماعية ؛ ما هي جريمة قلبي ؟- الرئيس: ما رأي النيابة ؟النائب 'ضاحكاً': 'غزالتها رايقة' كما يقول الراقصات والممثلات. .أرى أنها جريمة آتية من ضرب الخاص في العام. .'ضحك'.المحامية: جواب كجواب القائل: حب أبي بكر ؛ كان ذلك الرجل يحب زوجته الجميلة ويخافها، وكانت تقسو عليه قسوة عظيمة وتغلظ له الكلام، وهو يفرق منها ولا يخالفها ؛ فرآها يوماً وقد طابت نفسها، فأراد أن ينتهز الفرصة ويشكو قسوتها ؛ فقال: يا فلانة قد - والله - أحرق قلبي. .ولم تدعه يتم الكلمة، فحددت نظرها إليه وقطبت وجهها وقالت: أحرق قلبك ماذا ؟ فخاف ولم يقدر أن يقول لها سوء أخلاقك.فقال ؛ حب أبي بكر الصديق رضي الله عنه. .'ضحك'، ورنت ضحكة المحامية فاضطربت لها القلوب، ووقعت في كل دم، وفي دم النائب أيضاً ؛ فانخزل ولم يزد على أن يقول: أحتج من كل قلبي. .الرئيس: لندخل في الموضوع ولتكن المرافعة مطلقة ؛ فإن الحدود في جرائم القلب تسدل وترفع كهذه الستائر في مسرح التمثيل.وعشرون ستارة قد تكون كلها لرواية واحدة.- النائب العام: يا حضرات المستشارين، لا يطول اتهامي ؛ فإن هذا القلب هو نفسه تهمة متكلمة.المحامية: ولكنه قلب.النائب: وأنا يا سيدتي لم أحرف الكلمة ولم أقل إنه كلب.'ضحك'، وتضرج وجه المحامية وخجلت.- الرئيس: الموضوع الموضوع.- النائب: يا حضرات المستشارين، إن ألم هذه الجريمة إما أن يكون في شخص الجاني أو ماله، أو صفته كأن يكون زوجاً مثلاً، أو صيته الأدبي ؛ فإما الشخص فهذا ظاهر، وأما المال فنعم إن القلب المسكين قرار لنفسه ولصاحبه ألا يبتاع أبداً تذكرة دخول إلى جهنم. .'ضحك'.- المحامية: أستميح النائب عذراً إذا أنا. .إذا أنا فهمت من هذا التعبير أن حضرته يعرف على الأقل أين تباع هذه 'التذاكر'. .'ضحك' وتفرج وجه النائب العام وخجل.- الرئيس: كنت رجوت ألا تكون للأولى ثانية، وقلت: إن معنى هذا كما هو ظاهر ألا يكون لها ثالثة ؛ فهل أنا محتاج إلى القول بأن المعنى المنطقي ألا يكون للثالثة رابعة ؟- النائب: يا حضرات المستشارين، وأما الصفة، فهذا القلب المسكين قلب رجل متزوج ؛ ولا تغرنكم صوفية هذا القلب، ولا يخدعنكم تألهه وزعمه السمو.إنه على كل حال يعشق راقصة، وهذا اعتداء في ضمنه اعتداء، على الزواج وعلى الشرف ؛ وهبوه متصوفاً متألهاً ولم يتصل بالراقصة، فهو على كل حال قد أخذها واتخذها ولكن بأسلوبه الخاص. .وبهذا اقترف الجريمة ؛ آه ! إن هذه القضية ناقصة ؛ وذلك نقص فيها أخشى أن يكون نقصاً في الحكم أيضاً، فأتموه أنتم.يا حضرات المستشارين، إن النقص فيها أنها لا شهود فيها ؛ ولكن هذا عمل إلهي لا يظهر إلا يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.- المحامية: هذا تعبير أكبر من قدرة قائله ومن منزلته ووظيفته، هذا تعبير جسور ! يا حضرة النائب، من الذي لا يحمل شهوداً في لسانه ويديه ورجليه، بل ألف شاهد على ليلة واحدة. .يجب أن يكون مفهوماً بيننا يا حضرة النائب أن النون والباء في لفظة 'نائب' غير النون والباء في لفظة 'نبي'.- النائب: يا حضرات المستشارين، لا أرى مما يحرجني في الاتهام أن أصرح لكم أن مما حيرني في هذه الجريمة أن ليس فيها من أوصاف الجرائم إلا ثلم الكرامة، فلا قذف ولا سب ولا هتك عرض ولا فجور، ولا أصغر من ذلك، ولا كأس خمر للراقصة. .- المحامية: لا أرى أمام حضرة النائب كأس ماء، وسيجف حلقه في هذه القضية ؛ فلعل المحكمة تأمر لي بكأس. .'ضحك'.- النائب: يا حضرات المستشارين، يعشق راقصة ؛ اسم فاعل من رقص يرقص ؛ امرأة لا تلبس ثياباً، بل عرياً في شكل ثياب. .امرأة لا كالنساء، كذبها هو صدق من شفتيها ؛ لماذا ؟ لأنهما حمراوان رقيقتان عذبتان محبوبتان مطلوبتان. .المحامية: تضحك. .- النائب 'بعد أن تتعتع': امرأة لا كالنساء، جعلتها الحرفة امرأة في العمل، ورجلاً في الكسب. .- المحامية: ولكنك لا تدري أي حمل سقطت المسكينة، وقد يكون في الرذائل رذائل كبعض أصحاب الألقاب: ذات عظمة. .- النائب: يحب راقصة أي يضعها في عقله الباطن ويشتهيها ؛ نعم يشتهيها، فمن عقله الباطن، وبتعبير اللغة، من واعيته - تخرج الجريمة أو على الأقل، فكرة الجريمة.والصيت الأدبي يا حضرات المستشارين ؟ هل من كرامة لمن يعشق راقصة ؟ لا بل هل من كرامة في الحب ؟ ألم يقولوا: إن كرامة الرجل تكون تحت قدمي المرأة المعشوقة كالممسحة الخشنة تمسح فيها نعليها !الحب ؟ ما هو الحب ؟ إنه ليس فكرة، بل هو شيطان يتلبس لجسم العاشق ؛ ليعمل أعماله بأداة حية، وهذا التركيب الحيواني للإنسان هو الذي يهيئ من الحب مداخل ومخارج للشياطين في جسمه ؛ وهل رضي صاحب القلب المسكين بجناية قلبه عليه، وعظيم ما انتهك من أخلاقه السامية ؟ هل رضي عشقه راقصة ؟ إن لم يرضَ الرضى الصحيح، أو رضي بقدر ما ؛ فعلى كليهما يقوم في نفسه مانع ؛ والمانع من الرضى هو الموجب للعقوبة.- المحامية: ولكن قدرا من الرضى ينزل بالجناية فيردها إلى جنحة كما في القانون الإنجليزي، وقد قرر الشراح أنه ما دام الرضى غير مستلب بكله، فالجريمة غير واقعة بكلها.- النائب: جنحة كل قلب هي جناية من هذا القلب بخصوصه، على طريقة 'حسنات الأبرار سيئات المقربين' ؛ والعبرة هنا بالواقع لا بالصفة القانونية، وقد قرر الشراح أن الواقع قد يكون أحيانا سببا في تشديد العقوبة، فلا بد من تشديد العقوبة في هذه القضية.لا أطلب الحكم بالمادة 230 عقوبات بل بالمواد من 230 إلى 241 ضربة واحدة.- المحامية: قد نسيت أن هذا قلب وعقوبته عقوبة لصاحبه البريء.- النائب: إذن أطلب عقابه بحرمانه الجمال: وهذا أشق عليه من العقاب باثنتي عشرة مادة وبعشرين وثلاثين.الرئيس: وما هي الطريقة لتنفيذ الحكم بهذا الحرمان ؟النائب: تأمر المحكم بالمراقص كلها فتغلق، وبالمسارح كلها فتقفل، وبالسينما فتبطل إلا ما لا جمال فيه منها ولا غزل ولا حب، ويحرم السفور على النساء إلا العجائز والدميمات، ويمنع نشر صور الجمال في الصحف والكتب، و. . .المحامية: قل في كلمة واحدة: يجب إصلاح العالم كله لإصلاح القلب الإنساني !وجلس النائب، فالتفت الرئيس إلى المحامية وقال لها: وأما هو ؟. .^قال صاحب القلب المسكين: ووقفت المحامية وكأنها بين الحراس تزدحم عليها من كل ناحية، وقد ظهرت للموجودين ظهور الجمال للحب، ونقلتهم في الزمن إلى مثل الساعة المصورة التي ينتظر فيها الأطفال سماع القصة العجيبة ؛ ساعة فيها كل صور اللذة للقلب.وكانت تدافع بكلامها ووجهها يدافع عن كلامها، فلو نطقت غياً أو رشداً فلهذا صواب ولهذا صواب، لأن أحد الصوابين منظور بالأعين.كان صوت النائب العام كلاماً يسمع ويفهم: أما صوت المحامية الجميلة فكان يسمع ويفهم ويحس ويذاق، تلقيه هي من ناحية ما يدرك، وتتلقاه النفس من ناحية ما يعشق ؛ فهو متصل بحقيقتين من معناه ومعناها، وهو كله حلاوة ؛ لأنه من فمها الحلو.وبدأت فتناولت من أشيائها مرآة صغيرة فنظرن فيها.- النائب العام: ما هذا يا أستاذة ؟- المحامية: إنكم تزعمون أن هذه الجريمة تأليف عيني، فأنا أسأل عيني قبل أن أتكلم !- النائب: نعم يا سيدتي، ولكني أرجو ألا تدخلي القضية في سر المرآة وأخواتها. .إن النيابة تخشى على اتهامها إذا تكحلت لغة الدفاع !فضحكت المحامية ضحكة كانت أول البلاغة المؤثرة. .- النائب: من الوقار القانون أن تكون المحامية الفتانة غير فتانة ولا جذابة أمام المحكمة.- المحامية: تريد أن تجعلها عجوزاً بأمر النيابة ؟ 'ضحك'.- النائب: جمال حسناء، في ظرف غانية، في شمائل راقصة، في حماسة عاشقة، في ذكاء محامية، في قدرة حب ؛ هذا كثير !- المحامية: يا حضرات المستشارين، لم تكن المرآة هفوة من طبيعة المرأة، ولكنها الكلمة الأولى في الدفاع، كلمة كان الجواب عنها من النائب العام أنه أقر بتأثير الجمال وخطره، حتى لقد خشي على اتهامه إذا تكحلت له لغتي.- القضاة يتبسمون.- النائب: لم أزد على أن طلبت الوقار القانوني، الوقار، نعم الوقار ؛ فإن المحامية أمام المحكمة، هي متكلم لا متكلمة.- المحامية: متكلم بلحية مقدرة منع من ظهورها التعذر 'ضحك'. .كلا يا حضرة النائب ؛ إن لهذه القضية قانوناً آخر تنتزع منه شواهد وأدلة ؛ قانون سحر المرأة للرجل، فلو اقتضاني أن أرقص لرقصت، أو أغني لغنيت، أو سحر الجمال لأثبته أول شيء في النائب. .- الرئيس: يا أستاذة !- المحامية: لم أجاوز القانون، فالنائب في جريمتنا هو خصم القضية، وهو أيضاً خصم الطبيعة النسوية.- النائب: لو حدث من هذا شيء لكان إيحاء لعواطف المحكمة. . .فأنا أحتج !- المحامية: احتج ما شئت، ففي قضايا الحب يكون العدل عدلين ؛ إذ كان الاضطرار قد حكم بقانونه قبل أن تحكم أنت بقانونك.النائب: هذه العقدة ليست عقدة في منديل يا سيدتي، بل هي عقدة في القانون.- المحامية: وهذه القضية ليست قضية إخلاء دار يا سيدي، بل هي قضية إخلاء قلب !- الرئيس: الموضوع، الموضوع !- المحامية: يا حضرات المستشارين، إذا انتفى القصد الجنائي وجبت البراءة.هذا مبدأ لا خلاف عليه ؛ فما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين ؟- النائب: أوله حب راقصة.- المحامية: آه ! دائماً هذا الوصف ؟ هبوها في معناها غير جديرة بأن يعرفها ؛ لأنه رجل تقي، أفليست في حسنها جديرة بأن يحبها ؛ لأنه رجل شاعر ؟ أحكموا يا حضرات القضاة ؛ هذه راقصة ترتزق وترتفق، ومعنى ذلك أنها رهن بأسبابها، ومعنى هذا أنها خاضعة للكلمة التي تدفع. .فلماذا لم ينلها وهي متعرضة له، وكلاهما من صاحبه على النهاية، وفي آخر أوصاف الشوق ؟ أليس هذا حقيقاً بإعجابكم القانوني كما هو جدير بإعجاب الدين والعقل ؟ وإن لم يكن هذا الحب شهوة فكر، فما الذي يحول دونها وما يمنعه أن يتزوجها ؟- القضاة يتبسمون.- النائب: نسيت المحامية أنها محامية وانتقلت إلى شخصيتها الواقعة على النهاية وفي آخر أوصاف الشوق. .فأرجو أن ترجع إلى الموضوع، موضوع الراقصة.- المحامية: آه ! دائماً الراقصة، من هي هذه المسكينة الأسيرة في أيدي الجوع والحاجة والاضطرار ؟ أليست مجموعة فضائل مقهورة ؟ أليست هي الجائعة التي لا تجد من الفاجرين إلا لحم الميتة ؟ نعم إنها زلت، إنها سقطت، ولكن بماذا ؟ بالفقر لا غير، فقر الضمير والذمة في رجل فاسد خدعها وتركها، وفقر العدل والرحمة في اجتماع فاسد خذلها وأهملها ! يا للرحمة لليتيمة من الأهل، وأهلها موجودون ! والمنقطعة من الناس، والناس حولها !تقولون: يجب ولا يجب، ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شاءت فتجعل ما لا ينبغي هو الذي ينبغي، وتقلب ما يجب إلى ما لا يجب، فإذا ضاع من يضيع في هذا الاختلاط، قلتم له: شأنك بنفسك، ونفضتم أيديكم منه فأضعتموه مرة أخرى، ويحكم يا قوم ! غيروا اتجاه الأسباب في هذا الاجتماع الفاسد، تخرج لكم مسببات أخرى غير فاسدة.تأتي المرأة من أعمال الرجل لا من أعمال نفسها، فهي تابعة وتظهر كأنها متبوعة ؛ وذلك هو ظلم الطبيعة للمسكينة ؛ ومن كونها تظهر كأنها متبوعة، يظلمها الاجتماع ظلماً آخر فيأخذها وحدها بالجريمة، ويقال: سافلة، وساقطة ؛ وما جاءت إلا من سافل وساقط !لماذا أوجبت الشريعة الرجم بالحجارة على الفاسق المحصن ؟ أهي تريد القتل والتعذيب والمثلة ؟ كلا ؛ فإن القتل ممكن بغير هذا وبأشد من هذا، ولكنها الحكمة السامية العجيبة: إن هذا الفاسق هدم بيتاً فهو يرجم بحجارته !ما أجلك وأسماك يا شريعة الطبيعة ! كل الأحجار يجب أن تنتقم لحجر دار الأسرة إذا انهدم.تستسقطون المسكينة، ولو ذكرتم آلامها لوجدتم في ألسنتكم كلمات الإصلاح والرحمة لا كلمات الذم والعار ؛ إنها تسعى برذيلتها إلى الرزق ؛ فهل معنى هذا إلا أنها تسعى إلى الرزق بأقوى قوتها ؟ نعم إن ذلك معنى الفجور، ولكن أليس هو نفسه معنى القوت أيها الناس ؟- الرئيس وهو يمسح عينيه: الموضوع الموضوع !- المحامية: ما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين ؟ ما هو الواقع من جريمة يضرب صاحبها المثل بنفسه للشباب في تسامي غريزته عن معناها إلى أطهر وأجمل من معناها ؟ لبئس القانون إن كان القانون يعاقب على أمر قد صار إلى عمل ديني من أعمال الفضيلة !- النائب: ألا يخجل من شعوره بأنه يحب راقصة ؟- المحامية: ومم يخجل ؟ أمن جمال شعوره أم من فن شعوره ؟ أيخجل من عظمة في سمو في كمال ؟ أيخجل البطل من أعمال الحرب وهي نفسها أعمال النصر والمجد ؟أتأذنون يا حضرات المستشارين أن أصف لكم جمال صاحبته وأن أظهر شيئاً من سر فنها الذي هو سر البيان في فنه ؟- النائب: إنها تتماجن علينا يا حضرات المستشارين، فالذي يحاكم على السكر لا يدخل المحكمة ومعه الزجاجة. .- الرئيس: لا حاجة إلى هذا النوع من ترجمة الكلام إلى أعمال يا حضرة الأستاذة.- المحامية: كثيراً ما تكون الألفاظ مترجمة خطأ بنيات المتكلمين بها أو المصغين إليها ؛ فكلمة الحب مثلاً قد تنتهي إلى فكر من الأفكار حاملة معنى الفجور، وهي بعينها تبلغ إلى فكر حاملة إلى سموه من سموها ؛ وعلى نحو من هذا يختلف معنى كلمة الحجاب عند الشرقيين والأوربيين ؛ فالأصل في مدنية هؤلاء إباحة المعاني الخفيفة من العفة. .وإكرام المرأة إكرام مغازلة. .يقولون: إن رقم الواحد غير رقم العشرة، فيضعونه في حياة المرأة، فما أسرع ما يجيء 'الصفر' فإذا هو العشرة بعينها !أما الشرقيون فالأصل في مدنيتهم التزام العفة وإقرار المرأة في حقيقتها، لا جرم كان الحجاب هنا وهناك بالمعنيين المتناقضين: الاستبداد والعدل، والقسوة والرحمة، و. . .- النائب: وامرأة البيت وامرأة الشارع. . .- المحامية: وبصر القانون وعمي القانون. . .- الرئيس: وحسن الأدب وسوء الأدب. . .الموضوع الموضوع.- المحامية: لا والذي شرفكم بشرف الحكم، يا حضرات المستشارين ؛ ما يرى القلب المسكين في حبيبته إلا تعبير الجمال، فهو يفهمها فهم التعبير ككل موضوعات الفن، وما بينه وبينها إلا أن حقيقة الجمال تعرفت إليها فيها، أئن أحس الشاعر سراً من أسرار الطبيعة في منظر من مناظرها، قلتم أجرم وأثم ؟هذا قلب ذو أفكار، وسبيله أن يعان على ما يتحقق به من هذا الفن، قد تقولون: إن في الطبيعة جمالاً غير جمال المرأة فليأخذ من الطبيعة وليعط منها ؛ ولكن ما الذي يحيي الطبيعة إلا أخذها من القلب ؟ وما هي طريقة أخذها من القلب إلا بالحب ؟ وقد تقولون: إنه يتألم ويتعذب ؛ ولكن سلوه: أهو يتألم بإدراكه الألم في الحب، أو بإدراكه قسوة الحقيقة وأسرار التعقيد في الخير والشر ؟إن شعراء القلوب لا يكونون دائماً إلا في أحد الطرفين: هم أكبر من الهم، فرح أكثر من الفرح ؛ فإذا عشقوا تجاوزوا موضوع الوسط الذي لا يكون الحب المعتدل إلا فيه ؛ ومن هذا فليس لهم آلام معتدلة ولا أفراح معتدلة.هذا قلب مختار من القدرة الموحية إليه، فالتي يحبها لا تكون إلا مختارة من هذه القدرة اختيار ملك الوحي، وهما بهذا قوتان في يد الجمال لإيداع أثر عظيم ملء قدرتين كلتاهما عظيمة. .فإن قلتم إن حب هذا القلب جريمة على نفسه، قالت الحقيقة الفنية: بل امتناع هذه الجريمة جريمة.إن خمسين وخمسين تأتي منهما مائة، فهذا بديهي، ولكن ليس أبين ولا أظهر ولا أوضح من قولنا: إن هذا العاشق وهذه المعشوقة يأتي منهما فن.قال صاحب القلب المسكين: وانصرف القضاة إلى غرفتهم ؛ ليتداولوا الرأي فيما يحكمون به، وأومأت لي المحامية الجميلة تدعوني إليها، فنهضت أقوم فإذا أنا جالس وقد انتبهت من النوم.جائزة: لمن يحسن كتابة الحكم في هذه القضية خمس نسخ من كتاب 'وحي القلم'، وترسل المقالات 'باسمنا إلى طنطا'، والموعد 'إلى آخر شهر يناير هذا' والشرط رضى المحكمين، ومنهم صاحب القلب المسكين وصاحبته. .^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي