وحي القلم/لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته

لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته - وحي القلم

لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته

قالوا: إن الأصمعي كان ينكر أن يقال في لغة العرب 'مالح'، ويقول: إنما هو ملح، وإن 'مالح' هذه عامية ؛ فلما أنشدوه في ذلك شعراً لذي الرمة يحتجون به عليه قال: إن ذا الرومة قد بات في حوانيت البقالين بالبصرة زماناً. .يريد شيخنا هذا: أن 'المالح' في الأكثر الأعم يكون مما يبيعه البقالون، ولغتهم عامية مزالة عن سننها الفصيح، مصروفة إلى وجهها التجاري ؛ ولكن كيف بات ذو الرمة في حوانيت البقالين زماناً حتى علقت الكلمة بمنطقه وجذبه إليها الطبع العامي، ولم يخالط عربيته غير هذه الكلمة وحدها ؟ لم يقل الأصمعي شيئاً، ولكن روايته تخبر أن ذا الرمة انحدر من البادية إلى البصرة يلتمس ما يلتمسه الشعراء، فلم كان بها استضاق فلم يصب لجوفه غير الخبز، ولم يجد للخبز غير 'المالحة' والبقلة 'المالحة'، ويعرفونه مضيقاً إلى فرج، فينسئون له في الثمن إلى أجل حتى يمتدح وينال الجائزة ؛ قالوا: ثم يمطره الممدوح ويلوي به ولا يرى في تلفيق العيش رخصاً إلا في 'المالح'، فيتتابع في الشراء ويمضون في إسلافه إبقاء عليه وحسن نظر منهم لمنزلته وشعره، ويرى هو أن لا ضمان للوفاء به عليه إلا نفسه، فما بد أن يتراءى لهم بين الساعة والساعة، فيخالطهم فيحدثهم فيسمع منهم، وهم على طبعهم وهو على سجيته ؛ ثم لا يقتضونه ثمناً، ولا يزالون يمدون له، فلا يزال 'المالح' أيسر منالاً عليه، كما هو إلى نفسه أشهى، وفي جوفه أمراً، لمكان أعرابيته وخشونة عيشه، فيصيب عندهم مرتعة من هذا 'المالح'.قالوا: ثم يرى البقالون أن لا ضمان لم اجتمع عليه إلا أن يكون الشاعر معهم، فيلزمونه الحوانيت بياض يومه، ويغلقونها عليه سواد ليلته، فهم يمسكونه بالنهار وتمسكه الحيطان والأبواب بالليل !فلما عظم الدين وبلغ الجملة التي فاتت حساب الأيام إلى حساب الأهلة أحضر الشاعر كربه وهمه، ولم يعد 'المالح' ينجع فيه، ولا يجد به غذاء، بل حريقاً في الدم، ورأى أنه قد امتحن بهذا 'المالح' الخبيث وأشرط نفسه فيه وارتهنها به ؛ فلا يزال من 'المالح' هم في نفسه، ومغص في جوفه، ولفظ على لسانه، ودين على ذمته ؛ ولا يزال مهموماً به ؛ إذ كان على طريق من طريقين: إما الوفاء ولا قدرة عليه من مفلس، وإما الحبس ولا طاقة به لشاعر ؛ وحبس ذي الرمة في ثمن 'المالح' هو حبس عند الشرطة، ولكنه قتل أو شر من القتل عند صاحبته 'مية' إذا ترامى إليها الخبر ؛ والأعرابي الجلف الذي يحبس في ثمن 'المالح' عند الوالي بعد أن بات زماناً رهناً به في حوانيت البقالين لا يصلح عاشقاً لمي وهي: من هي: 'لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي. .' فلا 'المالح' من غذائها، ولا لفظ 'المالح' من الكلام الذي يكون في فمها العذب، وأبعد الله جاريتها الزنجية إن لم تأنف لنفسها ومكانها من عشق هذا الأعرابي الغليظ الخشن الذي ألحقه 'المالح' باللصوص والغارمين، وأخزاها الله إن لم يكن عشق هذا الأعرابي لها سواداً على سوادها في الناس، فكيف بمي وهي أصفى من المرأة النقية، وأبيض من الزهرة البيضاء ؟قالوا: ويصنع الله لغيلان المسكين، فيمدح وينافق ويحتال، ويعده الممدوح بالجائزة إذا غذا عليه، ويكون ذلك والشمس نازلة إلى خدرها، فينكفئ الشاعر إلى حوانيت غرمائه من البقالين يبيت فيها أخرى لياليه، ويغلقون عليه وقد سئموه آكلاً وماطلاً، وهان عليهم فلا يعتدونه إلا فأراً من فئران حوانيتهم غير أنه يأكل فيستوفي، ولم يعد اسمه عندهم ذا الرمة، بل ذا الغمة. .فلم يعطوه لعشائه هذه المرة إلا ما فسد وخبث من عتيق 'المالح'، فهو نتن يسمى طعاماً، وداء يباع بثمن، وهلاك يحمل عليه الاضطرار كما يحمل على أكل الجيفة ؛ وكانوا قد وضعوه في آنية قذرة متلجنة طال عهدها بالغسل والنظافة وفيها بقية من عفن قديم، فلصق بها ما لصق وتراكب عليها ما تراكب، ووقع فيها ما وقع.ثم يتهيأ الشاعر لصلاة العشاء يرجو أن تناله بركتها، فيستجيب الله له ويفرج عنه، وقد كان لديه قدح من الماء لوضوئه، ولكن 'المالح' الذي تغذى به كان قد أحرق جوفه وأضرم على أحشائه وهو في صيف قائظ، فما زال يطفئه بالشربة بعد الشربة، والمصة بعد المصة، حتى اشتف القدح وأتى عليه، فيكسل عن الصلاة ويلعن 'المالح' وما جر عليه ! ثم يعضه الجوع فيكسر خبرته ويسمى ويغمس اللقمة ثم يرفعها فيجد لها رائحة منكرة، فينظر في الآنية وقد نفذ إليه الضوء من قنديل الحارس، فإذا في 'المالح' خنفساء قد انفجرت شبعاً، ويدقق النظرة فإذا دويبة أخرى قد تفسخت وهرأها 'المالح' وفعل بها وفعل ! قالوا: وتثب نفسه إلى حلقه، ولا يرى الطاعون والبلاد الأصفر والأحمر إلا هذا 'المالح'، فيتحول إلى كوة الحانوت يتنسم الهواء منها ويتطعم الروح وهي مضببة بالحديد، ولا يزال يراعي منها الليل ويقدره منزلة منزلة بحساب البادية، وهو بين ذلك يلعن 'المالح' عدد ما يسبح العابد القائم في جوف الليل، ويطول ذلك عليه، حتى إذا كان ينشق لمع الفجر لعينه، فلا يراه الشاعر إلا كالغدير يتفجر بالماء الصافي ويود لو انصب هذا الضوء في جوفه ليغسله من 'المالح' وأوضار 'المالح' ؛ ثم يأتي الله بالفرج وبصاحب الحانوت فيفتح له، ويغدو ذو الرمة على الممدوح فيقبض الجائزة، وينقلب إلى حوانيت البقالين فيوفي أصحابها ما عليه ؛ ولا يبقى معه إلا دراهم معدودة، فيخرج من البصرة على حمار اكتراه وقد فتحت له آفاق الدنيا، وكأنما فر من موت غير الموت، ليس اسمه البوار ولا الهلاك ولا القتل، ولكن اسمه 'المالح' !قالوا: ويحركه الحمار للشعر كما كانت تحركه الناقة، فيقول: أخزاك الله من حمار بصري، إن أنت في المراكب إلا 'كالمالح' في الأطعمة ! ثم يغلبه الطبع ينزو به الطرب وتهزه الحياة، فيهتاج للشعر ويذكر شوقه وحبه ودار مي، وفي 'عقله الباطن' حوانيت وحوانيت من 'المالح'، فيأتي هذا 'المالح' في شعره ويدخل في لغته، فيقول الشعر الذي أهمل الأصمعي روايته لأن فيه 'المالح' وما أدري أنا ما هو، ولكن لعله مثل قول الآخر:

ولو تفلت في البحر والبحر 'مالح'. . . . . . . .لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا

أو مثل قول القائل:

بصرية تزوجت بصريا. . . . . . . .يطعمها 'المالح' والطريا

هذه في الرواية التمثيلية التي تفسر كلام الأصمعي، ولا مذهب عنها في التعليل ؛ إذ صار 'المالح' كلمة نفسية في لغة ذي الرمة، على رغم أنف الأحمر والأسود والأصمعي وأبي عبيدة ؛ فالرجل من الحجج في العربية إلا في كلمة 'المالح'، فإنه هنا عامي بقال حوانيتي نزل بطبعه على حكم العيش، وغلبه ما لا بد أن يغلب من تسلط 'واعيته الباطنة'.والحكمة التي تخرج من هذه الرواية أن أبلغ الناس ينحرف بعمله كيف شاءت الحرفة، ولا بد أن تقع المشابهة بين نفسه وعمله، فربما أراد بكلامه وجهاً وجاء به الهاجس على وجه آخر ؛ وإذا كان في النفس موضع من مواضعها أفسده العمل - ظهر فساده في الذوق والإدراك فطمس على مواضع أخرى ؛ فلا تنتظر من صحافي قد ارتهن نفسه بحرفة الكلام ألا يكون له في الأدب والبلاغة 'مالح' كمالح ذي الرمة، وإن كان أبلغ الناس لا أبلغ كتاب الصحف وحدهم.و'المالح' الذي رأيناه لكاتب بليغ من أصحابنا أنه كتب في إحدى الصحف عن ديوان هو في شعر هذه الأيام كالبعث بعد موت شوقي وحافظ رحمهما الله فيأتي بالمجاز بعد الاستعارة بعد الكناية مما قاله الشاعر، ثم يقول: هذا عجيب تصوره.لا أعرف ماذا يريد.البلى للشعاع غير مقبول ؛ ولا يزال ينسحب على هذه الطريقة من النقد ثم يعقب على ذلك بقوله: 'والأصل في الكتابة أنها للإفهام، أي نقل الخاطر أو الإحساس من ذهن إلى ذهن ومن نفس إلى نفسي، ولا سبيل إلى ذلك إذا كانت العبارة يتعاورها الضعف والإبهام والركاكة وقلة العناية بدقة الأداء ؛ وإذا كنت تستعمل اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد به فكيف تتوقع مني أن أفهم منك ؟لا، لا، هذا 'مالح' من مالح الأدب، فإذا كان الضعف والإبهام والركاكة وسوء الإفهام وضعف الأداء - آتية في رأي الكاتب من استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له - فإن محاسن البيان من التشبيه واستعارة والمجاز والكناية ليس لها مأتى كذلك إلا استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له.وعلى طريقة الكاتب كيف يصنع في قوله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } أتراه يقول: كيف قدم الله، وهل كان غائباً أو مسافراً، وكيف قدم إلى عمل، وهل العمل بيت أو مدينة ؟ثم كيف يصنع في هذه الآية: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ }، أيسأل: وهل للأرض حلق تحركه عضلاته للبلع، وإذا كان لها حلق أفلا يجوز أن ترمي فيه فتحتاج إلى غرغرة وعلاج وطب ؟وماذا يقول في حديث البخاري: 'إني لأسمع صوتاً كأنه صوت الدم، أو صوتاً يقطر منه الدم - كما في الأغاني - أيوجه الاعتراض على الصوت وجرحه ودمه، ويسأل: بماذا جرح، وما لون هذا الدم، وهل للصوت عروق فيجري الدم فيها ؟إن الإفهام ونقل الخاطر والإحساس ليست هي البلاغة وإن كانت منها، وإلا فكتابة الصحف كلها آيات بينات في الأدب ؛ إذ هي من هذه الناحية لا يقدح فيها ولا يغض منها، وما قصرت قط في نقل خاطر ولا استغلقت دون إفهام.ههنا خوان في مطعم كمطعم 'الحاتي' مثلاً عليه الشواء والملح والفلفل والكواميخ أصنافاً مصنفة، وآخر في وليمة عرس في قصر وعليه ألوانه وأزهاره، ومن فوقه الأشعة ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب ينور وجهها الجميل، أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول ؟ وهل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني ؟ ولكن أي تعقيد هو ؟ إنه تعقيد فني ليس إلا، به ينضاف الجمال في المنفعة، فتجتمع الفائدة والاستمتاع وتزين المائدة والنفس معاً ؛ وهو كذلك تعقيد فني لاءم بين إبداع الطبيعة وإبداع الفكر، وجاء بروح الموسيقى التي يقوم عليها الكون الجميل فبثها في هذه الأشياء التي تقوم بها المائدة الجميلة، واستنزل سر الجاذبية فجعل للمائدة بما عليها شعوراً متصلاً بالقلوب من حيث جعل للقلوب شعوراً متصلاً بالمائدة.وهذا التعقيد الذي صور في الجماد دقة فن العاطفة، هو بعينه فنية السهولة وروحيتها ؛ وتلك السذاجة التي في المائدة الأخرى هي السهولة المادية بغير فن ولا روح، وفرق بينهما أن إحداهما تحمل قصيدة رائعة من الطعام وما يتصل به، والأخرى تحمل من الطعام وما يتصل به مقالة كمقالات الصحف !والوجه في الشوهاء وفي الجميلة واحد: لا يختلف بأعضائه ولا منافعه، ولا في تأديته معاني الحياة على أتمها وأكملها ؛ بيد أن انسجام الجميل يأتي من إعجاز تركيبه وتقدير قسماته وتدقيق تناسبه، وجعله بكل ذلك يظهر فنه النفسي بسهولة منسجمة هي فنيَّته وروحيته ؛ أما الآخر فلا يقبل هذا الفن ولا يظهر منه شيئاً ؛ إذ كان قد فقد التدقيق الهندسي الذي هو تعقيد فن التناسب، وجاء على المقاييس السهلة من طويل إلى قصير، إلى ما يستدير وما يعرض، إلى ما ينشأ من هنا وينخسف من هناك، كالوجنة البارزة، والشدق الغائر، فهذه السهولة في الوضع كما يتفق، هي بعينها التعقيد المطلق عند الفن الذي لا محل فيه للفظة 'كما يتفق'.والطريقة التي يكون بها الجمال جميلاً هي بعينها الطريقة التي يكون بها البيان بليغاً، فالمرجع في اثنيهما إلى تأثيرهما في النفس، وأنت فقل: إن هذا مفهوم وهذا غير مفهوم، وذاك سهل والآخر معقد، وواضح ومغلق، ومستقيم على طريقته ومحول عن طريقته ؛ إنك في ذلك لا تدل على شيء تعيبه أو تمدحه في الجمال أو البلاغة أكثر مما تدل على ما يمدح أو يعاب في نفسك وذوقها وإدراكها.ومعاني الاختلاف لا تكون في الشيء المختلف فيه، بل في الأنفس المختلفة عليه ؛ فإن محالاً أن تكون الجميلة ممدوحة مذمومة لجمالها في وقت معاً، وإلا كانت قبيحة بما هي به حسناء، وهذا أشد بعداً في الاستحالة، وحكمك على شيء هو عقلك أنت في هذا الشيء.ومتى اتفق الناس على معنى يستحسنونه وجدت دواعي الاستحسان في أنفسهم مختلفة، وكذلك هم في دواعي الذم إذا عابوا ؛ ولكن متى تعينت الوجوه التي بها يكون الحكم، ورجع إليها المختلفون، والتزموا الأصول التي رسمتها وتقررت بها الطريقة عندهم في الذوق والفهم، فذلك ينفي أسباب الاختلاف لما يكون من معاني التكافؤ وخاصة المناسبة، ولهذا كان الشرط في نقد البيان أن يكون من كاتب مبدع في بيانه لم تفسده نزعة أخرى، وفي نقد الشعر أن يكون من شاعر علت مرتبته وطالت ممارسته لهذا الفن فليس له نزعة أخرى تفسده.وما المجازات والاستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية ؛ إذ هي بطبيعتها تريد دائماً ما هو أعظم، وما هو أجمل، وما هو أدق ؛ وربما ظهر ذلك لغير هذه النفس تكلفاً وتعسفاً ووضعاً للأشياء في غير مواضعها، ويخرج من هذا أنه عمل فارغ وإساءة في التأدية وتمحل لا عبرة به، ولكن فنية النفس الشاعرة تأبى إلا زيادة معانيها، فتصنع ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف إحساسها ؛ فمن ثم لا تكون الزيادة في صور الكلام وتقليب ألفاظه وإدارة معانيه إلا تهيئة لهذه الزيادة في شعور النفس ؛ ومن ذلك يأتي الشعر دائماً زائداً بالصناعة البياينة ؛ لتخرجه هذه الصناعة من أن يكون طبيعيّاً في الطبيعة إلى أن يكون روحانيّاً في الإنسانية، والشعور المهتاج المتفزز غير الساكن المتبلد، والبيان في صناعة اللغة يقابل هذا النحو، فتجد من التعبير ما هو حي متحرك، وما جامد مستلقٍ كالنائم أو كالميت ؛ وبهذا لا تكون حقيقة المحسنات البيانية شيئاً أكثر من أنها صناعة فنية لا بد منها لإحداث الاهتياج في ألفاظ اللغة الحساسة كي تعطي الكلمات ما ليس في طاقة الكلمات أن تعطيه.لقد تكلموا أخيراً في جنابة الصحافة على الأدب، والصحافة عندي لا تجني على الأدب، ولكن على فنيته ؛ فلها من الأثر على سليقة البليغ وطبعه قريب مما كان لحوانيت البقالين في البصرة على طبع ذي الرمة وسليقته، وكلما قرب الصحافي من الصنعة وحقها على الجمهور، بعد عن الفن وجماله وحقه على النفس، وهذا واضح بلا كبير تأمل، بل هو واضح بغير تأمل. .^لما ظهر كتابي 'وحي القلم' حملت منه إلى فضلاء كتابنا في دور الصحف والمجلات أهديه إليهم ؛ ليقرؤوه ويكتبوا عنه، وأنا رجل ليس في أكثر مما في، كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع ؛ فما أعلم في طبيعتي موضعا للنفاق تتحول فيه البصلة إلى تفاحة، ولا مكاناً من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة، ولست أهدي من كتبي إلا إحدى هديتين: فإما التحية لمن أثق بأدبهم وكفايتهم وسلامة قلوبهم، وإما إنذار حرب لغير هؤلاء !والقرآن نفسه قد أثبت اللهُ فيه أقوال من عابوه، ليدل بذلك على أن الحقيقة محتاجة إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يقربها ويقْبلها، فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود والاستمرار.والشعور بالحق لا يخرس أبداً ؛ فإذا كانت النفس قوية صريحة مر من باطنها إلى ظاهرها في الكلمة الخالصة، فإن قال: لا أو: نعم صدق فيهما ؛ وإذا كانت النفس ملتوية اعترضته الأغراض والدخائل، فمر من باطن إلى باطن حتى يخلص إلى الظاهر في الكلمة المقلوبة ؛ إذ يكون شعوراً بالحق يغطيه غرض آخر كالحسد ونحوه، فإن قال: لا أو نعم كذب فيهما جميعاً.وكنت في طوافي على دور الصحف والمجلات أحس في كل منها سؤالاً يسألني به المكان: لماذا لم تجئ ؟ فإني في ابتداء أمري كنت نزعت إلى العمل في الصحافة، وأنا يومئذ متعلم ريض ومتأدب ناشئ، ولكن أبي رحمه الله ردني عن ذلك ووجهني في سبيلي هذه والحمد لله، فلو أنني نشأت صحافيّاً لكنت الآن كبعض الحروف المكسورة في الطبع. .وللصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلما تمت نقصت، وكلما نقصت تمت ؛ إذ كان مدار الأمر فيها على اعتبار أكثر من يقرؤونها أنصاف قراء أو أنصاف أميين ؛ وهي بهذا كالطريقة لتعليم القراءة الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية ؛ فتمامها بمراعاة قواعد النقص في القارئ. .وما بد أن تتقيد بأوهام الجمهور أكثر مما تتقيد بحقيقة نفسها، فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد، لها من رجلها من يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها ؛ ثم هي عمل الساعة واليوم، فما أبعدها من حقيقة الأدب الصحيح ؛ إذ ينظر فيه إلى الوقت الدائم لا إلى الوقت الغابر، ويراد به معنى الخلود لا معنى النسيان.ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها ؛ فإن أساس النبوغ 'ما يجب كما يجب' ؛ ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق ؛ أما هي فأساسها 'ما يمكن كما يمكن' ودأبها السرعة والتصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير.فليس يحسن بالأديب أن يعمل في هذه الصحافة اليومية إلا إذا نضج وتم وأصبح كالدولة على 'الخريطة'، لا كالمدينة في الدولة في الخريطة ؛ فهو حينئذ لا يسهل محوه ولا تبديله. .ثم هو يمدها بالقوة ولا يستمد القوة منها، ويكون تاجاً من تيجانها لا خرزة من خرزاتها، ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تلقي أشعتها من أعلى الجو إلى مدى بعيد من الآفاق، لا كمصباح من مصابيح الشارع !وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكاناً طبيعيّاً لرجل السياسة قبل غيره ؛ إذ كان الرجل السياسي هو صوت الحوادث سائلاً ومجيباً، ثم يليه الرجل شبه العالم، ثم الرجل شبه الممثل الهزلي. .والأديب العظيم فوق هؤلاء جميعاً، غير أنه عندنا في الصحافة وراء هؤلاء جميعاً !.ولما فرغت من طوافي على دور الصحف جاءت هي تطوف بي في نومي فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لأهدي 'وحي القلم' إلى الأديب المتخصص فيها للكتابة الأدبية ؛ ودلوني عليه فإذا رجل مربوع مشوه الخلق صغير الرأس دقيق العنق جاحظ العينين، تدوران في محجريهما دورة وحشية كأنما رعبته الحياة مذ كان جنيناً في بطن أمه ؛ لأنه خلق للإحساس والوصف، أو كأنما ركب فيه هذا النظر الساخر ليرى أكثر مما يرى غيره من أسرار السخرية فينبغ في فنونها، أو هو قد خلق بهاتين الجاحظتين دلالة عليه من القدرة الإلهية بأنه رجل قد أرسل لتدقيق النظر.وقال الذي عرفني به: حضرته عمرو أفندي الجاحظ. .وهو أديب الجريدة.قلت: شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر ؟فضحك الجاحظ وقال: وأديب الجريدة، أي شحاذ الجريدة، يكتب لها كما يقرأ القارئ على ضريح: بالرغيف والجبن والبيض والقرش. .قلت: إنا للّه ! فكيف انتهيت يا أبا عثمان إلى هذه النهاية وكنت من أعاجيب الدنيا ؟ وكيف خبت في الصحافة وكنت رأساً في الكلام ؟قال: نجحت أخلاقي فخابت آمالي، ولو جاء الوضع بالعكس لكان الأمر بالعكس ؛ والمصيبة في هذه الصحف أن رجلاً واحداً هو قانون كل رجل هنا.قلت: وذاك الرجل الواحد ما قانونه ؟قال: له ثلاثة قوانين: الجهات العالية وما يستوحيه منها، والجهات النازلة وما يوحيه إليها، وقانون الصلة بين الجهتين وهو. .قلت: وهو ماذا ؟فحملق في وقال: ما هذه البلادة ؟ وهو الذي 'هو'. .أما ترى الصحيفة ككل شيء يباع ؟ وأنت فخيرني - ولك الدولة والصولة عند القراء - ألم تر بعينيك أنك لو جئت تدفع ثمانمائة قرش، لكنت في نفوسهم أعظم مما أنت وقد جئت تهدي ثمانمائة صفحة من البيان والأدب ؟قلت: يا أبا عثمان، فماذا تكتب هنا ؟قال: إن الكتابة في هذه الصحافة صورة من الرؤية، فماذا ترى أنت في. . .وفي. . .وفي ؟. . .لقد كنا نروي في الحديث: 'يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقرة بلسانها' ؛ فلعل من هذه الألسنة الطويلة لسان صاحب الجريدة. . .قلت: ولكنك يا شيخنا قد نسيت القراء وحكمهم على الصحيفة.قال: القراء ما القراء ؟ وما أدراك ما القراء ؟ وهل أساس أكثرهم إلا بلادة المدارس، وسخافة الحياء، وضعف الأخلاق، وكذب السياسة ؟ إن الإبداع كل الإبداع في أكثر ما تكتب هذه الصحف، أن تجعل الكذب يكذب بطريقة جديدة. . .وما دام المبدأ هو الكذب، فالمظهر هو الهزل ؛ والناس في حياة قد ماتت فيها المعاني الشديدة القوية السامية، فهم يريدون الصحافة الرخيصة، واللغة الرخيصة، والقراءة الرخيصة ؛ وبهذا أصبح الجاحظ وأمثاله هم 'صعاليك الصحافة'.ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير، فنهض إليه، ثم رجع بعينين لا يقال فيهما جاحظتان، بل خارجتان. . .وقال: أف.{ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.'كلا والذي حرم التزيد على العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ضل سعيه'.قلت: ماذا دهاك يا أبا عثمان ؟قال: ويحها صحافة ! قل في عمك ما قال المثل: جحظ إليه عمله.قلت: ولكن ما القصة ؟قال: ويحها صحافة ! وقال الأحنف: أربع من كن فيه كان كاملاً، ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، أو عقل يسدده، أو حسب يصونه، أو حياة يقناه'.وقال: 'المؤمن بين أربع: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يجاهده، وشيطان يفتنه، وأربع ليس أقل منهن: اليقين، والعدل، ودرهم حلال، وأخ في الله'.وقال الحسن بن علي:. . .قلت: يا شيخنا، دعنا الآن من الرواية والحفظ والحسن والأحنف ؛ فماذا دهاك عند رئيس التحرير ؟قال: لم أحسن المهاترة في المقال الذي كتبته اليوم. . .ويقول رئيس التحرير: إن كان نصف التمويه رذيلة ؟ فإن نصفه الآخر يدل على أنه تمويه.ويقول: إن سمو الكتابة انحطاط فصيح ؛ لأن القراء في هذا العهد لا يخرجون من حفظ القرآن والحديث ودراسة كتب العلماء والفصحاء، بل من الروايات والمجلات الهزلية.وحفظ القرآن والحديث وكلام العلماء يضع في النفس قانون النفس، ويجعل معانيها مهيأة بالطبيعة للاستجابة لتلك المعاني الكبيرة في الدين والفضيلة والجد والقوة ؛ ولكن ماذا تصنع الروايات والمجلات وصور الممثلات المغنيات وخبر الطالب فلان والطالبة فلانة والمسارح والملاهي ؟ويقول رئيس التحرير: إن الكاتب الذي لا يسأل نفسه ما يقال عني في التاريخ، هو كاتب الصحافة الحقيقي ؛ لأن القروش هي القروش والتاريخ هو التاريخ ؛ ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة البنك الأهلي ؛ ولا يتحقق نسب ما بينهما إلا في إخراج الورق الذي يصرف كله ولا يرد منه شيء !إنهم يريدون إظهار المخازي مكتوبة، كحوادث الفجور والسرقة والقتل والعشق وغيرها ؛ يزعمون أنها أخبار تروى وتقص للحكاية أو العبرة، والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء. . .ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .^وغاب شيخنا أبو عثمان عند رئيس التحرير بعض ساعة، ثم رجع تدور عيناه في جحاظيهما وقد اكفهر وجهه وعبس كأنما يجري فيه الدم الأسود لا الأحمر، وهو يكاد ينشق من الغيظ، وبعضه يغلي في بعضه كالماء على النار ؛ فما جلس حتى جاءت ذبابتان فوقعتا على كنفي أنفه تتمان كآبة وجهه المشوه، فكان منظرهما من عينيه السوداوين الجاحظتين منظر ذبابتين ولدتا من ذبابتين. .وتركهما الرجل لشأنهما وسكت عنهما ؛ فقلت له: يا أبا عثمان، هاتان ذبابتان، ويقال إن الذباب يحمل العدوى.فضحك ضحكة المغيظ وقال: إن الذباب هنا يخرج من المطبعة لا من الطبيعة، فأكثر القول في هذه الجرائد حشرات من الألفاظ: منها ما يستقذر وما تنقلب له النفس، وما فيه العدوى، وما فيه الضرر ؛ وما بد أن يعتاد الكاتب الصحافي من الصبر على بعض القول مثل ما يعتاد الفقير من الصبر على بعض الحشرات في ثيابه، وقد يريده صاحب الجريدة أو رئيس التحرير على أن يكتب كلاماً لو أعفاه منه وأراده على أن يجمع القمل والبراغيث من أهدام الفقراء والصعاليك بقدر ما يملأ مقالة. .كان أخف عليه وأهون، وكان ذلك أصرح من معنى الطلب والتكليف.وكيفما دار الأمر فإن كثيراً من كلام الصحف لو مسخه الله شيئاً غير الحروف المطبعية، لقطار كله ذباباً على وجوه القراء !قلت: ولكنك يا أبا عثمان ذهبت متلطفاً إلى رئيس التحرير ورجعت متعقداً فما الذي أنكرت منه ؟قال: 'لو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور ؛ لبطل النظر وما يشحذ عليه وما يدعو إليه، ولتعطلت الأرواح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها، هناك رجل من هؤلاء المعنيين بالسياسة في هذا البلد. . .يريد أن يخلق في الحوادث غير معانيها، ويربط بعضها إلى بعض بأسباب غير أسبابها، ويخرج منها نتائج غير نتائجها، ويلفق لها من المنطق رقعاً كهذه الرقع في الثوب المفتوق ؛ ثم لا يرضى إلا أن تكون بذلك ردّاً على جماعة خصومه وهي رد عليه وعلى جماعته، ولا يرضى مع الرد إلا أن يكون كالأعاصير تدفع مثل تيار البحر في المستنقع الراكد.ثم لم يجد لها رئيس التحرير غير عملك أبي عثمان في لطافة حسه وقوة طبعه وحسن بيانه واقتداره على المعنى وضده، كأن أبا عثمان ليس عنده ممن يحاسبون أنفسهم، ولا من المميزين في الرأي، ولا من المستدلين بالدليل، ولا من الناظرين بالحجة ؛ وكأن أبا عثمان هذا رجل حروفي. .كحروف المطبعة: ترفع من طبقة وتوضع في طبقة وتكون على ما شئت، وأدنى حالاتها أن تمد إليها اليد فإذا هي في يدك.وأنا امرؤ سيد في نفسي، وأنا رجل صدق، ولست كهؤلاء الذين لا يتألمون ولا يتذممون ؛ فإن خضت في مثل هذا انتقض طبعي وضعفت استطاعتي وتبين النقص فيما أكتب، ونزلت في الجهتين ؛ فلا يطرد لي القول على ما أرجو، ولا يستوي على ما أحب ؛ فذهبت أناقضه وأرد عليه ؛ فبهت ينظر إلي ويقلب عينيه في وجهي، كأن الكاتب عنده خادم رأيه كخادم مطبخه وطعامه، هذا من هذا.ثم قال لي: يا أبا عثمان، إني لأستحي أن أعنفك ؛ وبهذا القول لم يستح أن يعنف أبا عثمان. .ولهممت والله أن أنشده قول عباس بن مرداس:

أكليب مالك كل يوم ظالما. . . . . . . .والظلم أنكد وجهه معلون

لولا أن ذكرت قول الآخر:

وما بين من لم يعط سمعا وطاعة. . . . . . . .وبين تميم غير حز الغلاصم

وحز الغلاصم 'وقطع الدراهم' من قافية واحدة. .وقال سعيد بن أبي عروبة: 'لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان على ما فيهما من قبح المنظر وعجز المخبر - أحب إلى من أن أكون ذا وجهين وذا لسانين وذا قولين مختلفين'.وقال أيوب السختياني:وهم شيخنا أن يمر في الحفظ والرواية على طريقته، فقلت: وقال رئيس التحرير. . .؟فضحك وقال: أما رئيس التحرير فيقول: إن الخلابة والمواربة وتقليب المنطق هي كل البلاغة في الصحافة الحديثة، ولهي كقلب الأعيان في معجزات الأنبياء - صلوات الله عليهم - فكما انقلبت العصا حية تسعى، وهي عصا وهي من الخشب، فكذلك تنقلب الحادثة في معجزات الصحافة إذا تعاطاها الكاتب البليغ بالفطنة العجيبة والمنطق الملون والمعرفة بأساليب السياسة ؛ فتكون للتهويل، وهي في ذاتها اطمئنان، وللتهمة وهي في نفسها براءة، وللجناية وهي في معناها سلامة، ولو نفخ الصحافي الحاذق في قبضة من التراب لاستطارت منها النار وارتفع لهبها الأحمر في دخانها الأسود.قال: وإن هذا المنطق الملون في السياسة إنما هو إتقان الحيلة على أن يصدقك الناس ؛ فإن العامة وأشباه العامة لا يصدقون الصدق لنفسه، ولكن للغرض الذي يساق له ؛ إذ كان مدار الأمر فيهم على الإيمان والتقديس، فأذقهم حلاوة الإيمان بالكذب فلن يعرفوه إلا صدقاً وفوق الصدق، وهم من ذات أنفسهم يقيمون البراهين العجيبة ويساعدون بها من يكذب عليهم متى أحكم الكذب ؛ ليحققوا لأنفسهم أنهم بحثوا ونظروا ودققوا. . .ثم قال أبو عثمان: ومعنى هذا كله أن بعض دور الصحافة لو كتبت عبارة صريحة للإعلان لكانت العبارة هكذا: سياسة للبيع. . .قلت: يا شيخنا، فإنك هنا عندهم ؛ لتكتب كما يكتبون، ومقالات السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب: تُقرأ فيها معانٍ لا تكتب، ويكون في عبارتها حياة وفي ضمنها طلب ما يستحي منه. . .والحوادث عندهم على حسب الأوقات، فالأبيض أسود في الليل، والأسود أبيض في النهار ؛ ألم تر إلى فلان كيف يصنع وكيف لا يعجزه برهان وكيف يخرج المعاني ؟قال: بلى، نعم الشاهد هو وأمثاله ! ؛ إنهم مصدقون حتى في تاريخ حفر زمزم.قلت: وكيف ذلك ؟قال: شهد رجل عند بعض القضاة على رجل آخر، فأراد هذا أن يجرح شهادته، فقال للقاضي: أتقبل منه وهو رجل يملك عشرين ألف دينار ولم يحج إلى بيت الله ؟ فقال الشاهد: بلى قد ححجت.قال الخصم ؛ فاسأله أيها القاضي عن زمزم كيف هي ؟ قال الشاهد: لقد حججت قبل أن تحفر زمزم فلم أرها. . .قال أبو عثمان: فهذه هي طريقة بعضهم فيما يزكي به نفسه: ينزلون إلى مثل هذا المعنى وإن ارتفعوا عن مثل هذا التعبير ؛ إذ كانت الحياة السياسية جدلاً في الصحف لنفي المنفي وإثبات المثبت، لا عملاً يعملونه بالنفي والإثبات ؛ ومتى استقلت هذه الأمة وجب تغيير هذه الصحافة وإكراهها على الصدق، فلا يكون الشأن حينئذ في إطلاق الكلمة الصحافية إلا من معناها الواقع.والحياة المستقلة ذات قواعد وقوانين دقيقة لا يترخص فيها ما دام أساسها إيجاد القوة وحياطة القوة وأعمال القوة، وما دامت طبيعتها قائمة على جعل أخلاق الشعب حاكمة لا محكومة ؛ وقد كان العمل السياسي إلى الآن هو إيجاد الضعف وحياطة الضعف وبقاء الضعف ؛ فكانت قواعدنا في الحياة مغلوطة ؛ ومن ثم كان الخلق القوي الصحيح هو الشاذ النادر يظهر في الرجل بعد الرجل والفترة بعد الفترة، وذلك هو السبب في أن عندنا من الكلام المنافق أكثر من الحر، ومن الكاذب أكثر من الصادق، ومن المماري أكثر من الصريح ؛ فلا جرم ارتفعت الألقاب فوق حقائقها، وصارت نعوت المناصب وكلمات 'باشا' و'بك' من الكلام المقدس صحافيّاً. . .يا لعباد الله ! يأتيهم اسم الأديب العظيم فلا يجدون له موضعاً في 'محليات الجريدة' ؛ ويأتيهم اسم الباشا أو البك أو صاحب المنصب الكبير فبماذا تتشرف 'المحليات' إلا به ؟ وهذا طبيعي، ولكن في طبيعة النفاق ؛ وهذا واجب، ولكن حين يكون الخضوع هو الواجب ؛ ولو أن للأديب وزناً في ميزان الأمة لكان له مثل ذلك في ميزان الصحافة ؛ فأنت ترى أن الصحافة هنا هي صورة من عامية الشعب ليس غير. .ومن ذا الذي يصحح معنى الشرف العامل لهذه الأمة وتاريخها، وأكثر الألقاب عندنا هي أغلاط في معنى الشرف. . .؟ثم ضحك أبو عثمان وقال: زعموا أن ذبابة وقعت في بارجة 'أميرال' إنجليزي أيام الحرب العظمى ؛ فرأت القائد العظيم وقد نشر بين يديه درجاً من الورق وهو يخطط فيه رسماً من رسوم الحرب ؛ ونظرت فإذا هو يلقي النقطة بعد النقطة من المداد ويقول: هذه مدينة كذا، وهذا حصن كذا، وهذا ميدان كذا.قالوا: فسخرت منه الذبابة وقالت: ما أيسر هذا العمل وما أخف وما أهون ! ثم وقعت على صفحة بيضاء وجعلت تلقي ونيمها هنا وهناك وتقول: هذه مدينة، وهذا حصن. . .والتفت الجاحظ كأنما توهم الجرس يدق. . .فلما لم يسمع شيئاً قال:لو أنني أصدرت صحيفة يومية لسميتها 'الأكاذيب' فمهما أكذب على الناس فقد صدقت في الاسم، ومهما أخطئ فلن أخطئ في وضع النفاق تحت عنوانه.قال: ثم أخط تحت اسم الجريدة ثلاثة أسطر بالخط الثالث هذا نصفها:ما هي عزة الأذلاء ؟ هي الكذب الهازل.ما هي قوة الضعفاء ؟ هي الكذب المكابر.ما هي فضيلة الكذابين ؟ هي استمرار الكذب.قال: ثم لا يحرر في جريدتي إلا 'صعاليك الصحافة' من أمثال الجاحظ ؛ ثم أكذب على أهل المال فأمجد الفقراء العاملين، وعلى رجال الشرف فأعظم العمال المساكين، وعلى أصحاب الألقاب فأقدم الأدباء والمؤلفين، و. . .ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .^ولم يلبث أن رجع أبو عثمان في هذه المرة وكأنه لم يكن عند رئيس التحرير في عمل وأدائه، بل كان عند رئيس الشرطة في جناية وعقابها ؛ فظهر منقلب السحنة انقلاباً دميماً شوه تشويهه وزاد فيه زيادات. . .ورأيته ممطوط الوجه مطا شنيعاً بدت فيه عيناه الجاحظتان كأنهما غير مستقرتين في وجهه، بل معلقتان على جبهته. . .وجعل يضرب إحدى يديه بالأخرى ويقول: هذا باب على حدة في الامتحان والبلوى، وما فيه إلا المؤنة العظيمة والمشقة الشديدة ؛ والعمل في هذه الصحافة إنما هو امتحانك بالصبر على اثنين: على ضميرك، وعلى رئيس التحرير ! وسأل بعض أصحابنا أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو ؟ فقال: الجزء الذي لا يتجزأ علي بن أبي طالب عليه السلام.فقال له أبو العيناء محمد: أفليس في الأرض جزء لا يتجزأ غيره ! قال: بلى، حمزة جزء لا يتجزأ. . .قال: فما تقول في أبي بكر وعمر ؟ قال: أبو بكر يتجزأ. . .قال: فما تقول في عثمان ؟ قال: ويتجزأ مرتين، والزبير يتجزأ مرتين. . .قال: فأي شيء تقول في معاوية ؟ قال: لا يتجزأ.'فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الأيام أجزاء لا تتجزأ إلى أي شيء ذهب ؟ فلم نقع عليه إلا أن يكون أبو لقمان كان إذا سمع المتكلمين يذكرون الجزء الذي لا يتجزأ، هاله ذلك وكبر في صدره وتوهم أنه الباب الأكبر من علم الفلسفة، وأن الشيء إذا عظم خطره سموه بالجزء الذي لا يتجزأ'.قلت: ورجع بنا القول إلى رئيس التحرير. . .فضحك حتى أسفر وجهه ثم قال: إن رئيس التحرير قد تلقى الساعة أمراً بأن الجزء الذي لا يتجزأ اليوم هو فلان ؛ وأن فلاناً الآخر يتجزأ مرتين. . .وأن المعنى الذي يبنى عليه رأي الصحيفة في هذا النهار هو شأن كذا في عمل كذا ؛ وأن هذا الخبريجب أن يصور في صيغة تلائم جوع الشعب فتجعله كالخبز الذي يطعمه كل الناس، وتثير له شهوة في النفوس كشهوة الأكل وطبيعة كطبيعة الهضم. . .وقد رمى إلي رئيس التحرير بجملة الخبر، وعلي أنا بعد ذلك أن أضرم النار وأن أجعل التراب دقيقاً أبيض يعجن ويخبز ويؤكل ويسوغ في الحلق وتستمرئه المعدة ويسري في العروق.وإذا أنا كتبت في هذا احتجت من الترقيع والتمويه، ومن التدليس والتغليط، ومن الخب والمكر، ومن الكذب والبهتان - إلى مثل ما يحتاج إليه الزنديق والدهري والمعطل في إقامة البرهانات على صحة مذهب عرف الناس جميعاً أنه فاسد بالضرورة ؛ إذ كان معلوماً من الدين بالضرورة أنه فاسد ؛ وأين ترى إلا في تلك النحل وفي هذه الصحافة أن ينكر المتكلم وهو عارف أنه منكر، وأن يجترئ وهو موقن أنه مجترئ، ويكابر وهو واثق أنه يكابر ؟ فقد ظهر تقدير من تقدير، وعمل من عمل، ومذهب من مذهب ؛ والآفة أنهم لا يستعملون في الإقناع والجدل والمغالطة إلا الحقائق المؤكدة ؛ يأخذونها إذ وجدت ويصنعونها إن لم توجد ؛ إذ كان التأثير لا يتم إلا بجعل القارئ كالحالم: يملكه الفكر ولا يملك هو منه شيئاً، ويلقي إليه ولا يمتنع ويعطي ولا يرد على من أعطاه.قلت: ولكن ما هو الخير الذي أرادوك على أن تجعل من ترابه دقيقاً أبيض ؟قال: هو بعينه ذلك الشأن الذي كتبت فيه لهذه الصحيفة نفسها أنقضه وأسفهه وأرد عليه، وكان يومئذ جزءاً يتجزأ. .فإن صنعت اليوم بلاغتي في تأييده وتزيينه والإشادة به، ولم يكن هذا كاسراً لي، ولا حائلاً بيني وبين ذات نفسي - فلا أقل من أن يكون الجاحظ تكذيباً للجاحظ، آه لو وضع الرديو في غرف رؤساء التحرير ليسمع الناس. . .قلت: يا أبا عثمان، هذا كقولك: لو وضع الرديو في غرف قواد الجيوش أو رؤساء الحكومات.قال: ليس هذا من هذا، فإن للجيش معنى غير الحذق في تدبير المعاش والتكسب وجمع المال ؛ وفي أسراره أسرار قوة الأمة وعمل قوتها ؛ وللحكومة دخائل سياسية لا يحركها أن فلاناً ارتفع وأن فلاناً انخفض، ولا تصرفها العشرة أكثر من الخمسة ؛ وفي أسرارها أسرار وجود الأمة ونظام وجودها.قال أبو عثمان: وإنما نزل بصحافتنا دون منزلتها أنها لا تجد الشعب القارئ المميز الصحيح القراءة الصحيح التمييز، ثم هي تريد أن تذهب أموالها في إيجاده وتنشئته ؛ وعمل الصحافة من الشعب عمل التيار من السفن في تحريكها وتيسير مجراها، غير أن المضحك أن تيارنا يذهب مع سفينة ويرجع مع سفينة. . .ولو أن الصحافة العربية وجدت الشعب قارئاً مدركاً مميزاً معتبراً مستبصراً لما رمت بنفسها على الحكومات والأحزاب عجزاً وضعفاً وفسولة، ولا خرجت عن النسق الطبيعي الذي وضعت له، فإن الشعب تحكمه الحكومة، وإن الحكومة تحكمها الصحافة، فهي من ثم لسان الشعب ؛ وإنما يقرؤها القارئ ليرى كلمته مكتوبة ؛ وشعور الفرد أن له حقاً في رقابة الحكومة وأنه جزء من حركة السياسة والاجتماع، هو الذي يوجب عليه أن يبتاع كل يوم صحيفة اليوم.قال أبو عثمان: فالصحافة لا تقوى إلا حيث يكون كل إنسان قارئاً، وحيث يكون كل قارئ للصحيفة كأنه محرر فيها، فهو مشارك في الرأي ؛ لأنه واحد ممن يدور عليهم الرأي، متتبع للحوادث ؛ لأنه هو من مادتها أو هي من مادته، وهو لذلك يريد من أن الصحيفة حكاية الوقت وتفسير الوقت، وأن تكون له كما يكون التفكير الصحيح للمفكر، فيلزمها الصدق ويطلب منها القوة ويلتمس فيها الهداية، وتأتي إليه في مطلع كل يوم أو مغربه كما يدخل إلى داره أحد أهله الساكنين في داره.وفي قلة القراءة عندنا آفتان: أما واحدة فهي القلة التي لا تغني شيئاً ؛ وأما الأخرى فهم على قلتهم لا ترى أكبر شأنهم إلا عبادة قوم لقوم، وزراية أناس بآخرين، وتعلق نفاق بنفاق، وتصديق كذب لكذب ؛ وآفة ثالثة تخرج من اجتماع الاثنين: وهي أن أكثرهم لا يكونون في قراءتهم الصحيفة إلا كالنظارة اجتمعوا ليشهدوا ما يتلهون به، أو كالفراغ يلتمسون ما يقطعون به الوقت ؛ فهم يأخذون السياسة مأخذ من لا يشارك فيها، ويتعاطون الجد تعاطي من يلهو به، ويتلقون الأعمال بروح البطالة، والعزائم بأسلوب عدم المبالاة، والمباحثة بفكرة الإهمال، والمعارضة بطبيعة الهزء والتحقير ؛ وهم كالمصلين في المسجد ؛ فمثل لنفسك نوعاً من المصلين إذا اصطفوا وراء الإمام تركوه يصلي عن نفسه وعنهم انصرفوا.قال أبو عثمان: بهذا ونحوه جاءت الصحف عندنا وأكثرها لا ثبات له إلا في الموضع الذي تكون فيه بين منافعه ووسائل منافعه ؛ ومن هذا ونحوه كان أقوى المادة عندنا أن تظهر الصحيفة مملوءة حكومة وسلطة وباشوات وبيكوات. . .وكان من الطبيعي أن محل الباشا والبك والحوادث الحكومية التفهة لا يكون من الجريدة إلا في موضع قلب الحي من الحي.ثم استضحك شيخنا وقال: لقد كتبت ذات يوم مقالة أقترح فيها على الحكومة تصحيح هذه الألقاب، وذلك بوضع لقب جديد يكون هو المفسر لجميعها ويكون هو اللقب الأكبر فيها، فإذا أنعم به على إنسان كتبت الصحف هكذا: أنعمت الحكومة على فلان بلقب 'ذو مال'.ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .فلم يلبث إلا يسيراً ثم عاد متهللاً ضاحكاً وقد طابت نفسه فليس له جحوظ العينين إلا بالقدر الطبيعي، وجلس إلي وهو يقول:بيد أن رئيس التحرير لم ينشر ذلك المقال، ولم ير فيه استطرافاً ولا ابتكاراً ولا نكتة ولا حجة صادقة، بل قال: كأنك يا أبا عثمان تريد أن يأكل عدد اليوم عدد الغد، فإذا نحن زهدنا في الألقاب وأصغرنا أمرها وتهكمنا بها وقلنا إنها أفسدت معنى التقدير الإنساني وتركت من لم ينلها من ذوي الجاه والغنى يرى نفسه إلى جانب من نالها كالمرأة المطلقة بجانب المتزوجة. . .وقلنا إنها من ذلك تكاد تكون وسيلة من وسائل الدفع إلى التملق والخضوع والنفاق لمن بيدهم الأمر، أو وسيلة إلى ما هو أحط من ذلك كما كان شأنها في عهد الدولة العثمانية البائدة حين كان الوسام كالرقعة من جلد الدولة يرقع بها الصدر الذي شقوه وانتزعوا ضميره - إذا نحن قلنا هذا وفعلنا هذا، لم نجد الشعب الذي يحكم لنا، ووجدنا ذوي المال والجاه والمناصب الذي يحكمون علينا ؛ فكنا كمن يتقدم في التهمة بغير محام إلى قاض ضعيف.يا أبا عثمان، إنما هي حياة ثلاثة أشياء: الصحيفة، ثم الصحيفة، ثم الحقيقة. .فالفكرة الأولى للصحيفة، والفكرة الثانية هي للصحيفة أيضاً ؛ ومتى جاء الشعب الذي يقول: لا، بل هي الحقيقة، ثم الحقيقة، ثم الصحيفة - فيومئذ لا يقال في الصحافة ما قيل لليهود في كتاب موسى: { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً }.قلت: أراك يا أبا عثمان لم تنكر شيئاً من رئيس التحرير في هذه المرة، فشق عليك ألا تثلبه، فغمزته بالكلام عن مرة سالفة.قال: أما هذه المرة فأنا الرئيس لا هو، وفي مثل هذا لا يكون عمك أبو عثمان من 'صعاليك الصحافة' ؛ إن الرجل اشتبه في كلمة: ما وجهها: أمرفوعة هي أم منصوبة ؟ وفي لفظة ما هي: أعربية أم مولدة ؟ وفي تعبير أعجمي ما الذي يؤديه من العربية الصحيحة ؟ وفي جملة: أهي في نسقها أفصح أم يبدلها.إن المعجم هنا لا يفيدهم شيئاً إلا إذا نطق. . .ولقد ابتليت هذه الأمة في عهدها الأخير بحب السهولة مما أثر فيها الاحتلال وسياسته وتحمله الأعباء عنها واستهدافه دونها للخطر، فشبه العامية في لغة الصحف وفي أخبارها وفي طريقها إنما هو صورة من سهولة تلك الحياة، وكأنه تثبيت للضعف والخور، وأنت خبير أن كل شيء يتحول بما تحدث له طبيعته عالياً أو نازلاً، فقد تحولت السهولة من شبه العامية إلى نصف العامية في كتابة أكثر المجلات وفي رسائل طلبة المدارس، حتى لتبدو المقالات في ألفاظها ومعانيها كأنها القنفد أراد أن يحمل مأكلة صغاره، فقرض عنقوداً من العنب، فألقاه في الأرض وأتربه وتمرغ فيه، ثم مشى يحمل كل حبة مرضوضة في عشرين إبرة من شوكه.ثم مد أبو عثمان يده فتناول مجلة مما أمامه وقعت يده عليها اتفاقاً ثم دفعها إلي وقال: اقرأ ولا تجاوز عنوان كل مقالة.فقرأت هذه العناوين.'مسئولية طبيب عن فتاة عذراء'، 'مودة الراقصات الصينيات'، 'تخر مغشياً عليها ؛ لأنهم اكتشفوا صورة حبيبها'، 'هل يعتبر قبول الهدية دليلاً على الحب، وإذا كانت ملابس داخلية. . .فهل تعتبر وعداً بالزواج ؟ هل يحق للأب أن يطالب صديق ابنته بتعويض إذا كانت ابنته غير شرعية، 'بين خطيبتين لشاب واحد'، 'بعد أن قص على زوجته أخبار السهرة. . .لماذا أطلقت عليه الرصاص'، 'عروس تأخذ 'شبكة' من شابين ثم تطردهما'، 'زوجة الموظف أين ذهبت'، 'لماذا خطفت العروس في اليوم المحدد للزفاف ؟ '، 'في الطريق: حب بالإكراه' فلانون وفلانات، زواج وطلاق، وأخبار المراقص، وحوادث أماكن الدعارة'. . .الخ الخ.فقال أبو عثمان: هذه هي حرية النشر ؛ ولئن كان هذا طبيعيّاً في قانون الصحافة إنه لإثم كبير في قانون التربية ؛ فإن الأحداث والضعفاء يجدونه عند أنفسهم كالتخيير بين الأخذ بالواجب وبين تركه، ولا يفهمون من جواز نشره إلا هذا.'وباب آخر من هذا الشكل فبكم أعظم حاجة إلى أن تعرفوه وتقفوا عنده، وهو ما يصنع الخبر ولا سيما إذا صادق من السامع قلة تجربة، فإن قرن بين قلة التجربة وقلة التحفظ دخل ذلك الخبر إلى مستقره من القلب دخولاً سهلاً، وصادف موضعاً وطيئاً وطبيعةً قابلة ونفساً ساكنة، ومتى صادف القلب كذلك رسخ رسوخاً لا حيلة في إزالته.ومتى ألقي إلى الفتيان شيء من أمور الفتيات في وقت الغرارة وعند غلبة الطبيعة وشباب الشهوة وقلة التشاغل و. . .'.ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .^

تتمة

وجاء أبو عثمان وفي بروز عينيه ما يجعلهما في وجهه شيئاً كعلامتي تعجب ألقتهما الطبيعة في هذا الوجه، وقد كانوا يلقبونه 'الحدقي' فوق تلقيبه بالجاحظ، كأن لقباً واحداً لا يبين عن قبح هذا النتوء في عينيه إلا بمرادف ومساعد من اللغة. . .وما تذكرت اللقبين إلا حين رأيت عينيه هذه المرة.وانحط في مجلسه كأن بعضهم يرمي بعضه من سخط وغيظ، أو كأن من جسمه ما لا يريد أن يكون من هذا الخلق المشوه، ثم نصب وجهه يتأمل، فبدت عيناه في خروجهما كأنما تهمان بالفرار من هذا الوجه الذي تحيا الكآبة فيه كما يحيا الهم في القلب ؛ ثم سكت عن الكلام ؛ لأن أفكاره كانت تكلمه.فقطعت عليه الصمت وقلت: يا أبا عثمان، رجعت من عند رئيس التحرير زائداً شيئاً أو ناقصاً شيئاً ؛ فما هو يرحمك الله ؟قال: رجعت زائداً أني ناقص، وههنا شيء لا أقوله ولو أن في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لوقفوا على عمك وأمثال عمك من كتاب الصحف يتعجبون لهذا النوع الجديد من الشهداء !وجوابنا لصاحبنا هذا: أن وزارة الداخلية اطلعت على مقالة فأمرت جميع المحال التي تبيع لعب الأطفال، ألا يبيعوا 'معركة فاصلة' ولا 'هاوية تاريخ'. . .وقال ابن يحيى النديم: دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقال: أنشدني قول عمارة في أهل بغداد، فأنشدته:

ومن يشتري مني ملوك مخرمِ. . . . . . . .ابع حسناً وابني هشام بدرهمِ

وأعطي 'رجاءً' بعد ذاك زيادة. . . . . . . .وأمنح 'ديناراً' بغير تندمِ

قال أبو عثمان:

فإن طلبوا مني الزيادة زدتهم. . . . . . . .أبا دلف والمستطيلَ بن أكثمِ

ويلي على هذا الشاعر ! اثنان بدرهم، واثنان زيادة فوقهما لعظم الدرهم، واثنان زيادة على الزيادة لجلالة الدرهم: كأنه رئيس تحرير جريدة يرى الدنيا قد ملئت كتاباً، ولكن ههنا شيئاً لا أقوله.وزعموا أن كسرى أبرويز كان في منزل امرأته شيرين، فأتاه صياد بسمكة عظيمة، فأعجب بها وأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت له شيرين: أمرت للصياد بأربعة آلاف درهم، فإن أمرت بها لرجل من الوجوه قال: إنما أمر لي بمثل ما أمر للصياد ! فقال كسرى: كيف أصنع وقد أمرت له ؟قالت: إذا أتاك فقل له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى ؟ فإن قال أنثى، فقل له: لا تقع عليك حتى تأتيني بقرينها، وإن قال غير ذلك فقل له مثل ذلك.فلما غدا الصياد على الملك قال له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى ؟ قال: بل أنثى، قال الملك: فأتني بقرينها.فقال الصياد: عمر الله الملك، إنها كانت بكراً لم تتزوج بعد. .قلت: يا أبا عثمان، فهل وقعت في مثل هذه المعضلة مع رئيس التحرير ؟قال: لم ينفع عمك أن سمكته كانت بكراً، فإنما يريدون إخراجه من الجريدة ؛ وما بلاغة أبي عثمان الجاحظ بجانب بلاغة التلغراف وبلاغة الخبر وبلاغة الأرقام وبلاغة الأصفر وبلاغة الأبيض. . .ولكن ههنا شيئاً لا أريد أن أقوله.وسمكتي هذه كانت مقالة جودتها وأحكمتها وبلغت بألفاظها ومعانيها أعلى منازل الشرف وأسنى رتب البيان، وجعلتها في البلاغة طبقة وحدها، وقيل أن يقول الأوروبيون 'صاحبة الجلالة الصحافة' قال المأمون: 'الكتاب ملوك على الناس'، فأراد عمك أبو عثمان أن يجعل نفسه ملكاً بتلك المقالة فإذا هو بها من 'صعاليك الصحافة'.لقد كانت كالعروس في زينتها ليلة الجلوة على محبها، ما هي إلا الشمس الضاحية، وما هي إلا أشواق ولذات، وما هي إلا اكتشاف أسرار الحب، وما هي إلا هي ؛ فإذا العروس عند رئيس التحرير هي المطلقة، وإذا المعجب هو المضحك، ويقول الرجل: أما نظريّاً فنعم، وأما عمليّاً فلا ؛ وهذا عصر خفيف يريد الخفيف، وزمن عامي يريد العامي، وجمهور سهل يريد السهل ؛ والفصاحة هي إعراب الكلام لا سياسته بقوى البيان والفكر واللغة، فهي اليوم قد خرجت من فنونها واستقرت في علم النحو.وحسبك من الفرق بينك وبين القارئ العامي: أنك أنت لا تلحن وهو يلحن.قال أبو عثمان: وهذه - أكرمك الله - منزلة بقل فيها الخاصي ويكثر العامي فيوشك ألا يكون بعدها إلا غلبة العامية، ويرجع الكلام الصحافي كله سوقياً بلديّاً 'حنشصيّاً'، وينقلب النحو نفسه وما هو إلا التكلف والتوعر والتقعر كما يرون الآن في الفصاحة، والقليل من الواجبات ينتهي إلى الأقل ؛ والأقل ينتهي إلى العدم، والانحدار سريع يبدأ بالخطوة الواحدة، ثم لا تملك بعدها الخطى الكثيرة.لا جرم فسد الذوق وفسد الأدب وفسدت أشياء كثيرة كانت كلها صالحة، وجاءت فنون من الكتابة ما هي إلا طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها، ولو كان في قانون الدولة تهمة إفساد الأدب أو إفساد اللغة، لقبض على كثيرين لا يكتبون إلا صناعة لهو ومسلاة فراغ وفساداً وإفساداً ؛ والمصيبة في هؤلاء ما يزعمون لك من أنهم يستنشطون القراء ويلهونهم، ونحن إنا نعمل في هذه النهضة لمعالجة اللهو الذي جعل نصف وجودنا السياسي عدماً ؛ ثم لملء الفراغ الذي جعل نصف حياتنا الاجتماعية بطالة ؛ وهذا أيضاً مما جعل عمك أبا عثمان في هذه الصحافة من 'صعاليك الصحافة'، وتركه في المقابلة بينه وبين بعض الكتاب كأنه في أمس وكأنهم في غد.ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .فما شككت أنهم سيطردونه، فإن الله لم يرزقه لساناً مطبعياً ثرثاراً يكون كالمتصل من دماغه بصندوق حروف. . .ولم يجعله كهؤلاء السياسيين الذين يتم بهم النفاق ويتلون، ولا كهؤلاء الأدباء الذين يتم بهم التضليل ويتشكل.ورجع شيخنا كالمخنوق أرخي عنه وهو يقول: ويلي على الرجل ! ويلي من الكلام الظريف الذي يقال في الوجه ليدفع في القفا. . .كان ينبغي ألا يملك هذه الصحافة اليومية إلا مجالس الأمة ؛ فذلك هو إصلاح الأمة والصحافة والكتاب جميعاً ؛ أما في هذه الصحف، فالكاتب يخبز عيشه على نار تأكل منه قدر ما يأكل من عيشه ؛ ولو أن عمك في خفض ورفاهية وسعة، لكان في استغنائه عنهم حاجتهم إليه ؛ ولكن السيف الذي لا يجد عملاً للبطل، تفضله الإبرة التي تعمل للخياط، وماذا يملك عمك أبو عثمان ؟ يملك ما لا ينزل عنه بدون الملوك، ولا بالدنيا كلها، ولا بالشمس والقمر ؛ إذ يملك عقله وبيانه، على أنه مستأجر هنا بعقله وبيانه، ويعقل ما شاءوا ويكتب ما شاءوا.لك الله أن أصدقك القول في هذه الحرفة اليومية: إن الكاتب حين يخرج من صحيفة إلى صحيفة، تخرج كتابته من دين إلى دين. . .ورأيت شيخنا كأنما وضع له رئيس التحرير مثل البارود في دماغه ثم أشعله، فأردت أن أمازحه وأسري عنه، فقلت: اسمع يا أبا عثمان، جاءتني بالأمس قضية يرفعها صاحبها إلى المحكمة، وقد كتب في عرض دعواه أن جار بيته غصبه قطعة من أرض فنائه الذي تركه حول البيت، وبنى في هذه الرقعة داراً، وفتح لهذه الدار نافذات، فهو يريد من القاضي أن يحكم برد الأرض المغصوبة، وهدم هذه الدار المبنية فوقها. . .وسد نافذتها المفتوحة !. .فضحك الجاحظ حتى أمسك بطنه بيده وقال: هذا أديب عظيم كبعض الذين يكتبون الأدب في الصحافة ؛ كثرت ألفاظه ونقص عقله، 'وسئل بعض الحكماء: متى يكون الأدب شرّاً من عدمه ؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة.وقد قال بعض الأولين: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه ؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض' والأدب وحده هو المتروك في هذه الصحافة لمن يتولاه كيف يتولاه ؛ إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب ؛ لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب ؛ إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب ؛ لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب، ثم هو من بعد هذا الاسم العظيم ملء فراغ لا بد أن يملأ، وصفحة الأدب وحدها هي التي تظهر في الجريدة اليومية كبقعة الصدأ على الحديد: تأكل منه ولا تعطيه شيئاً.ثم يأبى من تترك هذه الصفحة إلا أن يجعل نفسه 'رئيس تحرير' على الأدباء، فما يدع صفة من صفات النبوغ ولا نعتاً من نعوت العبقرية إلا نحله نفسه ووضعه تحت ثيابه ؛ وما أيسر العظمة وما أسهل منالها إذا كانت لا تكفك إلا الجراءة والدعوى والزعم، وتلفيق الكلام من أعراض الكتب وحواشي الأخبار.وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة، فإذا عبته بالركاكة والسخف والابتذال وفراغ ما يكتب، قال: هذا ما يلائم القراء، وقد يكون من أكذب الناس فيما يدعي لنفسه وما يهول به لتقوية شأنه وإصغار من عداه، فإذا كذبه من يعرفه قال: هذا ما يلائمني، وهو واثق أنه في نوع من القراء ليس عليه إلا أن يملأهم بهذه الدعاوى كما تملأ الساعة، فإذا هم جميعاً يقولون: تك تك. . .تك. . .تكفمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل، جعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعرب، وكله سواء وكله بياناً وكان المكي طيب الحجج، ظريف الحيل، عجيب العلل، وكان يدعي كل شيء على غاية الإحكام ولم يحكم شيئاً قط من الجليل ولا من الدقيق ؛ وإذ قد جرى ذكره فسأحدثك ببعض أحاديثه، قلت له مرة: أعلمت أن الشاري حدثني أن المخلوع 'أي الأمين' بعث إلى المأمون بجراب فيه سمسم، كأنه مخبره أن عنده من الجند بعد ذلك، وأن المأمون بعث له بديك أعور، يريد أن ظاهر بن الحسين يقتل هؤلاء كلهم كما يلقط الديك الحب ؟قال: فإن هذا الحديث أنا ولدته، ولكن انظر كيف سار في الآفاق. . .ثم قال أبو عثمان: وقد زعم أحد أدبائكم أنه اكتشف في تاريخ الأدب اكتشافاً أهمله المتقدمون وغفل عنه المتأخرون، فنظر عمك في هذا الذي ادعاه، فإذا الرجل على التحقيق كالذي يزعم أنه اكتشف أمريكا في كتاب من كتب الجغرافيا. . .وما يزال البلهاء يصدقون الكلام المنشور في الصحف، لا بأنه صدق، ولكن بأنه 'مكتوب في الجريدة'. . .فلا عجب أن يظن كاتب صفحة الأدب - متى كان مغروراً - أنه إذا تهدد إنساناً فما هدده بصفحته، بل بحكومته. . .نعم أيها الرجل إنها حكومة ودولة ؛ ولكن ويحك إن ثلاث ذبابات ليست ثلاث قطع من أسطول إنجلترا !. . .وضحك أبو عثمان وضحكت ! فاستيقظت.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي