وحي القلم/كفر الذبابة

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

كفر الذبابة

كفر الذبابة - وحي القلم

كفر الذبابة

قال كليلة وهو يعظ دمنة ويحذره ويقضي حق الله فيه ؛ وكان دمنة قد داخله الغرور وزهاه النصر، وظهر منه الجفاء والغلظة، ولقي الثعالب من زيغه وإلحاده عنتا شديداً. . . .وعلم يا دمنة أن ما زعمته من رأيك تام لا يعتريه النقص، هو بعينه الناقص الذي لم يتم ؛ والغرور الذي تثبت به أن رأيك صحيح دون الآراء، لعله هو الذي يثبت أن غير رأيك في الآراء هو الصحيح.ولو كان الأمر على ما يتخيل كل ذي خيال، لصدق كل إنسان فيما يزعم، ولو صدق كل إنسان فيما يزعم، لكذب كل إنسان، وإنما يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ليجيء حق الجميع من الجميع، ويبقى الصغير من الخطأ صغيراً فلا يكبر، ويثبت الكبير من الصواب على موضعه لا ينتقص، ويصح الصحيح ما دامت الشهادة له، ويفسد الفاسد ما دامت الشهادة عليه، وما مثل هذا إلا مثل الأرنب والعلماء.قال دمنة: وكيف كان ذلك ؟قال: زعموا أن أرنبا سمعت العلماء يتكلمون في مصير هذه الدنيا، ومتى يتأذن الله بانقراضها، وكيف تكون القارعة ؛ فقالوا: إن في النجوم نجوماً مذنبة، لو ألتف ذنب أحدها على جرم أرضنا هذه لطارت هواء كأنها نفخة النافخ، بل أضعف منها كأنها زفرة صدر مريض، بل أوهى كأنها نفثة من شفتين.فقالت الأرنب: ما أجهلكم أيها العلماء ! قد والله خرفتم وتكذبتم واستحمقتم ؛ ولا تزال الأرض بخير مع ذوات الأذناب ؛ والدليل على جهلكم هو هذا ؛ قالوا: وأرتهم ذنبها. . .!قال كليلة: وكم من مغرور ينزل نفسه من الأنبياء منزلة هذه الأرنب من أولئك العلماء ؛ فيقول: كذبوا وصدقت أنا، وأخطئوا حميعاً وأصبت، والتبس عليهم وانكشف لي، وهم زعموا وأنا المستيقن.ثم لا دليل له إلا مثل دليل الأرنب الخرقاء من هنة تتحرك في ذنبها.وكان يقال: إنه لا يجاهر بالكفر في قوم إلا رجل هان عليهم فلم يعبئوا به، فهو الأذل المستضعف، أو رجل هانوا عليه فلم يعبأ بهم، فهو الأعز الطاغية، ذاك لا يخشونه فيدعونه لنفسه وعليه شهادة حمقه، وهذا يخشونه فيتركون معارضته وعليه شهادة ظلمه، وما شر من هذا إلا هذا.وقالت العلماء: إن كنت حاكماً تشنق من يخالفك في الرأي، فليس في رأسك إلا عقل اسمه الحبل ؛ وإن كنت تقتل من ينكر عليك الخطأ، فليس لك إلا عقل اسمه الحديد ؛ وإن كنت تحبس من يعارضك بالنظر، ففيك عقل اسمه الجدار ؛ أما إن كنت تناظر وتجادل، وتقنع وتقتنع، وتدعو الناس على بصيرة ولا تأخذهم بالعمى ففيك العقل الذي اسمه العقل.قال كليلة: وأنا يا دمنة، فلو كنت قائداً مطاعاً، وأميراً متبعاً، لا يعصى لي أمر، ولا يرد علي رأي، ولا ينكر مني ما ينكر من المخلوق إذا أخطأ، ولا يُقال لي دائماً إلا إحدى الكلمتين: أصبت، ثم هي دائما أصبت ؛ ولا يلقاني أحد من قومي بالكلمة الأخرى، رهبة من سخطي، رهبة الجبناء، أو رغبة في رضاي رغبة المنافقين، وزعموا أنهم على ذلك قد صحت نياتهم وخلص لي باطنهم جميعاً، فلو كنت وكانوا على هذا، لأحالني نقصهم إلى نقص العقل بعد كماله، وردتني فسولتهم إلى فسولة الرأي بعد جودته، فأخلق بي أن أعتبر وضعهم إياي في موضع الآلهة، هو إنزالهم إياي في منزلة الشياطين ؛ وإلا كنت حقيقا أن يصيبني ما أصاب العنز التي زعموا لها أنها أنثى الفيل.قال دمنة: وكيف كان ذلك ؟قال: زعموا أنه كان في إحدى خرائب الهند جماعة من العظماء، وكان فيها عضرفوط كبير، فملكته الجماعة وذهبت تأتمر على أمره وتنتهي.فمر بهذه الخربة فيل جسيم من الفيلة الهندية العظيمة، لم يحس بالعظاء، ولم يميز فرقا بين هذه الأمة من الحشرات وبين الحصى منثورا يلتمع في الأرض هنا وهنا ؛ قالوا فغضب العضرفوط'، وكان قائدا عظيما، ثم تدبر أمر الفيل ينظر كيف يصنع في مدافعته، وكيف يحتال في هلاكه، فرآه لا يتحرك إلا بأقدامه ينقلها واحدة واحدة ؛ فقدر عند نفسه أنه لو أزال قدم الفيل عن الأرض زال الفيل نفسه ؛ فجاء فاعترض الطريق، ودب دبيبه ؛ فلما رفع الفيل قدمه اهتبل هذه الغفلة منه.واندس تحتها، فاندس مقبورا في التراب !ثم إن العظاء افتقدت أميرها.فلما مضى الفيل لسبيله ورأت ما نزل بها، نفرت إلى أحجارها، واستكنت فيها ترتقب وتتربص، فدخلت إلى الخربة عنز جعلت تتقمم منها وترتع فيها، ورأتها العظاء فاجتمعن يأتمرن. . .فقال منها قائل: هذه أنثى الفيل.فسألت عظاية منهن: وأين النابان العظيمان ؟قالت الأولى: إن الإناث دون الذكورة في خلقها، الأنثى هي الذكر مقلوبا أو مختصرا أو مشوهاً، ولذلك هن يقلبن الحياة أو يختصرنها أو يشوهنها، أفلا ترين النابين العظيمين البارزين في ذلك الفيل الجسيم، كيف نبتا صغيرين منقلبين فوق رأس أنثاه ؟فقالت واحدة: إن جاز قولك في الرأي فأين الخرطوم ؟قالت الأخرى: هو هذه الزنمة المتدلية من حلقها، وذلك خرطوم على قدر أنوثة الأنثى. . .!قالوا: ثم اجتمع رأيهن على أن يملكن أنثى الفيل هذه ؛ وأن يهبن لها الخربة وأمتها.وسمعت الماعزة كلامهن فقالت في نفسها: لا جرم أن تكون العنز فيلة في أمة من العظاء، فقد قالت العلماء: إنه لا كبير إلا بصغير، ولا قوي إلا بضعيف، ولا طاغية إلا بذليل ؛ وإن العظمة إن هي إلا شهادة الحقارة على نفسها، وإنه رب عظيم طاغية متجبر ما قام في الناس إلا كما تقوم الحيلة، ولا عاش إلا كما يعيش الكذب، ولا حكم إلا كما يحكم الخداع، وهذه الدنيا للمحظوظ كأنها دنيا له وحده، فمتى جاءت إليه فقد جاءت، ولو أنها أدبرت عنه من ناحية لرجعت من ناحية أخرى، ليثبت الحظ أنه الحظ.وتقدم العظاء إلى العنز، فقلن لها: أيتها الفيلة العظيمة، إن قرينك العظيم قد مس أميرنا العضرفوط بقدمه فيغبه تحت سبع أرضين، وأنت أنثاه وسيدته، فقد اخترناك ملكة علينا، ووهبنا لك الخربة وما فيها.قالت العنز: فإني أتهب منكن هذه الهبة، ونعما صنعتن ؛ غير أن بينكن وبيني ما بين العظاية والفيل.وما بين الحصاة والجبل، فإذا أنا قلت، فأنا قلت ؛ وإذا أنا أمرت، فأنا أمرت ؛ وإذا أنا فعلت، فأنا فعلت.هنا في هذه الأمة كلها 'أنا' واحدة ليس معها غيرها ؛ لأن ههنا في هذه الرأس دماغ فيلة، وفي هذا الجسم قوة فيلة، وفي الخربة كلها فيلة واحدة ؛ فلا أعرفن منكن على الصواب والخطأ إلا الطاعة طاعة الأعمى للبصير.ألا وإن أول الحقائق أنني فيلة وأنكن عظاء ؛ ومتى بدأ اليقين من هنا سقط الخلاف من بيننا وبطل الاعتراض منكن، وقوتي حق لأنها قوة، وباطلي كذلك حق لأنه من قوتي ؛ وقد قال أسلافنا حكماء الفيلة: إن القوي بين الضعفاء مشيئة مطلقة، فهو مصلح حتى بالإفساد، حكيم حتى بالحماقة، إمام حتى بالخرافة، عالم حتى بالجهالة نبي حتى بالشعوذة. . .!قالوا: وتنكر عليها عظاية صالحة عالمة كانت ذات رأي ودين في قومها، وكن يسمينها: 'العمامة'، لبياضها وصلاحها وطهارتها، فقالت: ولا كل هذا أيتها الفيلة، لقد تخرصت غير الحق ؛ فإنك تحكمينا من أجلنا لا من أجلك، وما قولك إلا كلمات تحققها أعمالنا نحن ؛ فلك الطاعة فيما يصلحنا، وما كان من غيره فهو رد عليك، ورأيك شيء ينبغي أن تكون معه آراؤنا، لتتبين الأسباب أسباب الموافقة والمخالفة، فنأخذ عن بينة ونترك عن بينة ؛ وقد كان يقال في قديم الحكمة: إنه يجب على من يقدم رأيا للأمة الحازمة كي تأخذ به، أو يضع لها شرعا ليحملها عليه، أو يسن لها سنة لتتبعها إنه يجب على هذا المتقدم لتحويل الأمة أو تحريرها أن يتقدم لأهل الشورى وفي رأسه الرأي، وفي عنقه حبل ؛ ثم يتكلم برأيه ويبسطه ويدفع عنه، ويجادلهم ويجادلونه ؛ فإن كان الرأي حقا أخذوا الرأي، وإن كان باطلا أخذوا الحبل فشنقوا فيه هذا المتهور.وفي ديننا أن الطاعة في المعصية معصية أخرى ؛ ولقد كان لنا عضرفوط بحاثة في الأديان دراسة لكتبها علامة نقاب ؛ فكان مما علمنا: أن المخلوق مبني على النقص إذا هو ماض إلى الفناء، فيجب ألا يتم منه شيء إلا بمقدار، وألا تكون القوة فيه إلا بمقدار ؛ ولهذا كان العقل التام في الأرض وهو مجموع العقول العظيمة كلها، وكان أتم الآراء وأصحها ما أثبتت الآراء نفسها أنه أصحها وأتمها.فلا الدين اتبعت أيتها الفيلة، ولا اتبعت فينا العقل، وليس إلا هذا 'التفيل' الكاذب.فلما سمعت العنز ذلك تنقشت وغضبت، وقالت: إياكم وهذه الترهات من ألسنتكم، وهذه الأباطيل في عقولكم ؛ لا أسمعن منكم كلمة الدين ولا كلمة الأنبياء والعضافيط. . .فذلك وحي غير وحيي أنا ؛ وإذا كان غير وحيي أنا فأنا لست فيه، وإذا لم أكن أنا فيه فهو لا يصلح للحكم الذي شرطه أن الدولة ليس فيها إلا أنا واحدة.وذلك إن لم يجعلكم غرباء عني جعلني غريبة عنكم، ما بد من إحدى الغربتين، فهو أول القطيعة، والقطيعة أول الفساد، وما دام في الدين أمر غير أمري، ونهي غير نهيي، وتحليل وتحريم لا يتغيران على مشيئتي، فأنا مجنونة إن رضيت لكم هذا. . .!فضحكت 'العمامة' وقالت للماعزة: بل قولي: أنا مجنونة بـ'أنا' ؛ أفلا يجوز وأنت خلق من الخلق أن يعتري عقلك شيء مما يعتري القول ؟ ولسنا ننكر أنك قوية الرأي في ناحية القوة، حسنة التدبير في ناحية الشجاعة، متجاوزة المقدار في ناحية الحزم والحرص على مصالح الدولة ؛ ولكن ألم يقل الحكماء: إن الزيادة المسرفة في جهة من العقل، تأتي من النقص المتحيف لجهة أخرى ؛ وإنه رب عقل كان تماما عبقريا في أمور، لأنه ضعيف أبله في غيرها ؛ يحسن في تلك ما لا يحسنه أحد، ويحكم منها ما لا يحكمه أحد، ثم يغلط في الأخرى ما لا يغلط أحد فيه ؟قالوا: فجاشت العنز وفارت من الغضب فورة الجبار، وخيل إليها من عمى الغيظ أنها ذهبت بين الأرض والسماء، وأن زنمتها امتد منها خرطوم طويل، وأن قرنيها انبعج منها نابان عظيمان ؛ وقالت: ويحكم ! خذوا هذه 'العمامة' فاشنقوها ؛ فإنها كما قالت ؛ تقدمت إلينا بالرأي والحبل. . .!وكان في العظاء ضعاف ومهازيل وجبناء، ومأكولون بكل آكل ؛ فتشبح لهم أن أنثى الفيل هذه ستخلقهم فيلة إن هم أطاعوها ؛ فإذا مردوا عليها فإنها من صرامة البأس بحيث تجعل كل ظلف من أظلافها جبلا فوقهم كأنه ظلة فتسوخ بهم الأرض.ثم أنهم انخزلوا وتراجعوا، وأخذت 'العمامة' الصالحة فشنقت، وخمد الرأي من بعدها، وانقطع الخلاف والدين والعقل الحر ؛ وأقبلت دولة العظاء على العنز تجرر أذيالها.قالوا: واغترت الماعزة وأحست لها وجوداً لم يكن، وعرفت لنفسها وهي ماعزة نابهة شأن الفيل القوي، فلجت في عمايتها وكفرت بجنسها، وقالت: لم يخلقني الله فيلة وخلقت نفسي ؛ فأنا لا هو. . .وثبت عندها أنها ليست بعنز وإن أشبهتها كل عنز في الدنيا ؛ وذهبت تقلد وتعيش على مذاهب الفيلة بين العظاء، فإذا مشت ارتجت وتخطرت كأنها بناء يتقلقل، وإذا اضطجعت أنذرت الأرض أن تتمسك لا تدكها بجنبها. . .!ومر ذلك الفيل بهذا الخراب مرة أخرى، فلاذت العظاء كلهن بالفيلة. .وتأهبت هذه للقتال، وتحصفت في المبارزة والمناجزة. . .'والمعانزة' فنصبت قرنيها، وحركت زنمتها، وطأطأت، وشدت أظلافها في الأرض، وثبتت قوائمها، وصلبت عظامها، ونفشت شعرها، وتشوكت كالقنفذ، وأصرت بكل ذلك إصرارها، وكانت عنزا نطيحة منذ كانت تتبع أمها وتتلوها، فكيف بها وقد تفيلت ؟ثم إنها ثبتت في طريق الفيل ليرى بعينيه هذا الهول الهائل. . .فأقبل فمد خرطومه، فنالها به، فلفها فيه، فقبضه، فرفعه، فطوحها، فكأنما ذهبت في السماء. . .!وتهاربت العظاء ولذن بأجحارهن، ثم غدون على رزقهن، فإذا جيفة العنز غير بعيد، فدببن عليها وارتعين فيها، وعلمن أنها كانت ماعزة فيلها جنونها، وأدركن أن الكذب على الحقائق قد جعل الله له حقائق أخرى تقتله، وأن من غلب أمة العظاء على أمرها فليست الأيام والليالي عظاء فيغلبها ؛ وأن تغيير المخلوقات، إنما يكون بتحويل باطنا لا بتحويل ظاهرها، وأن الإناء الأحمر يريك الماء محمرا والماء في نفسه لا حمرة فيه، حتى إذا انكسر الإناء ظهر كما هو في نفسه ؛ وكل ما يخفي الحق هو كهذا الإناء: لون على الحق لا فيه ؛ ثم أيقن أن محاولة إخراج أمة كاملة من نزاعات ماعزة مأفونة، هي كمحاولة استيلاء الفيل من الماعزة. . .!قال كليلة: واعلم يا دمنة أنه لولا أن هذه العنز الحمقاء قد كفرت كفر الذبابة، لما أخذها الله أخذ الذبابة.قال دمنة: وكيف كان ذلك ؟قال: زعموا أنه ذبابة سوداء كانت من حمقى الذبان، قدرت الحماقة عليها أبدية، فلو انقلبت نقطة حبر في دواة لما كتبت بها إلا كلمة سخف.ووقعت هذه الذبابة على وجه امرأة زنجية ضخمة، فجعلت تقابل بين نفسها وبين المرأة، وقالت: إن هذا لمن أدل الدليل على أن العالم فوضى لا نظام فيه، وأنه مرسل كيف يتفق على ما يتفق، عبثا في عبث، ولا ريب أن الأنبياء قد كذبوا الناس، إذ كيف يستوي في الحكمة خلقي 'أنا' وخلق هذه الذبابة الضخمة التي أنا فوقها ؟ثم نظرت ليلة في السماء، فأبصرت نجومها تتلألأ وبينها القمر، فقالت: وهذا دليل آخر على ما تحقق عندي من فوضى العالم، وكذب الأديان، وعبث المصادفات، فما الإيمان بعينه إلا الإلحاد بعينه، ووضع العقل في شيء هو إيجاد الألوهية فيه، وإلا فكيف يستوي في الحكمة وضعي 'أنا' في الأرض ورفع هذا الذبان الأبيض ويعسوبه الكبير إلى السماء ؟ثم إنها وقعت في دار فلاح، فجعلت تمور فيها ذهابا وجيئة، حتى رجعت بقرة الفلاح من مرعاها، فبهتت الذبابة وجمدت على غرتها من أول النهار إلى آخره، كأنها تزاول عملا ؛ فلما أمست قالت: وهذا دليل أكبر الدليل على فوضى الأرزاق في الدنيا، فهاتان ذبابتان قد ثقبتا ثقبين في وجه هذه البقر واكتنتا فيهما تأكلان من شحمها فتعظمان سمنا ؛ والناس من جهلهم بالعلم الذبابي يسمونها عينين.وأنا قضيت اليوم كله أخمش وأعض وألسع لأثقب لي ثقبا مثلهما فما انتزعت شعرة ؛ فهل يستوي في الحكمة رزقي 'أنا' ورزق هاتين الذبابتين في وجه البقرة ؟ثم إنها رأت خنفساء تدب دبيبها في الأرواث والأقذار ؛ فنظرت إليها وقالت: هذه لا تصلح دليلا على الكفر ؛ فإني 'إنا' خير منها ؛ 'أنا' لي أجنحة وليس لها، 'وأنا' خفيفة وهي ثقيلة ؛ وما كأنها إلا ذبابة قديمة من ذباب القرون الأولى، ذلك الذي كان بليدا لا يتحرك فلم تجعل له الحركة جناحا.ثم إنها أصغت فسمعت الخنفساء تقول لأخرى وهي تحاورها: إذا لم يجد المخلوق أنه كما يشتهي فليكفر كما يشتهي ؛ يا ويحنا ! لم لم نكن جاموسا كهذا الجاموس العظيم، وما بيننا وبينه فرق إلا أنه وجد من ينفخه ولم نجد ؟فقالت الذبابة: إن هذا دليل العقل في هذه العاقلة، ولعمري إنها لا تمشي مثاقلة من أنها بطيئة مرهقة بعجزها، ولكن من أنها وقور مثقلة بأفكارها، وهي الدليل على أني 'أنا' السابقة إلى كشف الحقيقة !وجعلت الذبابة لا يسمع من دندنتها إلا، أنا، أنا، أنا، أنا. . .من كفر إلى كفر غيره، إلى كفر غيرهما ؛ حتى كأن السماوات كلها أصبحت في معركة مع ذبابة.ثم جاءت الحقيقة إلى هذا الإلحاد الأحمق تسعى سعيها ؛ فبينا الذبابة على وجه حائط، وقد أكلت بعوضة أو بعوضتين، وأعجبتها نفسها، فوقفت تحك ذراعها بذراعها، دنت بطة صغيرة قد انفلقت عنها البيضة أمس، فمدت منقارها فالتقطتها.ولما انطبق المنقار عليها قالت: آمنت أنه لا إله إلا الذي خلق البطة !^يقولون: إن في شباب العرب شيخوخة الهمم والعزائم، فالشبان يمتدون في حياة الأمم وهم ينكمشون.وإن اللهو قد خلف بهم حتى ثقلت عليهم حياة الجد، فأهملوا الممكنات فرجعت لهم كالمستحيلات.وإن الهزل قد هون عليهم كل صعبة فاختصروها ؛ فإذا هزءوا بالعدو في كلمة فكأنما هزموه في معركة. . .وإن الشباب منهم يكون رجلا تاماً، ورجولة جسمه تحتج على طفولة أعماله.ويقولون: إن الأمر العظيم عند شباب العرب ألا يحملوا أبداً تبعة أمر عظيم.ويزعمون أن هذا الشباب قد تمت الألفة بينه وبين أغلاطه، فحياته حياة هذه الأغلاط فيه.وأنه أبرع مقلد للغرب في الرذائل خاصة ؛ وبهذا جعله الغرب كالحيوان محصوراً في طعامه وشرابه، ولذاته.ويزعمون أن الزجاجة من الخمر تعمل في هذا الشرق المسكين عمل جندي أجنبي فاتح. . .ويتواصون بأن أول السياسة في استعباد أمم الشرق، أن يترك لهم الاستقلال التام في حرية الرذيلة. . .ويقولون: إنه لا بد في الشرق من آلتين للتخريب: قوة أوروبا، ورذائل أوروبا.يا شباب العرب ! بمن غيركم يكذب ما يقولون ويزعمون على هذا الشرق المسكين ؟من غير الشباب يضع القوة بإزاء هذا الضعف الذي وصفوه لتكون جوابا عليه ؟من غيركم يجعل النفوس قوانين صارمة، تكون المادة الأولى فيها: قدرنا لأننا أردنا ؟ألا إن المعركة بيننا وبين الاستعمار معركة نفسية، إن لم يقتل فيها الهزل قتل فيها الواجب !والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما يكون فيكم أنتم بحثها التحليلي، تكذب أو تصدق.الشباب هو القوة ؛ فالشمس لا تملأ النهار في آخره كما تملؤه في أوله.وفي الشباب نوع من الحياة تظهر كلمة الموت عنده كأنها أخت كلمة النوم.وللشباب طبيعة أول إدراكها الثقة بالبقاء، فأول صفاتها الإصرار على العزم.وفي الشباب تصنع كل شجرة من أشجار الحياة أثمارها ؛ وبعد ذلك لا تصنع الأشجار كلها وإلا خشبا. . .يا شباب العرب ! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزاً، وإما أن تموتوا.أنقذوا فضائلنا من رذائل هذه المدينة الأوروبية، تنقذوا استقلالنا بعد ذلك، وتنقذوه بذلك.إن هذا الشرق حين يدعو إليه الغرب ؛ 'يدعو لمن ضره أقرب من نفعه ؛ لبئس المولى ولبئس العشير'.لبئس المولى إذا جاء بقوته وقوانينه، ولبئس العشير إذا جاء برذائله وأطماعه.أيها الشرقي ! إن الدينار الأجنبي فيه رصاصة مخبوءة، وحقوقنا مقتولة بهذه الدنانير.أيها الشرقي ! لا يقول لك الأجنبي إلا ما قال الشيطان: { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي }.يا شباب العرب ! لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها.أتريدون معرفة السر ؟ السر أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملا من أعمال الخالق.غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر، ومعنى الخوف، والمعنى الأرضي.وعلمهم الدين كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمته وكبرياءه.واخترعهم الإيمان اختراعا نفسيا، علامته المسجلة على كل منهم هذه الكلمة: لا يذل.حين يكون الفقر قلة المال، يفتقر أكثر الناس، وتنخذل القوة الإنسانية، وتهلك المواهب.ولكن حين يكون فقر العمل الطيب، يستطيع كل إنسان أن يغتني، وتنبعث القوة وتعمل كل موهبة.وحين يكون الخوف من نقص هذه الحياة وآلامها، تفسر كلمة الخوف مائة رذيلة غير الخوف.ولكن حين يكون نقص الحياة الآخرة وعذابها، تصبح الكلمة قانون الفضائل أجمع.هكذا اخترع الدين إنسانه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسه.يا شباب العرب ! كانت حكمة العرب التي يعملون عليها: اطلب الموت توهب لك الحياة.والنفس إذا لم تخش الموت كانت غريزة الكفاح أول غرائزها تعمل.وللكفاح غريزة تجعل الحياة كلها نصرا، إذ لا تكون الفكرة معها إلا فكرة مقاتلة.غريزة الكفاح يا شباب، هي التي جعلت الأسد لا يسمن كما تسمن الشاة للذبح.وغذا انكسرت يوما، فالحجر الصلد إذا ترضرضت منه قطعة كانت دليلا يكشف للعين أن جميعه حجر صلد.يا شباب العرب ! إن كلمة 'حقي' لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائلها حياته فيها.فالقوة القوة يا شباب ! القوة التي تقتل أول ما تقتل فكرة الترف والتخنث.القوة الفاضلة المتسامية التي تضع للأنصار في كلمة 'نعم' معنى نعم.القوة الصارمة النفاذة التي تضع للأعداء في كلمة 'لا' معنى لا.يا شباب العرب اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزا، وإما أن تموتوا.^رأيتني جالسا في مسرح هزلي بمدينة إسكندرية، كما يجلس القاضي في جريمة يحمل أهلها بين يديه آثامهم وأعمالهم، ويحمل هو عقله وحكمه.وقد ذهبت لأرى كيف يتساخف أهل هذه الصناعة ؛ فكان حكمي أن السخافة عندنا سخيفة جداً. . .رأيتهم هناك ينقدون العيوب بما ينشئ عيوبا جديدة، ويسبحون بأيديهم سباحة ماهرة ؛ ولكن على الأرض لا في البحر، وتكاد نظرتهم إلى الحقيقة الهزلية تكون عمى ظاهرا عما هي به حقيقة هزلية ؛ ولا غاية لهم من هذا التمثيل إلا الرقاعة والإسفاف والخلط والهذيان، إذا كان هذا هو الأشبه بجمهورهم الذي يحضرهم، وكان هو الأقرب إلى تلك الطباع العامية البليدة التي اعتادت من تكلف الهزل ما جعلها هي في ذات نفسها هزلا يسخر منه.ولا أسخف من تكلف النكتة الباردة قد خلت من المعنى، إلا تكلف الضحك المصنوع يأتي في عقبها كالبرهان على أن في هذه النكتة معنى.فالفن المضحك عند هؤلاء، إنما هو السخف الذي يوافقون به الروح العامية الضئيلة الكاذبة المكذوب عليها، التي يبلغ من بلاهتها أحيانا أن تضحك للنكتة قبل إلقائها، لفرط خفتها ورعونتها، وطول ما تكلفت واعتادت، فما ذلك الفن إلا ما ترى من التخليط في الألفاظ، والتضريب بين المعاني، وإيقاع الغلط في المعقولات، ثم لا ثم بعد هذا، فلا دقة في التأليف، ولا عمق في الفكرة، ولا سياسة في جمع النقائض، ولا نفاذ في أسرار النفس، ولا جد يؤخذ من هزلية الحياة، ولا عظمة تستخرج من صغائرها، ولا فلسفة تعرف من حماقاتها.والفرق بعيد بين ضحك هو صناعة ذهن لتحريك النفس، وشحذ الطبع، وتصوير الحقيقة صورة أخرى، وبين ضحك هو صناعة البلاهة للهو والعبث، والمجانة لا غير.وكان معي قريب من أذكياء الطلبة المتخصصين للآداب الإنجليزية، فلم نلبث إلا يسيرا حتى جاء ثلاثة من ضباط الأسطول الإنجليزي، فجلسوا بحذائنا صفا تلوح عليهم مخايل الظفر، ولهم وقار البطولة، وفيهم أرواح الحرب، وهم يبدون في ثيابهم البيض المطراة كأنهم ثلاثة نسور هبطت من الغمام إلى الأرض، فلأعينها نظرات تدور هنا وهناك تنكر وتعرف.وأعجبني أن أراهم في هذا المكان الهزلي الممتلئ بالضعفاء، كأنهم ثلاث حقائق بين الأغلاط، أو ثلاث أغلاط كبيرة. . .وكان أبدع ما أراه على هيئة وجوههم وأسر له، تواضع هذا الاستعداد الحربي وتحوله إلى استعداد للسخرية. . .ثم تأملتهم طويلاً ؛ فإذا صرامة وشهامة، وسكينة ووداعة، وحسن سمت وحلاوة هيئة في جلسة رزينة متوقرة، لا يشبهها في حس النفس التي تعرف معاني القوة إلا وضع ثلاثة مدافع مصوبة.وجعلت أقلب عيني في الناس الموجودين وملامحهم وهيئاتهم، ثم أرجع البصر إلى هؤلاء الثلاثة، فأرى المصري كالمقتنع بأنه محدود بمدينة أو قرية لا يعرف لنفسه مكانا في غيرهما، فهو من ثم لا يرحل ولا يغامر، ولا تتقاذفه الدنيا ؛ وأرى الإنجليزي كالمقتنع بأن كل مكان في العالم ينتظر الإنجليز.وخيل إلي والله أن رجلا من هؤلاء الإنجليز الأقوياء المعتدين بأنفسهم لا يهاجر من بلاده إلا ومعه نفسه واستقلاله، وتاريخه وروح دولته، وطبيعة أرضه ؛ فهو مستيقن أن الله لا يرزقه رزقا أي الرزق كان على ما يتفق، بل رزقا إنجليزيا: أي فيه كفايته.ورأيت شيئا عجيبا من الفرق بين طابع السلم على وجوه، وبين طابع الحرب على وجوه أخرى ؛ ففي تلك معاني السهولة والملاينة والحرص على مادة الحياة، وفي هذه معاني العزم والمقاومة والحرص على مجد الحياة لا على مادتها.وتبينت أسلوبين من الأساليب الاجتماعية: أحدهما في فرد قد بنى أمره على أن أمة تحمله، فهو يعيش بأضعف ما فيه، والآخر في فرد قد وضع الأمر على أنه هو يحمل أمة فلا يدع في نفسه قوة ضاعفها.وعرفت وجهين من وجوه التربية السياسية: أحدهما بالطنطنة، والتهويل والصراخ، واستعارة ألفاظ غير الواقع للواقع، وتحميل الألفاظ غير ما تحمل ؛ والآخر بالهدوء الذي يقهر الحوادث، والصبر الذي يغلب الزمن، والعقيدة التي تفرض أعمالها العظيمة على صاحبها وتجعل أعظم أجره عليها أن يقوم بها.وميزت بين أثرين من آثار الأرض في أهلها: أحدهما في المصري السمح الوادع الألوف الحيي الذي هو كرم الطبيعة، والآخر في الإنجليزي العسر المغامر النفور الملح على الدنيا كأنه تطفل الطبيعة.وألقى ابن العم الذي كان معي سمعه إلى هؤلاء الضباط، وهم من فلاسفة الرأي على ما يظهر من حديثهم، ثم نقل إلي عنهم، فقال كبيرهم: لقد فرغت من بحثي الذي وضعته في فلسفة خمول الشرقيين، وأفضيت منه إلى حقائق عجيبة، أظهرها وأخفاها معا أن أمة من هذه الأمم لا يمكن للأجنبي فيها، ولا تثقل وطأته عليهم، ولا يطول ثواؤه في أرضهم، ولا يحتلها من يطمع فيها، ما لم يكن سادتها وأمراؤها وكبراؤها كأنهم فيها دولة محتلة.وهؤلاء الكبراء هم آفة الشرق ؛ فمن أعظم واجباتنا أن نزيد في تعظيمهم، وأن نمد لهم في المال والجاه، ونبسط لهم اليمين والشمال، ونوهمهم أن عظمتهم هكذا ولدت فيهم وهكذا ولدوا بها من أمهاتهم كما ولدوا بأيديهم وأرجلهم.وخاصة عظماء رجال الأديان المفتونين بالدنيا ؛ فإننا نصنع بغرور الجميع وسخافاتهم وحرصهم وطمعهم أشياء اجتماعية ذات خطر لا يصنع لنا مثلها إلا الشياطين ومن لنا بالحكم على الشياطين ؟ وهذا ما تنبه له 'غاندي' ذلك المهزول الهندي الذي تقوم دنياه بأربعة شلنات، ولا يزن أكثر من بضعة أرطال من الجلد والعظم، ولا بطش عنده ولا قوة فيه، وهو مع ذلك جبار سماوي في يده البرق والرعد يرى ويسمع في أرجاء الدنيا.قال ضابط اليمين: وبصناعة الكبرياء هذه الصناعة يكون رجل الشعب من هؤلاء الشرقيين رجل تقليد بالطبيعة، ورجل ذل بالحالة، ورجل خضوع بالجملة ؛ فليس في نفسه أنه سيد نفسه ولا سيد غيره، بل أكبر معانيه أن غيره سيد عليه فيكون معه دائما خيال استعباده.وتكلم ضابط اليسار: ولكن المترجم لم يميز أقواله، لأن ثلاث عشرة امرأة كن يصرخن في الرواية الهزلية بلحن طويل يقلن في أوله: 'عاوزين رجالة تدلعنا. . .' وكانت الموسيقى تصرخ معهن وتولول كأنها هي أيضا امرأة محرومة. . .ثم أرهف المترجم أذنه فقال كبيرهم: إن لهؤلاء الشرقيين ست حواس: الخمس المعروفة، وحاسة الخمول الذي خدعتهم عنه الطبيعة البليدة فسموه الترف والهزل واللهو ؛ والأمة الأوروبية التي تحتل بلاد شرقية تجد فيها لصغائر الحياة جيشا أقوى من جيشها ؛ فعشرة آلاف جندي بعتادهم وآلاتهم، لا يصنعون شيئلا إلا الاستفزاز والتحدي وإثبات أنهم غاصبون ؛ ولكن ما أنت قائل في عشرة آلاف مكان كهذا المسرح براقصاته ومومساته وخموره ورواياته، وبهؤلاء الرجال المخنثين الهزليين الرقعاء الذين هم وحدهم معاهدة سياسية ناجحة بيننا وبين شباب الأمة ؟قال ضابط اليمين: نعم إن فن الاحتلال فن عسكري في الأول، ولكنه فن أخلاقي في الآخر ؛ ولهذا يجب تعيين نقطة اتجاه للشباب تكون مضيئة لامعة جذابة مغرية ؛ ولكنه في ذات الوقت محرقة أيضا، وهذه هي صناعة إهلاك الشباب بالضوء الجميل، وما على السياسي الحاذق في الشرق إلا أن يحمي الرذيلة، فإن الرذيلة ستعرف له صنيعه وتحميه.فتكلم ضابط اليسار، ولكن صوته ذهب في عشرين صوتا من رجال المسرح ونسائه يصيحون جميعاً: 'يا حلوة يا خفافي، يا مجننة الشبان. . .'.ولما ألممت بحوار الضباط الثلاثة قلت لصاحبي: استأذن لي عليهم أكلمهم.ففعل وعرفني إليهم، وترجم لهم مقالة 'يا شباب العرب' وكان يحملها.فكأنما رماهم منها بالجيش والأسطول.ثم قلت لكبيرهم: لست أنكر أن الإنجليزي لو دخل جهنم لدخلها إنجليزيا.ولا أجحد أن له في الحياة مثل هداية الحيوان، لأنه رجل عملي ؛ دليل منفعته أنها منفعته وحسب، ثم لا دليل غير هذا ولا يقبل إلا هذا.فإذا قال الشرقي: حقي، وقال الإنجليزي: منفعتي، بطلت الأدلة كلها، ورأى الشرقي أنه مع الإنجليزي كالذي يحاول أن يقنع الذئب بقانون الفضيلة والرحمة.وقد عرفنا أن في السياسة عجائب، منها ما يشبه أن يلقى إنسان إنسانا فيقول له: يا سيدي العزيز، بكل احترام أرجوا أن تتلقى مني هذه الصفعة. . .وفي السياسة مواعيد عجيبة، منها ما يشبه غرس شجرة للفقراء والمساكين، والتوكيد لهم بالأيمان أنها ستثمر رغفانا مخبوزة، ثم بعد ذلك تطعم فتثمر الرغفان المخبوزة حشوها اللحم والإدام.وفي السياسة محاربة المساجد بالمراقص، ومحاربة الزوجات بالمومسات، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة، ولكن لو فهم الشباب أن أماكن اللهو في كل معانيها ليست إلا غدرا بالوطن في كل معانيه !ولو عرف الشباب أن محاربة اللهو هي أول المعركة السياسة الفاصلة !ولو أدرك الشباب أن أول حق الوطن عليه أن يحمل في نفسه معنى الشعب لا معنى نفسه !ولو رجع الدين الإسلامي كما هو في طبيعته آلة حربية تصنع من الشباب رجال القوة !ولو علم الشباب أن روح هذا الدين ليست: اعتقد ولا تعتقد، ولكن افعل ولا تفعل.ولو أيقن الشباب أن فرائض هذا الدين ليست إلا وسائل علمية لامتلاء النفس بمعاني التقديس !ولو فهم الشباب أن ليس في الكون إلا هذه المعاني تجعل النفس فوق المادة وفوق الخوف وفوق الذل وفوق الموت نفسه !ولو بحث الشباب النفس الإنجليزية القوية ليعرف بالبرهان أنها نصف مسلمة فكيف بها لو كانت مسلمة ؟وكان المترجم ينقل إليهم كلامي، فما بلغت إلى حيث بلغت، حتى شد الضابط على يدي وهزها ؛ فنظرت، فإذا أنا قد كنت نائماً بعد سهرة طويلة في ذلك المسرح، وإذا يد المترجم نفسه هي التي تهزني لأنتبه. . .^

في محنة فلسطين

نهضت فلسطين تحل العقدة التي عقدت لها بين السيف، والمكر، والذهب.عقدة سياسية خبيثة، فيها لذلك الشعب الحر قتل، وتخريب، وفقر.عقدة الحكم الذي يحكم بثلاثة أساليب: الوعد الكذب، والفناء البطيء، ومطامع اليهود المتوحشة.أيها المسلمون ! ليست هذه محنة فلسطين، ولكنها محنة الإسلام، يريدون ألا يثبت شخصيته العزيزة الحرة.كل قرش يدفع الآن لفلسطين، يذهب إلى هناك ليجاهد هو أيضاً.أولئك إخواننا المجاهدون ؛ ومعنى ذلك أن أخلاقنا هي حلفاؤهم في هذا الجهاد.أولئك إخواننا المنكوبون ؛ ومعنى ذلك أنهم في نكبتهم امتحان لضمائرنا نحن المسلمين جميعا.أولئك أخواننا المضطهدون ؛ ومعنى ذلك أن السياسة التي أذلتهم تسألنا نحن: هل عندنا إقرار للذل ؟ماذا تكون نكبة الأخ إلا أن تكون اسما آخر لمروءة سائر إخوته أو مذلتهم ؟أيها المسلمون ! كل قرش يدفع لفلسطين، يذهب إلى هناك ليفرض على السياسة احترام الشعور الإسلامي.ابتلوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين: من ذل الماضي وتشريد الحاضر.ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم، والأخرى من رذائلهم.ويخبئون في أدمغتهم فكرتين خبيثتين: أن يكون العرب أقلية، ثم أن يكونوا بعد ذلك خدم اليهود.في أنفسهم الحقد، وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي أصبح لئيما لأنه في أيديهم.أيها المسلمون ! كل قرش يدفع لفلسطين، يذهب إلى هناك ليتكلم كلمة ترد إلى هؤلاء العقل.ابتلوهم باليهود يمرون مرور الدنانير بالربا الفاحش في أيدي الفقراء.كل مائة يهودي على مذهب القوم يجب أن تكون في سنة واحدة مائة وسبعين.حساب خبيث يبدأ بشيء من العقل، ولا ينتهي أبداً، وفيه شيء من العقل.والسياسة وراء اليهود، واليهوء وراء خيالهم الديني، وخيالهم الديني هو طرد الحقيقة المسلمة.أيها المسلمون ! كل قرش يدفع لفلسطين، يذهب إلى هناك ليثبت الحقيقة التي يريدون طردها.يقول اليهود: إنهم شعب مضطهد في جميع بلاد العالم.ويزعمون: أن من حقهم أن يعيشوا أحراراً في فلسطين، كأنها ليست من جميع بلاد العالم.وقد صنعوا للإنجليز عظيما لا يسبح في البحار، ولكن في الخزائن. . .وأراد الإنجليز أن يطمئنوا في فلسطين إلى شعب لم يتعود قط أن يقول: أنا.ولكن لماذا كنستكم كل أمة من أرضها بمكنسة أيها اليهود ؟أجهلتم الإسلام ؟ الإسلام قوة كتلك التي توجد الأنياب والمخالب في كل أسد.قوة تخرج سلاحها بنفسها، لأن مخلوقها عزيز لم يوجد ليؤكل، ولم يخلق ليذل.قوة تجعل الصوت نفسه حين يزمجر، كأنه يعلن الأسدية العزيزة إلى الجهات الأربع.قوة وراءها قلب مشتعل كالبركان، تتحول فيه كل قطرة دم إلى شرارة دم ولئن كانت الحوافر تهيئ مخلوقاتها ليركبها الراكب، إن المخالب والأنياب تهيئ مخلوقاتها لمعنى آخر.لو سئلت ما الإسلام في معناه الاجتماعي ؟ لسألت: كم عدد المسلمين ؟فإن قيل: ثلاثمائة مليون.قلت: فالإسلام هو الفكرة التي يجب أن يكون لها ثلاثمائة مليون قوة.أيجوع إخوانكم أيها المسلمون وتشبعون ؟ إن هذا الشبع ذنب يعاقب الله عليه.والغني اليوم في الأغنياء الممسكين عن إخوانهم، وهو وصف الأغنياء باللؤم لا بالغنى.كل ما يبذله المسلمون لفلسطين، يدل دلالات كثيرة، أقلها سياسة المقاومة.كان أسلافكم أيها المسلمون يفتحون الممالك.فافتحوا أنتم أيديكم. . .كانوا يرمون بأنفسهم في سبيل الله غير مكترثين، فارموا أنتم في سبيل الحق بالدنانير والدراهم.لماذا كانت القبلة في الإسلام إلا لتعتاد الوجوه كلها أن تتحول إلى الجهة الواحدة ؟لماذا ارتفعت المآذن إلا ليعتاد المسلمون رفع الصوت في الحق ؟أيها المسلمون ! كونوا هناك.كونوا هناك مع إخوانكم بمعنى من المعاني.لو صام العالم الإسلامي كله يوما واحداً وبذل نفقات هذا اليوم الواحد لفلسطين لأغناها.لو صام المسلمون كلهم يوما واحداً لإعانة فلسطين، لقال النبي مفاخراً الأنبياء: هذه أمتي !لو صام المسلمون جميعا يوماً واحد لفلسطين، لقال اليهود اليوم ما قاله آباؤهم من قبل: إن فيها قوماً جبارين. . .أيها المسلمون ! هذا موطن يزيد فيه معنى المال المبذول فيكون شيئا سماوياً.كل قرش يبذله المسلم لفلسطين، يتكلم يوم الحساب يقول: يا رب، أنا إيمان فلان !^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي