وحي القلم/فاتح الجو المصري

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

فاتح الجو المصري

فاتح الجو المصري - وحي القلم

فاتح الجو المصري يا طير المثل الأعلى !لقد انفلت من رذيلة الخوف وتركتها في التراب موطئ القدم، وقلت لها: ويحك، لقد آن للشباب المصري ؛ فهو مغامس في ماء الصواعق، متطوح في اللجة الأزلية التي تغوص فيها الكواكب، يطير بروح الشرارة، ويهبط بروح الغيث، ويلجم الجو ويسرجه، ويتعلم كيف يشوي عدوه في عين الشمس.وكنت بطلا مغامراً فخطوت في طريق الملائكة بهذه الفضيلة وحملك الجو ؛ ولو أنك خفت وكنت على جناحي جبريل لا على طيارة، لخاف جبريل على جناحيه من حطمة هذا المعنى الترابي الطاغية الذي يحكم على الأحياء بالموت بلا موت، لأنه الذل والخضوع والرذيلة.وحملك الجو إلى قبة السماء، وهنالك نظر العالم فرأى لمصر الناهضة علمها الإنساني يتنفس تحت الكواكب.وحملك الجو إلينا، فلما رفعنا رؤوسنا لنراك، رفعناها في الوقت بين شعوب الأرض.وضربت يا جناح مصر في الهواء، وأعنان السماء مملوءة بالزعزع والهوجاء والعاصف، والسماء في فصلها المكفهر الذي تخلع فيه كل ساعة وتلبس وتمزق وتطوي، فزدت بجرأتك في براهين القضية المصرية برهان قوة المخاطرة، وأضفت إلى منطقها وضعا جديداً مفحما من روح التضحية.وطرت بين حياة وموت فجعلتهما يستويان في اعتقادك ؛ إذ وصلت فكرة الموت بسر الإيمان، والحياة بسر العزيمة.وكنت رجل أمتك بإنكار ذات نفسك من أجلها.واتسعت للتاريخ بوضعك عمرك المحدود على الطيارة، وقذفك بها وبه في مسبح الأجل.وتجردت للأدبية لتعطي بلادك: إما شهيد مجد في الآخرة، وإما شهادة فخر في الدنيا.وكنت على طيارتك الصغيرة المتطاردة تحت الريح، وحولك روح الهرم الأكبر القائم بإرادة مصر وكأنه مسمار مدقوق في كرة الأرض بين القطب والقطب.وأنت يا 'فائزة' يا هذه الصغيرة الخارجة من مال صاحبها وجهده وعزيمته كما تخرج القوة من ضعف، أعلمت إذ أنت ترتفعين وتهبطين بين السحب كما تتواثب الفراشة على النور في روضة مزهرة، وإذا أنت تفتقين وتحوكين في ملاءة السحاب كأنك بمحركك الدوار تنسجين في السماء بمغزل، وإذ أنت بين صفق الرياح الهوج، تحت السماء المدججة، في كبة الشتاء، كأنك مناظرة تجري بين العزيمة في الإنسان والعزيمة في الطبيعة، وإذ أنت بين ذئاب الأعاصير، ونمور السحاب وسباع الغيم ذوات اللبدة الكثيفة المتشعثة، كأنك بصوتك وأزيزك تطلقين على وحوش الجو مدفعاً رشاشاً يتركها صرعى.وإذ تراك الريح فتقول عنك: ريح صنعها الإنسان.ويراك النجم فيقول: نجم أفلت من النظام الأرضي.وتراك الملائكة فتقول: ويحك يابن آدم، كأنك بما خلقه العقل تطمع منا في سجدة أخرى كالتي سجدناها لآدم يوم خلقه الله.أعلمت إذ أنت كذلك يا 'فائزة'، أن التاريخ المصري سيحولك من طيارة إلى آية كآية بدء الخلق، لأن فيك بدء الطيران في مصر ؟سلاما يا فاتح الجو المصري، لقد أجالت الأيام قداحها فخرجت القرعة عليك، وأوحى إليك الواجب آية: بسم الله مصعدها ومجراها.وطرت فإذا أنت بها عابر فوق الحاضر لتجيئنا من جانب المستقبل.وهبطت علينا كأنك في بريد السماء كتاب مجد حي للوطنية الظافرة.بل كتاب قصة رائعة ألفتها العواصف من فنين: ثورة الجو وثورة نفسك المصرية.وحكتها في صوتين: زفيف الطيارة وصرخة ضميرك الوطني.وجعلتها فصلين: أنت والمجهول.ألا حسبك مجداً أن يحيا الشعب كله بضعة أيام في قصتك !فعلى مهد الجو، وفي حرير الشعاع، وتحت كلة السحاب ولد لمصر يوم تاريخي.وخرجت التهانئ التي طال احتباسها في القلوب المصرية لا يفرج عنها لأن سجانها ظلم السياسة.واتجهت أفراح شعب كامل إلى الفتى الجريء الذي رمت به همته فوق هاوية الموت فتخطاها.وتلقى شعور الأمة رسوله المقدام الذي لم يكن له ملجأ في خطاره إلا شعوره بهذه الأمة.وارتج الوادي كله كأنه غمد يتقلقل حين يسل منه السيف.ثم أهديت كلمة مصر لابنها الذي كتب في جوها الكلمة السماوية الأولى.وكانت ساعة تلاشى عندها الزمن فارتفعت منه أربعة آلاف سنة وهتف معنا الفراعنة: بوركت يا 'صدقي'.لله درك أيما ابن عزيمة ! كأنما كشفت أهاويل الوحي وهبطت في سحابة مجلجلة إن لم تحمل كتابا منزلا فكأنما حملت شخصا منزلا.ولعلك رسول الغيم العابس لهذا الجو المصري الذي يضحك دائما ضحكة الفيلسوف الساخر في حين أصبحت الحياة قوة لا فلسفة. . .ولعلك مبعوث البرق والرعد لهذا السكون النائم الذي يطوي كل يوم في طي النسيان ما حدث في اليوم الذي قبله. . .ولعلك نبي الجدية والمرارة لهذه الحلاوة النيلية المفرطة التي كاد منها الشعب أن يكون سكر أخلاق يذاب ويشرب. . .ولعلك تفسير مصحح لعقيدتنا المغلوطة في القضاء والقدر، أن القضاء أن تقدم بلا خوف، وأن القدر أن تثق بلا مبالاة.أما - والله - لقد غمرت الشعب بموجة هواء جديدة جئت بها في جناحيك، ونفخت روح طيارتك المجيدة في القلوب فجعلتها كلها ترفرف كأن لك في ضلوع كل مصري طيارة.^ أجنحة المدافع المصريةاستجنحي يا مدافع مصر وطيري، إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.لقد مدت لغة القوة في هذا العصر مدها حتى أصبح الطيران بعض معاني المشي، ولم يعد العالم يدري كيف تكون الصورة الأخيرة التي يستقر فيها معنى إنسانه.فلتتمجد مصر بإنسانها البرقي الذي تخرج النار بيده من أعراض السحاب، وتفرقع في أصابعه هزات الرعد، ويجعل في قبة السماء صلصلة وجلجلة، ويحمل الاسم المصري إلى معلق النجم، فيضع له هناك التعريف الناري الذي وضعته الدول العظمى لأسمائها.ولتتمجد مصر بإنسانها البرقي الذي يشعرها حقيقة العلو العالي، والعمق العميق، والسعة التي لا تحد ؛ ويزيد في معاني أحيائنا معنى جديدا لأحياء السحب، وفي معاني أمواتنا معنى جديداً لموتى الكواكب.إنسان برقي يتمم بشجاعته في السماء بطولة فلاحنا الإنسان الشمسي في الأرض، ويعلو بكبرياء مصر في ذروة العالم، فتظهر طياراتها العظيمة قدرة في الجو كما ظهرت آثارها العظيمة قدرة في الثرى.إنها مصر، مصر القادرة التي سحرت القدم بقوتها وفنها، فبقي فيها على حاله وجلالته، وانهزم الدهر عنه كأنه قوة على قوة الزمن نفسها.فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري.إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.ولما فتح السجل ذات صباح لتكتب مصر أسماء الفوج الأول من نسورها الحربيين، صاح مجدها الخالد من أعماق التاريخ:'أضرمي الشعلة الآدمية الأولى يا مصر، وافتحي القبر الجوي الأول، وألحدي فيه من عنصريك المسلمين والأقباط، وضعي الحياة في أساس الحياة، واستقبلي عصرك الجديد بأذان المسجد ودق الناقوس ليباركه الله، وليتلق الشعب أول طياريه بقلوب فيها روح المعركة، وأكباد عرفت مس النار ؛ ولا ينظرن إلى طياراته الأول إلا بعد أن ينظر النعشين فيرى مجد الموت في سبيل الوطن، فتسطع نظراته ببريق الكبرياء، ولمعة العزيمة، وشعاع الإيمان ؛ ويتألق فيها النور السماوي الذي يجعل الناس في بعض ساعاتهم وكواكب نور صلاة الشعب على موتاه الشهداء'.واستجاب القدر لصوت المجد، فالتج الظلام في وضح الصبح، وانطفأ سراج النهار في قبة الفلك، وأطبقت نواحي الجو إطباق ليلة تساقطت أركانها وأقبل الضباب يعترض اعتراض جبل عائم يتذبذب في بحر، واستأرض السحاب فتخلى عن طبيعته السماوية الرقيقة، وتذامرت العناصر على القتال يحض بعضها بعضا، وتغشت السماء بوجه الموت: كلح فاربد وانتفخ، وتكسرت فيه الغضون كل غضن كسفة ظلام، وعاد أوسع شيء أضيق شيء، فكان الفضاء كصدر المحتضر ؛ ليس معه إلا عمر ساعة وأنفاسها.وابتدرت إلى مجد الموت الطيارة المصرية الأولى ؛ وكان فيها إنكليزيان يقودانها فأباها الموت، فذهبت فانتحرت أسفا وتردت متحطمة، وانسل الرجلان من مخالب الردى، وكانا في الطيارة كورقتين من النبت في فم جرادة همت تقضمهما. . .وتستبق الثانية فإذا فيها وديعة الكرم من عنصري مصر: 'حجاج ودوس' وكان سرا من أسرار مصر اجتماعهما في مداحض الغمام ومزالقه، ليكونا هدية مصر الأولى إلى مجدها الحربي، ثم ليكونا هدية المجد إلى إحساس هذا الشعب يحس منهما العالم المنطوي له في مستقبل النصر.واعتسفت طيارة الشهيدين طريق الفناء ومتاهة الحياة، فذهبت عنها معارف الأرض، وعميت عليها معالم السماء، وخرجت من تصريف أيدي البطلين إلى تصريف أجلهما، وأصبحت كأنها تطير في الأنفاس الباقية لهما ؛ فما تتقدم ولا تتأخر ؛ ولم تكن طيارة تحملهما، بل جناحا ممدوداً من رحمة الله.ثم اجترها الموت إلى غور، فانحطت من الهواء جانحة كالطائر يطلب ملجأ في العاصفة، ثم انتهضت واثبة، وتمطرت منقلبة، فاشتعلت فاستعرت فأنضجت راكبيها، رحمهما الله !وكثيراً ما يكون منظر الحزن في الحياة هو انهماك الحياة في عمل جديد تبدع منه السرور والقوة.احتراق البطلان لتتسلم مصر في نعشيهما رماداً لن يبني تاريخ العزة الوطنية إلا به.فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري.إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.صنعت النار الآدمية الحقيقة، ووضعت لنا الاسم البديع الذي نطلقه على طيارينا الأبطال، فلا تسموهم نسور الجو، ولكن سموهم 'جمرات الجو'.صنعت نارنا الحقيقة، وأوحت إلينا أن نستبدل من أنفسنا حالة بحالة، وأن نفاجئ شعورنا الحالم فنصدمه بالآلام اليقظة المرة، وأن نغير قاعدة الحياة في التربية المصرية فلا تكون: العيش العيش، ولكن القوة القوة.صنعت النار الحقيقة، وأثبتت لنا أن الحياة إن هي إلا أداة للحي، وليس الحي أداة للحياة، فليتصرف بها على قوانين الروح وآمالها فيسمو تسمو، ولا يدعها تتصرف على مذاهب أقدار المادة وتصاريفها فيذلها وتذله.وفي قانون الروح: لا قمية لعالم الأشياء إلا كما تصلح لنا ؛ وفي قانون المادة وضغطة الحياة: كما تصلح لنا وكما نصلح لها. . .بلى، قد صنعت النار الآدمية الحقيقة، وأعطتنا قصة الحرية كاملة في معنى واحدة: وهو أن هذه الحرية لعاشقيها كأجمل الجميلات للمتنافسين عليها: جمالها متوحش، وخلاعتها مفترسة، وظرفها سفاك للدم.فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري.إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.وإلى السماء يا 'جمرات الجو'، فإذا استويتم على السحاب، فليست الطيارة ثم طيارة، بل حقيقة حية عاملة للمجد، فلتحمل معناها المصري من بطلها المصري.وإذا سبحتم في مهبط القدر، فليس الطيار ثم طياراً، بل حياة عبقرية أرسلتها مصر تستنزل للحياة أقداراً سعيدة.وإذا خضتم في المعرك الضنك تتبعثر فيه الآجال على الرياح، فليس الجسم المصري هناك من لحم ودم، بل ناموسا طبيعيا ماضيا إلى غاية.وإذا تقاذفتم في بحر الشمس، فأنتم هناك على شباك طرحتموها لصيد أيام مضيئة تلتمع في تاريخ مصر.وإذا نفذتم من أقطار السماوات، فانظروها بأعينكم معالي مصر، وافهموها بقلوبكم ذاتية الوطن المصري تعلو وتعلو ولا تزال أبداً تعلو.إنما الطيارة وسلاحها وطيارها تأليف من الإنسانية والعناصر، معناه في العزيمة 'لا بد'.ومتى هدرت الطيارة هديرها فإنما تقول للبطل منكم: هلم من عال إلى أعلى، إلى أكثر علوا، إلى أقصى حدود الواجب على النفس حين يأخذ الواجب الكل وحين تعطي النفس الكل.فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري.إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي