وحي القلم/فيلسوف وفلاسفة

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

فيلسوف وفلاسفة

فيلسوف وفلاسفة - وحي القلم

فيلسوف وفلاسفة أتأمل الآن هذا القلم في يدي - وأنا أفكر فيما سأكتبه للزهراء - فأرى نصاب القلم أضلاعاً حمراً في لون المرجان، تنسرح قليلاً، ثم تستدير، ثم تستدق، ثم تخرج منها قادمة سوداء كأنها قصبة ريشة من جناح، وقد خيل إلي أن هذا اللون الأحمر المزهو يقول للأسود: إنما أنت غلطة الذي صنعني، فكيف ألهم في الإلهام فوسمني بهذا الميسم من حسن ولون وتركيب، ثم اعترضته الغفلة فيك فأخطأ، وأدركه العجز فلم يميز، ودخل على رأيه الوهن فإذا هو يصلك بي كالسيئة بعد الحسنة، وينزلك مني منزلة القبح من الجمال ! فأين كانت صحة رأيه التي بلغ بها في أحسن ما وفق إليه حين بلغ فيك أسوأ ما يمكن أن يصنع ؟ فيقول الأسود ؛ إنما فيك أنت غلطة الصانع وبك أخطأ جهة الفن، فلم يزن منك ما كان وزن مني، ولا قدر لك مثل ما قد لي، وجئت غليظاً غير مقدود، وكنت إلى العرض ولم تكن إلى الطول، وكنت أحمر ولم تكن أسود ؛ وما أراك إلا فاسد الحس، متغير الذوق، وما أراك صنعك هذا الرجل إلا في ساعة هم قاربت بين نفسه ورأيه، فما زجت بين رأيه وعمله، فجمعت بين عمله وغلطه.ذلك منطق اللونين فيما أدركت منهما، وكلاهما مخطئ في جهة ما هو مستدل به أو متنظر فيه ؛ والحقيقة من ورائهما، إذ الحكمة ليست في أحدهما لحمزة أو سواد، بل هي في اثنيهما جميعاً لائتلافهما جميعاً، فلا تنقسم عليهما قسمة ما ؛ لأنها آتية بالمقابلة بين اثنيهما، وما لا يخرج أبداً إلا من اثنين فهو أبداً واحد لا نصف له ؛ كالطفل من أبويه: لن تعرف شطره من أمه لأنك لن تعرف شطره من أبيه.أفي الأرض كلها من يستطيع أن يقسم طفلاً واحداً فيجعله طفلين تعتدل بهما الحياة وتمدهما بروحين من روح واحدة ؟ إنك لن تجد هذا الخالق الأرضي. . .إلا في طائفتين: الأولى قوم من ذاهبي العقول يخلقون كل شيء لأنهم لا يخلقون شيئاً ؛ والثانية قومن من جبابرة العقول. . .تعرف لهم من الخلط وسخف الرأي ما يريدون أن يعلوا به على الناس ؛ إذ كان الناس لا يجاوزون الحقائق، فظن هؤلاء أنهم إن جاوزوها وعدوا عليها خرجوا إلى طبقة فوق العقل الإنساني.وللجنون طرفان: أحدهما ألا يعقل المجنون عن الناس، والآخر ألا يعقل الناس عن العاقل: فذلك ذلك وهذا هذا ؛ وكأن في رأس كل منهما مضمرة من قوة الخلق تنطوي على محجوبة إلهية، فكل منهما يزيد في الخلق ما يشاء، وكل منهما فوق الطبيعة لأنه من ذوي الأسرار المجهولة التي لا تستبين عندنا من خفائها، ثم لا تخفى عندهم من استبانتها.يضحكني من جبابرة العقول هؤلاء أنهم يرون الدين مرة عادة، وتارة اختراعاً، وحيناً خرفة، وطوراً استبعاداً ؛ وكل ذلك لهم رأي، وكل ذلك كانوا يعقدونه بالحجة ويشدونه بالدليل ؛ فلما جاء طاغور الشاعر الهندي المتوصف إلى مصر، وجلسوا إليه وسمعوه، خرجوا يتكلمون كأنما كانوا في معبد، وكأنما تنزلت عليهم حقيقته الإلهية، وكأنما اتضعت هذه الدنيا عن المكان الذي جلس فيه الرجل، فلا يعرفونه من الأرض، ولا من هذا العالم ؛ بل كانوا في غشية قد فروا لها وسكنوا إليها، وما أراهم صرفوا عن عقولهم ولا صرفت عقولهم عنهم ؛ ولكن طاغور شاعر فيلسوف، وهم يعرفون أنفسهم من لصوص كتبه وآرائه، ويقعون منه موقع السفسطة الفارغة من البرهان القائم، وإذا قيسوا إليه كانوا كالذباب تزعم أنفسها نسور المزابل، ولكنها لا تكابر في أن من الهزؤ بها قياسها بنسور الجو.لقد ضربهم طاغور، لا بأنه لمسهم، بل بأنهم لمسوه. . .وفضحهم فضيحة اللؤلؤة للزجاج المدعى أنه لؤلؤ، وأظهر لنا تجملهم العقلي كهذه الأصباغ في وجه الشوهاء: تذهب تتصنع ولا تدري أنه إن كان أدهانها وأصباغها روح النقاش ففي وجهها هي معنى الحائط !لقد قرأت كل ما كتبوا عن طاغور ألتمس فيه هذه الحقيقة لأرى كيف يكون جبابرة العقول حين تنكشف عنهم المعاذير وتنزاح العلل وتنهتك الأستار، فإذا هم في كل ما كتبوه لا يحسون إلا هذه الحقيقة، ولا يصفون إلا هذا الحس، فلم يزهم عندنا إلا هذا الوصف ؛ لا جرم فكل ما أثنوا به على الشاعر الفيلسوف قرأناه ذماً لهم، وعرفناه قدحاً فيهم، وأخذناه تهمة عليهم، وكل ما أعظموه من أمره صغر من أمرهم، ولقد جعلواه إنساناً كأنما تنتهي قمة هذه الدنيا عند قدمه، وتبدأ قدمه من قمة الدنيا، فما عرفنا من ذلك قياساً لسمو طاغور وارتفاع نفسه، بل قياساً لانحطاط أنفسهم وهوان أمرهم وقلة خطرهم ؛ فإن الرجل المقلد المخدوع لا يزال يطول في تقليده، ولا يزال يتوعر في الرأي الذي يراه ويعتسف طرق العلم اعتسافاً ؛ حتى يرميه الله بأصل من هذه الأصول الإنسانية التي يقلدها ؛ فإذا هو مفحم يتقاصر من طول، ويتسهل من وعر، ويهتدي من تعسف، وينحط إلى الوهدة بعد أن كان على الجبل، ويسلم في نفسه، ويذعن برأيه، وينقاد من حيث يأبى ومن حيث لا يأبى، ويصبح وقد غمرته تلك النفس أشبه بالظل مما يرميه ويفيء به ؛ فهو مسخ في تمثيله الصورة، وهو كذب عليها بما يطول ويقصر، وهو على كل أحواله إبهام سخيف مظلم لحقيقة شريفة نيرة.وأنت أفلا ترى هذا من جبابرة العقول كتلك الشيمة في أخلاق العامة، إذ لا يصلحون أبداً إلا أن يكونوا تبعاً، ولا علم لهم إلا ما يربط في صدورهم من فلان وفلان، ثم يعملون بلا تحقيق، ويحملون بلا تمييز، ثم لا تكون نهمة أنفسهم مع الرجل العالم - إذا اجتمعوا به - إلا في التسليم له، واتقاء حقائقه، والنزول عن آرائهم إلى رأيه، والخروج من أنفسهم إلى نفسه !لقد قلنا من قبل: إن جبابرة العقول هؤلاء الذين يأبون إلا أن يكونوا علماءنا وسادتنا ؛ ليصرفوا عقولنا ويغيروا عقائدنا ويصلحوا آدابنا ويدخلونا في مساخط الله ويهجموا بنا على محارمه ويركبونا معاصيه - إن هم في أنفسهم إلا عامة وجهلة وحمقى إذا وزنوا بعلماء الأمم وقيسوا إلى حكماء الدنيا، وما يكتبون للأمة في نصيحتها وتعليمها إلا ما يتحول من كلمات وجمل في الصحف والكتب إلى أن يصيروا في الواقع فساقاً وفجرة وملحدين وساخرين ومفسدين ؛ فالمصيبة فيهم من ناحية العلم الناقص في وزن المصيبة بهم من ناحية الخلق الفاسد، وهاتان معاً في وزن المصيبة الكبرى التي يجنون بها على الأمة لتهديمها فيما يعلمون، وتجديدها فيما يزعمون. .لم أنخدع قط في هؤلاء من فلاسفة أو دكاترة أو جبابرة، ولست أضع أمرهم إلا على حقه، فإني لأعرف أن الهر من قبيلة الأسد، ولكن أسديته على الفأرية وحدها. . .ولعلما عاقبة الجهل خير للأمة من عواقب علمهم وتخبطهم وحماقاتهم فإنهم قوم مقلدون، ولهم طباع معتلة زائغة، وعقول لا مساك لها من دين أو ضمير ؛ فما يجنحون إلا إلى بدعة سيئة، أو آفة محذورة، أو فكرة متهمة ؛ ولا يعملون إلا ما يشبه الظن بهم، والرأي فيهم ؛ من تمدين الأخلاق السافلة وإلحاقها بالعلم أو الفلسفة، مع بقاء العقل صحيحاً يحكم على هذا الخبيث كما كان يحكم على ذلك الطيب ؛ وليس من سبيل إلى هذا إلا من جهة تحويل الأخلاق، فإن هي استمسكت ولم تتحول فيها هنا موضع النزاع ومحل الخلاف، ولا بد من حرب منا كحرب الاستقلال، ثم حرب منهم كحرب الاستعمار. . .فالذي بيننا وبينهم ليس القديم والجديد، ولا التأخر والتقدم، ولا الجمود والتحول ؛ ولكن أخلاقنا وتجردهم منها، وديننا وإلحادهم فيه، وكمالنا ونقصهم، وتوثقنا وانحلالهم، واعتصامنا بما يمكننا وتراخيهم تراخي الحبل لا يجد ما يشده.والآن انظر إلى قلمي فأرى شطره الأسود ما جعل كذلك إلا ليزيد في جمال حمرته وبريقها، ويكسبها لمعة لا تأتيها إلا من السواد خاصة ؛ والشر خير إلا إذا بقي محصوراً في موضعه ولم يتجاوزه ؛ فإذا تنبهت الأمة لجبابرة العقول هؤلاء، قلنا لا بأس بالسواد المظلم إذا كانت حكمته حمراء. . .^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي