وحي القلم/في اللهب ولا تحترق

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

في اللهب ولا تحترق

في اللهب ولا تحترق - وحي القلم

في اللهب ولا تحترق أفي الممكن هذا ؟لَعُوب حسنة الدَّلّ، مُفَاكهة مُدَاعبة، تحيي ليلها راقصة مغنية ؛ حتى إذا اعتدل الليل ليمضي، وانتبه الفجر ليقبل، انكفأت إلى دارها فنَضَتْ وَشْيها، وخرجت من زينتها، وخلعت روحاً ولبست روحاً، وقالت: اللهم إليك، ولبيك اللهم لبيك.ثم ذهبت فتوضأت وأفاضت النور عليها، وقامت بين يدي ربها تصلي !هي حسناء فاتنة، لو سطع نور القمر من شيء في الأرض لسطع من وجهها.وما تراها في يوم إلا ظهرت لك أحسن مما كانت، حتى لتظن أن الشمس تزيد وجهها في كل نهار شُعَاعة ساحرة، وأن كل فجر يترك لها في الصبح بريقاً ونضرة من قطرات الندى.وتحسب أن لها دماً يطعم فيما يطعم أنوار الكواكب، ويشرب فيما يشرب نسمات الليل.وإذا كانت في وشيها وتطاريفها وأصباغها وحلاها لم تجدها امرأة، ولكن جمرة في صورة امرأة ؛ فلها نور وبَصِيص ولهب، وفيها طبيعة الإحراق.إن الذي وضع على كل جمال ساحر في الطبيعة خاتم رهبة، وضع على جمالها خاتم قرص الشمس.فإن رأيتها بتلك الزينة في رقصها وتثنيها، قلت: هذه روضة مُفَتنَّة اشتهت أن تكون امرأة فكانت، وهذا الرقص هو فن النسيم على أعضائها.وهي متى نفذت إلى البقعة المجدبة من نفسك أنشأتْ في نفسك الربيع ساعة أو بعض ساعة.وتنسجم أنغام الموسيقى في رشاقتها نغمة إلى حركة ؛ لأن جسمها الفاتن الجميل هو نفسه أنغام صامتة تُسمَع وتُرَى في وقت معاً.وتنسكب روحها الظريفة بين الرقص والموسيقى، لتُخرج لك بظرفها صراحة الفن من إبهامين، كلاهما يعاون الآخر.وهي في رقصها إنما تفسر بحركات أعضائها أشواق الحياة وأفراحها وأحزانها، وتزيد في لغة الطبيعة لغة جسم المرأة.وكأن الليل والنهار في قلبها ؛ فهي تبعث للقلوب ما شاءت ضوءاً وظلمة.وهي إلى القِصَر، غير أنك إذا تأملت جمالها وتمامها، حسبتها طالت لساعتها.وإلى النحافة، غير أنك تنظر فإذا هي رابية كأن بعضها كان مختبئاً في بعض.ويخيل إليك أحياناً في فن من فنون رقصها أن جسمها يتثاءب برعشة من الطرب، فإذا جسمك يهتز بجواب هذه الرعشة، لا يملك إلا أن يتثاءب. . .ويُجَنّ رقصها أحياناً، ولكن لتحقق بجنون الحركة أن العقل الموسيقي يُصرِّف كل أعضاء جسمها.ومهما يكن طيش الفن في تأودها ولفتتها ونظرتها وابتسامها وضحكها، ففي وجهها دائماً علامة وقار عابسة تقول للناس: افهموني.ولما رأيتها شهد قلبي لها بأن على وجهها مع نور الجمال نور الوضوء ؛ وأنها متحرزة ممتنعة في حصن من قلبها المؤمن، يبسط الأمن والسلامة على ظاهرها ؛ وأن لها عيناً عذراء لا تحاول التعبير، لا سؤالاً ولا جواباً ولا اعتراضاً بينهما ؛ وأن قوة جمالها تستظهر بقوة نفسها، فيكون ما في جمالها شيئاً غير ما في النساء ؛ شيئاً عبقريّاً بالغ القوة، يكف الدواعي ويحسم الخواطر، ويرغم الإعجاب أن يكون ذُهولاً وحيرة، ويكره الحب أن يرجع مَهَابة واحتشاماً.والرواية كلها في باطنها تظهر على ضوء من مصباح قلبها، وما وجهها إلا الشاشة البيضاء لهذه 'السينما'، وهل يكون على الوجه إلا أخيلة القلب أو الفكر ؟وعندي أن المرأة إذا كان لها رأي ديني ترجع إليه، وكان أمرها مجتمعاً في هذا الرأي، وكانت أخلاقها محشودة له، مُتَحَفِّلة به، فتلك هي الياقوتة التي تُرمى في اللهب ولا تحترق، وتظل مع كل تجربة على أول مجاهدتها ؛ إذ يكون لها في طبيعة تركيبها الياقوتي ما تهزم به طبيعة التركيب الناري.وليس من امرأة إلا وقد خلق الله لها طبيعة ياقوتية، هي فطرتها الدينية التي فيها، إن بقيت لها هذه بقيت معها تلك ؛ ولكنها حين تنخلع من هذه الفطرة تخذلها الفطرة والطبيعة معاً ؛ فيجعل الله عقابها في عملها، ويَكِلها إلى نفسها ؛ فإذا هي مقبلة على أغلاطها ومساوئها بطرق عقلية إن كانت عالمة، وبطرق مفضوحة إن كانت جاهلة.وما بد أن تستسر بطباع إما فاسدة وإما فيها قوة الاستحالة إلى الفساد ؛ ويرجع ضميرها الخالي محاولاً أن يمتلئ من ظاهرها، بعد أن كان ظاهرها هو يمتلئ من ضميرها، وتصبح المرأة بعد ذلك في حكم أسباب حياتها، مصرفة بهذه الأسباب، خاضعة لما يصرفها ؛ ويُذهب الدين وينزل في مكانه الشيطان ؛ ويزول الاستقرار ويحل في محله الاضطراب، وتنطفئ الأشعة التي كانت تذيب الغيوم وتمنعها أن تتراكم، فإذا الغيوم ملتف بعضها على بعض ؛ وتُخذَل القوة السامية التي كانت تنصر المرأة على ضعفها فتنصرها بذلك على أقوى الرجال ؛ فإذا المرأة من الضعف إلى تَهَافُت، تغلبها الكلمة الرقيقة، وتغترّها الحيلة الواهنة، وتوافق انخداعها كل رغبة مزينة، ويستذلها طمعها قبل أن يستذلها الطامع فيها ؛ ولتكن بعد ذلك من هي كائنة أصلاً وحسباً وتهذيباً وعقلاً وأدباً وعلماً وفلسفة، فلو أنها امرأة من 'الأسمنت المسلح' لتفتَّتَتْ بالطبيعة التي في داخلها، ما دامت الطبيعة متوجهة إلى الهدم بعد أن فقدتْ ما كان يُمسكها أن تهدم وأن تنهدم.لقد رَقَّ الدين في نسائنا ورجالنا، فهل كانت علامة ذلك إلا أن كلمة: 'حرام، وحلال' قد تحولت عند أكثرهم وأكثرهن إلى 'لائق، وغير لائق' ثم نزلت عند كثير من الشبان والفتيات إلى 'معاقب عليه قانوناً، ومباح قانوناً' ثم انحطت آخراً عند السواد والدَّهْماء إلى 'ممكن، وغير ممكن' ؟قالت الياقوتة، أعني الراقصة:أخذني أبي من عهد الطفولة بالصلاة، وأثبت في نفسي أن الصلاة لا تصح بالأعضاء إن لم يكن الفكر نفسه طاهراً يصلي لله مع الجسم، فإن كانت الصلاة بالجسم وحده لم يزدد المرء من روح الصلاة إلا بُعْداً.وقر هذا في نفسي واعتدته، إذ كنت أتعبد على مذهب الإمام الشافعي 'رضي الله عنه'، فأصحح الفكر، وأستحضر النية في قلبي، وأنحصر بكلي في هذا الجزء الطاهر قبل أن أقول: 'الله أكبر' ؛ وبذلك أصبح فكري قادراً على أن يخلع الدنيا متى شاء ويلبسها، وأن يخرج منها ثم يعود إليها ؛ ونشأت فيه القوة المصممة التي تجعله قادراً على أن ينصرف بي عما يُفسد روح الصلاة في نفسي، وهي سر الدين وعماده.ويا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات، لتبقى الروح أبداً إما متصلة أو مهيأة لتتصل.ولن يعجز أضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه بضع ساعات، متى هو أقر اليقين في نفسه أنه متوجه بعدها إلى ربه، فخاف أن يقف بين يديه مخطئاً أو آثماً ؛ ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى، وأنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير، كأنه بجملته - مهما طال - عمل بضع ساعات.قالت الياقوتة: ورأيت أبي يصلي، وكذلك رأيت أمي، فلا تكاد تلم بي فكرة آثمة إلا انتصبا أمامي، فأكره أن أستلئم إليهما فأكون الفاسدة وهما الصالحان، واللئيمة وهما الكريمان ؛ فدمي نفسه - ببركة الدين - يحرسني كما ترى.قلت: فهذا الرقص ؟قالت: نعم، إنه قُضي علي أن أكون راقصة، وأن ألتمس العيش من أسهل طرق وألينها وأبعدها عن الفساد، وإن كان الفساد ظاهرها ؛ أريد: الرقص، أو الخدمة في بيت، أو العمل في السوق.وأنا مطيقة لحريتي في الأولى، ولكني لن أملكها في الأخيرتين ما دام علي هذا الميسم من الحسن ؛ وكم من امرأة متحجبة وهي عارية الروح، وكم من سافرة وروحها متحجبة ؛ إن كنت لا تعلم هذا فاعلمه ؛ وليس السؤال ما سألت، بل يجب أن يكون وضعه هكذا: هل ما ترى هو في ثيابي فقط، أو هو في ثيابي ونفسي ؟ها أنت ذا تغلغل نظرتك في عيني إلى المعاني البعيدة، فهل ترى عيني راقصة ؟قلت: لا والله، ما أرى عينَيْ راقصة، ولكن عيني مجاهد في سبيل الله. . .! فاستضحكت وقالت: بل قل: عيني مجاهد يهزم كل يوم شيطاناً أو شياطين.إني لأرقص وأغني، ولكن أتدري ما الذي يحرزني من العاقبة، ويحميني من وباء هذا الجمهور المريض النفس ؟ فاعلم أني لا أشعر بالجمهور ولا بروح المسرح، إلا كما أشعر بروح المقبرة والمشيعين إليها ؛ فهيهات بعد ذلك هيهات ! ومن هذا لا أحس بقلوبهم ولا بشهواتهم، وما أنا بينهم إلا كالتي تؤدي عملاً فنيّاً على مَلَأ من الأساتذة الممتحنين، والنَّظَّارة يحكمون لها أو عليها ؛ فهي في فكرة الامتحان، وهم لأنفسهم فيما شاءوا.ولست أنكر أن أكثرهم، بل جميعهم، يخطئ في طريقة تناوله السيَّال الكهربائي المنبعث من نفسي، ولكن لا علي، فهذا السيال نفسه ينبعث مثله من الزهر، ومن القمر والكواكب، ومن كل امرأة جميلة تمشي في الطريق، ومن كل جميل في الطبيعة، وحتى من الأمكنة والبقاع إذا كان لإنسان فيها ذكريات قديمة، أو نبهت ببعض معانيها بعض معانيه ؟قالت الياقوتة: فأنا كما ترى ؛ أضطرب وجوهاً من الاضطراب في جذب الناس ودفعهم معاً، وإذا سلمت المرأة من أن يغلبها الطمع على فكرها، سلمت من أن يغلبها الرجل عن فضيلتها.وفي النساء حواس مغناطيسية كاشفة منبهة خُلقت فيهن كالوقاية الطبيعية، لتسلم بها المرأة من أن تخطر عفتها لغرض، أو تغرر بنفسها لإنسان، فإنك لتكلم المرأة، وتزين لها ما تزين، وهي شاعرة بما في نفسك، وكأنها ترى ما في قلبك ينشأ ويتدرج تحت عينيها، وكأنه في وعاء من الزجاج الرقيق الصافي تحمله على كفك يشفّ ويفضح، لا في قلب من لحم ودم تخفيه بين جنبيك فيُطوى ويُكتم.وليس يبطل هداية هذه الحاسة في المرأة إلا طمعها المادي في المال والمتاع والزينة ؛ فإن هذا الطمع هو القوة التي يغلب بها الرجل المرأة، فبنفسها غَلَبَها ! وإذا تبذل طمع امرأة في رجل فهي مومس، وإن كانت عذراء في خدرها.ويا عجباً ! إن وجود الطبيعة في النفس غير الشعور بها ؛ فليس يُشعر المرأة بتمام طبيعتها النسائية إلا الزينة والمتاع وما به المتاع والزينة ؛ فكأن الحكمة قد وقتها وعرَّضتها في وقت معاً، لتكون هي الواقية أو المخطرة لنفسها، فبعملها تُجزى، ومن عملها ما تضحك وتبكي.قالت الياقوتة: ولذا أخذتُ نفسي ألا أطمع في شيء من أشياء الناس، وسخوتُ عن كل ما في أيديهم ؛ فما يتكرمون علي إلا بهلاكي، وحسبي أن يبقى لعينَيْ قلبي ضوءهما المبصر.وأنا أعتمد على شهامة الرجل، فإن لم أجدها علمتُ أني بإزاء حيواني إنساني، فأتحذره حذري من مصيبة مقبلة.وإذا جاءني وقح خلق الله وجهه الحسن مسبة له، أو خلقه هو مسبة لوجهه القبيح، ذكرت أني بعد ساعة أو ساعات أقوم إلى الصلاة، فلا يزداد مني إلا بعداً وإن كان بإزائي، فأُغلظ له وأتسخط، وأظهر الغضب وأصفعه صفعتي.قلت: وما صفعتك ؟قالت: إنها صفعة لا تضرب الوجه ولكن تُخجله.قلت: وما هي ؟قالت الياقوتة: هي هذه الكلمة ؛ أما تعرف يا سيدي أني أصلي وأقول 'الله أكبر' فهل أنت أكبر ؟ أأقيم لك البرهان على صَغارك وحقارتك، أأنادي الشرطي ؟ !تختنق بالرقص وتنتعش بالصلاة، وفي كل يوم تختنق وتنتعش.ولكني لا أزال أقول:أفي الممكن هذا ؟أفي المترادف شرعاً: رقصتْ وصلتْ ؟^قالت لي صاحبة 'الجمال البائس' فيما قالت: إن المرأة الجميلة تخاطب في الرجل الواحد ثلاثة: الرجل، وشيطانه، وحيوانه.فأما الشيطان فهو معنا وإن لم نكن معه، وأما الحيوان فله في أيدينا مقادة من الغباوة، ومقادة من الغريزة، إذا شمس في واحدة أصحب في الأخرى وانقاد ؛ ولكن المشكلة هي الرجل تكون فيه رجولة.نعم، إن المشكلة التي أعضلت على الفساد هي في الرجل القوي الرجولة يعرف حقيقة وجوده وشرف منزلته ؛ ولهذا أوجب الإسلام على المسلم أن يكون بين الوقت والوقت في اليوم خارجاً من صلاة.وإنما الرجولة في خلال ثلاث: عمل الرجل على أن يكون في موضعه من الواجبات كلها قبل أن يكون في هواه ؛ وقبوله ذلك الموضع بقبول العامل الواثق من أجره العظيم، والثالثة: قدرته على العمل والقبول إلى النهاية.ولن تقوم هذه الخلال إلا بثلاث أخرى: الإدراك الصحيح للغاية من هذه الحياة ؛ وجعل ما يحبه الإنسان وما يكرهه موافقاً لما أدرك من هذه الغاية ؛ والثالثة: القدرة على استخراج معاني الألم فيما أحب وكره على السواء.فالرجولة على ذلك هي إفراغ النفس في أسلوب قوي جزل من الحياة، متساوق في نمط الاجتماع، بليغ بمعاني الدين، مصقول بجمال الإنسانية، مسترسل ببلاغة وقوة وجمال إلى غايته السامية.ولهذه الحكمة أسقطت الأديان من فضائلها مبدأ إرضاء النفس في هواها، فلا معاملة به مع الله في إثم أو شر ؛ وأسقطه الناس من قواعد معاملتهم بعضهم مع بعض، فلا يقوم به إلا الغش والمكر والخديعة، وكل خارج على شريعة أو فضيلة أو منفعة اجتماعية، فإنما ينزع إلى ذلك إرضاء لنفسه وإيثاراً لها وموافقة لمحبتها وتوفية لحظها ؛ وعمله هذا الذي يلبسه الوصف الاجتماعي الساقط ويسميه باسمه في اللغة، كالرجل الذي يرضي نفسه أن يسرق ليغتني، فإذا أعطى نفسه رضاها فهو اللص ؛ وكالتاجر في إرضاء طمعه هو الغاشّ، وكالجندي في إرضاء جبنه هو الخائن، وكالشاب في إرضاء رذيلته هو الفاسق، وهلم جرّاً وهلم جرجرة.وأما بعد، فالقصة في هذه الفلسفة قصة رجل فاضل مهذب قد بلغ من العلم والشباب والمال، ثم امتحنته الحياة بمشكلة ذهب فيها نوم ليله وهدوء نهاره حتى كَسَفت باله وفرّقت رأيه، وكابد فيها الموت الذي ليس بالموت، وعاش بالحياة التي ليست بالحياة.قال: فقدتُ أمي وأنا غلام أحوج ما يكون القلب إلى الأم، فخشي علي أبي أن أستكين لذلة فقدها فيكون في نشأتي الذل والضراعة، وكبر عليه أن أحس فقدها إحساس الطفل تموت أمه فيحمل في ضياعها مثل حزنها لو ضاع هو منها ؛ فعلمني هذا الأب الشفيق أن الرجل إذا فقد أمه كان شأنه غير شأن الصبي ؛ لأن له قوة وكبرياء ؛ وألقى في رُوعي أني رجل مثله، وأن أمه قد ماتت عنه صغيراً فكان رجلاً مثلي الآن.وكان من بعدها إذا دعاني قال: أيها الرجل، وإذا أعطاني شيئاً قال: خذ يا رجل، وإذا سألني عن شأني قال: كيف الرجل ؟ وقل يوم يمر إلا أسمعنيها مراراً، حتى توهمت أن معي رجلاً في عقلي خلقته هذه الكلمة.وتمام الرجل بشيئين: اللحية في وجهه، والزوجة في داره، فتجيء الزوجة بعد أن تظهر اللحية لتكون كلتاهما قوة له، أو وقاراً، أو جمالاً، أو تكون كلتاهما خشونة، أو لتكونا معاً سوادين في الوجه والحياة.أما اللحية لي أنا أيها الرجل الصغير، فليس في يد أبي ولا في حيلته أن يجيء بها، ولكن الأخرى في يده وحيلته ؛ فجاءني ذات نهار وقال لي: أيها الرجل ! إن فلانة مسماة عليك منذ اليوم، فهي امرأتك فاذهب لترى فيك رجلها.وفلانة هذه طفلة من ذوات القربى، فأفرحني ذلك وأبهجني ؛ وقلت للرجل الذي في عقلي: أصبحت زوجاً أيها الرجل.وكان هذا الرجل الجاثم في عقلي هو غروري يومئذ وكبريائي، فكنت أقع في الخطأ بعد الخطأ وآتي الحماقة بعد الحماقة، وكنت طفلاً ولكن غروري ذو لحية طويلة.ونشأتُ على ذلك: صُلْب الرأي معتدّاً بنفسي، إذا هممت مضيت، وإذا مضيت لا ألْوِي، وما هو إلا أن يخطر لي الخاطر فأركب رأسي فيه، ولأن تُكسَر لي يد أو رجل أهون علي من أن يكسر لي رأي أو حكم ؛ وأكسبني ذلك خيالاً أكذب خيال وأبعده، يخلط علي الدنيا خلطاً فيدعني كالذي ينظر في الساعة وهي اثنا عشر رقماً لنصف اليوم الواحد، فيطالعها اثني عشر شهراً للسنة.وترامت حريتي بهذا الخيال فجاوزت حدودها المعقولة، وبهذه الحرية الحمقاء وذلك الخيال الفاسد، كذبت علي الفكرة والطبيعة.ولست جميل الطلعة إذا طالعت وجهي، ولكني مع ذلك معتقد أن الخطأ في المرآة، إذ هي لا تظهر الرجل الوضيء الجميل الذي في عقلي، ولست نابغة، ولكن الرجل الذي في عقلي رجل عبقري ؛ وهذا الذي في عقلي رجل متزوج ؛ فيجب علي أنا الطفل أن أكون رزيناً رزيناً كوالد عشرة أولاد في المدارس العليا.وذهبتُ بكل ذلك أرى فلانة زوجتي، فأغلقتِ الباب في وجهي واختبأتْ مني، فقلت في نفسي: أيها الرجل، إن هذا نشوز وعصيان، لا طاعة وحب.وساءني ذلك وغمني وكبر علي، فأضمرت لها الغدر، فثبتت بذلك في ذهني صورة 'الباب المغلق'، وكأنه طلاق بيننا لا باب.قال: ثم شب الرجل فكان بطبيعة ما في نفسه كالزوج الذي يترقب زوجته الغائبة غيبة طويلة: كل أيامه ظمأ على ظمأ، وكل يوم يمر به هو زيادة سنة في عمر شيطانه.وكان قد انتهى إلى مدرسته العالية، وأصبح رجل كتب وعلوم وفكر وخيال ؛ فعرضت له فتاة كاللواتي يعرضن للطلبة في المدارس العليا، ما منهن على صاحبها إلا كالخيبة في امتحان.بيد أن 'الرجل' لم يعرف من هذه الفتاة إلا أوائل المرأة، ولم يكد يستشرف لأواخرها حتى سُميت على غيره، فخُطبت، فزُفت ؛ زُفت بعد نصف زوج إلى زوج.وعرف الرجل من الفلسفة التي درسها أنه يجب أن يكون حرّاً بأكثر مما يستطيع، وبأكثر من هذا الأكثر، فقالها بملء فيه، وقال للحرية: أنا لكِ وأنتِ لي.قالها للحرية، فما أسرع ما ردّت عليه الحرية بفتاة أخرى.نقول نحن: وكان قد مضى على 'الباب المغلق' تسع سنوات، فصار منهن بين الشاب وبين زوجته العقلية تسعة أبواب مغلقة ؛ ولكنها مع ذلك مسماة له، يقول أهله وأهلها: 'فلان وفلانة'.وليس 'الباب المغلق' عندهم إلا الحياء والصيانة، وليست الفتاة من ورائه إلا العفاف المنتظر ؛ وليس الفتى إلا ابن الأب الذي سمى الفتاة له وحبسها على اسمه ؛ وليست القربى إلا شريعة واجبة الحق، نافذة الحكم.وعند أهل الشرف، أنه مهما يبلغ من حرية المرء في هذا العصر فالشرف مقيد.وعند أهل الدين، أن الزواج لا ينبغي أن يكون كزواج هذا العصر قائماً من أوله على معاني الفاحشة.وعند أهل الفضيلة، أن الزوجة إنما هي لبناء الأسرة، فإن بلغ وجهها الغاية من الحسن أو لم يبلغ، فهو على كل حال وجه ذو سلطة وحقوق 'رسمية' في الاحترام ؛ لا تقوم الأسرة إلا بذلك، ولا تقوم إلا على ذلك.وعند أهل الكمال والضمير، أن الزوجة الطاهرة المخلصة الحب لزوجها، إنما هي معامَلة بين زوجها وبين ربه ؛ فحيثما وضعها من نفسه في كرامة أو مهانة، وضع نفسه عند الله في مثل هذا الموضع.وعند أهل العقل والرأي، أن كل زوجة فاضلة، هي جميلة جمال الحق ؛ فإن لم توجب الحب، وجبت لها المودة والرحمة.وعند أهل المروءة والكرم، أن زوجة الرجل إنما هي إنسانيته ومروءته ؛ فإن احتملها أعلن أنه رجل كريم، وإن نبذها أعلن أنه رجل ليس فيه كرامة.أما عند الشيطان 'لعنه الله' فشروط الزوجة الكاملة ما تشترطه الغريزة: الحب، الحب، الحب !قال الشاب: وإذا أنا لم أتزوج امرأة تكون كما أشتهي جمالاً، وكما يشتهي فكري علماً، كنت أنا المتزوج وحدي وبقي فكري عزباً.وقد عرفت التي تصلح لي بجمالها وفكرها معاً، وتبوأت في قلبي وأقمت في قلبها ؛ ثم داخلتأهلها، فخلطوني بأنفسهم، وقالوا: شاب وعزب، ومتعلم وسَرِيّ، فلم يكن لدارهم 'باب مغلق'، حتى لو شئت أن أصل إلى كريمتهم في حرام وصلت، ولكني رجل يحمل أمانة الرجولة.أما الفتاة فلست أدري - والله - أفيها جاذبية نجم، أم جاذبية امرأة ؟ وهل هي أنثى في جمالها، أو هي الجمال السماوي أتى ينقح الفنون الأرضية لأهل الفن ؟إذا التقينا قالت لي بعينيها: هنا أنا ذي قد أرخيت لك الزمام، فهل تستطيع فراراً مني ؟ ونلتصق فتقول لي بجسمها: أليست الدنيا كلها هنا، فهل في المكان مكان إلا هنا ؟ ونفترق فتحصر لي الزمن كله في كلمة حين نقول: غداً نلتقي.كلامها كلام متأدب، ولكنه في الوقت نفسه طريقة من الخلاعة، تلفتك إلى فمها الحلو ؛ والحركة على جسمها حركة مستحية، ولكنها في الوقت عينه كالتعبير الفني المتجسم في التمثال العاري.إنها - والله - قد جعلت شيطاني هو عقلي ؛ أما هذا العقل الذي ينصح ويعظ ويقول: هذا خير وهذا شر، فهو الشيطان الذي يجب أن أتبرأ منه.قال: وألم الأب بقصة فتاه، ويحسبها نزوة من الشباب يخمدها الزواج، فيقول في نفسه: إن للرجل نظرتين إلى النساء: نظرة إليهن من حيث يختلفْنَ، فتكون كل امرأة غير الأخرى في الخيال والوهم والمزاج الشعري ؛ ونظرة إليهن من حيث يتساوين في حقيقة الأنوثة وطبيعة الاحترام الإنساني، فتكون كل امرأة كالأخرى ولا يتفاوتن إلا بالفضيلة والمنفعة، ويقرر لنفسه أن ابنه رجل متعلم ذو دين وبصر، فلا ينظر النظرة الخيالية التي لا تقنع بامرأة واحدة، بل لا تزال تلتمس محاسن الجنس ومفاتنه، وهي النظرة التي لا يقوم بها إلا بناء الشعر دون بناء الأسرة، ولا تصلح عليها المرأة تلد أولاداً لزوجها، بل المرأة تلد المعاني لشاعرها.ثم احتاط في رأيه، فقدر أن ابنه ربما كان عاشقاً مفتوناً مسحوراً، ذا بصيرة مدخولة وقلب هواء وعقل ملتات، فيتمرد على أبيه ويخرج عن طاعته، ويحارب أهله وربه من أجل امرأة، بيد أنه قال: إنه هو والده، وهو رباه وأنشأه في بيت فيه الدين والخلق والشهامة والنجدة، وإن محاربة الله بامرأة لا تكون إلا عملاً من أعمال البيئة الفاسدة المستهترة، حين تجمع كل معاني الفساد والإباحة والاستهتار في كلمة 'الحرية'.وقال: إن البيئة في العهد الذي كان من أخلاقه الشرف والدين والمروءة والغيرة على العرض، لم يكن فيها شيء من هذا ؛ ولم يكن الأبناء يومئذ يعترضون آباءهم فيمن اختاروهن ؛ إذ النسل هو امتداد تاريخ الأب والابن معاً، والأب أعرف بدنياه وأجدر أن يكون مبرأ من اختلاط النظرة، فيختار للدين والحسب والكمال، لا للشهوة والحب وفنون الخلاعة ؛ ولا محل للاعتراض بالعشق في باب من أبواب الأخلاق، بل محله في باب الشهوات وحدها.ثم جزم الأب أن الولد الذي يجيء من عاشقين، حري أن يرث في أعصابه جنون اثنين وأمراضهما النفسية وشهواتهما الملتهبة ؛ ولهذا وقف الشرع في سبيل الحب قبل الزواج لوقاية الأمة في أولها ؛ ولهذا يكثر الضعف العصبي في هذه المدنية الأوروبية وينتشر بها الفساد، فلا يأتي جيل إلا وهو أشد ميلاً إلى الفساد من الجيل الذي أعقبه.ولم يكد ينتهي الأب إلى حيث انتهى الرأي به، حتى أسرع إلى 'الباب المغلق' يهيئ للزفاف ويتعجل لابنه المطيع نكبة ستجيء في احتفال عظيم.قال الشاب: وجُن جنوني ؛ وقد كان أبي من احترامي بالموضع الذي لا يلقى منه، فلجأت إلى عمي أستدفع به النكبة، وأتأيد بمكانه عند أبي ؛ وبثثته حزني وأفضيت إليه بشأني، وقلت له فيما قلت: افعلوا كل شيء إلا شيئاً ينتهي بي إلى تلك الفتاة، أو ينتهي بها إلي ؛ وما أنكر أنها من ذوات القربى، وأن في احتمالي إياها واجباً ورجولة، وفي ستري لها ثواباً ومروءة، وخاصة في هذا الزمن الكاسد الذي بلغت فيه العذارى سن الجدات.ولكن القلب العاشق كافر بالواجب والرجولة، والثواب والمروءة، وبالأم والأب ؛ فهو يملك النعمة ويريد أن يملك التنعم بها ؛ وكل من اعترضه دونها كان عنده كاللص.قال: قبح الله حبّاً يجعل أباك في قلبك لصّاً أو كاللص.قلت: ولكني حر أختار من أشاء لنفسي.قال: إن كنت حرّاً كما تزعم، فهل تستطيع أن تختار غير التي أحببتها ؟ ألا تكون حرّاً إلا فينا نحن وفي هدم أسرتنا ؟قلت: ولكني متعلم، فلا أريد الزواج إلا بمن. . .فقطع علي وقال: ليتك لم تتعلم، فلو كنت نجاراً أو حداداً أو حُوذيّاً، لأدركت بطبيعة الحياة أن الذين يتخضعون للحب وللمرأة هذا الخضوع، هم الفارغون الذين يستطيع الشيطان أن يقضي في قلوبهم كل أوقات فراغه.أما العاملون في الدين، والمغامرون في الحياة، والعارفون بحقائق الأمور، والطامعون في الكمال الإنساني، فهؤلاء جميعاً في شغل عن تربية أوهامهم، وعن البكاء للمرأة والبكاء على المرأة ؛ ونظرتهم إلى هذه المرأة أعلى وأوسع ؛ وغرضهم منها أجل وأسمى ؛ وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: 'اتقوا الله في النساء' أي: انظروا إليهن من جانب تقوى الله ؛ فإن المرأة تقدم من رجلها على قلب فيه الحب والكراهة وما بينهما، ولا تدري أي ذلك هو حظها ؛ ولو أن كل من أحب امرأة نبذ زوجة، لخربت الدنيا ولفسد الرجال والنساء جميعاً.وهذه يا بني أوهام وقتها وعمل أسبابها، وسيمضي الوقت وتتغير الأسباب، وربما كان الناضج اليوم هو المتعفن غداً، وربما كان الفج هو الناضج بعد ؟وَهَبْكَ لا تحب ذات رحمك ثم أكرمتها وأحسنت إليها وسترتها، أفيكون عندك أجمل من شعورها أنك ذو الفضل عليها ؟ وهل أكرم الكرم عند النفس إلا أن يكون لها هذا الشعور في نفس أخرى ؟ إن هذا يا بني إن لم يكن حبا فيه الشهوة، فهو حب إنساني فيه المجد.ووقعت المشكلة وزُفت المسكينة ؛ فكيف يصنع الرجل بين المحبوبة والمكروهة ؟.^لما فرغت من مقالات 'المجنون' وأرسلت الأخيرة منها، قلت في نفسي: هذا الآخر هو الآخر من المجنون وجنونه، ومن الفكر في تخليطه ونوادره ؛ غير أنه عاد إلي أخلاطاً وأضغاثاً فكأني رأيته في النوم يقول لي: اكتب مقالاً في السياسة.قلت: ما لي وللسياسة وأنا 'موظف' في الحكومة، وقد أخذت الحكومة ميثاق الموظفين، لِمَا عرفوا من نقد أو غَمِيزة ليكتُمُنَّه ولا يبينونه ؟ ! فقال: هذه ليست مشكلة، وليس هذا يصلح عذراً، والمخرج سهل والتدبير يسير والحل ممكن.قلت: فما هو ؟قال: اكتب ما شئت في سياسة الحكومة، ثم اجعل توقيعك في آخر المقال هكذا: 'مصطفى صادق الرافعي ؛ غير موظف بالحكومة'.فهذه طريقة من طرق المجانين في حل المشاكل المعقدة، لا يكون الحل إلا عقدة جديدة يتم بها اليأس ويتعذر الإمكان، وهي بعينها طريقة ذلك الطائر الأبله الذي يرى الصائد فيُغمض عينه ويلوي عنقه ويخبأ رأسه في جناحه ؛ ظنّاً عند نفسه أنه إذا لم ير الصائد لم يره الصائد، وإذا توهم أنه اختفى تحقق أنه اختفى ؛ وما عمله ذاك إلا كقوله للصياد: إني غير موجود هنا. . .على قياس 'غير موظف'.وقد كنت استفتيت القراء في 'المشكلة'، وكيف يتقي صاحبها على نفسه، وكيف تصنع صاحبتها ؛ فتلقيتُ كتباً كثيرة أهدت إلي عقولاً مختلفة ؛ وكان من عجائب المقادير أن أول كتاب ألقي إلي منها كتاب مجنون 'نابغة' كنابغة القرن العشرين، بعث به من القاهرة، وسمى نفسه فيه 'المصلح المنتظر' وهذه عبارته بحرفها ورسمها كما كُتبتْ وكما تُقرأ ؛ فإن نشر هذا النص كما هو، يكون أيضاً نصّاً على ذلك العقل كيف هو ؟قال: 'إن هذا الكون تعبت فيه آراء المصلحين، وكتب الأنبياء زهاء قرون عديدة، ودائماً نرى الطبيعة تنتصر.ولقد نرى الحيوان يعلم كيف يعيش بجوار أليفه، والطير كيف يركن إلى عش حبيبته، إلا الإنسان.ولقد تفنن المشرِّعون في أسماء: العادات والتقاليد والحميَّة والشرف والعِرْض، وإن جميع هذه الأشياء تزول أمام سلطان المادة، فما بالكم بسلطان الروح ؟ورأيي لهذا الشاب ألا يطيع أباه ولو ذهب إلى ما يسموه الجحيم 'كذا' إذا كان بعد أن يعيش الحياة الواحدة التي يحياها ويتمتع بالحب الواحد المقدر له، ما دام قلبه اصطفاها وروحه تهواها ؛ ولو تركتْهُ بعد سنين قليلة لأي داعٍ من دواعي الانفصال 'كذا'.وهذا ليس مجرد رأي مجرب، وإنما هو رأي أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن ! وسينتصر على جميع من يقفون أمامه، والدليل أن هذا المقال سيشار إليه في مجلة 'الرسالة' وهذا الرأي سيعمل به، وصاحب هذا الرأي سيخلد في الدنيا، وسيضع الأسس والقوانين التي تصلح لبني الإنسان مع سمو الروح بعد أن أفسدت أخلاقه عبادة المال.إن الإنسان يحيا حياة واحدة فليجعلها بأحسن ما تكون، وليمتع روحه بما تمتع به جميع المخلوقات سواه.وإلى الملتقى في ميدان الجهاد'.'المصلح المنتظر' انتهى.وهذا الكتاب يحل 'المشكلة' على طريقة 'غير موظف' فليعتقد العاشق أنه غير متزوج فإذا هو غير متزوج، وإذا هو يتقلب فيما شاء ؛ وتسأل الكاتب ثم ماذا ؟ فيقول لك: ثم الجحيم.وإنما أوردنا الكتاب بطوله وعرضه ؛ لأننا قرأناه على وجهين، فقد نبهتنا عبارة 'أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن' إلى أن في الكلام إشارة من قوة خفية في الغيب، فقرأناه على وحي هذه الإشارة وهديها، فإذا ترجمة لغة الغيب فيه:'ويحك يا صاحب المشكلة، إذا أردت أن تكون مجنوناً أو كافراً بالله وبالآخرة فهذا هو الرأي.كن حيواناً تنتصر فيه الطبيعة والسلام ! '.تلك إحدى عجائب المقادير في أول كتاب ألقي إلي ؛ أما العجيبة الثانية فإن آخر كتاب تلقيته كان من صاحبة المشكلة نفسها ؛ وهو كتاب آية في الظرف وجمال التعبير وإشراق النفس في أسرارها، يمور مَوْر الضباب الرقيق من ورائه الأشعة، فهو يحجب جمالاً ليُظهر منه جمالاً آخر ؛ وكأنه يعرض بذلك رأياً للنظر ورأياً للتصور، ويأتي بكلام يُقرأ بالعين قراءة وبالفكر قراءة غيرها ؛ ولفظها سهل، قريب قريب، حتى كأن وجهها هو يحدثك لا لفظها ؛ ومادة معانيها من قلبها لا من فكرها، وهو قلب سليم مُقْفَل على خواطره وأحزانه، مسترسل إلى الإيمان بما كُتب عليه استرساله إلى الإيمان بما كُتب له، فما به غرور ولا كبرياء ولا حقد ولا غضب، ولا يَكْرُثه ما هو فيه.ومن نَكَد الدنيا أن مثل هذا القلب لا يُخلق بفضائله إلا ليُعاقَب على فضائله ؛ فغلظة الناس عقاب لرقته، وغدرهم نكاية لوفائه، وتهوُّرهم رد على أَنَاته، وحُمْقهم تكدير لسكونه، وكذبهم تكذيب للصدق فيه.وما أرى هذا القلب مأخوذاً بحب ذلك الشاب ولا مستهاماً به لذاته، وإنما هو يتعلق صوراً عقلية جميلة كان من عجائب الاتفاق أن عرضتْ له في هذا الشباب أول ما عرضت على مقدار ما ؛ وسيكون من عجائب الاتفاق أيضاً أن يزول هذا الحب زوال الواحد إذا وُجدت العشرة، وزوال العشرة إذا وجدت المائة، وزوال المائة إذا وجد الألف.وبعد هذا كله، فصاحبة المشكلة في كتابها كأنما تكتب في نقد الحكومة على طريقة جعل التوقيع: 'فلان غير موظف بالحكومة' وهي فيما كتبت كالنهر الذي يتحدَّر بين شاطئيه، مدعياً أنه هارب من الشاطئين مع أنه بينهما يجري: تحب صاحبها وتلقاه ؛ ثم هي عند نفسها غير جانية عليه ولا على زوجته.فليت شعري عنها، ما عسى أن تكون الجناية بعد زواج الرجل غير هذا الحب وهذا اللقاء ؟ !ونحن معها كأرسطاطاليس مع صديقه الظالم حين قال له: هبنا نقدر على محاباتك في ألا تقول: إنك ظالم ؛ هل تقدر أنت على ألا تعلم أنك ظالم ؟ورأيها في 'المشكلة' أن ليس من أحد يستطيع حلها إلا صاحبها، ثم هو لا يستطيع ذلك إلا بطريقة من طريقتين: فإما أن تكون ضحية أبيها وأبيه - تعني زوجته - ضحيته هو أيضاً، ويستهدف لما يناله من أهله وأهلها، فيكون البلاء عن يمينه وشماله، ويكابد من نفسه ومنهم ما إن أقله ليذهب براحته وينغّص عليه الحب والعيش، 'قالت': وإما أن يضحي بقلبه وعقله وبي.وهذا كلام كأنها تقول فيه: إن أحداً لا يستطيع حل المشكلة إلا صاحبها، غير مستطيع حلها إلا بجناية يذهب فيها نعيمه، أو بجنون يذهب فيه عقله.فإن حَلَّها بعد ذلك فهو أحد اثنين: إما أحمق أو مجنون ما منهما بد.ولسان الغيب ناطق في كلامها بأن أحسن حل للمشكلة هو أن تبقى بلا حلّ، فإن بعض الشر أهون من بعض.والعجيبة الثالثة أن 'نابغة القرن العشرين' جاء زائراً بعد أن قرأ مقالات 'المجنون'، فرأى بين يدي هذه الكتب التي تلقيتُها وأنا أعرضها وأنظر فيها لأتخير منها، فسأل فخبَّرتُه الخبر ؛ فقال: إن صاحب هذه المشكلة مجنون، لو امتحنوه في الجغرافيا وقالوا له: ما هي أشهر صناعة في باريس ؟ لأجابهم: أشهر ما تعرف به باريس أنها تصنع 'البودرة' لوجه حبيبتي.قلت: كيف يرتد هذا المجنون عاقلاً ؟ وما علاجه عندك ؟قال: وَجِّهْ في طلب 'ا.ش' ليجيء، فلما جاء قال له: اكتب: جلس 'نابغة القرن العشرين' مجلسه للإفتاء في حل المشكلة فأفتى مرتجلاً:'إن منطق الأشياء وعقلية الأشياء صريحان في أن مشكلة الحب التي يعسر حلها ويتعذر مجاز العقل فيها، ليست هي مشكلة هذا العاشق أكرهوه على الزواج بامرأة يحملها القلب أو لا يحملها، وإنما هي مشكلة إمبراطور الحبشة يريدون إرغامه أن يتزوج إيطاليا، ويذهبون يزفونها إليه بالدبابات والرشاشات والغازات السامة'.'ولو لم يكن رأس هذا العاشق المجنون فارغاً من العقل الذي يعمل عمل العقل، إذن لكانت مجاري عقله مطردة في رأسه، فانحلت مشكلته بأسباب تأتي من ذات نفسها أو ذات نفسه ؛ غير أن في رأسه عقل بطنه لا عقل الرأس، كذلك الشَّرِه البخيل الذي طبخ قِدْراً وقعد هو وامرأته يأكلان، فقال: ما أطيب هذه القدر لولا الزحام.قالت امرأته: أي زحام ههنا، إنما أنا وأنت ؟ ! قال: كنت أحب أن أكون أنا والقدر فقط'.'فعقل النَّهِم في رأس هذا كعقل الشهوة في رأس ذاك ؛ كلاهما فاسد التقدير لا يعمل أعمال العقول السليمة ؛ ويريد أحدهما أن تبطل الزوجة من أجل رطل من اللحم، ويريد الآخر مثل ذلك في رطل من الحب.وإذا فسد العقل هذا الفساد ابتلى صاحبه بالمشاكل الصبيانية المضحكة: لا تكون من شيء كبير، ولا يكون منها شيء كبير ؛ وهي عند صاحبها لو وُزنت كانت قناطير من التعقيد ؛ ولو كِيلت بلغت أرادبّ من الحيرة ؛ ولو قِيست امتدت إلى فراسخ من الغموض.هاتان المرأتان: 'الحبيبة والزوجة'، إما إن تكونا جميعاً امرأتين، فالمعنى واحد فلا مشكلة ؛ وإما ألا تكونا امرأتين، فالمعنى كذلك واحد فلا مشكلة ؛ وإما أن تكون إحداهما امرأة والأخرى قردة أو هِرْدة، وههنا المشكلة.'حاشية: الهردة من أوضاع نابغة القرن العشرين في اللغة، ومعناها: الأنثى ليست من إناث الأُناسيّ ولا البهائم'.فإن زعم العاشق أن زوجته قردة فهو كاذب، وإن زعم أنها الهردة فهو أكذب ؛ والمشكلة هنا مشكلة كل المجانين، ففي مخه موضع أفرط عليه الشعور فأفسده، وأوقع بفساده الخطأ في الرأي، وابتلاه من هذا الخطأ بالعمى عن الحقيقة، وجعل زوجته المسكينة هي معرض هذا العمى وهذا الخطأ وهذا الفساد ؛ ولا عيب فيها ؛ لأنها من زوجها كالحقيقة التي يتخبط فيها المجنون مدة جنونه، فتكون مَجْلَى هذيانه ومَعْرِض حماقاته، وهي الحقيقة غير أنه هو المجنون.فإن كانت هذه الحقيقة مسألة حسابية استمر المجنون مدة جنونه يقول للناس: خمسون وخمسون ثلاثة عشر، ولا يصدق أبداً أنها مائة كاملة ؛ وإن كانت مسألة علمية قضى المجنون أيامه يشعل التراب ليجعله باروداً ينفجر ويتفرقع ولا يدخل في عقله أبداً أن هذا تراب منطفئ بالطبيعة ؛ وإن كانت مسألة قلبية استمر المجنون يزعم أن زوجته قردة أو هردة، ولا يشعر أبداً أنها امرأة.فإن صح أن هذا الرجل مجنون فعلاجه أن يُربط في المارستان، ثم يجيء أهله كل يوم بزوجته فيسألونه: أهذه امرأة أم قردة أم هردة ؟ ثم لا يزالون ولا يزال حتى يراها امرأة، ويعرفها امرأته، فيقال له حينئذ: إن كنت رجلاً فتخلق بأخلاق الرجال.أما إن كان الرجل عاقلاً مميزاً صحيح التفكير ولكنه مريض مرض الحب، فلا يرى 'النابغة' أشفى لدائه ولا أنجع فيه من أن يستطب بهذه الأشفية واحداً بعد واحد حتى يذهب سقامه بواحد منها أو بها كلها:الدواء الأول: أن يجمع فكره قبل نومه فيحصره في زوجته، ثم لا يزال يقول: زوجتي، زوجتي، حتى ينام.فإن لم يذهب ما به في أيام قليلة فالدواء الثاني.الدواء الثاني: أن يتجرع شربة من زيت الخروع كل أسبوع، ويتوهم كل مرة أنه يتجرعها من يد حبيبته، فإن لم يشفه هذا فالدواء الثالث.الدواء الثالث: أن يذهب فيبيت ليلة في المقابر، ثم ينظر نظره في أي المرأتين يريد أن يلقى الله بها وبرضاها عنه وبثوابه فيها ؛ وأيتهما هي موضع ذلك عند الله تعالى، فإن لم يبصر رشده بعد هذا فالدواء الرابع.الدواء الرابع: أن يخرج في 'مظاهرة' فإذا فُقئت له عين أو كُسرت له يد أو رجل، ثم لم تحل حبيبته المشكلة بنفسها، فالدواء الخامس.الدواء الخامس: أن يصنع صنيع المبتلى بالحشيس والكوكايين، فيذهب فيسلم نفسه إلى السجن ليأخذوا على يده فينسى هذا الترف العقلي ؛ ثم ليعرف من أعمال السجن جد الحياة وهزلها، فإن لم ينزع عن جهله بعد ذلك فالدواء السادس.الدواء السادس: أنه كلما تحرك دمه وشاعت فيه حرارة الحب، لا يذهب إلى من يحبها، ولا يتوخى ناحيتها، بل يذهب من فوره إلى حَجَّام يحجمه ؛ ليطفئ عنه الدم بإخراج الدم ؛ وهذه هي الطريقة التي يصلح بها مجانين العشاق، ولو تبدلوا بها من الانتحار لعاشوا هم وانتحر الحب.قال 'نابغة القرن العشرين': 'فإن بطلت هذه الأشفية الستة، وبقي الرجل جَمُوحاً لا يُرد عن هواه فلم يبق إلا الدواء السابع.الدواء السابع: أن يُضرب صاحب المشكلة خمسين قناة يُصك بها واقعة منه حيث تقع من رأسه وصدره وظهره وأطرافه، حتى ينهشم عظمه، وينقصف صلبه، وينشدخ رأسه، ويتفرى جلده ؛ ثم تطلى جراحه وكسوره بالأطلية والمراهم، وتوضع له الأضمدة والعصائب ويترك حتى يبرأ على ذلك:أعرج متخَلِّعاً مبعثر الخَلْق مكسور الأعلى والأسفل، فإن في ذلك شفاءه التام من داء الحب إن شاء الله'.قلنا: فإن لم يشفه ذلك ولم يصرف عنه غائلة الحب ؟قال: فإن لم يشفه ذلك فالدواء الثامن.الدواء الثامن: أن يعاد علاجه بالدواء السابع.^أما البقية من هذه الآراء التي تلقيتها فكل أصحابها متوافقون على مثل الرأي الواحد، من وجوب إمساك الزوجة والإقبال عليها، وإرسال 'تلك' والانصراف عنها، وأن يكون للرجل في ذلك عزم لا يتقلقل ومضاء لا ينثني، وأن يصبر للنَّفْرة حتى يستأنس منها فإنها ستتحول، ويجعل الأناة بإزاء الضجر فإنها تُصلحه، والمروءة بإزاء الكره فإنها تحمله، وليترك الأيام تعمل عملها فإنه الآن يعترض هذا العمل ويعطله، وإن الأيام إذا عملت فستغير وتبدل ؛ ولا يُستقَل القليل تكون الأيام معه، ولا يُستكثَر الكثير تكون الأيام عليه.والعديد الأكبر ممن كتبوا إلي، يحفظون على صاحب المشكلة ذلك البيان الذي وضعناه على لسانه في المقال الأول، ويحاسبونه به، ويقيمون منه الحجة عليه، ويقولون له: أنت اعترفت وأنا أنكرت، وأنت رددت على نفسك، وأنت نصبت الميزان، فكيف لا تقبل الوزن به ؟ وقد غفلوا عن أن المقال من كلامنا نحن، وأن ذلك أسلوب من القول أدرناه ونحلناه ذلك الشاب ؛ ليكون فيه الاعتراض وجوابه، والخطأ والرد عليه ؛ ولنُظهر به الرجل كالأبله في حيرته ومشكلته ؛ تنفيراً لغيره عن مثل موقفه، ثم لنحرك به العلل الباطنة في نفسه هو، فنصرفه عن الهوى شيئاً فشيئاً إلى الرأي شيئاً فشيئاً، حتى إذا قرأ قصة نفسه قرأها بتعبير من قلبه وتعبير آخر من العقل، وتَلَمَّح ما خفي عليه فيما ظهر له، واهتدى من التقييد إلى سبيل الإطلاق، وعرف كيف يخلص بين الواجب والحب اللذين اختلطا عليه وامتزجا له امتزاج الماء والخمر.وبذلك الأسلوب جاءت المشكلة معقدة منحلَّة في لسان صاحبها، وبقي أن يُدفع صاحبها بكلام آخر إلى موضع الرأي.وكثير من الكتاب لم يزيدوا على أن نبهوا الرجل إلى حق زوجته، ثم يدعون الله أن يرزقه عقلاً، وقد أصاب هؤلاء أحسن التوفيق فيما أُلهموا من هذه الدعوة، فإنما جاءت المشكلة من أن الرجل قد فقد التمييز وجُنّ بجنونين: أحدهما في الداخل من عقله، والثاني في الخارج منه ؛ فأصبح لا يبالي الإثم والبغض عند زوجته إذا هو أصاب الحظوة والسرور عند الأخرى ؛ فتعدى طوره مع المرأتين جميعاً، وظلم الزوجة بأن استلب حقها فيه، وظلم الأخرى بأن زادها ذلك الحق فجعلها كالسارقة والمعتدية.وقد تمنى أحد القراء من فلسطين أن يرزقه الله مثل هذه الزوجة المكروهة كراهة حب، ويضعه موضع صاحب المشكلة ؛ ليثبت أنه رجل يحكم الكره ويصرفه على ما يشاء، ولا يرضى أن يحكمه الحب وإن كان هو الحب.وهذا رأي حَصِيف جيد، فإن العاشق الذي يتلعب الحب به ويصده عن زوجته، لا يكون رجلاً صحيح الرجولة، بل هو أسخف الأمثلة في الأزواج، بل هو مجرم أخلاقي يَنْصِب لزوجته من نفسه مثال العاهر الفاسق ؛ ليدفعها إلى الدعارة والفسق من حيث يدري أو لا يدري ؛ بل هو غبي ؛ إذ لا يعرف أن انفراد زوجته وتراجعها إلى نفسها الحزينة ينشئ في نفسها الحنين إلى رجل آخر ؛ بل هو مغفل، إذ لا يدرك أن شريعة السن بالسن والعين بالعين، هي بنفسها عند المرأة شريعة الرجل بالرجل.والمرأة التي تجد من زوجها الكراهية لا تعرفها أنها الكراهة إلا أولَ أولَ ؛ ثم تنظر فإذا الكراهة هي احتقارها وإهانتها في أخص خصائصها النسوية، ثم تنظر فإذا هي إثارة كبريائها وتحدِّيها، ثم تنظر فإذا هي دَفْع غريزتها أن تعمل على إثبات أنها جديرة بالحب، وأنها قادرة على النقمة والمجازاة ؛ ثم تنظر فإذا برهان كل ذلك لا يجيء من عقل ولا منطق ولا فضيلة، وإنما يأتي من رجل. . .رجل يحقق لها هي أن زوجها مغفل، وأنها جديرة بالحب.وكأن هذا المعنى هو الذي أشارت إليه الأديبة 'ف.ز' وإن كانت لم تبسطه، فقد قالت: 'إن صاحب هذه المشكلة غبي، ولا يكون إلا رجلاً مريض النفس مريض الخُلُق، وما رأيت مثله رجلاً أبعد من الرجل، ومثل هذا هو نفسه مشكلة، فكيف تحل مشكلته ؟ إنه من ناحية زوجته مغفل، لا وصف له عندها إلا هذا ؛ ومن جهة حبيبته خائن، والخيانة أول أوصافه عندها.وهذا الزوج يسمم الآن أخلاق زوجته ويفسد طباعها، وينشئ لها قصة في أولها غباوته وإثمه، وسيتركها تتم الرواية فلا يعلم إلا الله ما يكون آخرها.ويمثل هذا الرجل أصبح المتعلمات يعتقدن أن أكثر الشبان إن لم يكونوا جميعاً، هم كاذبون في ادعاء الحب، فليس منهم إلا الغواية ؛ أو هم محبون يكذب الأمل بهم على النساء، فليس منهم إلا الخيبة.قالت: 'وخير ما تفعله صاحبة المشكلة أن تصنع ما صنعته أخرى لها مثل قصتها، فهذه حين علمت بزواج صاحبها قذفتْ به من طريق آمالها إلى الطريق الذي جاء منه، وأنزلته من درجة أنه كل الناس إلى منزلة أنه ككل الناس، ونبهت حزمها وعزيمتها وكبرياءها، فرأته بعد ذلك أهون على نفسها من أن يكون سبباً لشقاء أو حسرة أو هم، وابتعدت بفضائلها عن طريق الحب الذي تعرف أنه لا يستقيم إلا لزوجة وزوجها، فإذا مشت فيه امرأة إلى غير زواج، انحرف بها من هنا، واعوج لها من هنا، فلم ينته بها في الغاية إلا أن تعود إلى نفسها وعليها غباره، وما غبار هذا الطريق إلا سواد وجه المرأة'.وقد جهد الرجل بصاحبته أن تتخذه صديقاً، فأبت أن تتقبل منه برهان خيبتها، وأظهرت له جَفْوة فيها احتقار، وأعلمته أن نكث العهد لا يخرج منه عهده، وأن الصداقة إذا بدأت من آخر الحب تغير اسمها وروحها ومعناها، فإما أن تكون حينئذ أسقط ما في الحب، أو أكذب ما في الصداقة.ثم قالت الأديبة: 'وهي كانت تحبه، بل كانت مستهامة به، غير أنها كانت أيضاً طاهرة القلب، لا تريد في الحبيب رجلاً هو رجل الحيلة عليها فتُخدَع به، ولا رجل العار فتُسب به ؛ وفي طهارة المرأة جزاء نفسها من قوة الثقة والاطمئنان وحسن التمكن ؛ وهذا القلب الطاهر إذا فقد الحب لم يفقد الطمأنينة، كالتاجر الحاذق إن خسر الربح لم يفلس ؛ لأن مهارته من بعض خصائصها القدرة على الاحتمال، والصبر للمجاهدة'.قالت: 'فعلى صاحبة المشكلة التي عرفت كيف تحب وتجل، أن تعرف الآن كيف تحتقر وتزدري'.وللأديبة 'ف.ع' رأي جَزْل مسدد ؛ قالت: 'إنها هي قد كانت يوماً بالموضع الذي فيه صاحبة المشكلة، فلما وقعت الواقعة أَنِفت أن تكون لصة قلوب، وقالت في نفسها: إذا لم يُقْدَر لي، فإن الله هو الذي أراد، وإني أستحي من الله أن أحاربه في هذه الزوجة المسكينة ! ولئن كنت قادرة على الفوز، إن انتصاري عليها عند حبيبي هو انتصارها علي عند ربي، فلأخسر هذا الحب لأرابح الله برأس مال غزير خسرته من أجله، لأُبْقِ على أخلاق الرجل ليبقى رجلاً لامرأته، فما يسرني أن أنال الدنيا كلها وأهدم بيتاً على قلب، ولا معنى لحب سيكون فيه اللؤم بل سيكون ألأم اللؤم.قالت: وعلمتُ أن الله 'تعالى' قد جعلني أنا السعادة والشقاء في هذا الوضع ليرى كيف أصنع، وأيقنت أن ليس بين هذين الضدين إلا حكمتي أو حمقي، وصح عندي أن حسن المداخلة في هذه المشكلة هو الحل الحقيقي للمشكلة.قالت: 'فتغيرت لصاحبي تغيراً صناعيّاً، وكانت نيتي له هي أكبر أعواني عليه، فما لبث هذا الانقلاب أن صار طبيعيّاً بعد قليل، وكنت أستمد من قلب امرأته إذا اختانني الضعف أو نالني الجزع، فأشعر أن لي قوة قلبين.وزدتُ على ذلك النصح لصاحبي نصحاً ميسراً قائماً على الإقناع وإثارة النخوة فيه وتبصيره بواجبات الرجل، وترفّقت في التوصل إلى ضميره لأثبت له أن عزة الوفاء لا تكون بالخيانة وبينت له أنه إذا طلق زوجته من أجلي فما يصنع أكثر من أن يقيم البرهان على أنه لا يصلح لي زوجاً ؛ ثم دللته برفق على أن خير ما يصنع وخير ما هو صانع لإرضائي أن يقلدني في الإيثار وكرم النفس، ويحتذيني في الخير والفضيلة، وأن يعتقد أن دموع المظلومين هي في أعينهم دموع، ولكنها في يد الله صواعق يضرب بها الظالم.قالت: 'وبهذا وبعد هذا انقلب حبه لي إكباراً وإعظاماً، وسما فوق أن يكون حبّاً كالحب ؛ وصار يجدني في ذات نفسه وفي ضميره كالتوبيخ له كلما أراد بامرأته سوءاً أو حاول أن يغض منها في نفسه.واعتاد أن يكرمها فأكرمها، وصلحت له نيته فاتصل بينهما السبب، وكبرت هذه النية الطيبة فصارت ودّاً، وكبر هذا الود فعاد حبّاً، وقامت حياتهما على الأساس الذي وضعته أنا بيدي، أنا بيدي.أما أنا'.وكتب فاضل من حلوان: 'إن له صديقاً ابتُلي بمثل هذه المشكلة فركب رأسه، فما رده شيء عن الزواج بحبيبته، وزُف إليها كأنه ملك يدخل إلى قصر خياله ؛ وكان أهله يعذلونه ويلومونه ويخلصون له النصح ويجتهدون في أمره جهدهم، إذ يرون بأعينهم ما لا يرى بعينه، فكان النصح ينتهي إليه فيظنه غِشّاً وتلبيساً، وكان اللوم يبلغه فيراه ظلماً وتحاملاً، وكان قلبه يترجم له كل كلمة في حبيبته بمعنى منها هي لا من الحقائق، إذ غلبت على عقله فبها يعقل، وذهبت بقلبه فبها يحس، واستبدت بإرادته فلها ينقاد ؛ وعادت خواطره وأفكاره تدور عليها كالحواشي على العبارة المغلقة في كتاب ؛ واستقرت له فيها قوة من الحب، وأمرها إذا أرادت شيئاً أن تقول له كن. . .'.ثم مضت الليلة بعد الليلة، وجاء اليوم بعد اليوم، والموج يأخذ من الساحل الذَّرَّة بعد الذرة والساحل لا يشعر، إلى أن تصرمت أشهر قليلة، فلم تلبث الطبيعة التي ألفت الرواية وجعلتها قبل الزواج رواية الملك والملكة، وقصة التاج والعرش، وحديث الدنيا وملك الدنيا، لم تلبث أن انتقلت على فجأة، فأدارت الرواية إلى فصل السخرية ومنظر التهكم، وكشفت عن غرضها الخفي وحلت العقدة الروائية.قال: 'ففرغ قلب المرأة من الحب، وظمئ إلى السكر والنشوة مرة أخرى من غير هذه الزجاجة الفارغة، وبرد قلب الرجل، وكان الشيطان الذي يتسعّر فيه ناراً شيطاناً خبيثاً، فتحول إلى لوح من الثلج له طول وعرض'.وجَدَّت الحياة وهزل الشيطان، فاستحمق الرجل نفسه أن يكون اختار هذه المرأة له زوجة، واستجهلت المرأة عقلها أن تكون قد رضيت هذا الرجل زوجاً، وأنكرها إنكاراً أوله الملالة، وأنكرته إنكاراً آخر أوله التبرم ؛ وعاد كلاهما من صاحبه كإنسان يكلف إنساناً أن يخلق له الأمس الذي مضى !'وضربت الحياة ضربة أو ضربتين، فإذا أبنية الخيال كلها هدم هدم، وإذا الطبيعة مؤلفة الرواية، قد ختمت روايتها وقوضت المسرح، وإذا الأحلام مفسرة بالعكس: فالحب تأويله البغض، واللذة تفسيرها الألم، و'البودرة' معناها الجير.وتغير كل ما بينهما إلا الشيطان الذي بينهما، فهو الذي زوج، وهو بعينه الذي طلق'.وكتب أديب من بغداد يقول: 'إنه كان في هذا الموضع القَلِق موضع صاحب المشكلة، وإن ذات قرباه التي سميت عليه كانت ملفَّفَة له في حُجُب عدة لا في حجاب واحد، وقد وُصفت له باللغة، وفي اللغة: ما أحسن وما أجمل وما أظرف، وكأنها ظبي يتلفت، وكأنها غصن يميل، وكأن سنة وجهها البدر ! '.قال: 'وشُبِّهت له بكل أدوات التشبيه، وجاءوا في أوصافها بمذاهب الاستعارة والمجاز، فأخذها قصيدة قبل أن يأخذها امرأة، وكان لم ير منها شيئاً، وكانت لغة ذوي قرابته وقرابتها كلغة التجارة في ألسنة حُذَّاق السماسرة، ما بهم إلا تنفيق السلعة، ثم يُخلون بين المشتري وحظه'.قال: فرسخ كلامهم في قلبي، فعقدت عليها، ثم أعرست بها، ونظرت فإذا هي ليست في الكلمة الأولى ولا الأخيرة مما قالوا ولا فيما بينهما، ثم تعرفت فإذا هي تكبرني بخمس عشرة سنة.ورأيت اتضاع حالها عندي فأشفقت عليها، وبتُّ الليلة الأولى مقبلاً على نفسي أؤامرها وأناجيها، وأنظر في أي موضع رأي أنا ؛ وتأملت القصة، فإذا امرأة بين رحمة الله ورحمتي، فقلت: إن أنا نزعت رحمتي عنها ليوشكن الله أن ينزع رحمته عني، وما بيني وبينه إلا أعمالي ؛ وقلت: يا نفسي، { إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ }.وإنما أتقدم إلى عفو الله بآثام وذنوب وغلطات، فلأجعل هذه المرأة حسنتي عنده، وما علي من عمر سيمضي وتبقى منه هذه الحسنة خالدة مخلدة.إنها كانت حاجة النفس إلى المتاع فانقلبت حاجة إلى الثواب، وكانت شهوة فرجعت حكمة، وكنت أريد أن أبلغ ما أحب فسأبلغ ما يجب.ثم قلت: اللهم إن هذه امرأة تنتظرها ألسنة الناس إما بالخير إذا أمسكتها، وإما بالشر إذا طلقتها، وقد احتمت بي ؛ اللهم سأكفيها كل هذا لوجهك الكريم !قال: ورأيتُني أكون ألأم الناس لو أني كشفتها للناس وقلت: انظروا، فكأنما كنت أسأت إليها فأقبلت أترضَّاها، وجعلت أمازحها وألاينها في القول، وعدلت عن حظ نفسي إلى حظ نفسها، واستظهرت بقوله تعالى: { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } واعتقدت الآية الكريمة أصح اعتقاد وأتمه، وقلت: اللهم اجعلها من تفسيرها.قال: فلم تمض أشهر حتى ظهر الحمل عليها، فألقى الله في نفسي من الفرح ما لا تعدله الدنيا بحذافيرها، وأحسست لها الحب الذي لا يقال فيه: جميل ولا قبيح ؛ لأنه من ناحية النفس الجديدة التي في نفسها 'الطفل'.وجعلت أرى لها في قلبي كل يوم مداخل ومخارج دونها العشق في كل مداخله ومخارجه، وصار الجنين الذي في بطنها يتلألأ نوره عليها قبل أن يخرج إلى النور، وأصبحت الأيام معها ربحاً من الزمن، فيه الأمل الحلو المنتظر.قال: 'وجاءها المخاض، وطرَّقتْ بغلام ؛ وسمعتُ الأصوات ترتفع من حجرتها: ولد ! ولد ! بشروا أباه.فوالله لكأن ساعة من ساعات الخلد وقعت في زمني أنا من دون الخلق جميعاً وجاءتني بكل نعيم الجنة ؛ وما كان ملك العالم - لو ملكته - مستطيعاً أن يهبني ما وهبتني امرأتي من فرح تلك الساعة ؛ إنه فرح إلهي أحسست بقلبي أن فيه سلام الله ورحمته وبركته، ومن يومئذ نطق لسان جمالها في صوت هذا الطفل.ثم جاء أخوه في العام الثاني، ثم جاء أخوهما في العام الثالث ؛ وعرفت بركة الإحسان من اللطف الرباني في حوادث كثيرة، وتنفست علي أنفاس الجنة وفسرت الآية الكريمة نفسها بهؤلاء الأولاد، فكان تفسيرها الأفراح، والأفراح، والأفراح'.ويرى صديقنا الأستاذ 'م.ح.ح' أن صاحب المشكلة في مشكلة من رجولته لا من حبه ؛ فلو أن له ألف روح لما استطاع أن يعاشر زوجته بواحدة منها، إذ هي كلها أرواح صبيانية تبكي على قطعة من الحلوى ممثلة في الحبيبة، ولو عرف هذا الرجل فلسفة الحب والكره ؛ لعرف أنه يصنع دموعه بإحساسه الطفلي في هذه المشكلة ؛ ولو أدرك شيئاً لأدرك أن الفاصل بين الحب والكره منزوع من نفسه ؛ إذ الفاصل في الرجل هو الحزم الذي يوضع بين ما يجب وما لا يجب.إنه ما دام بهذه النفس الصغيرة، فكل حل لمشكلته هو مشكلة جديدة، ومثله بلاء على الزوجة والحبيبة معاً، وكلتاهما بلاء عليه، وهو بهذه وهذه كمحكوم عليه أن يُشنَق بامرأة لا بمشنقة.هذا عندي ليس بالرجل ولا بالطفل إلى أن يثبت أنه أحدهما ؛ فإن كان طفلاً فمن السخرية به أن يكون متزوجاً، وإن كان رجلاً فليحل هو المشكلة بنفسه، وحلها أيسر شيء ؛ حلها تغيير حالته العقلية.ونحن نعتذر للباقين من الأدباء والفضلاء الذين لم نذكر آراءهم، إذ كان الغرض من الاستفتاء أن نظفر بالأحوال التي تشبه هذه الحادثة، لا بالآراء والمواعظ والنصائح.أما رأينا ففي البقية الآتية.^صاحب هذه المشكلة رجل أعور العقل، يرى عقله من ناحية واحدة، فقد غاب عنه نصف الوجود في مشكلته، ولو أن عقله أبصر من الناحيتين لما رأى المشكلة خالصة في إشكالها، ولوجد في ناحيتها الأخرى حظّاً لنفسه قد أصابه، ومذهباً في السلامة لم يخطئه ؛ وكان في هذه الناحية عذاب الجنون لو عذبه الله به، وكان يصبح أشقى الخلق لو رماه الله في الجهة التي أنقذه منها، فتهيأت له المشكلة على وجهها الثاني.ماذا أنت قائل يا صاحب المشكلة لو أن زوجتك هذه المسكينة المظلومة التي بنيت بها، كانت هي التي أُكرهتْ على الرضى بك، وحُملت على ذلك من أبيها، ثم كنت أنت لها عاشقاً، وبها صبّاً، وفيها مُتَدَلِّهاً ؛ ثم كانت هي تحب رجلاً غيرك، وتصبو إليه، وتفتتن به، وقد احترقت عشقاً له ؛ فإذا جلوها عليك رأتك البغيض المقيت، ورأتك الدميم الكريه، وفزعت منك فزعها من اللص والقاتل ؛ وتمد لها يدك فتتحاماها تحاميها المجذوم أو الأبرص، وتكلمها فتُحَمّ برداً من ثقل كلامك، وتفتح لها ذراعيك فتحسبهما حبلين من مشنقتين، وتتحبب إليها فإذا أنت أسمج خلق الله عندها، إذ تحاول في ندالة أن تحل منها محل حبيبها ؛ وتقبل عليها بوجهك فتراه من تقذّرها إياك، واشمئزازها منك، وجه الذبابة مكبَّراً بفظاعة وشناعة في قدر صورة وجه الرجل، لتتجاوز حد القبح إلى حد الغَثَاثة، إلى حد انقلاب النفس من رؤيته، إلى حد القيء إذا دنا وجهك من وجهها ؟ !ماذا أنت قائل يا صاحب المشكلة لو أن مشكلتك هذه جاءت من أن بينك وبين زوجتك 'الرجل الثاني' لا المرأة الثانية ؟ ألست الآن في رحمة من الله بك، وفي نعمة كفت عنك مصيبة، وفي موقف بين الرحمة والنعمة يقتضيك أن ترقُب في حكمك على هذه الزوجة المسكينة حكم الله عليك ؟تقول: الحب والخيال والفن.وتذهب في مذاهبها، غير أن 'المشكلة' قد دلت على أنك بعيد من فهم هذه الحقائق، ولو أنت فهمتها لما كانت لك مشكلة، ولا حسبت نفسك منحوس الحظ محروماً، ولا جهلت أن في داخل العين من كل ذي فن عيناً خاصة بالأحلام كيلا تعمى عينه عن الحقائق.الحب لفظ وهمي موضوع على أضداد مختلفة: على بركان وروضة، وعلى سماء وأرض، وعلى بكاء وضحك، وعلى هموم كثيرة كلها هموم، وعلى أفراح قليلة ليست كلها أفراحاً ؛ وهو خداع من النفس يضع كل ذكائه في المحبوب، ويجعل كل بلاهته في المحب، فلا يكون المحبوب عند محبه إلا شخصاً خياليّاً ذا صفة واحدة هي الكمال المطلق، فكأنه فوق البشرية في وجود تام الجمال ولا عيب فيه، والناس من بعده موجودون في العيوب والمحاسن.وذلك وهم لا تقوم عليه الحياة ولا تصلح به، فإنما تقوم الحياة على الروح العملية التي تضع في كل شيء معناه الصحيح الثابت ؛ فالحب على هذا شيء غير الزواج، وبينهما مثل ما بين الاضطراب والنظام ؛ ويجب أن يفهم هذا الحب على النحو الذي يجعله حبّاً لا غيره، فقد يكون أقوى حب بين اثنين إذا تحابَّا هو أسخف زواج بينهما إذا تزوجا.وذو الفن لا يفيد من هذا الحب فائدته الصحيحة إلا إذا جعله تحت عقل لا فوق عقله، فيكون في حبه عاقلاً بجنون لطيف، ويترك العاطفة تدخل في التفكير وتضع فيه جمالها وثورتها وقوتها ؛ ومن ثم يرى مجاهدة اللذة في الحب هي أسمى لذاته الفكرية، ويعرف بها في نفسه ضرباً إلهيّاً من السكينة يُوليه القدرة على أن يقهر الطبيعة الإنسانية ويصرفها ويبدع منها عمله الفني العجيب.وهذا الضرب من السموّ لا يبلغه إلا الفكر القوي الذي فاز على شهواته وكَبَحَها وتحملها تغلي فيه غليان الماء في المِرْجَل ليخرج منها ألطف ما فيها، ويحولها حركة في الروح تنشأ منها حياة هذه المعاني الفنية ؛ وما أشبه ذا الفن بالشجرة الحية: إن لم تضبط ما في داخلها أصح الضبط، لم يكن في ظاهرها إلا أضعف عملها.ومثل هذا الفكر العاشق يحتاج إلى الزوجة حاجته إلى الحبيبة، وهو في قوته يجمع بين كرامة هذه وقدسية هذه ؛ لأن إحداهما توازن الأخرى، وتعدلها في الطبع، وتخفف من طغيانها على الغريزة، وتمسك القلب أن يتبدد في جوه الخيالي.والرجل الكامل المفكر المتخيل إذا كان زوجاً وعَشِق، أو كان عاشقاً وتزوج بغير من يهواها، استطاع أن يبتدع لنفسه فنّاً جميلاً من مسرات الفكر لا يجده العاشق ولا يناله المتزوج ؛ وإنه ليرى زوجته من الحبيبة كالتمثال جَمَد على هيئة واحدة، غير أنه لا يُغفِل أن هذا هو سر من أسرار الإبداع في التمثال، إذ تلك هيئة استقرار الأسمى في سموه ؛ فإن الزوجة أمومة على قاعدتها، وحياة على قاعدتها ؛ أما الحبيبة فلا قاعدة لها، وهي معانٍ شاردة لا تستقر، وزائلة لا تثبت، وفنها كله في أن تبقى حيث هي كما هي، فجمالها يحيا كل يوم حياة جديدة ما دامت فنّاً محضاً، وما دام سر أنوثتها في حجابه.ومتى تزوج الرجل بمن يحبها انهتك له حجاب أنوثتها فبطل أن يكون فيها سر، وعادت له غير من كانت، وعاد لها غير من كان ؛ وهذا التحول في كل منهما هو زوال كل منهما من خيال صاحبه ؛ فليس يصلح الحب أساساً للسعادة في الزواج، بل أَحْرِ به إذا كان وَجْداً واحتراقاً أن يكون أساساً للشؤم فيه ؛ إذ كان قد وضع بين الزوجين حدّاً يعين لهما درجة من درجة في الشغف والصبابة والخيال، وهما بعد الزواج متراجعان وراء هذا الحد ما من ذلك بد، فإن لم يكن الزوج في هذه الحالة رجلاً تام الرجولة، أفسدت الحياة عليه وعلى زوجته صبيانية روحه ؛ فالتمس في الزوجة ما لم يعد فيها، فإذا انكشف فراغها ذهب يلتمسه في غيرها، وكان بلاء عليها وعلى نفسه وعلى أولاده قبل أن يولدوا ؛ إذ يضع أمام هذه المرأة أسوأ الأمثلة لأبي أولادها، ويفسد إحساسها فيفسد تكوينها النفسي ؛ وما المرأة إلا حسها وشعورها.فالشأن هو في تمام الرجولة وقوتها وشهامتها وفحولتها، إن كان الرجل عاشقاً أو لم يكنه.وما من رجل قوي الرجولة إلا وأساسه ديانته وكرامته ؛ وما من ذي دين أو كرامة يقع في مثل هذه المشكلة ثم تُظلم به الزوجة أو يحيف عليها أو يفسد ما بينه وبينها من المداخلة وحسن العشرة، بَلْه أن يراها كما يقول صاحب المشكلة 'مصيبة' فيجافيها ويبالغ في إعناتها ويشفي غيظه بإذلالها واحتقارها.وأي ذي دين يأمن على دينه أن يهلك في بعض ذلك، فضلا عن كل ذلك ؟ وأي ذي كرامة يرضى لكرامته أن تنقلب خسة ودناءة ونذالة في معاملة امرأة هو لا غيره ذنبها ؟إن أساس الدين والكرامة ألا يخرج إنسان عن قاعدة الفضيلة الاجتماعية في حل مشكلته إن تورَّط في مشكلة ؛ فمن كان فقيراً لا يسرق بحجة أنه فقير، بل يكدّ ويعمل ويصبر على ما يعانيه من ذلك ؛ ومن كان محبّاً لا يَستزِلّ المرأة فيسقطها بحجة أنه عاشق ؛ ومن كان كصاحب المشكلة لا يظلم امرأته فيمقتها بحجة أنه يعشق غيرها ؛ وإنما الإنسان من أظهر في كل ذلك ونحو ذلك أثره الإنساني لا أثره الوحشي، واعتبر أموره الخاصة بقاعدة الجماعة لا بقاعدة الفرد.وإنما الدين في السمو على أهواء النفس ؛ ولا يتسامى امرؤ على نفسه وأهواء نفسه إلا بإنزالها على حكم القاعدة العامة، فمن هناك يتسامى، ومن هناك يبدو علوه فيما يبلغ إليه.وإذا حل اللص مشكلته على قاعدته هو فقد حلها، ولكنَّه حل يجعله هو بجملته مشكلة للناس جميعاً، حتى ليرى الشرع في نظرته إلى إنسانية هذا اللص أنه غير حقيق باليد العاملة التي خُلقت له فيأمر بقطعها.وعلى هذه القاعدة، فالجنس البشري كله ينزل منزلة الأب في مناصرته لزوجة صاحب المشكلة والاستظهار لها والدفاع عنها، ما دام قد وقع عليها الظلم من صاحبها، وهذا هو حكمها في الضمير الإنساني الأكبر، وإن خالف ضمير زوجها العدوّ الثائر الذي قطعها من مصادر نفسه ومواردها.أما حكم الحبيبة في هذا الضمير الإنساني فهو أنها في هذا الموضع ليست حبيبة، ولكنها شَحَّاذة رجال.لسنا ننكر أن صاحب هذه المشكلة يتألم منها ويتلذع بها من الوَقْدة التي في قلبه ؛ بيد أننا نعرف أن ألم العاقل غير ألم المجنون، وحزن الحكيم غير حزن الطائش ؛ والقلب الإنساني يكاد يكون آلة مخلوقة مع الإنسان لإصلاح دنياه أو إفسادها ؛ فالحكيم من عرف كيف يتصرف بهذا القلب في آلامه وأوجاعه، فلا يصنع من ألمه ألماً جديداً يزيده فيه، ولا يُخرِج من الشر شرّاً آخر يجعله أسوأ مما كان.وإذا لم يجد الحكيم ما يشتهي، أو أصاب ما لا يشتهي، استطاع أن يخلق من قلبه خلقاً معنويّاً يُوجده الغنى عن ذلك المحبوب المعدوم، أو يوجده الصبر عن هذا الموجود المكروه ؛ فتتوازن الأحوال في نفسه وتعتدل المعاني على فكره وقلبه ؛ وبهذا الخلق المعنوي يستطيع ذو الفن أن يجعل آلامه كلها بدائع فن.وما هو فكر الحكماء إلا أن يكون مصنعاً تُرسَل إليه المعاني بصورة فيها الفوضى والنقص والألم ؛ لتخرج منه في صورة فيها النظام والحكمة واللذة الروحية.يعشق الرجل العامي المتزوج، فإذا الساعة التي أوبقته في المشكلة قد جاءته معها بطريقة حلها: فإما ضرب امرأته بالطلاق، وإما أهلكها باتخاذ الضرة عليها، وإما عذبها بالخيانة والفجور ؛ لأن بعض العبث من الطبيعة في نفس هذا الجاهل هو بعينه عبث الطبيعة بهذا الجاهل في غيره، كأن هذه الطبيعة تُطلق مدافعها الضخمة على الإنسانية من هذه النفوس الفارغة.وليس أسهل على الذكر من الحيوان أن يحل مشكلة الأنثى حلا حيوانيا كحل هذا العامي، فهو ظافر بالأنثى أو مقتول دونها ما دام مطلقاً مخلًّى بينه وبينها ؛ والحقيقة هنا حقيقته هو، والكون كله ليس إلا منفعة شهوانية ؛ وأسمى فضائله ألا يعجز عن نيل هذه المنفعة.ثم يعشق الرجل الحكيم المتزوج فإذا لمشكلته وجه آخر، إذ كان من أصعب الصعب وجود رجل يحل هذه المشكلة برجولة، فإن فيها كرامة الزوجة وواجب الدين وفيها حق المروءة، وفيها مع ذلك عبث الطبيعة وخداعها وهَزْلها الذي هو أشد الجد بينها وبين الغريزة ؛ وبهذا كله تنقلب المشكلة إلى معركة نفسية لا يحسمها إلا الظفر، ولا يعين عليها إلا الصبر، ولا يفلح في سياستها إلا تحمل آلامها، فإذا رُزق العاشق صبراً وقوة على الاحتمال فقد هان الباقي، وتيسرت لذة الظفر الحاسم، وإن لم يكن هو الظفر بالحبيبة ؛ فإن في نفس الإنسان مواقع مختلفة وآثاراً متباينة للذة الواحدة، وموقعٌ أرفعُ من موقع، وأثرٌ أبهجُ من أثر ؛ وألذ من الظفر بالحبيبة نفسها عند الرجل الحكيم الظفر بمعانيها، وأكرم منها على نفسه كرامة نفسه.وإذا انتصر الدين والفضيلة والكرامة والعقل والفن، لم يبق لخيبة الحب كبير معنى ولا عظيم أثر، ويتوغل العاشق في حبه وقد لَبِسَتْهُ حالة أخرى كما يكظم الرجل الحليم على الغيظ.فذلك يحب ولا يطيش، وهذا يغتاظ ولا يغضب.والبطل الشديد البأس لا ينبغ إلا من الشدائد القوية، والداهية الأريب لا يخرج إلا من المشكلات المعقدة، والتقيّ الفاضل لا يُعرَف إلا بين الأهواء المستحكمة.ولعمري إذا لم يستطع الحكيم أن ينتصر على شهوة من شهوات نفسه، أو يبطل حاجة من حاجاتها، فماذا فيه من الحكمة، وماذا فيه من النفس ؟وما عَقَّد 'المشكلة' على صاحبها بين زوجته وحبيبته، إلا أنه بخياله الفاسد قد أفسد القوة المصلِحَة فيه، فهو لم يتزوج امرأته كلها. . .وكأنه لا يراها أنثى كالنساء، ولا يُبصر عندها إلا فروقاً بين امرأتين: محبوبة ومكروهة ؛ وبهذا أفسد عينه كما أفسد خياله ؛ فلو تعلّم كيف يراها لرآها، ولو تعودها لأحبها.إنه من وهمه كالجواد الذي يشعر بالمَقَادة في عنقه ؛ فشعوره بمعنى الحبل وإن كان معنًى ضئيلاً عطّل فيه كل معاني قوته، وإن كانت معاني كثيرة.وما أقدرك أيها الحب على وضع حبال الخيل والبغال والحمير في أعناق الناس !وقد بقي أن نذكر، توفيةً للفائدة، أنه قد يقع في مثل هذه المشكلة من نقصَت فحولته من الرجال، فيدلِّس على نفسه بمثل هذا الحب، ويبالغ فيه، ويتجرَّم على زوجته المسكينة التي ابتُليتْ به، ويختلق لها العلل الواهية المكذوبة، ويبغضها كأنه هو الذي ابتُلي بها، وكأن المصيبة من قِبَلها لا من قِبَله ؛ وكل ذلك لأن غريزته تحولت إلى فكره، فلم تعد إلا صوراً خيالية لا تعرف إلا الكذب.وقد قرر علماء النفس أن من الرجال من يكره زوجته أشد الكره إذا شعر في نفسه بالمهانة والنقص من عجزه عنها.فهذا لا يكون رجلاً لامرأته إلا في العداوة والنقمة والكراهية وما كان من باب شفاء الغيظ، وامرأته معه كالمعاهَدة السياسية من طَرَف واحد، لا قيمة ولا حرمة ؛ وإذا أحب هذا كان حبه خياليّاً شديداً ؛ لأنه من جهة يكون كالتعزية لنفسه، ومن جهة أخرى يكون غيظاً لزوجته، وردّاً بامرأة على امرأة.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي