وحي القلم/قلت لنفسي وقالت لي

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

قلت لنفسي وقالت لي

قلت لنفسي وقالت لي - وحي القلم

قلت لنفسي وقالت لي

قلت لنفسي: ويحك يا نفس ! ما لي أتحامل عليك ؛ فإذا وفيت بما في وسعك أردت منك ما فوقه وكلفتك أن تسعي ؛ فلا أزال أعنتك من بعد كمال فيما هو أكمل منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن ؛ وما أنفك أجهدك كلما راجعك النشاط، وأضنيك كلما ثابت القوة ؛ فإن تكن لك هموم فأنا أكبرها، وإذا ساورتك الأحزان فأكثرها مما أجلب عليك.أنت يا نفس سائرة على النهج، وأنا أعتسف بك أريد الطيران لا السير، وأبتغي عمل الأعمار في عمر، وأستحثك من كل هجعة راحة بفجر تعب جديد، وكأني لك زمن يماد بعضه بعضا، فما يبرح ينبثق عليك من ظلام بنور ومن نور بظلام ؛ ليهيئ لك القوة التي تمتد بك في التاريخ، من بعد، فتذهبين حين تذهبين ويعيش قلبك في العالم ساريا بكلمات أفراحه وأحزانه.وقالت لي النفس: أما أنا فإني معك دأبا كالحبيبة الوفية لمن تحبه ؛ ترى خضوعها أحيانا هو أحسن المقاومة ؛ وأما أنت فإذا لم تكن تتعب ولا تزال تتعب فكيف تريني أنك تتقدم ولا تزال تتقدم ؟ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك، بل ما توجده بنفسك ؛ فإن لم تزد شيئا على الدنيا كنت أنت زائداً على الدنيا ؛ وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فقد وجدتها وما وجدتك ؛ وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها.وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتاً صغيراً، ودنيا الآخر كالقرية الململمة، ودنيا بعضهم كالمدينة الكبيرة ؛ أما دنيا العظيم فقارة بأكملها، وإذا انفرد امتد في الدنيا فكان هو الدنيا.والقوة يا صاحبي تغتذي بالتعب والمعاناة ؛ فما عانيته اليوم حركة من جسمك، ألفيته غداً في جسمك قوة من قوى اللحم والدم.وساعة الراحة بعد أيام من التعب، هي في لذتها كأيام من الراحة بعد تعب ساعة.وما أشبه الحي في هذه الدنيا ووشك وانقطاعه منها، بمن خلق ليعيش ثلاثة أيام معدودة عليه ساعتها ودقائقها وثوانيها ؛ أفتراه يغفل فيقدرها ثلاثة أعوام، ويذهب يسرف فيها ضروبا من لهوه ولعبه ومجونه، إلا إذا كان أحمق أحمق إلى نهاية الحمق ؟اتعب تعبك يا صاحبي، ففي الناس تعب مخلوق من عمله، فهو لين هين مسوى تسوية ؛ وفيهم تعب خالق عمله، فهو جبار متمرد له القهر والغلبة، وأنت إنما تكد لتسمو بروحك إلى هموم الحقيقة العالية، وتسمو بجسمك إلى مشقات الروح العظيمة ؛ فذلك يا صاحبي ليس تعبا في حفر الأرض، ولكنه تعب في حفر الكنز.اتعب يا صاحبي تعبك ؛ فإن عناء الروح هو عمرها ؛ فأعمالك عمرك الروحاني، كعمر الجسم للجسم ؛ وأحد هذين عمر ما يعيش، والآخر عمر ما سيعيش.قلت لنفسي: فقد مللت أشياء وتبرمت بأشياء.وإن عمل التغيير في الدنيا لهو هدم لها كلما بنيت، ثم بناؤها كلما هدمت ؛ فما من شيء إلا هو قائم في الساعة الواحدة بصورتين معا ؛ وكم من صديق خلطته بالنفس يذهب فيها ذهاب الماء في الماء، حتى إذا مر يوم، أو عهد كاليوم، رأيت في مكانه إنساناً خياليا كمسألة من مسائل النحاة فيها قولان. . .! فهو يحتمل في وقت واحد تأويل ما أظن به من خير، وما أتوقع به من شر ! وكم من اسم جميل إذا هجس في خاطري قلت: آه، هذا الذي كان. . .!اما - والله - إن ثياب الناس لتجعلهم أكثر تشابها في رأي النفس، مما تجعلهم وجوههم التي لا تختلف في رأي العين، وإني لأرى العالم أحيانا كالقطار السريع منطلقا بركبه وليس في من يقوده، وأرى الغفلة المفرطة قد بلغت من هذا الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة كالموظف تحت التجربة، فإذا قضى المدة قيل له: ابدأ من الآن.كأنه إذا عاش يتعلم الخير والشر، ويدرك ما يصلح وما لا يصلح، وانتهى من عمره إلى النهاية المحدودة رجع من بعدها يعيش منتظما على استواء واستقامة، وفي إدراك وتمييز.مع أن الخرافة نفسها لم تقبل قط أن يعد منها في أوهام الحياة أن رجلا بلغ الثمانين أو التسعين وحان أجله فأصبحوا لم يجدوه ميتا في فراشه ؛ بل وجدوه مولوداً في فراشه. . .!وقالت لي النفس: وأنت ما شأنك بالناس والعالم ؟ يا هذا ليس لمصباح الطريق أن يقول: 'إن الطريق مظلم' إنما قوله إذا أراد كلاما أن يقول: 'ها أنذا مضيء'.والحكيم لا يضجر ولا يضيق ولا يتململ، كما أنه لا يسخف ولا يطيش ولا يسترسل في كذب الوهم ؛ فإن هذا كله أثر الحياة البهيمية في هذه البهيمة الإنسانية، لا أثر الروح القوية في إنسانها، والحيوان هو الذي يجوع ويشبع لا النفس، وبين كل شيئين مما يعتور الحيوانية - كالخلو والامتلاء، واللذة والألم - تعمل قوى الحيوان أشياءها الكثيرة التي تتسلط بها على النفس، لتحطها من مرتبة إلى أن تجعلها كنفوس الحيوان ؛ ولهذا كان أول الحكمة ضبط الأدوات الحيوانية في الجسم، كما توضع اليد العالمة على مفاتيح القطار المنطلق يتسعر مرجله ويغلي.اعمل يا صاحبي عملك ؛ فإذا رأيت في العاملين من يضجر فلا تضجر مثله، بل خذ اطمئنانه إلى اطمئنانك، ودعه يخلو وتضاعف أنت.إنه ليوشك أن يكون في الناس 'كالبنوك' ؛ هذه مستودعات للمال تحفظه وتخرج منه وتثمره، وتلك مستودعات للفضائل تحفظها وتخرج منها وتزيدها، إفلاس رجل من أهل المال، هو إطلاق النكبة مسدسها على رجل تقتله ؛ ولكن إفلاس 'بنك' هو إطلاق النكبة مدفعها الكبير على مدينة تدمرها.قلت لنفسي: فما أشد الألم في تحويل هذا الجسد إلى شبه روح مع الروح ! تلك هي المعجزة التي لا توجد في غير الأنبياء، ولكن العمل لها يجعلها كأنها موجودة.والأسد المحبوس محبوسة فيه قوته وطباعه ؛ فإن زال الوجود الحديدي من حوله أو وهنت ناحية منه، انطلق الوحش، والرجل الفاضل فاضل ما دام في قفصه الفكري، وهو ما دام في هذا القفص فعليه أن يكون دائما نموذجا معروضا للتنقيح الممكن في النفس الإنسانية ؛ تصيبه السيئة من الناس لتختبر فيه الحسنة، وتبلوه الخيانة لتجد الوفاء، ويكرثه البغض ليقابله بالحبن وتأتيه اللعنة لتجد المغفرة ؛ وله قلب لا يتعب فيبلغ منزلة إلا التعب ليبلغ منزلة أعلى منها، وله فكر كلما جهد فأدرك حقيقة كانت الحقيقة أن يجهد فيدرك غيرها.وقالت لي النفس: إن من فاق الناس بنفسه الكبيرة كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة ؛ إن الشيء النهائي لا يوجد إلا في الصغائر والشر، أما الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى، فهذه حقائق أزلية وجدت لنفسها ؛ كالهواء يتنفسه كل الأحياء على هذه الأرض ولا ينتهي، ولا يعرف أين ينتهي ؛ وكما ينبعث النور من الشمس والكواكب إلى هذه الأرض يشبه أن تكون تلك الصفات منبعثة إلى النفوس من أنوار الملائكة، وبهذا كان أكبر الناس حظا منهم هم الأنبياء المتصلين بتلك الأنوار.ومن رحمة الله أن جعل في كل النفوس الإنسانية أصلا صغيراً يجمع فكرة الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى، وقد تعظم فيه هذه الصفات كلها أو بعضها، وقد تصغر فيه بعضها أو كلها: ألا وهو الحب.لا بد أن تمر كل حياة إنسانية في نوع من أنواع الحب، من رقة النفس ورحمته، إلى هوى النفس وعشقها.وإذا بلغ الحب أن يكون عشقا، وضع يده على المفاتيح العصبية للنفس، وفتح للعظائم والمعجزات أبوابها ؛ حتى أنه ليجعل الخرافة الفارغة معجزة دقيقة ويملأ الحياة بمعان لم تكن فيها من قبل، ويصبح سر هذا الحب لا ينتهي ؛ إذ هو سر لا يدرك ولا يعرف.اجهد جهدك يا صاحبي، فما هو قفصك الفكري ذلك الشعاع الذي يحبسك، ولكنه صقل النفس لتتلقى الأنوار، ولا بد للمرآة من ظاهر غير ظاهر الحجر لتكون به مرآة.قلت لنفسي: فما أشده مضضا أعانيه ! إن أمري ليذهب فرطاً.أكلما ابتغيت من الحياة مرحا أطرب له وأهتز، جاءتني الحياة بفكرة أستكد فيها وأدأب ؟ أهذا السرور الذي لا يزال يقع بين الناس هو الذي لا يكاد يقع لي ؟ وهل أنا شجرة في مغرسها: تنمو صاعدة بفروعها، ونازلة بجذورها، غير أنها لا تبرح مكانها ؟ أو أن تمثال على قاعدته: لا يتزحزح عنها إلا ساعة لا يكون تمثالا، ولا يدعها حتى تدعه معاني العظمة التي نصب لها ؟قالت لي النفس: ويحك ! لا تطلب في كونك الصغير ما ليس فيه ؛ إن الناس لو ارتفعوا إلى السماء وتقلبوا فيها كما يسيح أهل قارة من الأرض في قارة غيرها، وابتغوا أن يحملوا معهم مما هناك تذكاراً صغيراً إلى الأرض، لوجدوا أصغر ما هنالك أكبر من الأرض كلها ؛ فأنت سائح في سماوات.أنت كالنائم: له أن يرى وليس له أن يأخذ شيئا مما يرى إلا وصفة، وحكمته، والسرور بما التذ منه، والألم بما توجع له.لن تكون في الأرض شجرة برجلين تذهب هنا وهناك، ولكن الشجرة ترسل أثمارها يتناقلها الناس، وهي تبدع الثمار إبداع المؤلف العبقري ما يؤلفه بأشد الكد وأعظم الجهد، مطلقة ضميرها في الفكرة الصغيرة، تعقدها شيئا شيئا، ثم تعود عليها بالزيادة، ولا تزال كل وقت تعود عليها حتى تستفرغ أقصى القوة ؛ ثم يكون سرورها في أن تهب فائدتها، لأنها لذلك وجدت.إن في الشجرة طبيعية صادقة لا شهوة مكذوبة ؛ فالحياة فيها على حقيقتها، وأكثر ما تكون الحياة في الإنسان على مجازها ؛ وشرط المجاز الخيال والمبالغة والتلوين ؛ ولكن متى اختار الله رجلا فأقر فيه سرا من أسرار الطبيعة الصادقة، ووهب له العاطفة القادرة التي تصنع ثمارها - فقد غرسه شجرة في منبتها لا مفر ولا مندوحة، وقد يخيل له ضعف طبيعته البشرية أحيانا أن نضرة المجد التي تعلوه وتتألق كشعاع الكوكب، هي تعبه وضجره، أو أثر انخذاله وألمه ومسكنته ؛ وهذا من شقاء العقل ؛ فإنه دائما يضيف شيئا إلى شيء، ويخلط معنى بمعنى، ولا يترك حقيقة على ما هي ؛ كأن فيه ما في الطفل من غريزة التقليد ؛ والعقل لا يرى أمامه إلا الإلهية، فهو يقلدها في مداخلة الأشياء بعضها في بعض، لإيجاد الأسرار بعضها من بعض.ومن ثم كانت الحقيقة الصريحة الثابتة مدعاة للملل العقلي في الإنسان، لا يكاد يقيم عليها أو يتقيد بها، فما نال شيئا إلا ليطمع في غيره، وما فاز بلذة إلا ليزهد فيها، وأجل ما أحبه الإنسان أن يناله، فإذا ناله وقع فيه معنى موته، وبدأ في النفس عمرا آخر من حالة أخرى، أو مات لم يبدأ ؛ فلا بد لهذا الإنسان مع كل صواب من جزء من الخطأ، فإن هو لم يجد خطأ في شيء ائتفك لنفسه الخطأ المضحك في شبه رواية خيالية.إنه لشعر سخيف بالغ السخافة أن يتخيل الغريق مفكراً في صيد سمكة رآها. . .ولكن هذا من أبلغ البلاغة عند العقل الذي يبحث عن وهم يضيفه إلى هذه الحقيقة ليضحك منها، كما يبحث لنفسه أحيانا في أجمل حقائق اللذة عن ألم يتألم به ليعبس فيه !قلت لنفسي: فهل ينبغي لي أن أحرق دمي لأني أفكر، وهل أظل دائما بهذا التفكير كالذي ينظر في وجه حسناء بمنظار مكبر ؛ لا يريه ذلك الوجه المعشوق إلا ثقوبا وتخريما كأنه خشبة نزعت منها مسامير غليظة. . .! فلا يجد المسكين هذه الحقيقة إلا ليفقد ذلك لجمال ؟ وهل بد من الشبه بين بعض الناس وبين ما ارتصد له من عمل يحيا به ؛ فلا يكون الحوذي حوذيا إلا لشبه بين نفسه وبين الخيل والبغال والحمير ؟وقالت لي النفس: إن فأس الحطاب لا تكون من أداة الطبيب ؛ فخذ لكل شيء أداته، وكن جاهلا أحيانا، ولكن مثل الجهل الذي يصنع لوجه الطفل بشاشته الدائمة، فهذا الجهل هو أكبر علم الشعور الدقيق المرهف، ولولاه لهلك الأنبياء والحكماء والشعراء غما وكمدا، ولكانوا في هذا الوجود، على هذه الأرض، بين هذه الحقائق، كالذي قيد وحبس في رهج تثيره القدم والخف والحافر، لا يتنفس إلا الغبار يثار من حوله إلى أن يقضى عليه.اجهل جهلك يا صاحبي في هذه الشهوات الخسيسة ؛ فإنها العلم الخبيث الذي يفسد الروح، واعرف كيف تقول لروحك الطفلة في ملائكيتها حين تساورك الشهوات، هذا ليس لي ؛ هذا لا ينبغي لي.إن الروح الكبيرة هي في حقيقتها الطفل الملائكي.وعلم خسائس الحياة يجعل للإنسان في كل خسيسة نفسا تتعلق بها، فيكون المسكين بين نفسين وثلاث وأربع، إلى ثلاثين وأربعين كلهن يتنازعنه، فيضيع بهذه الكثرة، ويصبح بعضه بلاء على بعض، وتشغله الفضول، فيعود لها كالمزبلة لما ألقي فيها، ويمحق في نفسه الطبيعية حس الفرح بجمال الطبيعة، كما يمحق في المزبلة معنى النظافة ومعنى الحس بها.هذه الأنفس الخيالية في هذا الإنسان المنكود، هي الأرواح التي ينفخها في مصائبه، فتجعلها مصائب حية تعيش في وجوده وتعمل فيه أعمالها، ولولاها لماتت في نفسه مطامع كثيرة، فماتت له مصائب كثيرة.انظر بالروح الشاعرة، تر الكون كله في سمائه وأرضه انسجاما واحدا ليس فيه إلا الجمال والسحر وفتنة الطرب، وانظر بالعقل العالم، فلن ترى في الكون كله إلا مواد علم الطبيعة والكيمياء.ومدى الروح جمال الكون كله ؛ ومدى العقل قطعة من حجر، أو عظمة من حيوان، أو نسيجة من نبات، أو فلذة من معدن، وما أشبهها.اجهل جهلك يا صاحبي ؛ ففي كل حسن غزل بشرط ألا تكون العاشق الطامع، وإلا أصبت في كل حسن هما ومشغلة !قلت لنفسي: إلى الآن لم أقل لك ذلك المعنى الذي كتمته عنك.وقالت لي النفس: وإلى الآن لم أقل لك إلا جواب ذلك الذي كتمته عني.^حدث المسيب بن رافع الكوفي قال: بينا أنا يوماً في مسجد الكوفة، ومعي سعيد بن عثمان، ومجاهد، وداود الأزدي وجماعة، أقبل فتى فجلس قريبا منا، وكان تلقاء وجهي، لا أمد نظري إلى انطلق في سمته ووقف عليه، وكنا نتحدث فرأيته يتسمع إلى حديثنا ؛ فلما تكلم سعيد - وكان خافت الصوت من علة به، وكنا نسميه النملة الصخابة - رأيت الفتى يتزحف قليلا قليلا حتى صار بحيث يقع في سماعه حسيس نملتنا.وكان سعيد يقول: اجتزت أنا والشعبي أمس بعمران الخياط، فمازحه الشيخ فقال له: عندنا حب مكسور، تخيطه ؟ قال: نعم، إن كان عندك خيط من ريح ! فقلت أنا: فاذهب فجئنا بالمغزل الذي يغزل الهواء لنصنع لك الخيط.قال مجاهد: ' هذا ليس بشيء في تنادر شيخنا وما يتفق له ؛ أخبرني أن رجلا جاءه في مسألة، فدخل عليه البيت وهو جالس مع امرأته، فقال الرجل: أيكما الشعبي ؟ فأومأ الشيخ إلى امرأته وقال: هذه !قال المسيب: وضحكنا جميعا، وأخذ نظري الغلام فإذا هو ناكس حزنا وهما، وكأنه لا يتسمع إليها ليسمع، بل ليشغل نفسه عن شيء فيها، فتتوزع خواطره، فيتبدد اجتماعها على همه بصوت من هنا وصوت من هنا، كما يفعل المحزون في مغالبة الحزن ومدافعته، يشغل عنه بصره وقلبه وسمعه جميعا، فيكون الحزن فيه وكأنه بعيد منه.فقلت في نفسي: أمر أمات الضحك في هذا الفتى وكسر حدته وشبابه، ثم تحولت إليه وقلت: رأيتك يا بني مقبلا علينا كالمنصرف عنا ؛ فما بالك لم تضحك وقد ضحكنا جميعاً ؟قال: إليك عني يا هذا ؛ فأين من الضحك وأنا على شفير القبر، وروح التراب مالئ عيني في كل ما أرى، وكأن حفرتي ابتلعت الدنيا التي أنا فيها لتأخذني فيها، وأنا الساعة ميت حي ؛ رجل في الدنيا ورجل في الآخرة !قلت: فأعلمني ما بك يا بني، فلقد احتسبت ولدا لي كان في مثل سنك وشبابك ولم أرزق غيره، فقلبي بعده مريض به، يتوسمه مفرقا في لداته، متوهما أن وجوههم تجمعه بملامحه ؛ فأنا من ذلك أحبهم جميعا وأطيل النظر إليهم والتأمل في وجوههم، ولست أدرى أحدا منهم إلا كان له ولقلبي حديث ! فإن رأيته حزينا مثلك تقطعت له من إشفاق ورحمة، وطالعني فتاي في مثل همه وحزنه وإنكساره ؛ فيعود قلبي كالعين التي غشاها الدمع، تحمل أثر الحزن ومعناه وسره ؛ فبثني ما تجد يا بني، فلعل لي سببا إلى كشف ضرك أو إسعافك بحاجتك ؛ ولعلك تكون قد حزنت من أمر قريب المتناول هين المحاولة، لم يجعله عندك كبيرا أنه كبير، ولكن أنك أنت صغير.قال الفتى: مهلا يا عم، فإن ما نزل بنا مما تنقطع عنده الحيلة ولا تنقاد فيه الوسائل، ولا علاج منه إلا بالموت يأخذنا ويأخذه.قلت: يا بني، هذه كلمة ما أحسب أحداً يقولها إلا من أخذ للقتل بجنايته ولم يعف أهل الدم، فهل جنيت أو جنى أبوك على أحد ؟قال: إن الأمر قريب من قريب، فإني تركت أبي الساعة مجمعاً على إزهاق نفسه، وقد أغلق عليه الدار واستوثق من الباب !قال المسيب: فكأنما لدغتني حية بهذه الكلمة، وأكبرت أن يكون رجل مسلم يقتل نفسهن فتناهضت، ولكن الغلام أمسك بي وقال: إنه لا يزال حيا، وسيقتل نفسه متى أظلم الليل وهدأت الرجل.قلت: الحمد لله، إن في النور عقلا، ولكن ما الذي صار به إلى ما قلت، وكيف تركته لقدره وجئت ؟قال الفتى: إنه قال لي: يا ولدي، ليس لك أب بعدي، فإن أردت اللحاق بي فارجع مع الليل لنسلم أنفسنا، وإن آثرت الحياة فارجع مع الصبح لتسلمني إلى غاسلي !قلت: أفآمن أنت ألا يكون أبوك قد أخرجك عنه لأن عينك تمسك يديه وترده عما يهم به، حتى إذا خلا وجهه منك أزهق نفسه ؟قال: لم أدعه حتى أقسم أن يحيا إلى الليل، وحتى أقسمت أن أرجع لأموت معه ؛ فإن لم تمسكه يمينه أمسكه انتظاري، وقد فرغت الحياة منا فلم يبق إلا أن نفرغ منها ؛ ومن كان فيما كنا في ثم انحدر إلى ما انحدرنا إليه، لم ير الناس من نفسه ضعة ولا استكانة، وإنما خرجت لأسأل هذا الإمام 'الشعبي' وجها من الرأي فيمن يقتل نفسه إذا ضاقت عليه الدنيا، ونزلت به النازلات، وتعذر القوت، واشتد الضر، وتدلت به المسكنة إلى حضيضها، وألجئ إلى أحوال دقته دق الرحى لما تدور عليه، ولم يعد له إلا رأي واحد في معنى الدنيا، هو أنه مكذوب مزور على الدنيا.قلت: يا بني، فإني أراك أديبا، فمن أبوك ؟قال: هو فلان التاجر، ظهر ظهور القمر ومحق محاقه، وهو اليوم في أحلك الليالي وأشدها انطماسا ؛ جهده الفقر، ويا ليته كان الفقر وحده، بل انتهكته العلل، وليتها لم تكن إلا العلل مع الفقر، بل أخذ الموت امرأته فماتت هما به وبي، ولم يكن له غيري وغيرها، وكان كل من ثلاثتنا يحيا للاثنين الآخرين، فهذا ما كان يجعل كلا منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولما ذهبت الأم ذهبت الحقيقة التي كنا نقاتل الأيام عنها، وكانت هي وحدها ترينا الحياة بمعناها إن جاءتنا الحياة فارغة من المعنى، وكنا من أجلها نفهم الأيام على أنها مجاهدة البقاء ؛ أما الآن فالحياة عندنا قتل الحياة !قلت: يا بني، فإنك - والله - مع أدبك لحكيم، وإني لأنفس بك على الموت، فكيف ردتك حياة أمك عن قتل نفسك ولا تردك حياة أبيك ؟قال: لو بقى أبي حيا لبقيت، ولكن الدهر قد انتزع منه آخر ما كان يملك من أسباب القوة، حين أخذ القلب الشفيق الذي كان يجعله يرتعد إذا فكر في الموت، فهو الآن كالذي يحارب عن نفسه تلقاء عدو لا يرحمه ؛ إن عجز عن عدوه فالرأي قتل نفسه ليستريح من تنكيل العدو به.قال المسيب بن رافع: وأدركت أن الفتى يريد من سؤال الشيخ تحلة يطمئن إليها أن يموت مسلما إذا قتل نفسه كالمضطر أو المكره، فأشفقت أن أكسر نفسه إذا أنا حدثته أو أفتيته ؛ وقلت: هذا مريض يحتاج العلاج لا الفتيا ؛ وكان إمامنا 'الشعبي' حكيما لحنا فطنا، سفر ين أمير المؤمنين 'عبد الملك' وعاهل الروم، فحسدنا العاهل أن يكون فينا مثله.وقلت: لعل الله يحدث به أمرا.فأخذت بيد الفتى إليه، ومشيت أكلمه وأرفه عن نفسه.وقلت له: أما تدري أنك حين فرغت من سرور الحياة فرغت من غرروها أيضا، وأنا الزاهد المنقطع في عرعرة الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا، ليس بأحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا ؟يا بني: إن الزاهد يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله.وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها، إذا كان فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل ؟ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار ؟ وايم الله إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعاً، لهو الخالي من الفضائل جميعاً.يا بني: إن من الناس من يختارهم الله فيكونون قمح هذه الإنسانية ؛ ينبتون ويحصدون ويطحنون ويعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائله.وما أرك أنت وأباك إلا من المختارين، كأن في أعراقكم دم نبي يقتل أو يصلب !قال المسيب: وانتهينا إلى دار الشعبي، فطرقت الباب، وجاء الشيخ ففتح لنا، وسلمنا وسلم، ثم بدرت فقلت: يا أبا عمرو، إن أبا هذا كان من حاله كيت وكيت، فترادفت عليه المصائب، وتوالت النكبات، وتواترت الأسقام. . .ثم اقتصصت ما قال ابنه حرفا حرفا، ثم قلت ؛ وإنه الآن موشك أن يزهق نفسه وسيتبعه ابنه هذا ؛ وقد 'هداه الله إليك فجاء يسلك، أيموت مسلما من ألجئ وأكره واضطر واستضاق واختل، فتحسى سما فهلك، أو توجأ بحديدة فقضى، أو ذبح نفسه بنصل فخفت، أو حز في يده بسكين فما رقأ دمه حتى مات، أو اختنق في حبل ففاضت نفسه، أو تردى من شاهق فطاح !وأدرك الشيح معنى قولي: 'هداه الله إليك' ومعنى ما أكثرت من الألفاظ المرادفة على القتل وما استقصيت من وجوهه ؛ فعلم أن لم أسأله الفتيا والنص، ولكني سألته الحكمة والسياسة ؛ فقال: هذا - والله - رجل كريم، أخذته الأنفة وعزة النفس، وما أنا الساعة بمعزل عن همه، فنذهب نكلمه والله المستعان.ومشينا ثلاثتنا، فلما شارفنا الدار قال الفتى: إنه لا يفتح لي إذا رآكما، وربما استفز بنفسه فأزهقها، وسأتسور الحائط وأتدلى ثم أفتح لكما فتدخلان وأنا عنده.ودخلنا، فإذا رجل كالمريض من غير مرض، خوار مسلوب القوة، انزعج قلبه إلى الموت وما به جرأة، وإلى الحياة وما به قوة ؛ وصغر إليه نفسه أنها أصبحت في معاملة الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، وثابر عليه داء الحزن فأضناه وتركه روحا تتقعقع في جلدها، فهي تهم في لحظة أن تثب وتندلق.وسلم الشيخ وأقبل بوجهه على الرجل، ثم قال: 'بسم الله الرحمن الرحيم، { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } '.فقطع عليه الرجل وقال كالمحنق: أيها الشيخ، قد صبرنا حتى جاء ما لا صبر عليه ؛ وقد خلونا من معاني الكلام كله ؛ فما نقدر عليها إلا لفظة واحدة نملك معناها، هي أن ننتهي !ومد الشيخ عينه فرأى كوة مسدودة في الجدار، فقال لي: افتح هذه ودع الهواء يتكلم معنا كلامه.فقمت إليها فعالجتها حتى فتحتها، ونفذ منها روح الدنيا، وقال الشيح للرجل: أصغ إلي، فإذا أنا فرغت من الكلام فشأنك بنفسك.أعلمت أن رجلا من المسلمين قد مرض، فأعضل مرضه فأثبته على سريره ثلاثين سنة لا يتحرك، وطوى فيه الرجل الذي كان حيا ونشر منه الرجل الذي سيكون ميتا، فبقي لا حيا ولا ميتا ثلاثين سنة ؟قال الرجل: وفي الدنيا من يعيش على هذا الحال ثلاثين سنة ؟قال الشيح: صحيح الكلام واسأل.أيصبر على هذه الحال ثلاثين سنة ولا يقول: 'جاء ما لا صبر عليه' وأي شيء لا صبر عليه عند الرجل المؤمن الذي يعلم أن البلاء مال غير أنه لا يوضع في الكيس بل في الجسم ؟أفتدري من كان الصابر ثلاثين سنة على بلاء الحياة والموت مجتمعين في عظام ممدودة على سريرها ؟ إنه إمامنا 'عمران بن حصين الخزاعي' الذي أرسله عمر بن الخطاب يفقه أهل البصرة، وتولى قضاءها، وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قدمها خير لهم من عمران بن حصين.ولقد دخلت عليه أنا وأخوه 'العلاء'، فرأيناه مثبتا على سرير الجريد كأنما شد بالحبال وما شد إلا بانتهاك عصبه وذوبان لحمه ووهن عظامه، فبكى أخوه، فقال: لم تبكي ؟ قال: لأني أراك على هذه الحال العظيمة ؟ قال: لا تبك، فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي.ثم قال: إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه، إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع، ولولا هذا لدك الجبل موضعه وغار به ؛ وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدم ؛ إذ كانت قوة روحه قوة في كل موضع، فالبلاء محمول على همة الروح لا على الجسم، وهذا معنى الخبر: 'إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن روحه لتنزع من بيه جنبيه وهو يحمد الله عز وجل'.ثم قال: ولكن ذاك هو المؤمن، فمن آمن بالله فكأنما قال له: 'امتحني ! ' وكيف تراك إذا كنت بطلا من الأبطال مع قائد الجيش، أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: 'امتحني وارم بي حيث شئت ! ' وإذا رمى بك فرجعت مثخنا بالجراح ونالك البتر والتشويه، أتراها أوصافا لمصائبك، أم ثناء على شجاعتك ؟ثم قال: إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئنانا في النفس على زلازلها وكوارثها، لم يكن إيمانا، بل هو دعوى بالفكر أو اللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الروع أحدث في ثيابه من الخوف.ومن ثم كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفرا بالله وتكذيبا لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي أحدث في ثيابه !والإيمان الصحيح هو بشاشة الروح، وإعطاء الله الرضى من القلب، ثقة بوعده ورجاة لما عنده، ومن هذين يكون الاطمئنان، وبالبشاشة والرضى والثقة والرجاء، يصبح الإيمان عقلا ثانيا مع العقل، فإذا ابتلي المؤمن بما يذهب معه الصبر ويطيش له العقل، وصار من أمره في مثل الجنون، برز في هذه الحالة عقله الروحاني وتولى سياسة جسمه حتى يفيق العقل الأول.ويجيء الخوف من عذاب الله ونقمته في الآخرة، فيغمر به خوف النفس من الفقر أو المرض أوغيرهما فيقتل أقواهما الأضعف، ويخرج الأعز منهما الأذل.فالاطمئنان بالإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضى، أو تحويله عن معناه بجعل البلاء ثوابا وحسنات، أو تجريده من أوهامه باعتبار الحياة سائرة بكل ما فيها إلى الموت ؛ وهو بهذا عقل روحاني له شأن عظيم في تصريف الدنيا، يترك النفس راضية مرضية، تقول لمصائبها وهي مطمئنة: نعم.وتقول لشهواتها وهي مطمئنة: لا.وما الإنسان في هذا الكون ؟ وما خيره وشره ؟ وما سخطه ورضاه ؟ إن كل ذلك إلا كما ترى قبضة من التراب تتكبر وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها !قال الشيخ: وانظر، أما تبتلى الشجرة الخضراء في بعض أوقاتها بمثل ما يبتلى به الإنسان ؟ غير أن لها عقلا روحانيا مستقرا في داخلها يمسك الحياة عليها ويتربص حالا غير الحال ؛ ومهما يكن من أمر ظاهرها وبلائه فالسعادة كلها في داخلها، ولها دائما ربيع على قدرها حتى في قر الشتاء.فالعقل الروحاني الآتي من الإيمان، لا عمل له إلا أن ينشئ للنفس غريزة متصرفة في كل غرائزها، تكمل شيئا وتنقص من شيء، وتوجه إلى ناحية وتصرف عن ناحية ؛ وبهذه الغريزة تسمو الروح فتكون أكبر من مصائبها وأكبر من لذاتها جميعا.وتلك الغريزة هي نفسها معنى الرضى بالقدر خيره وشره، وهي تأتي بالتأويل لكل هموم الدنيا، فتضع في النكبات معاني شريفة تنزع منها شرها وأذاها للنفس ؛ وليست المصيبة شيئا لولا تأذي النفس بها، وإذا وقع التأويل في معاني النكبات أصبحت تعمل عمل الفضائل، وتغيرت طبيعتها فيعود الفقر بابا من الزهد، والمرض نوعا من الجهاد، والخيبة طريقا من الصبر، والحزن وجها من الرجاء، وهلم جرا.والنفس وحدها كنز عظيم، وفيها وحدها الفرح والابتهاج لا في غيرها، وما لذات الدنيا إلا وسائل لإثارة هذا الفرح وهذا الابتهاج، فإن وجدا مع الفقر بطلت عزة المال وأصبح حجرا من الحجر ؛ والبلبل يتغرد بحنجرته الصغيرة ما لا تغني فيه آلات التطريب كلها.وفي النفس حياة ما حولها، فإذا قويت هذه النفس أذلت الدنيا، وإذا ضعفت أذلتها الدنيا !.قال المسيب: ثم سكت الشيخ قليلا، وكنت أرى الرجل كأنما يغتسل بكلامه، وقد أشرق وجهه وتنضر وانقلب على روحه التي كان منصرفا عنها، فعادت مصائبه تضغط روحا لينة كما تضغط اليد على الماء، وأيقن أن النكبة كلها هي أن ينظر الإنسان إلى الحياة بعين شهواته، فينكب أول ما ينكب في صبره ويقينه.ثم قال الشيخ: ولقد رأيت بعيني رأسي معجزة 'العقل الروحاني' وكيف يصنع ؛ رأيت عروة بن الزبير وهو شيخ كبير، عند الوليد بن عبد الملك، وقد وقعت في رجله الأكلة: فأشاروا عليه بقطعها لا تفسد جسده كله، فدعي له من يقطعها فلما جاء قال له: نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألما، فقال عروة: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية ! قال: فنسقيك المرقد.فقال عروة: ما أحب أن أسلب عضوا من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه !ثم دخل رجال أنكرهم عروة، فقال: ما هؤلاء ؟ قالوا: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب معه الصبر، قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي !قال الشيخ: فانظر أيها الضعيف الذي يريد قتل نفسه كيف صنع عروة، وكيف استقبل البلاء، وكيف صبر وكيف احتمل، إنه انصرف بحسه إلى النفس فانبسطت روحه عليه، وأخذ يكبر ويهلل ليبقى مع روحه وحدها، وخرج من دنيا ظاهره إلى دنيا باطنه، وغمرت حواسه وأعصابه بالنور الإلهي من معنى التكبير والتهليل، فقطع القاطع كعبه بالسكين وهو لا يلتفت، حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار ونشرها وعروة في التكبير والتهليل، ثم جيء بالزيت مغليا في مغارف الحديد فحسم به مكان القطع، فغشي على عروة ساعة ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولم يسمع منه في كل هذه الآلام الماحقة أنة ولا آهة، ولم يقل قبلها ولا بعدها ولا بين ذلك: 'جاء ما لا صبر عليه ! '.قال المسيب: وأرهف بأس الرجل الضعيف وقوي جأشه، وانبعث فيه الروح إلى عمر جديد، ونشأ له اليقين من عقله الروحاني، وعرف أن ما لا يمكن أن يدرك، يمكن أن يترك.وجاء هذا العقل الروحاني فمر بالمنشار على اليأس الذي كان في نفسه فقطعه، فما راعنا إلا أن وثب الرجل قائما يقول: الله أكبر من الدنيا، الله أكبر من الدنيا.ثم أكب على يد الشيخ وهو يقول: صدقت ؛ 'إن كل ذلك إلا كما ترى قبضة التراب تتكبر، وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها ! '.ماذا يصنع الإنسان إذا غلط في مسألة من مسائل الدنيا إلا أن يتحرى الصواب، ويجتهد في الرجوع إليه، ويصبر على ما يناله في ذلك ؟ وماذا يصنع الإنسان إذا غلطت في مسألة ؟^قال المسيب بن رافع: وقام الشعبي إلى الرجل فاعتنقه فرحا بما آل أمره إليه، بعد إذ رأى النور يجري على لونه ويترقرق في ديباجته، كأنما وقع الصلح بين وجهه وبين الحياة.ثم قال له: نعم أخو الإسلام أنت، فاستعذ بالله من خذلانه، فإنه ما خذلك إلا وضعك نفسك بإزاء الله تعارضه أو تجاريه في قدرته، فيكلك إلى هذه النفس، فتنتهي بك إلى العجز، وينتهي العجز بك إلى السخط، ومتى كنت عاجزا ساخطاً، محصورا في نفسك موكولا إلى قدرتك، كنت كالأسد الجائع في الفقر، إذا ظن أن قوته تتناول خلق الفريسة ؛ فيدعو ذلك إلى نفسك اليأس والانزعاج والكآبة ؛ وأمثالها من هذه المهلكات تقدح في قلبك الشك في الله، وتثبت في روعك شر الحياة، وتهدي إلى خاطرك حماقات العقل، وتقرر عندك عجز الإرادة ؛ فتنتهي من كل ذلك ميتا قد أزهقتك نفسك قبل أن تزهقها !ولو كنت بدل إيمانك بنفسك قد آمنت بالله حق الإيمان، لسلطك الله على نفسك ولم يسلطها عليك ؛ فإذا رمتك المطامع بالحاجة التي لا تقدر عليها، رميتها من نفسك بالاستغناء الذي تقدر عليه ؛ وإذا جاءتك الشهوات من ناحية الرغبة المقبلة، جئتها من ناحية الزهد المنصرف، وإذا ساورتك كبرياء الدنيا أذللتها بكبرياء الآخرة.وبهذا تنقلب الأحزان والآلام ضروبا من فرح الفوز والانتصار على النفس وشهواتها، وكانت فنونا من الخذلان والهم، وتعود موضع فخر ومباهاة، وكانت أسباب خزي وانكسار، 'وعزيمة الإيمان إذا هي قويت حصرت البلاء في مقداره، فإذا حصرته لم تزل تنقص من معانيه شيئا شيئا، فإذا ضعفت هذه العزيمة جاء البلاء غامراً متفشيا يجاوز مقداره بما يصحبه من الخوف والروع، فلا تزال معانيه تزيد شيئا فشيئا بما فيه وبما ليس فيه.وللإيمان ضوء في النفس ينير ما حولها فتراه على حقيقته الفانية وشيكا أن يزول ؛ فإذا انطفأ هذا الضوء انطمست الأشياء، فتتوهمها النفس أوهاما متباينة على أحوالها المختلفة ؛ كما يرى الأعمى بوهمه، لا عينه مع الأشياء تكون في طبيعتها، ولا أشياؤه عند عينه تكون في حقيقتها.قال المسيب: وكان الشمس قد طفلت للمغيب ؛ فقال الإمام للرجل: قم فتوضأ وأسبغ الوضوء، وسأعلمك أمرا تنتفع به في دينك ودنياك: فإذا قمت إلى وضوئك فأيقن في نفسك واعزم في خاطرك على أن في هذا الماء سرا روحانيا من أسرار الغيب والحياة، وأنه رمز للسماء عندك، وأنك إنما تتطهر به من ظلمات نفسك التي امتدت على أطرافك ؛ ثم سم الله تعالى مفيضا اسمه القادر الكريم على الماء وعلى نفسك معا، ثم تمثل أنك غسلت يديك مما فيهما ومما تتعاطاه بهما من أعمال الدنيا، وأنك آخذ فيهما من السماء لوجهك وأعضائك ؛ وقرر عند نفسك أن الوضوء ليس شيئا إلا مسحة سماوية تسبغها على كل أطرافك، ليشعر بها جسمك وعقلك ؛ وأنك بهذه المسحة السماوية تستقبل الله في صلاتك سماويا لا أرضيا.فإذا أنت استشعرت هذا وعملت عليه وصار عادة لك، فإن الوضوء حينئذ ينزل من النفس منزلة الدواء، كلما اغتممت أو تسخطت أو غشيك حزن أو عرض لك وسواس، فما تتوضأ على تلك النية إلا غسلت الحياة وغسلت الساعة التي أنت فيها من الحياة.وترى الماء تحسبه هدوءا لينا لين الرضى، وإذا هو ينساب في شعورك وفي أحوالك جميعا.قال المسيب: وقمت أنا فجددت وضوئي على هذه الصفة بتلك النية، فإذا أنا عند نفسي مستضيء بروح نجمية لها إشراق وسناء، وإذا الوضوء في أضعف معانيه هو ما علمنا من أنه الطهارة والنظافة، أما في أقوى معانيه فهو إفاضة من السماء فيها التقديس والتزكية وغسل الوقت الإنساني مما يخالطه كلما مرت ساعات، وابتدؤه للروح كالنبات الأخضر ناضرا مطولاً مترطبا بالماء.ثم صلى بنا الشيخ، وأمرني بالمبيت مع الرجل، كأنما خشي البدوات أن تبدو له فتنقص عزمه، أو هو زادني عليه لأغير شخصه وأبدل وحدته التي كان فيها، أو كأن الشيخ لم يأمن على الرجل أن يكون إنسانه الروحي قد تنبه بأكمله فوضعني كالتنبيه له.جاءنا العشاء من دار الشيخ فطعمنا، ثم قام الرجل فتوضأ وصلينا العتمة وجلسنا نتحدث، فاستنابه نبأه، فقال: مهلا.ثم نهض فتوضأ الثالثة وقال: تالله ما أعرف الوضوء بعد اليوم إلا ملامسة بين السماء والنفس، وما أعرف وقته من الروح إلا كساعة الفجر على النبات الأخضر.قال المسيب: وأصبحنا فغدونا على الإمام، ثم لزمني الرجل في بعض أموري، ثم وافينا المسجد صلاة العصر لحضور درس الشيخ ؛ وكان الناس كالحب المتراصف على العنقود، لا أدري من ساقهم وجمعهم، كأنما علمت الكوفة أن رجلا مسلما كفر بالله كفرة صلعاء وأنه سيحضر درس الشيخ، وسيحضر الشيخ من أجله، فهبت الرياح الأربع تسوق أهلها إلى المسجد من أقطارها.وجلس الشيخ مجلس الحديث فقال:روينا أن رجلا كانت به جراحة، فأتى قرنا له فأخذ مشقصا فذبح به نفسه، فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وترك جنازته مطرودة تقتحم متلفة الآخرة كما اقتحمت متلفة الدنيا.روينا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: 'الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار، والذي يقتحم يقتحم في النار'.روينا عنه صلى الله عليه وسلم: 'من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة'.روينا عنه صلى الله عليه وسلم: 'كان رجل به جراح فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة'.قال الشعبي: يقول الله: 'بدرني عبدي بنفسه. . .' أي بدرني وتأله فجعل نفسه إله نفسه، فقبضها وتوفاها، فكان ظالماً.بدرني وتأله في آخر أنفاسه لحظة ينقلب إلي، فكان مع ظلمه مغروراً أحمق !بدرني وتأله حين ضاق، فهور نفسه في الموت من عجزه أن يمسكها في الحياة، فكان عاجزاً مع ظلمه وغروره وحمقه !بدرني وتأله على جهله بسر الحياة وحكمتها، فلم يستح هذا المخلوق الظالم المغرور في حمقه وعجزه وجهله، ولم يستح أن يجيئني في صورة إله.بدرني وتأله، فطبع نفسه طابعها الأبدي من غي وتمرد وسفاهة، وأرسلها إلى مقتولة يردها علي.بدرني وتأله كأنما يقول: إن له نصف الأمر ولي النصف: أنا أحييت وهو أمات !بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة ! قال الشعبي: وإنما تحرم الجنة على من يقتل نفسه، إذ ينقلب إلى الله وعلى روحه جناية يده ما تفارقها إلى الأبد، فهو هناك جيفة من الجيف مسمومة أبداً، أو مخنوقة أبداً، أو مذبوحة أبداً، أو مهشمة أبداً يقول الله له: أنت بدرتني بنفسك، وجريت معي في القدر مجرى واحداً، فستخلد نفسك في الصورة التي هي من عملك، وما قتلت إلا حسناتك.قال الشعبي: ولو عرف قاتل نفسه أنه سيصنع من نفسه جيفة أبدية، فمن ذا الذي يعرف أنه إذا فعل كذا وكذا تحول حماراً وبقي حماراً، فيرضى أن يتحول ويسرع ليتحول ؟من ذلك نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة ذلك الرجل الذي قتل نفسه، كما ينظر إلى ذبابة توجهت بالسب إلى الشمس والكواكب والأفلاك كلها، ثم جاءته تقول له: اشهد لي.قال الشيخ: ومم يقتل الإنسان نفسه ؟ أما أن الموت آت لا ريب فيه ولا مقصر لحي عنه، وهو الخيبة الكبرى تلقى على هذه الحياة ؛ فما ضرر الخيبة الصغيرة في أمر من أمور الحياة ؟إن المرء لا يقتل نفسه من نجاح بل من خيبة، فإن كانت الخيبة من مال فهي الفقر أو الحاجة، وإن كانت من عافية فهي المرض أو الاختلال، وإن كانت من عزة فهي الذل أو البؤس، وإن كانت مما سوى ذلك - كالنساء وغيرهن - فهي العجز عن الشهوة أو التخيل الفاسد، وليس يخيب الإنسان إلا خيبة عقل أو إرادة، وإلا فالفقر والحاجة والمرض والاختلال والذل والبؤس، والعجز عن الشهوة وفساد التخيل، كل ذلك موجود في الناس، يحمله أهله راضين به صابرين عليه، وهو الغبار النفسي لهذه الأرض على نفوس أهلها.ويا عجبا ! إن العميان هم بالطبيعة أكثر الناس ضحكا وابتساماً وعبثاً وسخرية، أفتريدون أن تخاطبكم الحياة بأفصح من ذلك ؟ليست الخيبة هي الشر، بل الشر كله في العقل إذا تبلد فجمد على حالة واحدة من الطمع الخائب، أو في الإرادة إذا وهنت فبقيت متعلقة بما لم يوجد.أفلا ترون أنه حين لا يبالي العقل ولا الإرادة لا يبقى للخيبة معنى ولا أثر في النفس، ولا يخيب الإنسان حينئذ، بل تخيب الخيبة نفسها ؟لهذا يأبى الإسلام على أهله الترف العقلي والتخيل الفاسد، ويشتد كل الشدة في أمر الإرادة، فلا يترخص في شيء يتعلق بها، ولا يزال ينميها بأعمال يومية تشد منها لتكون رقيبة على العقل حارسة له، فإن للعقل أمراضاً كثيرة يقيس فيها درجات من الطيش حتى يبلغ الجنون أحياناً ؛ فكانت الإرادة عقلا للعقل ؛ هي لينه إذ تصلب، وهي حركته إذا تبلد، وهي حلمه إذ طاش، وهي رضاه إذا سخط.الإرادة شيء بين الروح والعقل فهي بين وجودين ؛ ولهذا يكون بها الإنسان بين وجودين أيضا، فيستطيع أن يعيش وهو في الدنيا كالمنفصل عنها، إذ يكون في وجوده الأقوى وجود روحه، وأكبر همه نجاحه في هذا الوجود.وهذا النجاح لا يأتي من المال، ولا تحققه العافية، ولا تيسره الشهوات، ولا يسنيه التخيل الفاسد ؛ ولا يكون من متاع الغرور، ولا مما عمره خمسون سنة أو مائة سنة، بل يأتي مما عمره الخلود ومما هو باق أبداً في معانيه من الخير والحق والصلاح ؛ فههنا يعين المرض بالصبر عليه مما لا تعين الصحة، ويفيد الفقر بحقائقه ما لا تفيد الثروة ؛ وهنا يكون العقل الإنساني عاملا أكثر مما هو متخيل، وقانعا أكثر مما هو طامع ؛ ههنا لا موضع لغلبة الشهوة، ولا كبرياء النفس، ولا حب الذات ؛ وهذه الثلاث هي جالبة الشقاء على الإنسان حتى في أحوال السعادة، وبدونها يكون الإنسان هانئا حتى في أحوال الشقاء.بالإرادة المؤمنة القوية ينصرف ذكاء المؤمن إلى حقائق العالم وصلاح النفس بها، وبغير هذه الإرادة ينصرف الذكاء إلى خيال الإنسان وفساد الإنسان.وإذا انصرف الذكاء إلى حقائق الدنيا كان العقل سهلا مرنا مطواعا، واستحال عليه أن يفهم فكرة قتل النفس أو يقرها، فإن هذه الفكرة الخبيثة لا تستطرق إلى العقل إلا إذا تحجر وانحصر في غرض واحد قد خاب وخابت فيه الإرادة ففرغت الدنيا عنده.ولو أن امرأ تم عزمه على قتل نفسه ثم صابر الدنيا أياماً، لانفسح عزمه أو رك ؛ إذ يلين العقل في هذه المدة نوعا ما، ويجعل الصبر بينه وبين المصيبة مسافة ما، فتتغير حالة النفس هونا ما ؛ فالصبر كالتروح بالهواء على العقل الذي يكاد يختنق من احتباسه في معنى واحد مقفل من جوانبه 'ومثل العقل في هذه الحال مثل القائم في إعصار لفه بالتراب لفا وسد عليه منافذ الهواء، وحبسه في هذا التراب الملتف حبس الحشرة في جوف القصبة ؛ فهو على اليقين أنها حالة ساعة طارئة من الزمن لا حالة الزمن ؛ وأن الهواء الذي جاء بهذا الهم هو الذي يذهب بهذا الهم.وكما أن الأرض هي شيء غير هذا الإعصار الثائر منها، فالحياة كذلك هي أمر آخر غير شقائها.قال الإمام: وفي كتاب الله آيتان تدلان على أنه كتاب الدنيا كلها، إذ وضع لهذه الدنيا مثالين: أحدهما المثال الروحي للفرد الكامل، والآخر المثال الروحي للجماعة الكاملة.أما الآية الأولى فهي قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ }.وأما الثانية فهي قوله تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }.ففي رجاء الله واليوم الآخر يتسامى الإنسان فوق هذه الحياة الفانية، فتمر همومها حوله ولا تصدمه، إذ هي في الحقيقة تجري من تحته فكأن لا سلطان لها عليه، وهذه الهموم تجد في مثل هذه النفس قوى بالغة تصرفها كيف شاءت، فلا يجيء الهم قوة تستحق ضعفا، بل قوة تمتحن قوة أخرى أو تثيرها لتكون عملا ظاهرا يقلده الناس وينتفعون منه بالأسوة الحسنة، والأسوة وحدها هي علم الحياة.وقد ترى الفقير من الناس تحسبه مسكينا، وهو في حقيقته أستاذ من أكبر الأساتيذ يلقي على الناس دروس نفسه القوية.وفي رجاء الله واليوم الآخر يبطل أكبر أسباب الشر في الناس، وهو نظر الإنسان لمن هو أحظى منه بفتنة الدنيا نظرا لا يبعث إلا الحقد والسخط، فينظر المؤمن حينئذ إلى ما في الناس من الخبر والصلاح والإيمان والحق والفضيلة، وهذه بطبيعتها لا تبعث إلا السرور والغبطة، ومن جعلها في تفكيره أبطل أكثر الدنيا من تفكيره، وبها تسقط الفروق بين الناس عاليهم ونازلهم، كالرجل الفقير العالم إذا قدم على الغني العالم ؛ جمع بينهما الاتفاق العقلي وسقط ما عداه.وفي رجاء الله واليوم الآخر يعيش الإنسان عمره الطويل أو القصير كأنه في يوم يصبح منه غاديا على الحشر والحساب ؛ فهو متصل بالخلود غير معني إلا بأسبابه، وبهذا تكون أمراضه وآلامه، ومصائبه ليست مكاره من الدنيا، بل هي تلك المكاره التي حفت الجنة بها ؛ ولا يضره الحرمان لأنه قريب الزوال، ولا يغره المتاع لأنه قريب الزوال أيضا.وفي رجاء الله واليوم الآخر يسود الإنسان على نفسه، ومن كان سيد نفسه كان سيد ما حولها يصرفه بحكمه، ومن كان عبد نفسه صرفه بحكمه كل ما حوله.قال الشعبي: وأما المثال الروحي للجماعة الكاملة، فهو في وصف المؤمنين بأنهم 'رحماء بينهم' ؛ فهذا هذا، ما أحسبه يحتاج إلى بسط وبيان.إن أكثر ما يضيق به الإنسان يكون من قبل من حوله ممن يعايشهم ويتصل بهم لا من قبل نفسه، فإذا قام اجتماع أمة على أنهم 'رحماء بينهم' تقررت العظمة النفسية للجميع على السواء ؛ ومن كانوا كذلك لم يحقروا الفقير بفقره، ولم يعظموا الغني لغناه، وإنما يحقرون ويعظمون لصفات سامية أو حقيرة.وبين هؤلاء يكون الفقير الصابر أعظم قدرا من الغني الشاكر، وإعظام الناس لفضيلة الفقير هو الذي يجعل فقره عند نفسه شيئا ذا قيمة في الإنسانية.ومتى تصححت آراء الجماعة في هذه المعاني المؤلمة للناس بطل ألمها واستحالت معانيها، وصار لا يبلى معنى من معاني الحياة في إنسان إلا وضع إيمانه معنى جديداً في مكانه، وتصبح الفضيلة وحدها غاية النفس في الجميع، وبذلك يصبر الفرد على مصائبه، لا بقوته وحده، ولكن بجميع القوى التي حوله.أفلا ترون أن إعجاب الناس بالشجاعة وتعظيمهم صاحبها يضع في ألم السلاح لذة يحسها لحم الشجاع البطل ؟قال المسيب بن رافع: فقام رجل من المجلس، فقال: أيها الشيخ، وإذا فسد الناس وغلظت قلوبهم، وتقطعت بينهم الأسباب، ولم يعودوا 'رحماء بينهم'، وشمتوا بالفقير، وتهزءوا بالمبتلى وطرحوه في ألسنتهم كما يطرح الشاعر في لسانه رجلا يهجوه لا يكف عنه - فما عسى أن يصنع المسكين حينئذ وكل شيء يدفعه إلى قتل نفسه ؟وقال الشعبي: ههنا الرجاء في الله واليوم الآخر، وهو شعور لا يشترى بمال، ولا يلتمس من أحد، ولا يعسر على من أراده، والفقير والمبتلى وغيرهما إنما يصنع كل منهم مثاله السامي ؛ فالصبر على هذا العنت هو صبر على إتمام المثال، وإذا وقع ما يسوءك أو يحزنك فابحث فيه عن فكرته السامية، فقلما يخلو منها، بل قلما يجيء إلا بها.قال المسيب: فقام آخر فقال: وكيف يصنع امرؤ آلت أحوال الدنيا إلى ما يخيفه، أو بلغ الهم مبلغه من قلبه فهم أن يقتل نفسه ؟قال الشعبي: فليجعل الخوف خوفين: أحدهما خوفه عذاب الله خالداً مخلداً فيه أبداً ؛ فيذهب الأقوى بالأضعف، وإذا ابتلي فليضم إلى نفسه من هو أشد بلاء منه ؛ ليكون همه أحد همين، فيذهب الأثقل بالأخف.إن الإنسان ونفسه في هذه الحياة كالذي أعطي طفلا نزقا طياشا عارما متمرداً ليؤدبه ويحكم تربيته وتقويمه فيثبت بذلك أنه أستاذ، فيعطي أجر صبره وعمله، ثم يضيق الأستاذ بالطفل ساعة فيقتله، أكذلك التأديب والتربية ؟^قال المسيب بن رافع: وكان الإمام قد شغل خاطره بهذه القصة فأخذت تمد مدها في نفسه، ومكنت له من معانيها بمقدار ما مكن لها في همه، وتفتق بها ذهنه عن أساليب عجيبة يتهيأ بعضها من بعض كما يلد المعنى العنى.فلما قال الرجلان مقالهما آنفا وأجابهما بتلك الحكمة والموعظة الحسنة، انقدح له من كلامهما وكلامه رأي فقال:يا أهل الكوفة: أنشدكم الله والإسلام أيما رجل منكم ضاق بروحه يوماً فأراد إزهاقها إلا كشف لأهل المجلس نفسه وصدقنا عن أمره ؛ ولا يجدن في ذلك ثلبا ولا عاباً، فإنما النكبة مذهب من مذاهب القدر في التعليم، وقد يكون ابتداء المصيبة في رجل هو ابتداء الحكمة فيه لنفسه أو لغيره ؛ وما من حزين إلا وهو يشعر في بعض ساعات حزنه أنه قد غيبت فيه أسرار لم تكن فيه، وهذا من إبانة الحقيقة عن نفسها وموضعها كما لألأ في سيف بريقه.وعقل الهم عقل عظيم، فلو قد أريد استخراج علم يعلمه الناس من اللذات والنعم ؛ لكان من شرح هذا العلم من الحمير والبغال والدواب ما لا يكون مثله ولا قرابه في العقلاء، ولا تبلغه القوى الآدمية في أهلها ؛ يبد أنه لو أريد علم من البؤس والألم والحاجة لما وجد شرحه إلا في الناس، ثم لا يكون الخاص منه إلا في الخاصة منهم.وما بان أهل النعمة ولا غمروا المساكين في تطاولهم بأعناقهم إلا من أنهم يعلون أكتاف الشياطين ؛ فالشيطان دابة الغني الذي يجهل الحق عليه في غناه ويحسب نفسه مخلى لشهواته ونعيمه ؛ كما هو دابة العالم الذي يجهل الحق عليه في علمه، ويزعم نفسه مخلى لعقله أو رأيه، وما طال الطويل بذلك ولا عن ذلك قصر القصير، وهل يصح في الرأي أن يقال هذا أطول من هذا لأن الأول فوق السلم والآخر فوق رجليه ؟قال المسيب: فقام شيخ من أقصى المجلس وأقبل يتخطى الرقاب والناس ينفرجون له حتى وقف بإزاء الإمام ؛ وتفرسته وجعلت عيني تعجمه، فإذا شيخ تبدو طلاقة وجهه شبابا على وجهه، أبلج الغرة متهلل عليه بشاشة الإيمان وفي أساريره أثر من تقطيب قديم، ينطق هذا وذاك أن الرجل فيما أتى عليه من الدهر قد كان أطفأ المصباح الذي في قلبه مرة ثم أضاءه.وعجبت أن يكون مثل هذا الشيخ قد هم بقتل نفسه يوما، وأنا أرى بعيني نفسه هذه منبثقة في الحياة انبثاق النخلة السحوق.وتكلم هذا الرجل فقال:أما إذ ناشدتنا الله والإسلام وميثاق العلم ووحي الأقدار في حكمتها، فإني محدثك بخبري على وصفه ورصفه: أملقت منذ ثلاثين سنة ووقف بي من الدهر ما كان يجري، وأصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، وعجزت يدي حتى لظفر دجاجة في نبشها التراب عن الحبة والحشرة أقدر مني ؛ وطرقتني النوائب كأنما هي تساكنني في داري، وأكلني الدهر لحما ورماني عظاماً، فما كان يقف علي إلا كلاب الطريق ؛ ولي يومئذ امرأة أعقبت منها طفلا، ويلزمني حقهما وأستطيعه، وكان بيننا حب فوق المعاشرة والألفة قد تركني من امرأتي هذه كالشاعر الغزل من صاحبته، غير أن الشعر في دمي لا في لساني.فلما نهكتني المصائب وتناولتني من قريب ومن بعيد، قلت للمرأة ذات يوم وقد شحبت وانكسر وجهها وتقبض من هزاله: وايم الله يا فلانة لو جاز أن يؤكل لحم الآدمي لذبحت نفسي لتأكلي وتدري على الصبي، ولقد هممت أن أركب رأسي وأذهب على وجهي لتفقداني فتفقدا شؤمي عليكما ؛ ولكن ردني قلبي، وهو حبسني في هذه الدنيا الصغيرة التي بينكما، فليس لي من الأرض مشرق ولا مغرب إلا أنت وهذا الصبي.ولست أدري - والله - ما نصنع بالحياة وقد كنا من نباتها الأخضر فرجعنا من حطبها اليابس ؛ وعادت الشمس لا تغذوها بل تمتص منها ما بقي، ولا تستضيء لها، ولكن تستوقد عليها.إن من فقد الخير ووقع في الشر، حري أن يكون قد أصاب خيراً عظيما إذا قتل نفسه فخلص من الشر والخير جميعا، لا يكدي ولا ينجح، ولا يألم ولا يلذ ؛ وكما أنكرته الدنيا فلينكرها.أما إنه إن كان القبر فالقبر ولكن في بطن الأرض لا على ظهرها كحالنا ؛ وإن كان الموت فالموت ولكن بمرة واحدة وفي شيء واحد لا كهذا الذي نحن فيه أنواعاً أنواعاً، قد ماتت أيامنا، وتركنا نعيش كالموتى لا أيام لهم، وزاد علينا الموتى في النعمة والراحة أنهم لا يتطفلون على أيام غيرهم فيطردوا عن يوم هذا ويوم ذاك.قال: فاستعبرت المرأة باكية، ولما فرغت من كلام دموعها قالت: كأنك تريد أن تفجعنا فيك ؟ قلت: ما عدوت ما في نفسي ؛ ولكن هل بقي في من تفجعين فيه ؟ أما ذهب مني ذاك الذي كان لك زوجا وكاسبا، وجاء الذي هو همك وهم هذا الصبي من رجل كالحفرة لا تنتقل من مكانها وتأخذ ولا تعطي ؟أم والله لكأني خلقت إنسانا خطأ، حتى إذا تبين الغلط أريد إرجاعي إلى الحيوان فلم يأت لا هذا ولا ذاك، وبقيت بينهما ؛ يمر الناس بي فيقولون: إنسان مسكين.وأحسب لو نطقت الكلاب لقالت عني: كلب مسكين.يا عجبا ! عجبا لا ينتهي ! أصبحت الدنيا في يدنا من العجز واليأس كأنما هي بعرة نجهد في تحويلها ياقوتة أو لؤلؤة.فقالت المرأة: والله لئن حييت على هذا إن هذا لكفر قبيح، ولئن مت عليه إنه لأقبح وأشد.فقلت لها: ويحك وماذا تنظر العين المبصرة في الظلام الحالك إلا ما تنظر العمياء ؟قالت: ولم لا تنظر كما ينظر المؤمن بنور الله ؟قلت: فانظري أنت وخبريني ماذا ترين.أترين رغيفاً ؟ أترين إداماً ؟ أترين ديناراً ؟قالت: والله إني لأرى كل ذلك وأكثر من ذلك.أرى قمرا سيكشف هذه السدفة المظلمة إن لم يطلع فكأن قد.قال: فغاظتني المرأة ورأيتها حينئذ أشد علي بقلة ذات عقلها من قلة ذات يدي ؛ ولولا حبي إياها ورحمتي لها لأوقعت بها.واستحكم في ضميري أن أزهق نفسي وأدعها لما كتب لها.وقلت: إن جبن المرأة هو نصف إيمانها حين لا يكون نصف عقلها، وللقدر يد ضعيفة على النساء تصفعهن وتمسح دموعهن، وله يد أخرى على الرجال ثقيلة تصفع الرجل وتأخذ بحلقه فتعصره.قال: وكنت قد سمعت قول الجاهلية في هذه الخليقة ؛ أرحام تدفع، وأرض تبلع.فحضرني هذا القول تلك الساعة وشبه لي، واعتقدت أن هذا الإنسان شيء حقير في الغاية من الهوان والضعة: حملته أمه كرها، وأثقلت به كرها، ووضعته كرها ؛ وهو من شؤمه عليها إذا دنا لها أن تضع لم يخرج منها حتى يضربها المخاض فتتقلب وتصيح وتتمزق وتنصدع ؛ وربما نشب فيها فقتلها، وربما التوى فيبقر بطنها عنه.وإذا هي ولدته على أي حاليها من عسر وتطريق بمثل المطارق المحطمة، أو سراح ورواح كما يتيسر ؛ فإنما تلده في مشيمة ودماء وقذر من الأخلاط كأنما هو خارج من جرح، ثم تتناوله الدنيا فتضعه من معانيها في أقبح وأقذر من ذلك كله.ثم يستوفي مدته فيأخذه القبر فيكون شرا عليه في تمزيقه وتعفينه وإحالته.قال: وحضرني مع كلمة الجاهلية قول ذلك الجاهل الزنديق الذي يعرف 'بالبقلي' إذ كان يزعم أن الإنسان كالبقلة، فإذا مات لم يرجع، وقلت لنفسي: إنما أنت بقلة حمقاء ذواية في أرض نشاشة، فقتلها ملح أرضها أكثر مما أحياها.قال: وثرت إلى المدية أريد أن أتوجأ بها، فتبادرني المرأة وتحول بيني وبينها، وأكاد أبطش بها من الغيظ، وكانت روح الجحيم تزفر من حولي لو سمعوا سمعوا لها شهيقا وهي تفور ؛ فما أدري أي ملك هبط بوحي الجنة في لسان امرأتي.قلت لها: إنها عزمة مني أن أقتل نفسي.قالت: وما أريد أن أنقضها ولست أردك عنها وستمضيها.قلت: فخلي بين نفسي وبين المدية.قالت: كلنا نفس واحدة أنا وأنت والصبي فلنقض معا ؛ وما بنفسي عن نفسك رغبة ولا تدع الصبي يتيما يصفعه من يطعمه، ويضربه ابن هذا وابن ذاك إذ لا يستطيع أن يقول في أولاد الناس أنا ابن ذلك ولا ابن هذا.قلت: هذا هو الرأي.قالت: فتعال اذبح الطفل.قال المسيب بن رافع: وما بلغ الرجل في قصته إلى ذبح صغيره حتى ضج الناس ضجة منكرة ؛ وتوهم كل أب منهم أن طفله الصغير ممدد للذبح وهو ينادي أباه ويشق حلقه بالصراخ: يا أبي يا أبي ؛ أدركني يا أبي.أما الإمام فدمعت عيناه وكنت بين يديه فسمعته يقول: إنا لله، كيف تصنع جهنم حطبها ؟وأنا فما قط نسيت هذه الكلمة، وما قط رأيت من بعدها كافراً ولا فاسقاً فاعتبرت أعماله إلا كان كل ذلك شيئاً واحداً هو طريقة صنعته حطباً. . .كأن الشيطان لعنه الله يقول لأتباعه: جففوه.وكانت هنيهات، ثم فاء الناس ورجعوا إلى أنفسهم وصاحوا بالمتكلم: ثم ماذا ؟قال الرجل: ففتحت عيني وقلبي معاً ورمقت الطفل المسكين الذي لا يملك إلا يديه الضعيفتين ؛ ونظرت إلى مجرى السكين من حلقه وإلى محزها في رقبته اللينة ؛ ورأيته كأنما تفرق بصره من الفزع على كل جهة، ورأيته يتضرع لي بعينيه الباكيتين ألا أذبحه، ورأيته يتوسل بيديه الصغيرتين كأنه عرف أنه مني أمام قاتله، ثم خيل إلي أنه يتلوى وينتفض ويصرخ من ألم الذبح تحت يد أبيه ؛ تحت يد أبيه التعس.يا ويلتاه ! لقد أخذني ما كان يأخذني لو تهدمت السماء على الأرض، وحسبت الكون كله قد انفجر صراخاً من أجل الطفل الضعيف الذي ليس له إلا ربه أمام القاتل.فهرولت مسرعاً وتركت الدار والمرأة والصبي وأنا أقول يا أرحم الراحمين.يا من خلق الطفل عالمه أمه وأبوه وحدهما وباقي العالم هباء عنده.يا من دبر الرضيع فوهبه ملكا ومملكة وغنى وسروراً وفرحا، كل ذلك في ثدي أمه وصدرها لا غير يا إلهي ! أنسني مثل هذا النسيان، وارزقني مثل هذا الرزق، واكفلني بمثل هذا التدبير فإني منقطع إلا من رحمتك انقطاع الرضيع إلا من أمه.قال الرجل: ولقد كنت مغروراً كالجيفة الراكدة تحسب أنها هي تفور حين فارت حشراتها.ولقد كنت أحقر من الذباب الذي لا يجد حقائقه، ولا يلتمسها إلا في أقذر القذر.وما كدت أمضي كما تسوقني رجلاي حتى سمعت صوتا نديا مطلولا يرجع ترجيع الورقاء في تحنانها وهو يرتل هذه الآية:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }.قال: فوقفت أسمع وماذا كنت أسمع ؟ هذه شعل لا كلمات، أحرقت كل ما كان حولي ولمست مصباح روحي المنطفئ فإذا هو يتوهج، وإذا الدنيا كلها تتوهج في نوره، وارتفعت نفسي عن الجدب الذي كنت فيه وكأنما لفتني سحابة من السحب، ففي روحي نسيم الماء البارد ورائحة الماء العذب.لعن الله هذا الاضطراب الذي يبتلى الخائف به.إننا نحسبه اضطرابا وما هو إلا اختلاط الحقائق على النفس وذهاب بعضها في بعض، وتضرب الشر في الخير والخير في الشر حتى لا يبين جنس من جنس، ولا يعرف حد من حد، ولا تمتاز حقيقة من حقيقة.وبهذا يكون الزمن على المبتلى كالماء الذي جمد لا يتحرك ولا يتساير.فيلوح الشر وكأنه دائما لا يزال في أوله ينذر بالأهوال، وقد يكون هوله انتهى أو يوشك.قال الرجل: وكنت أرى يأسي قد اعترى كل شيء، فامتد إلى آخر الكون وإلى آخر الزمن ؛ فلما سكن ما بي إذا هو قد كان يأس يوم أو أيام في مكان من الأمكنة ؛ أما ما وراء هذه الأيام وما خلف هذا المكان، فذلك حكمة حكم الشمس التي تطلع وتغيب على الدنيا لإحيائها، وحكم الماء الذي تهمي السماء به ليسقي الأرض وما عليها، وحكم استمرار هذه الأجرام السماوية في مدارها ولا تمسكها ولا تزنها إلا قوة خالقها.أين أثر الإنسان الدنيء الحقير في كل ذلك ؟ وهل الحياة إلا بكل ذلك ؟وما الذي في يد الإنسان العاجز من هذا النظام كله فيسوغ له أن يقول في حادثة من حوادثه إن الخير لا يبتدئ وإن الشر لا ينتهي ؟تعتري المصائب هذا الإنسان لتمحو من نفسه الخسة والدناءة، وتكسر الشر والكبرياء، وتفثأ الحدة والطيش ؛ فلا يكون من حمقه إلا أن يزيد بها طيشا وحدة، وكبرياء وشراً، ودناءة وخسة، فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك.المصيبة هي ما ينشأ في الإنسان من المصيبة.قال: ورددت الآية الكريمة في نفسي لا أشبع منها، وجعلت أرتلها أحسن ترتيل وأطربه وأشجاه ؛ فكانت نفسي تهتز وترج كأنما هي تبدأ تنظيم ما فيها لإقرار كل حقيقة في موضعها بعد ذلك الاختلاط والاضطراب.صبر النفس مع الذين يمثلون روحانيتها تمثيلا دائما بالغداة والعشي، وعلى نور الحياة وظلامها، يريدون وجه الله الذي سبيله الحب لا غيره من مال أو متاع.وتقييد العينين بهذا المثل الأعلى كما يكون الأمر في الجمال والحب ؛ والربط على الإرادة كيلا تتفلت فتسف إلى حقائر الدنيا المسماة هزءا وتهكما زينة الدنيا، تلك التي تشبه حقائق الذباب العالية. . .فتكون قذرة نجسة، ولكنها مع ذلك زينة الحياة لهذا الخلق الذبابي.تلك - والله - هي أسباب السعادة والقوة.أما المصائب كلها، فهي في إغفال القلب الإنساني عن ذكر الله.قال: ولما صحت توبتي، وقوي اليقين في نفسي، كبرت روحي واتسعت، وانبعثت لها بواعث من غير حقائق الذباب، وأشرق فيها الجمال الإلهي ساطعا من كل شيء، وكان الصبح يطلع علي كأنه ولادة جديدة، فأنا دائما في عمر طفل، وجاءني الخير من حيث أحتسب ولا أحتسب، وكأنما نمت فانتبهت غنيا وعمل القلب الحي في الزمن الحي.ولقد أفدت من الآية طبيعة لم تكن في، ولا يثبت معها الشر أبداً، فأصبح من خصالي أن أرى الحاضر كله متحركا يمر بما فيه من خيره وشره جميعاً، وأستشعر حركته مثلما ترى عيناي من قطار الإبل يهتز تحت رحاله وهو يغذ السير.لم أبعد قليلا وأنا أمشي مطمئنا تائبا متوكلا حتى دعاني رجل ذو نعمة ومروءة وجاه، وكأنما كلمه قلبه أو كلمه وجهي في قلبه فاستنبأني، وبثثته حالي واقتصصت قصتي.فقال: سيحييك الله بالطفل الذي كدت تقتله فارجع إلى دارك.ثم وجه إلي دنانير وقال: اتجر بهذه على اسم الله وبركته فسينمو فيها طفل من المال يبلغ أشده.وقد صدق إيمانه وإيماني، فبارك لي الله ونما طفل المال وبلغ وجاوز إلى شبابه.قال المسيب: وجلس الرجل وكان كالخطيب على المنبر، فقال الإمام: ما أشبه النكبة بالبيضة تحسب سجنا لما فيها وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيخرج خلقا آخر.وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته، عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل.^قال المسيب بن رافع: ومد الإمام عينه وقد رفع له شخص من المجلس ؛ ثم جلى بنظره كأنما يتطلع إلى عجيبة كالحق إذا بطل، والصدق إذا كذب، ثم رد بصره علي كأنه يعجبني من عجبه ؛ ثم سجا طرفه كأنما أنكر رأي عينيه فهو يلتمس رأي قلبه.وتبينت في وجهه انقباضا خيل إلي أن الشيطان جاءه بهذا الرجل يفحمه به يريه كيف يجعل أحد المؤمنين الصالحين يتحمس في دينه ليرجع بعد ذلك أصلا لا غنى عنه في إنشاء قصة كفر !هذا هو ضيفنا 'أبو محمد البصري' يتخوض الناس ليجيء فيحدثنا حديثه في قتل نفسه والإثم بربه ؛ فلو قيل لي: إن قوس السماء بأحمره وأصفره وأزرقه وأخضره، قد وقع إلى الأرض واصطبغ من ألوانه أوحالاً وأقذاراً ؛ لكان هذا كهذا في تعاظمه وإنكاره والعجب منه ؛ فأبو محمد من الرجال الحمس الذين لو كفر أحدهم ثم قيل: 'إنه كفر'، لقصر اللفظ أن يبلغ الحقيقة أو يصف شنعتها، كما يقصر لفظ الجنون عن وصف حكيم تألى أن يعمل عملا يخرج به من الكون، فلا يبقى في أرض ولا سماء ولا تناله يد الله ! إن في لفظ الكفر مع ذاك، وفي لفظ الجنون مع هذا، شيئا من نفاق العقل وتأدبه في أداء المعنى الأخرق الذي لا يشبهه جنون ولا كفر.ونعوذ بالله من خذلانه ؛ فلقد يكون الرجل المؤمن في تشدده وإيغاله في الدين كالذي يصنع حبلا يفتله فتلا شديداً فيمره على طاق بعد طاق، ليكون أشد له وأقوى، ثم يجاذبه الشيطان حبله، فإذا هو كان في الوهن مثل العنكبوت اتخذت بيتا في سقف حداد ؛ فرأته يصب الحديد المصهور يجعله سلسلة حلقة في حلقة، فذهبت تحكيه وترسل من لعابها خيطا في خيط تزعمه سلسلة.إن مع كل مؤمن شيطانه يتربص به، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يكون في كل ساعة كالذي يشعر أنه لم يؤمن إلا منذ ساعة، فهو أبداً محترس متهيئ متجدد الحواس مرهفها يستقبل بها الدنيا جديدة على نفسه بين الفترة والفترة، ومن هذا حكمة أن يؤذن المؤذن، وأن تقام الصلاة مراراً في اليوم، فكلما بدأ وقت قال المؤمن: الآن أبدأ إيماني أطهر ما كان وأقوى.وقال الإمام: هيه يا أبا محمد ! فقال البصري وقد رأى الكراهة في وجه الإمام: لا يفزعنك أيها الشيخ ؛ فإن الله - تعالى - قد يجعل ما يحبه هو فيما نكره نحن ؛ وليس للأقدار لغة فتجري على ألفاظنا ؛ وقد نسمي النازلة تنزل بنا خساراً وهي ربح، أو نقول مصيبة جاءت لتبديل الحياة، ولا تكون إلا طريقة تيسرت لتبديل الفك.إنما لغة القدر في شيء هي حقيقة هذا الشيء حين تظهر الحقيقة ؛ وكأين من حادثة لا تصيب امرأ في نفسه إلا لتقع بها الحرب بين هذه النفس وبين غرائزها، فتكون أعمال الطبيعة المعادية أسبابا في أعمال العقل المنتصر.وكثير من هذا البلاء الذي يقضي على الإنسان، لا يكون إلا وسائل من القدر يرد بها الإنسان إلى عالم فكره الخاص به ؛ فإن هذه الدنيا عالم واحد لكل من فيها، ولكن دائرة الفكر والنفس هي لصاحبها عالمه وحده.والسعيد من قر في عالمه هذا واستطاع أن يحكم فيه كالملك في مملكته، نافذ الأمر في صغيرتها وكبيرتها ؛ والشقي من لا يزال ضائعا بين عوالم الناس، ينظر إلى هذا الغني، وإلى ذاك المجدود وإلى ذلك الموفق ؛ وهو في كل هذا كالأجنبي في غير بلده وغير قومه وغير أهله، إذا كل شيء يصبح أجنبيا عن الإنسان ما دام هو أجنبيا عن نفسه.لقد كنت ضالا عن نفسي وعالمها، فكنت في هذه الدنيا أستشعر شعور اللص، أشياؤه هي أشياء الناس جميعاً ؛ واللص ينظر إلى أموال الناس بعيني شاعر متحبب كلف، وهي تنظر إليه بعيني مقاتل متربص حذر.كنت والله إن ضقت بالناس أو وسعتهم ؛ رأيت في ذلك معنى من ضيق اللص وسعته ؛ هو على أي حاليه لا ينظر في أعماق نفسه إلا شخصا متواريا تحت الظلام يتسلل في خشية وحذر.وكنت نزقا حديد الطبع سريع البادرة ؛ ومن فقد عالم نفسه وكان في مثل اللص الذي ذكرت ؛ فإن هذه الطباع تكون هي أسلحته يدفع بها أو يعتدي.وما قط تمكن إنسان من نفسه وأحاط بها ونفذ فيها تصرفه ؛ إلا كان راضيا عن كل شيء إذ يتصل من كل شيء بجهته السامية لا غيرها، حتى في اتصاله بأعدائه من الناس وأعدائه من الأشياء ؛ فما يرى هؤلاء ولا هؤلاء إلا امتحانا لفضائله وإثباتها لها.وقد يكن عدوك في بعض الأمور عينا لك في رؤية نفسك ؛ ففيه بركة هذه الحاسة ونعمتها.ولو نحن كنا مسلمين إسلام نبينا صلى الله عليه وسلم، وإسلام المقتدين به من أصحابه، لأدركنا سر الكمال الإنساني، وهو أن يقر الإنسان في عالم نفسه ويجعل باطنه كباطن كل شيء إلهي، ليس فيه إلا قانونه الواحد المستمر به إلى جهة الكمال، المرتفع به من أجل كماله عن دوافع غيره ؛ فنظر الإنسان إلى نقص غيره هو أول نقصه.والمؤمن كالغصن ؛ إن أثمر فتلك ثمار نفسه، وإن عطل لم يشحذ ولم يحسد واستمر يعمل بقانونه.ولقد نشأت في مغرس كريم، على صورة من الحياة تشبه صورة الثمرة الحلوة، اجتمع لها من طبيعة مغرسها ومرتبتها ما تتعين به من حلاوة ونكهة ومذاق، فلما عقلت وعرفت الناس بعد فجاريتهم وخالطتهم، رأيتني منهم كالتفاحة ملقاة في البصل، وكانت التفاحة حمقاء فزادت حمقا، وكانت جديدة فزادت جدة، وظنت أن الحكمة قد مسخت في الدنيا وبدلت إذ خلقت البصلة بعد أن خلقت التفاحة، وما علمت الخرقاء أن الكمال في هذه الحياة مجموع نقائص، وأن للجمال وجهين: أحدهما الذي اسمه القبح ؛ لا يعرف هذا إلا من هذا ؛ وأن البصلة لو أدركت ما يريد الناس من معناها ومعنى التفاحة لسمت نفسها هي التفاحة، وقالت عن هذه أنها هي البصلة !ولما رأت تفاحتي أنها عاجزة أن تجعل الشجر كله في مثل مرتبتها ومغرسها، قالت: إن الأمر أكبر من طبيعتي، وما دام سر الكون مغلقا فلا تعريف له إلا أنه سر مغلق، وليبق كل شيء في طبيعة نفسه، فعلى هذا يصلح كل شيء ولو في نفسه وحدها.قال أبو محمد: ولكن بقيت وحشة الدنيا وجفوتها، إذا لم أكن اهتديت إلى عالمي، ولا تأكدت عقيدتي بنفسي ؛ فكان كل ما حولي منبجسا في روحي بشره، وكانت الدنيا بهذا كالمتطابقة في رأيي على معنى واحد، وزادني أني كنت رجلا عزباً متعففا ؛ وما أشبه فراغ الرجولة من المرأة بفراغ العقل من الذكاء ؛ هذا هو العقل البليد، وتلك هي الرجولة البليدة !والمرأة تضاعف معنى الحياة في النفس، فلا جرم كان الخلاء منها مضاعفة لمعنى الموت ؛ علم هذا من علم وجهله من جهل، فكنت أعيش من الكون في فراغ ميت، وكنت أحس في كل ما حولي وحشة عقلية تشعرني أن الدنيا غير تامة ؛ وكيف تتم في عيني دنيا أراها غير الدنيا التي في قلبي ؟وعرفت أن كل يوم يمضي على الرجل العزب المتعفف لا يمضي حتى يهيئ فيه مرض يوم آخر، ومن هذه الأيام المريضة المتهالكة، تعد الحياة انتقامها من هذا الحي الذي نقض آيتها وافتأت عليها، وجعل نفسه كالإله لا زوجة له ولا صاحبة !وايم الله إن الشيطان لا يفرح بالرجل الزاني وبالمرأة الزانية ما يفرح بالرجل العزب وبالمرأة العزباء، لأنه في ذينك رذيلة في أسلوبها، أما في هذين فالشيطان رذيلة في أسلوب فضيلة ! هناك يلم الشيطان ويمضي، وهنا يأتي الشيطان ويقيم !وقد عشت ما عشت بقلب مغلق وعقل مفتوح ؛ وليتني كنت جاهلاً مغلقا عقله، وكان قلبي مفتوحا لأفراح هذا الكون العظيم !ومضت أيامي يضرب بعضها في بعض، ويمرض بعضها بعضاً حتى انتهت منتهاها، وجاء اليوم المدنف الهالك الذي سيموت.أصبحت فقلت لنفسي: كم تعيشين ويحك في أحكام جسد مختل لا تصدق أحكامه، وما أنت معه في طبيعتك ولا هو معك في طبيعته ؛ ففيم اجتماعكما إلا على بلائي ونكدي ؟لم تصطلحا قط على واجب ولا لذة، ولا حلال ولا حرام ؛ فأنتما عدوان لا هم لكليهما إلا إفساد المسرة التي تعرض للآخر.وما أدري بمن يسخر الشيطان منكما ؟ فالعابد الذي يوسوس باللذات يتمنى اقترافها، كالفاجر الذي يواقعها ويقتحمها !ويحك يا نفس ! إني رأيت هذه الدنيا الخرقاء لم تقدم لي إلا رغيفا وقالت: املأ بهذا بطنك وعقلك وعينيك وأذنيك ومشاعرك.آه، آه ! ممكن واحد معه أربع مستحيلات ؛ إن هذا لا يلبثني أن يذهب مني بالأربعة التي تمسكني على الحياة: الأمل والعقل والإيمان والصبر.لقد استوى في هذه الكآبة صغير همي وكبيره، وما أراني إلا قد أشرفت على الهلكة التي لا باقية لها، فإن وجهي المتكلح المتقبض يدل مني على أعصاب متحضرة نهكتها أمراضها ووساوسها، وإنما وجه الإنسان في قطوبه أو تهلله هو وجهه ووجه دنياه تعبس أو تبتسم.وتالله لقد عجزت عن كفاح الدنيا بهذه الأعصاب المريضة الواهنة ؛ فإن حبالة الصيد - صيد الوحش - لا تكون من خيط الإبرة ! وأراني أصبحت كإنسان حجري ليس في طبيعته الالتواء إلى يمين الحياة ويسارها ؛ ويخيل إلي من صلابتي أني الأسد، ولكني أسد من حجر، لا تفرض قوته الفرار منه على أحد !قال أبو محمد: ورأيت نفسي في هذا الحوار كالميتة، لا تجيب ولا تعترض ولا تنكر، وكنت أظنها تراودني على الحياة أو تردني عن غوايتي ؛ فملأني سكونها جزعا، وأيقنت أن الشيطان بيني وبينها، وأنه أخذ بمنافذها، فأردت الصلاة فثقلت عنها ورأيتني لا أصلح لها، بل خيل إلي أني إذا قمت إلى الصلاة فإنما قمت لأتهزأ بالصلاة !وجعل الشيطان يأخذني عن عقلي ويردني إليه، ثم يأخذني ويردني، حتى توهمت أني جننت وكأنما كان يريد اللعين بقية إيماني يجاذبني فيها وأجاذبه، فلم ألبث أن مسني خبال وألقيت هذه البقية في يديه !ثم أفقت إفاقة سريعة، فرأيت 'المصحف' يرقبني قريب، فعذت به وعطفت عليه وقلت له: امنع الضربة عن قلبي.بيد أني أحسست أنه خصمي في موقفي لا ظهيري ؛ كأني جعلته مصحفا عند زنديق، فكان كل إيماني الذي بقي لي في تلك اللحظة أني ضعفت عن حمل المصحف كما ثقلت عن الصلاة، فبقي الطاهر طاهراً والنجس نجسا.ولم تكن نفسي في ولا كنت فيها ؛ وفرأيت الدنيا على وجه لا أدري ما هو، غير أنه هو ما يمكن أن يكون معقولا من تخاليط مجنون تركه عقله من ساعة: بقايا شعور ضعيف، وبقايا فهم مريض، تتصاغر فيهما الدنيا، ويتحاقر بهما العقل.فملا انتهيت إلى هذا لم أعقل ما عملت وكانت الموسى قد أصابت من يدي عرقا ناشزاً منتبراً، ففار الدم وانفجرت منه مثل الينبوع ضرب عنه الصخر فانشق فانبثق.وتحققت حينئذ أنه الموت فنظرت فرأيت. . .قال المسيب راوي القصة: وتجهم وجه الرجل فأطرق وسكت، وكان على وجهه شفق محمر فأظلم بغتة عندما قال: 'فنظرت فرأيت'.وارتج المسجد بصيحة واحدة: فرأيت ماذا ؟ رأيت ماذا ؟وبعثت الصحية أبا محمد فقال: رأيت ثلاثة وجوه أشرفت من المصحف تنظر إلي كالعاتبة، وكان أوسطها كالقمر الطالع، لو تمثلت آيات الجنة كلها وجهاً لكانته في نضرته وبشاشته، وغمغمت الوجوه الثلاثة بكلمات لم أسمع منها شيئا، ولكن نظرها إلي كان يؤدي لي معانيها، وكأنها تقول: 'أكذلك المؤمن. . .؟ '.ثم غابت وتخلت عني وبرزت ثلاثة وجوه أخرى، كأنها نقائض تلك، وأعوذ بالله من أوسطها، لو تمثلت آيات الجحيم كلها وجها لكانته في نكره وهوله، وخيل إلي أن الوجه الأصغر منها وجه سورة من سور المصحف، ففكرت، فوقع لي مما قام في نفسي من اللعنة أنها: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }.وطمس الظلام هذه الرؤيا وتغيمت الدنيا، فأيقنت أن آثامي قد أقبلت علي ظلمة بعد ظلمة، والتمع شيء أحمر، فنظرت فإذا الدم يتخايل في عيني كأنه شعل تتلوى، فجزعت أشد الجزع، وحسبتها طرائق ممتدة لروحي تذهب بها إلى الجحيم.وماتت كل خواطري بعد ذلك إلا فكرة واحدة بقيت حية تأكل في قلبي أكل النار، وهي: 'كيف تجرأت فوضعت بيني وبين الله حمقي ؟ '.ويقولون: إن أختي قد رأتني أتشحط في دمي فصاحت، وجاء الناس على صوتها، وكان فيهم طبيب، فبعد لأي ما، استطاع حبس الدم، واحتال حيلته حتى أسف الجرح دواء وضمده ؛ فجعلت أثوب نفسا بعد نفس، وراجعت قليلاً قليلاً.ثم طافت الحياة على عيني ففتحتها، فإذا الأشياء تبدو لي وليس فيها حقائق ولا معان، كأنها تتخلق جديدة تحت بصري، وكأنها خارجة لساعتها من يد الله !وتماثلت شيئا بعد ساعات، فأحسست أن نفسي قد رجعت إلي ساخرة مني تقول: كيف رأيت عمل العقل أيها العاقل ؟وبدأت الحياة تتجدد، فأقسمت بيني وبين نفسي أن أجدد إيماني بالله، ولم أكد أفعل حتى أحسست أن قوة الوجود كلها مستقرة في روحي، وخيل إلي أني أنا وحدي القوي على هذه الأرض قوة جبالها وصخورها، على حين كان جسمي ممددا كالميت لا يتماسك من الضعف !فأيقنت حينئذ ما أعرفه قط من الدنيا ولم أشعر به قط في الحياة ولم يأتني به علم ولا فكر ؛ أيقنت أنها معجزة الإيمان الجديد الغض، المتصل بالله لتوه كإيمان الأنبياء دون أن تلمسه شهوة، أو تعترضه خاطرة، أو تكدره ذرة واحدة من فكر أرضي دنس.قال المسيب: ثم جلس المتحدث، وكان الناس في آخر كلامه كأنما غادروا الدنيا ساعة، ورجعوا إليها على مثل حالته ومثل إيمانه، فسكت الإمام ولم يتكلم، ليدع كل نفس تكلم صاحبها.^قال المسيب بن رافع: وأطرق الناس قليلا بعد خبر 'أبي محمد البصري'، إذ كان كل منهم قد جمع باله لما سمع، وأخذ يحدس، في نفسه ويراجعها الرأي، وكان المجلس قد امتد بنا منذ العصر وما يكاد النهار يشعرنا بإدباره، حتى اعترضت في شمسه الغبرة التي تعتريها إذا دنت أن تغرب، وكان إلى يساري فتى ريان الشباب، حسن الصورة، وضيء مشرق، له هيئة وسمت، أقبل على الأيام، وأقبلت الأيام عليه.فسمعني أطن على أذن 'مجاهد الأزدي' ؛ وكنت أعرفه شاعراً في كلامه وشاعراً في قلبه ؛ فقلت له: إنه لم يبق من النهار يا مجاهد إلا مثل صبر المحب دنا له الموعد ؛ ولم يبق من الشمس إلا مثل ما تتلفف صاحبته، تأخذ عليها ثوبها وغلائلها، ولكن بعد أن تسقطها من هنا ومن هنا، لترى جمال جسمها هنا وهنا !فاهتز الفتى لهذه الكلمات، وسالت الرقة في أعطافه، وقال: يا عم، أما ترى ما بقي من النهار كأنه وجه باك مسح دموعه وليس حوله إلا كآبة الزمن ؟قلت: كأن لك خبرا يا فتى، فإن كان شأنك مما نحن فيه فقصه علينا وعللنا به سائر الوقت إلى أن تجب الشمس، ولعلك طائر بنا طيرة فوق الدنيا.قال: فمه ؟قلت: تقوم فتتكلم، فإني أرى لك لسانا وبياناً.قال: أويحسن أن أتكلم في المسجد عن صرعة الحب وصريعه، وعاشقة وعاشق ؟فبادر مجاهد فقال: ويحك يا فتى ! لقد تحجرت واسعاً ؛ إن المؤمن ليصلي بين يدي الله وكتاب سيئاته في عنقه منشور مقروء.وهل أوقات الصلاة إلا ساعات قلبية لكل يوم من الزمن، تأتي الساعة مما قبلها كما تأتي توبة القلب مما عمل الجسم ؟ إنما يتلقي المسجد من يدخله لساعته التي يدخله فيها، ولو أنه حاسبه عن أمس وأول منه وما خلا من قبل، لطرده من العتبة ! إن المسجد يا بني إنما يقول لداخله: ادخل في زمني ودع زمنك، وتعال إلي أيها الإنسان الأرضي، لتتحقق أن فيك حاسة من السماء، وجئني بقلبك وفكرك، ليشعرا ساعة أنهما في لا فيك.ولسنا الآن يا بني في متحدث كندي القوم يتطارحون فيه أخبارهم، بل نحن في مجلس عالم تكلمت فيه رقبة هذا ورقبة هذا بما سمعت ؛ فقم أنت فاذكر علم قلبك وقص علينا خبر طيش الحب والشباب الذي يشبه الكلام فيه أن يكون كلاما عن الصعود إلى القمر والقبض من هناك على البرق !قال المسيب: فانتهض الفتى، ورأيت مجاهداً يتنهد كأنما انصدعت كبده، فقلت: ما بالك ؟ قال: إن شبابي قد مر علي الساعة فنسمت منه في بردة هذا الفتى، ثم فقدته فقدا ثانيا فهرمت هرما ثانياً، وجاءني الحزن من إحساسي بأني شيخ، حزن من هم أن يدخل باب حبيب ثم رد !وتحدث الفتى، فإذا هو يدير بين فكيه لسان شاعر عظيم، يتكلم كلامه بنفسين: إحداهما بشرية تصنع المعنى واللفظ، والأخرى علوية فيها النار والنور.قال: إن لي قصة أيها الشيخ، لم يبق منها إلا الكلام الذي دفنت فيه معانيها ؛ وقد تأتي القصة من أخبار القلب مفعمة بالآلام والأحزان، ولا يراد بآلامها وأحزانها إلا إيجاد أخلاق للقلب يعيش بها ويتبدل.والذي قدر عليه الحب لا يكون قد أحب غيره أكثر مما يكون قد تعلم كيف ينسى نفسه في غيره، وهذه كما هي أعلى درجات الحب ؛ فهي أعلى مراتب الإحسان.ومتى صدق المرء في حبه كانت فكرته فكرتين: إحدهما فكرة، والأخرى عقيدة تجعل هذه الفكرة ثابتة لا تتغير ؛ وهذه كما هي طبيعة الحب فهي طبيعة الدين.ولا شيء في الدنيا غير الحب يستطيع أن ينقل إلى الدنيا نارا صغيرة وجنة صغيرة، بقدر ما يكفي عذاب نفس واحدة أو نعيمها، وهذه حالة فوق البشرية.والفضائل عامتها تعمل في نقل الإنسان من حيوانيته، وقد لا تنقل إلا أقله ويبقى في الحيوانية أكثره: ولكن الحب الصادق يقتلع الإنسان من حيوانيته بمرة واحدة، بيد أنه لا يكون كذلك إلا إذا قتله بآلامه ؛ فهو كأعلى النسك والعبادة.كان خبري أني دعيت يوما إلى ما يدعى لمثله الشباب في مجلس غناء وشراب، يا له من مجلس ! وقد قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }، والبعوضة في قصتي أنا كانت امرأة نصرانية ؛ قينة فلان المغنية الحاذقة المحسنة المتأدبة، تحفظ الخبر وتروي الشعر، وتتكلم بألفاظ فيها حلاوة وجهها، وتخلق النكتة إذا شاءت خلق الزهرة المتفتحة عليها، سقيط الندى، وتجد بالحديث ما شاءت وتهزل، فتجعل للكلام عقلا وشهوة تضاعف بهما من تحدثه في شهواته وعقله !وستجري في قصتها ألفاظ القصة نفسها، لا أتأثم من ذلك ولا أتذمم ؛ فقد ذكر الله الخمر ولم يقل: 'الماء الذي فيه السكر'، ووصف الشيطان ولم يقل: 'الملك الذي عمل عمل المرأة الحسناء في تكبرها'، وذكر الأصنام بأنها الأصنام، ولم يسمها: 'حاملة السماء التي يصنعها الإنسان بيديه' وحكاية ما بين الرجل والمرأة هي كلام يقبل بعضه بعضا ويلتزم ويتعانق !قال المسيب: فتبسم إمامنا ونظرت عيناه تسألان سؤالا.أما مجاهد الأزدي فكان من هزة الطرب كأنه على قتب بعير، وقال: لله دره فتى، إن هذا لبيان كحيل العين.ثم قال الفتى: وذهبت إلى المجلس وقد جعلته هذه المغنية من حواشيه وأطرافه كأنه تفسير لها هي.أما هي فجعلت نفسها تفسيرا لكلمة واحدة هي: 'اللذة'.قال المسيب: وطرب مجاهد طربا شديداً، وسمعته يخافت بصوته يقول: 'لله درها امرأة ؛ هذه، هذه عدوة الحور العين ! '.ثم قال الفتى: وتطرب جماعة أهل المجلس إلى الشرب، وما ذقت خمرا قط، ولن أتذوقها ولو شربها الناس جمعيا، ولن أذوقها ولو انقطع الغيث ولم تمطر السماء إلا خمراً ؛ فإني مذ كنت يافعا رأيت أبي يشربها، وكانت أمي تلومه فيها وتشتد في تعنيفه وتحتدم، وكانا يتشاحنان فينالها بالأذي ويندرئ عليها بالسب وفحش القول.وسكر مرة وغلبه السكر حتى ثارت أحشاؤه، فذرعه القيء فتوهمني وعاء، وجاء إلي وأنا جالس فأمسك بن وقاء في حجري، حتى أفرغ جوفه ؛ وثارت أمي لتنتزعه وأنشأت تعالجه عني فتصارع جنونه وعقلها حتى كفأته على وجهه كالإناء ؛ فالتوى كالحية بطنا لظهر، واستجمع كالقنفذ في شوكه، ثم لكزها برجله أسفل بطنها فانقلبت، وأصاب رأسها إجانة العجين فتثلم تثليم الإناء كأنما شدخ ضربا بحجر، دماغها على الأرض أمام عيني، ورأيتها لم تزد على أن دفعت بإحدى يديها في الهواء، وضمت بالأخرى إلى صدرها، تتوهم أنها تحميني وتدفعه عني ؛ ثم سكنت، ولو لم تمت من الشجة في رأسها لماتت من الضربة في بطنها.قال المسيب: وأطرق الفتى هنيهة وأطرق الناس معه ؛ فرفع مجاهد صوته وقال: رحمها الله ! فقال الناس جميعا: رحمها الله.ثم قال الفتى: وكان عامة من في المجلس يعرفون ذلك مني، ويعرفون أنه لو ساغ لإنسان أن يشرب دم أمه ما شربت أنا الخمر، فقالوا للمغنية: إن هذا لا يدخل في ديواننا فنظرت إلي، وهربت أنا من نظرتها بإطراقة ؛ ثم قالت: تشرب على وجهي ؟ فقلت لها: إن وجهك يقول لي: لا تشرب، فتضاحكت وقالت: أهو يقول لك غير ما يقول لهؤلاء ؟ فهربت من كلامها بإطراقة أخرى، ووصلت الإطراقتان ما بيني وبين قلبي ؛ وتنبه فيها مثل حنو الأم على طفلها إذا آذته بلسانها فأطرق ساكتا يشكوها إلى قلبها !والتفتت لمن حضر وقالت لهم: لست أطيب لكم ولا تنتفعون بي إلا أن تشربوا لي وله ولأنفسكم، وانحط عليهم الساقي، فشربوا أرطالا وأرطالا، وهي بين ذلك تغنيهم وقد أقبلت عليهم وخلا وجهها لهم من دوني تخالسني النظرة بعد النظرة.فوسوس لي شيطاني أن تشدد مع هذه بمثل عزمتك مع الخمر فإنما هما شيء واحد، ولكني كنت أحد النظر إليها، فمرة أوامقها نظرة المحب للحبيب، ومرة أغضي عنها بنظرة لا تنظر ؛ وكأني بذلك كنت آخذها وأدعها، وأصلها وأهجرها.فقالت لي كالمنكرة علي: ما بالك تنظر إلي هكذا ؟ ولكن هيئة وجهها جعلت المعنى: لا تنظر إلي إلا هكذا !وأسرع الشراب في القوم وأفرط عليهم السكر ؛ فبقيت لي وحدي وبقيت لها وحدها ؛ ثم تناولت عودها وضمته إليها ضما شديدا أكثر من الضم، وألمسته صدرها، ونهديها، ثم رنت إلي بمعنى، فما شككت أنها ضمت لي أنا والعود، ثم غنت هذا الصوت:

ألا قاتل الله الحمامة عدوة. . . . . . . .على الغصن ماذا هيجت حين غنت ؟

فما سكتت حتى أويت لصوتها. . . . . . . .وقلت ترى هذه الحمامة جنت

وما وجد أعرابية قذفت بها. . . . . . . .صروف النوى من حيث لم تك ظنت

إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه. . . . . . . .وبرد الحمى من بطن خبت أرنت

بأكثر مني لوعة غير أنني. . . . . . . .أجمجم أحشائي على ما أجنت

وغنته غناء من قلب يئن، وصدر يتنهد، وأحشاء لا تخفي ما أجنت ؛ وكانت ترتفع بالصوت ثم كأنما يهمي الدمع على صوتها، فيرتعش ويتنزل قليلا قليلا، حتى يئن أنين الباكية، ثم يعتلج في صدرها مع الحب، فيتردد عاليا ونازلا، ثم يرفض الكلام في آخره دموعا تجري.قال المسيب: فنظر إلي مجاهد وقال: عدوة الجنة - والله - هذه يا أبا محمد، لا تقبل الجنة من يكون معها، تقول له: كنت مع عدوتي !ثم قال الفتى: وكان القوم قد انتشوا، فاعتراهم نصف النوم وبقي نصف اليقظة في حواسهم، فكل ما رأوه منا رأوه كأحلام لا وجود لها خلف أجفانهم المثقلة سكرا ونعاساً، ووثبت المغنية فجاءت إلى جنبي والتصقت بي، وأسرع الشيطان فوسوس لي: أن احذر فإنك رجل صدق، وإذا صدقت في الخمر فلا تكذبن في هذه، ولئن مسستها إنها لضياعك آخر الدهر !فعجبت أشد العجب أن يكون شيطاني أسلم وأعنت عليه كما أعين الأنبياء على شياطينهم.ولكن اللعين مضى يصدني عن المرأة دون معانيها، وكان مني كالذي يدني الماء من عيني القتيل المتلهب جوفه ثم يجعله دائما فوت فمه، ولقد كنت من الفحولة بحيث يبدو لي من شدة الفورة في دمي وشبابي أن أجمع في جسمي رجلا عدة، ولكن ضربني الشيطان بالخجل فلم أستطع أن أكون رجلا مع هذه المرأة.وعجبت هي لذلك وما أسرع أن نطق الشيطان على لسانها بالموعظة الحسنة ! فقالت أحببتك ما لم أحب أحداً، وأحببت خجلك أكثر منك، فما يسرني أن تأثم في فتدخل النار بحبي، ولو أنك ابتعتني من مولاي ؟ فقلت: بكم اشتراك ؟ قالت: بألف دينار ! قلت: وأين هي مني وأنا لو بعت نفسي ما حصلت لي ؟فتمم الشيطان موعظته، وقالت وأشارت إلى قلبها: إن قلبي هذا قبلك غنيا كنت أو فقيرا، وأحس بك وحدك حب العذارء أول ما تحب، وأنا - كما تراني - أعيش في السيئات كالمكرهة عليها، فسأعمل على أن تكون أنت حسنتي عند الله، أذهب إليه حاملة في قلبي حبي إياك وعفتي عنك، ولئن كانت عفة من لا يشتهي ولا يجد تعد فضيلة كاملة، إن عفة من يجد ويشتهي لتعد دينا بحاله، ولا يزال حبي بكراً، ولا أزال في ذلك عذراء القلب، وهؤلاء قد نزعوا الحياء عني من أجل أنفسهم، فألبسنيه أنت من أجلك خاصة ؛ وإن قوة حبي كالذي سيتألم بك ويتعذب منك لطول ما يصبر عنك، ستكون هي بعينها قوة لفضيلتي وطهارتي.ثم تناولت عودها وسوته وغنت:

فلو أنا على حجر ذبحنا. . . . . . . .جرى الدميان بالخبر اليقين

وجعلت تتأوه في غنائها كأنها تذبح ذبحا، ثم وضعت العود جانبا وقالت: ما أشقاني ! إذا اتفقت لي ساعة زواجي في غير وقتها فجاءت كالحلم يأتي بخيال الزمن فلا يكون فيه من الأشياء إلا خيال الأشياء.ثم سألتني: ما بالك لم تشرب الخمر ولم تدخل في الديوان ؟ فبدر شيطاني المؤمن وساق في لساني خبر أمي وأبي، فانتضحت عيناها باكية وتم لها رأي في كرأيي أنا في المسكر ؛ وكان شيطانها بعد ذلك شيطانا خبيثا مع أصحابها، وبطريقا زاهدا معي أنا وحدي !ورأيتها لا تجالسني إلا متزايلة كالعذراء الخفرة إذا انقبضت وغطت وجهها، وصارت تخافني لأنها تحبني، وهيبني الشيطان إليها فعادت لا ترى في الرجل الذي هو تحت عينيها الثيبتين، ولكن القديس الذي تحت قلبها البكر.ولم يعد جمالي هو الذي يعجبها ويصبيها، بل كان يعجبها مني أني صنعة فضيلتها التي لم تصنع شيئا غيري.وانطلق الشيطان بعد ذلك في وفيها بدهائه وحنكته وبكل ما جرب في النساء والرجال من لدن آدم وحواء إلى يومي ويومها ! فكان يجذبني إليها أشد الجذب، ويدفعها عني أقوى الدفع، ثم يغريني بكل رذائلها ولا يغريها هي إلا بفضائلي، وألقى منها في دمي فكرة شهوة مجنونة متقلبة، وألقى مني في دمها فكرة حكمة رزينة مستقرة.وكنت ألقاها كل يوم وأسمع غناءها ؛ فما هو بالغناء ولكنه صوت كل ما فيها لكل ما في، حتى لو التصق جسمها بجسمي وسار البدن البدن، وهمس الدم للدم، لكان هو هذا الغناء الذي تغنيه.وأصبحت كلما استقمت لحبها تلوث علي ؛ إذ لست عندها إلا الأمل في المغفرة والثواب، وكأنما مسخت حبلا طوله من هنا إلى الجنة لتتعلق به.وعاد امتناعها مني جنونا دينيا ما يفارقها، فابتلاني هذا بمثل الجنون في حبها من كلف وشغف.وانحصرت نفسي فيها، فرجعت معها أشد غباوة من الجاهل ينظر إلى مد بصره من الأفق فيحكم أن ههنا نهاية العالم، وما ههنا إلا آخر بصره وأول جهله.وانفلت مني زمام روحي، وانكسر ميزان إرادتي، واختل استواء فكري، فأصبحت إنسانا من النقائض المتعادية أجمع اليقين والشك فيه، والحب والبغض له، والأمل والخيبة منه، والرغبة والعزوف عنها، وفي أقل من هذا يخطف العقل، ويتدله من يتدله.ثم ابتليت مع هذا اللمم بجنون الغيظ من ابتذالها لأصحابها وعفتها معي، فكنت أتطاير قطعا بين السماء والأرض، وأجد عليها وأتنكر لها، وهي في كل ذلك لا تزيدني على حالة واحدة من الرهبانية ؛ فكان يطير بعقلي أن أرى جسمها ناراً مشتعلة، ثم إذا أنا رمته استحال ثلجا، وقرحت الغيرة قلبي وفتتت كبدي من عابدة الشيطان مع الجميع، الراهبة مع رجل واحد فقط !ورجعت خواطري فيها مما يعقل وما لا يعقل ؛ فكنت أرى بعضها كأنه راجع من سفر طويل عن حبيب في آخر الدنيا، وبعضها كأنه خارج من دار حبيب في جواري، وبعضها كأنه ذاهب بي إلى المارستان !ورأيتنا كأننا في عالمين لا صلة بينهما، ونحن معا قلبا إلى قلب، فذهب هذا بالبقية التي بقيت من عقلي، ولم أر لي منجاة إلا في قتل نفسي لأزهق هذا الوحش الذي فيها.وذهبت فابتعت شعيرات من السم الوحي الذي يعجل بالقتل، وأخذتها في كفي وهممت أن أقمحها وأبتلعها، فذكرت أمي، فظهرت لخيالي مشدوخة الرأس في هيئة موتها، وإلى جانبها هذه المرأة في هيئة جمالها، وثبتت على عيني هذه الرؤيا، وأدمنت النظر فيها طويلا فإذا أنا رجل آخر غير الأول، وإذا المرأة غير تلك، وطغت عبرة الموت على شهوة الحياة فمحتها، وصح عندي من يومئذ أن لا علاج من هذا الحب إلا أن تقرن في النفس صورة امرأة ميتة إلى صورة المرأة الحية، وكلما ذكرت هذه جيء لها بتلك، فإذا استمر ذلك فإن الميتة تميتها في النفس وتميت الشهوة إليها، ما من ذلك بد، فليجربه من شك فيه.وانفتح لي رأي عجيب، فجعلت أتأمل كيف آمن شيطاني ثم كفر بعد، على أن شيطانها هي كفر في الأول ثم آمن في الآخر ؟ فوالله ما كنت إلا غبيا خامد الفطنة، إذ لم يسنح لي الصواب حتى كدت أزهق نفسي وأخسر الدنيا والآخرة ؛ فإن الشيطان - لعنه الله - إنما ردني عن الفاحشة وهي ذنب واحد، ليرميني بعدها في الذنوب كلها بالموت على الكفر !ورد إلي هذا الخاطر ما عزب من عقلي.ومن ابتلي ببلاء شديد يزلزل يقينه ثم أبصر اليقين، جاء منه شخص كأنما خلق لساعته ؛ فلعنت شيطاني واستعذت بالله من مكره، وألقيت السم في التراب وغيبته فيه، وقلت لنفسي: ويحك يا نفس ! إن الحياة تعمل عملا بالحي، أفترضين أن تعمل الحياة بأبطالها ورجالها ما عرفت وما علمت، ثم يكون عملها بك أنت القعود ناحية والبكاء على امرأة ؟أيتها النفس، ما الفرق بين سرقة لحم من دكان قصاب، وبين سرقة لحم امرأة من دار أبيها، أو زوجها، أو مولاها ؟أيتها النفس، إن إيمان أسلافنا معنا ؛ إن الإسلام في المسلم.قال المسيب: وهنا طاش مجاهد واستخفه الطرب، فصاح صيحة النصر: الله أكبر ! وجاوبه أهل المسجد في صيحة واحدة: الله أكبر ! ولم يكد يهتف بها الناس حتى ارتفعت صيحة المؤذن لصلاة المغرب.الله أكبر.^

تتمة

قال المسيب بن رافع: وانفض مجلس الشيخ، ودرجت بعده أعوام في عدة الشهور من حمل المرأة، بلغت فيها أمور الناس مبلغها من خير الدنيا وشرها، مما أعرف وما لا أعرف ؛ ودخلت البصرة أنا ومجاهد الأزدي، نسمع الحسن ونأخذ عنه ؛ فإنا لسائران يوما في سكة بني سمرة، إذ وافقنا الفتى صاحب النصرانية مقبلا علينا، وكنا فقدناه تلك المدة، فأسرع إليه مجاهد فالتزمه وقال: مرحبا بذي نسب إلى القلب.وسلمت بعده وعانقته، ثم أقبلنا نسأله، فقلت له: ما كان آخر أولك ؟ قال مجاهد: بل ما كان آخر أولها هي ؟فضحك الرجل وقال: النصرانية تعني ؟ قال: آخرها من أولها كهذا مني ؛ وأومأ إلى ظله في الأرض ممدوداً مشبوحا مختلطا غير متميز ؛ كأنه ثوب منشور ليس فيه لابسه، وكنا في الساعة التي يصير فيها ظل كل شيء مثليه فهو مزج المسخ بالمسخ.قال مجاهد: ما أفظ جوابك وأثقله يا رجل ! كأنك والله تاجر لا صلة له بالأشياء إلا من أثمانها ؛ فنظره إلى فراهة الدابة من الدواب وإلى فراهة الجارية من الرقيق سواء.قال الرجل: فأنا والله تاجر، وأنا الساعة على طريق الإيوان الذي يلتقي فيه تجار العراق والشام وخراسان، وقد ضربت في هذه التجارات وحسنت بها حالي وتأثلت منها، غير أن قلب التاجر غير التاجر، فليس يزن ولا يقبض، ولا يبيع ولا يشتري.أما 'تلك' فأصبحت نسيانا ذهب لسبيله في الزمن !قال مجاهد: فكيف كنت تراها وكيف عدت تنظر إليها ؟قال: كنت أنظر إليها بعيني وأفكاري وشهواتي، فكانت بذلك أكثر من نفسها ومن النساء، وكانت ألوانا ما تنقضي، فلما دخل بيني وبينها الزمن والعقل، أبعدها هذا عن قلبي وأبعدها ذاك عن خيالي ؛ فنظرت إليها بعيني وحدهما، فرجعت امرأة ككل امرأة، وبنزولها من نفسي هذه المنزلة، رجعت أقل من نفسها ومن النساء، وهذه القلة فيما عرفت لا تصيب امرأة عند محبها إلا فعلت بجمالها مثل ما تفعله الشيخوخة بجسمها، فأدبرت به ثم أدبرت واستمرت تدبر !وأنت فإذا أبصرت امرأة شيخة قد ذهبت التي كانت فيها.وأخطرت في ذهنك نية مما بين الرجال والنساء، فهل تراك واجداً الشهوة والميل إلا النفرة والمعصية ؟ إن هذا الذي كان الحب والهوى والعشق، هو بعينه الذي صار الإثم والذنب والضلالة ؟قال مجاهد: كأنك لما ذهبت تقتل نفسك من حبها قتلتها هي في نفسك ؟قال: يا رحمة قد رحمت بها نفسي يومئذ ! أما - والله - إن الذي يقتل نفسه من حب امرأة لغبي.ويحه ! فليتخلص من هذا الجزء من الحياة لا من الحياة نفسها.وقد جعل الله للحب طرفين: أحدهما في اللذة، والآخر في الحماقة ؛ ما منهما بد، فهذا الحب يلقي صاحبه في الأحلام ويغشي بها على بصره، ثم إن هو اتجه بطرفه السعيد إلى حظه المقبل واتفقت اللذة للمحب، أيقظته اللذة من أحلامه ؛ وإن اتجه الحب بطرفه الشقي إلى حظه المدبر، وقعت الحماقات فنونا شتى بين الحبيبين وفعلت آخرا فعل اللذة، فأيقظت العاشق من أحلامه أيضا.وهذا تدبير من الرحمة في تلك القوة المدمرة المسماة الحب، أفلا يدل ذلك على أن اللذة وهم من الأوهام ما دام تحققها هو فناءها ؟خذ عني يا مجاهد هذه الكلمة: 'ليس الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها، ولا هو شيء يدرك، ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له هو إدراكه'.قال مجاهد: لقد علمت بعدنا علما، فمن أين لك هذا وعمن أخذت ؟قال: عن السماء !قال: ويلك ! أين عقلك ؟ فهل نزل عليك الوحي ؟قال الرجل: لا، ولكن تعاليا معي إلى الدار فأحدثكما.قال المسيب: وذهبنا معه ؛ فأتينا بطعام نظيف فأكلنا، وأشعرتنا الدار أن ربها قد وقع فيما شاء من دنياه وتواصلت عليه النعمة ؛ فلما غسلنا أيدينا قال مجاهد: هيه يا أبا. . .يا أبا من ؟ قال: أبو عبيد.قال: هيه يا أبا عبيد.فأفكر الرجل ساعة ثم قال: عهدكما بي منذ تسع في مجلس الإمام الشعبي بالكوفة ؛ وقد كنت في بقية من النعمة أتجمل بها، وكانت تمسكني على موضعي في أعين الناس ؛ فما زالت تلك البقية تدق وتنفض حتى نكد عيشي ووقعت في الأيام المقعدة التي لا تمشي بصاحبها، وانقلب الزمن كالعدو المغير جاء ليصطلم ويخرب ويفسد، فأثر في أقبح آثاره، فبعت ما بقي لي وتحملت عن الكوفة إلى البصرة، وقلت: إن لم تتغير حالي تغيرت نفسي، ولا أكون في البصرة قد انتهيت إلى الفقر، بل أكون قد بدأت من الفقر كما يبدأ غيري، وأدع الماضي في مكانه وأمضي إلى ما يستقبلني.فالتمست رفقة فالتأمنا عشرين رجلاً، فلما كنا الطريق، سلبنا اللصوص وحازوا القافلة وما تحويه، ونجوت أنا راكبا فرسي وعمري، وأدركت حينئذ أن الحياة وحدها ملك عظيم، وأنها هي الأداة الإلهية، والباقي كله هو من أنفسنا لأنفسنا والأمر فيه هين والخطب يسير.وقلت: لو أن اللصوص قد مروا بنا كما يمر الناس بالناس لما نكبونا، ولكنهم عرضوا لنا عروض اللص للمال والمتاع لا للناس، فوضعوا فينا الأيدي الناهبة ؛ ومن هذا أدركت أن ليس الشر إلا حالة يتلبس بها من يستطيع أن يتخلص منها.فإذا كان ذلك فأصل السعادة في الإنسان ألا يعبأ بهذه الحالات متى عرضت له، وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا، تمثل الشر كما يراه واقعا في غيره ؛ فالمرأة العفيفة إذا عرضت لها حالة من الفجور، ونظرت إلى نفسها وحظ نفسها، فقد تعمى وتزل ؛ ولكنها إذا نظرت إلى ذلك في غيرها وإلى أثره على الفاجرة، كانت كأنما زادت على نفسها نفسا أخرى تريها الأشياء مجردة كما هي في حقائقها.قال: ومضيت على وجهي تتقاذفني البقاع والأمكنة، وأنا أعاني الأرض والسماء، وأخشى الليل والنهار، وأكابد الألم والجوع، حتى دخلت البصرة دخول البعير الرازح، قطع الصحراء تأكل منه ولا يأكل منها، فأنضاه السفر وحسره الكلال وتحته الثقل الذي يحمله، فجاء ببنية غير التي كان قد خرج بها.وكانت أيامي هذه عمرا كاملا من الشقاء، جعلتني أوقن أن هؤلاء الناس في الحياة إن هم إلا كالدواب تحت أحمالها ؛ لا تختار الدابة ما تحمل ولا من تحمل، ولا يترك لها مع هذا أن تختار الطريق ولا مدة السير ؛ وليس للدابة إلا شيئان: صبرها وقوتها، إن فقدتهما هلكت، وإن وهنا فيها كان ضعفها بحسب ذلك.إن هناك أوقاتا من الشقاء والبؤس تقذف بالإنسان وراء إنسانيته وإنسانية البشر جميعا، لا تبالي كيف وقع وفي أي واد هلك، فلا ينفع الإنسان حينئذ إلا أن يعتصم بأخلاق الحيوان في مثل رضاه الذي هو أحكم الحكمة في تلك الحال، وصبره الذي هو أقوى القوة، وقناعته التي هي أغنى الغنى، وجهله الذي هو أعلم العلم، وتوكله الذي هو إيمان فطرته بفطرته، لا يبالي الحيوان مالا ولا نعيما، ولا متاعا ولا منزلة، ولا حظا ولا جاها، ولن تجد حمار الملك يعرف من الملك أكثر مما يعرف حمار السقاء من السقاء، ولعلك لو سألتهما وأطاقا الجواب لقال لك الأول: إن الذي فوق ظهري ثقيل مقيت بغيض ؛ ولقال لك الثاني: إن الذي يركبه خفيف سهل سمح !ولكن بلاء الإنسان إنه حين يطوحه البؤس والشقاء وراء الإنسانية، لا ينظر لغير الناس، فيزيده ذلك بؤسا وحسرة، ويمحق في نفسه ما بقي من الصبر، ويقلب رضاه غيظا، وقناعته سخطا، ويبتليه كل ذلك بالفكرة المهلكة أعجزها أن تهلك أحداً فلا تجد من تدمره غير صاحبها ؛ فإذا هي وجدت مساغا إلى الناس فأهلكت وعاثت وأفسدت، فجعلت صاحبها إما لصا أو قاتلا أو مجرما، أي ذلك تيسر !قال: وكنت أعرف في البصرة فلانا التاجر من سراتها ووجوه أهلها، فاستطرقته ؛ فإذا هو قد تحول إلى خراسان، وليس يعرفني أحد في البصرة ولا أعرف أحداً غيره، فكأنما نكبت مرة ثانية بغارة شر من تلك، غير أنها قطعت علي في هذه المرة طريق أيامي، وسلبتني آخر ما بقي لنفسي، وهو الأمل !ورأيت أنه ما من نزولي إلى الأرض بد، فأكون فيها إنسانا كالدابة أو الحشرة: حياتها ما اتفق لا ما تريد أن يتفق ؛ وأنه لا رأي إلا أن أسخر من الشهوات فأزهد فيها وأنا القوي الكريم، قبل أن تسخر هي مني إذ جئتها وأنا الطامع العاجز !وفي الأرض كفاية كل ما عليها ومن عليها، ولكن بطريقتها هي لا بطريقة الناس ؛ وما دامت هذه الدنيا قائمة على التغيير والتبديل وتحول شيء إلى شيء، فهذا الظبي الذي يأكله الأسد لا تعرف الأرض أنه قد أكل ولا أنه افترس ومزق، بل هو عندها قد تحول قوة في شيء آخر ومضى ؛ أما عند الناس فذلك خطب طويل في حكاية أوهام من الخوف والوجل، كما لو اخترعت قصة خرافية تحكيها عن أسد قد زرع لحما، فتعهده فأنبته فحصده فأكله، فذهب الزرع يحتج على آكله، وجعل يشكو ويقول: ليس لهذا زرعتني أنت، وليس لهذا خرجت أنا تحت الشمس، وليس من أجل هذا طلعت الشمس علي وعليك !والإنسان يرى بعينيه هذا التغيير واقعا في الإنسانية عامتها وفي الأشياء جميعها ؛ فإذا وقع فيه هو ضج وسخط، كأن له حقا ليس لأحد غيره، وهذا هو العجيب في قصة بني آدم، فلا يزال فيها على الأرض كلمات من الجنة لا تقال هنا ولا تفهم هنا ؛ بل محل الاعتراض بها حين يكون الإنسان خالداً لا يقع فيه التغيير والتبدليل.ومن هذا كان خيال اللذة في الأرض هو دائما باعث الحماقة الإنسانية.قال أبو عبيد: وذهبت أعتمل بيدي وجسمي على آلام من الفاقة والضر، ومن الخيبة والإخفاق، ومن إلجاء المسكنة، وإحواج الخصاصة ؛ فلقد رأيتني وإن يدي كيد العبد، وظهري كظهر الدابة، ورجلي كرجل الأسير، وعنقي كعنق المغلول، ويطلع قرص الشمس على الدنيا ويغيب عنها وما أعتمل إلا بقرص من الخبز، ولقد رأيتني أبذل في صيانة كل قطرة من ماء وجهي سحابة من العرق حتى لا أسأل الناس، ويا بؤسا لي إن سألت وإن لم أسأل !وما كان يمسكني على هذه الحياة المرمقة، تأتي رمقا بعد رمق في يوم يوم - إلا كلام الشعبي - الذي سمعته في مسجد الكوفة، وقوله فيمن قتل نفسه ؛ فكان كلامه نورا في صدري يشرق منه كل يوم مع الصبح صبح لإيماني.ولكن بقيت أيام نعمتي الأولى ولها في نفسي ضربان من الوجع كالذي يجده المجروح في جرحه إذا ضرب عليه، فكان الشيطان لا يجد منفذا إلي إلا منها.وفقدت الصديق وعونه، فما كان يقبل على صديق إلا في أحلامي من وراء الزمن الأول !قال مجاهد: والحبيب ؟فتبسم الرجل وقال: إذا فرغت الحياة من الذي هو أقل من الممكن، فكيف يكون فيها الذي هو أكثر من الممكن ؟ إن جوع يوم واحد يجعل هذه الحياة حقيقة جافية لا شعر فيها، ويترك الزمن وما فيه ساعة واحدة معطرة، والبؤس يقظة مؤلمة في القلب الإنساني تحرم عليه الأحلام، وما الحب من أوله إلى آخره إلا أحلام القلوب بعضها ببعض !قال أبو عبيد: وتضعضعت لهذه الحياة المخزية وأبرمتني أيامها، وحملت في الميت والحي، ورأيت الشيطان - لعنه الله - كأنما اتخذني وعاء مطرحا على طريقه يلقي فيه القمامة، وظهر لي قلبي في وساوسه كالمدينة الخربة ضربها الوباء، فأعمر ما فيها مقبرتها ؛ وعاد البؤس وقاح الوجه لا يستحيي، فلا أراه إلا في أرذل أشكاله وأبردها، ولقد يكون البؤس لبعض الناس على شيء من الحياء فيأتي في أسلوب معتذر كالمرأة الدميمة في نقابها.وقلت لنفسي: ما هو - والله - إلا القتل، فهذا عمر أراه كالأسير أقيم على النطع وسل عليه السيف، فما ينتقم منه المنتقم بأفظع من تأخير الضربة، وما يرحمه الراحم بأحسن من تعجيلها !وبت أؤامر هذه النفس في قتلها وأحدثها حديث الموت، فسددت رأيي فيه وقالت: ما تصنع بجسم كالمتعفن أصبح كالمقبور لا أيام له إلا أيام انقراضه وتفتيته ؟ بيد أني ذكرت كلام 'الشعبي' في ذلك المجلس وأنا أحفظه كله، فجعلت أهذه ما أترك منه حرفا، واتخذته متكلما مع نفسي لا كلاما، كنت كلما غلبني الضعف رفعت به صوتي وأصغيت كما أصغي إلى إنسان يكلمني فرأيت الشيطان بعد ذلك كاللص إذا طمع في رجل ضعيف منفرد، ثم لما جاءه وجد معه رجلا ثانيا قويا فهرب !قال أبو عبيد: ونالني روح من الاطمئنان وجدت له السكينة في قلبي فنمت، فإذا الفزع الأكبر الذي لا ينساه من سمع به، فكيف الذي رآه بعينيه ؟رأيتني ميتا في يد غاسله يقلبه ويغسله كأنه حرقة ؛ ثم حملت على النعش كأن الحاملين قد رفعوني يقولون: انظروا أيها الناس كيف يصير الناس ؛ ثم صلى علي الإمام الشعبي في مسجد الكوفة، ثم دليت في قعر مظلمة وهيل التراب علي، وتركت وحيداً وانصرفوا !وما أدري كم بقيت على ذلك ثم رأيت كأنما نفخ في الصور وبعثرت الأموات جميعا، فطرنا في الفضاء، وكانت النجوم غباراً حولنا كتراب العاصفة في العاصفة، وإذا نحن في عرصات القيامة وفي هول الموقف !وتوجهت بكل شعرة في جسمي إلى الرجاء في رحمة الله ؛ ورأيت أعمالي رؤية أحزنتني، فهي كمدينة عظيمة كل أهلها صعاليك إلا قليلا من المستورين، أرى منهم الواحد بعد الواحد في الساعة بعد الساعة ندروا وتبعثروا وضاعوا كأعمالي الصالحة !وذكرت أني كدت أقتل نفسي فراراً بها من العمر المؤلم ؛ فنظرت فإذا الزمن قد ظهر في أبديته، ورجع الماضي حاضرا بكل ما حوى كأنه لم يمض، وإذا عمري كله لا يكاد يبلغ طرفة عين من دهر طويل، فحمدت الله أن لم أفتد ألم اللحظة القصيرة القصيرة، بعذاب الأبد الخالد الخالد الخالد.وجيء على أعين الخلق بأنعم أهل الدنيا وأكثرهم لذات في تاريخ الدنيا كله، فصاح صائح: هذا أنعم من كان على الأرض منذ خلقها الله إلى أن طواها.ثم غمس هذ المنعم في النار غمسة خفيفة كنبضة البرق، وأخرج إلى المحشر، وقيل له والناس جميعا يسمعون: هل ذقت نعيما قط ؟ قال: لا والله.ثم جيء بأتعس أهل الأرض وأشدهم بؤسا منذ خلقت الأرض، فغمس في الجنة غمسة أسرع من النسيم تحرك ومر، ثم أخرج إلى المحشر وقيل له: هل ذقت بؤسا قط ؟ قال: لا والله.وسمعنا شهيق جهنم وهي تفور تكاد تميز من الغيظ ؛ فأيقنت أن لها نفسا خلقت من غضب الله، وخرج منها عنق عظيم هائل، لو تضرمت السماء كلها نارا لأشبهته، فجعل يلتقط صنفا صنفا من الخلق، وبدأ بالملوك الجبابرة فالتقطهم مرة واحدة كالمغناطيس لتراب الحديد ؛ وقذف بهم إلى النار، ثم انبعث فالتقط الأغنياء المفسدين فأطارهم إليها ؛ ثم جعل يأخذ قوما قوما، وقد ألجمني العرق من الفزع ؛ ثم طرت أنا فيه، ونظرت، فإذا أنا محتبس في مظلمة نارية كالهاوية، ليس حولي فيها إلا قاتلو أنفسهم.ولو أن بحار الأرض جعل فيها البحر فوق البحر فوق البحر، إلى أن تجتمع كلها فيكون العمق كبعد ما بين الأرض والسماء، ثم تسجر نار تلظى، لكانت هي الهاوية التي نحن في أعماقها ؛ وكنت سمعت من إمامنا الشعبي: أن عصاة المؤمنين الموحدين إذا ماتوا على إيمانهم كانوا في النار أحياء وجوارحهم موتى، لأن هذه الجوارح قد أطاعت الله وسبحته فكرمت بذلك حتى على جنهم، ثم يعذبون عذابا فيه الرحمة، ثم يخرجون وينتظرهم إيمانهم على باب النار، فكان إلى جانبي رجل قتل نفسه، فسمع قائلا من بعيد يقول لمؤمن: اخرج فإن إيمانك ينتظرك.فصاح الذي إلى جانبي: وأنا، أفلا ينتظرني إيماني ؟ فقيل له: وهل جئت به ؟ورأيت رجلا ذبح نفسه يريد أن يصرخ يسأل الله الرحمة، فلا يخرج الصوت من حلقه، إذ كان قد فراه وبقي مفريا ! وأبصرت آخر قد طعن في قلبه بمدية، فهو هناك تسلخ الزبانية قلبه تبحث هل فيه نية صالحة، فلا تزال تسلخ ولا تزال تبحث !ورأيت آخر كان تحسى من السم فمات ظمآن يتلظى جوفه، فلا تزال تنشأ له في النار سحابة رؤية تبرق بالماء، فإذا دنت منه ورجاها، انفجرت عليه بالصواعق ثم عادت تنشأ وتنفجر !وقال رجل: إنما كنت مجنونا ضعيفا عاجزاً فأزهقت نفسي.فنودي: أوما علمت أن الله يحاسبك على أنك عاقل لا مجنون، وقوي لا ضعيف، وقادر لا عاجز ؟ كنت تعقل بالأقل أنك ستموت، وكنت تقوى على أن تصبر، وكنت تقدر أن تترك الشر.وقال رجل عالم قد حز في يده بسكين فمات: 'لم يكن الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها ولا هو شيء يدرك'، فصرخ فيه صوت رهيب: 'ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له هو إدراكه ! '.قال أبو عبيد: ثم انتصب بإزائي شيطان مارد أحمر، يلتمع التماع الزجاج فيه الخمر، فقام في وجهي وقال: بماذا جئت إلى هنا يا عدو الخمر ؟ فما كان إلا أن سمعت النداء: شفعت فيك الخمر التي لم تشربها، اخرج، إن إيمانك ينتظرك.فصحت: الحمد لله ! وتحرك بها لساني، فانتبهت.لقد علمت أن الصبر على المصائب نعمة كبرى لا ينعم الله بها إلا في المصائب.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي