وحي القلم/لحوم البحر

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

لحوم البحر

لحوم البحر - وحي القلم

لحوم البحر

لكأنما والله تمدد على سيف البحر في الإسكندرية شيطان مارد من شياطين ما بين الرجل والمرأة، يخدع الناس عن جهنم بتبريد معانيها، وقد امتلأ به الزمان والمكان ؛ فهو يُرعش ذلك الرمل بذلك الهواء رعشة أعصاب حية ؛ ويرسل في الجو نفخات من جرأة الخمر في شاربها ثار فعربد، ويُطلع الشمس للأعين في منظر حسناء عريانة ألقت ثيابها وحياءها معاً، ويرخي الليل ليغطي به المخازي التي خجل النهار أن تكون فيه.ولعمري إن لم يكن هو هذا المارد، ما أحسبه إلا الشيطان الخبيث الذي ابتدع فكرة عرض الآثام مكشوفة في أجسامها تحت عين التقي والفاجر ؛ لتعمل عملها في الطباع والأخلاق ؛ فسول للنساء والرجال أن ذلك الشاطئ علاج الملل من الحر والتعب، حتى إذا اجتمعوا، فتقاربوا، فتشابكوا، سول لهم الأخرى أن الشاطئ هو كذلك علاج الملل من الفضيلة والدين !وإن لم يكن اللعينان فهو الرجيم الثالث، ذلك الذي تألى أن يفسد الآداب الإنسانية كلها بفساد خُلُق واحد، هو حياء المرأة ؛ فبدأ يكشفها للرجال من وجهها، ولكنه استمر يكشف. . .وكانت تظنه نزع حجابها فإذا هو أول عُرْيها. . .وزادت المرأة، ولكن بما زاد فجور الرجال ؛ ونقصت، ولكن بما نقص فضائلهم ؛ وتغيرت الدنيا وفسدت الطباع ؛ فإذا تلك المرأة ممن يقرونها على تبذلها بين رجلين لا ثالث لهما: رجل فجر ورجل تخنث.هناك فكرة من شريعة الطبيعة هي عقل البحر في هؤلاء الناس، وعقل هؤلاء الناس في البحر ؛ إذا أنت اعترضتَها فتبينتها فتعقبتها، رأيتها بلاغة من بلاغة قصيدة مترجمة عن الشيطان: لحوم البحرالشيطان في تزيينه وتطويعه، وأصبت فكره مستقرّاً فيها استقرار المعنى في عبارته، آخذاً بمداخلها ومخارجها.وما كان الشيطان عَيِيّاً ولا غبيّاً، بل هو أذكى شعراء الكون في خياله، وأبلغهم في فطنته، وأدقهم في منطقه، وأقدرهم على الفتنة والسحر ؛ وبتمامه في هذا كله كان شيطاناً لم تسعه الجنة إذ ليس فيها النار، ولم تُرضه الرحمة إذ ليس معها الغضب، ولم يعجبه الخضوع الملائكي إذ ليس فيه الكبرياء، ولم يخلص إلى الحقيقة إذ لا تحمل الحقيقة شعر أحلامه.وما أتى الشيطان أحداً، ولا وسوس في قلب، ولا سوَّل لنفس، ولا أغوى من يغويه، إلا بأسلوب شعري ملتبس دقيق، يجعل المرء يعتقد أن اطِّراح العقل ساعة هو عقل الساعة، ويفسد برهانه مهما كان قويّاً ؛ إذ يرتد به من النفس إلى أخيلة لا تقبل البرهانات، ويقطع حجته مهما كانت دامغة ؛ إذ يعترضها بنزعة من النزعات توجهها كيف دار بها الدم، لا كيف دار بها المنطق.فكرة من شريعة الطبيعة، ظاهرها لبعض الأمر من الشمس والهواء والبحر وما لا أدري، وباطنها لبعض الأمر من فن الشيطان وبلاغته وشعره وما لا أدري ؛ وما كانت الشرائع الإلهية والوضعية إلا لإقرار العقل في شريعة الطبيعة كي تكون إنسانية لإنسانها كما هي الحيوانية لحيوانها، وليجد الإنسان ما يحفظ به نفسه من نفسه التي هي دائماً فوضى، ولا غاية لها لولا ذلك العقل إلا أن تكون دائماً فوضى.وبالشرائع والآداب استطاع الإنسان أن يضع لكلمة الطبيعة النافذة عليه جواباً، وأن يرى في هذه الطبيعة أثر جوابه ؛ فكلمتها هي: أيها الإنسان، أنت خاضع لي بالحيواني فيك، وكلمته هي: أيتها الطبيعة، وأنت لي خاضعة بالإلهي فيَّ.والآن سأقرأ لك القصيدة الفنية التي نظمها الشيطان على رمل الشاطئ في الإسكندرية ؛ وقد نقلتها أترجمها فصلاً بعد فصل عن تلك الأجسام عارية وكاسية، وعن معانيها مكشوفة ومغطاة، وعن طباعها بريئة ومتهمة، حتى اتسقت الترجمة على ما ترى:قال الشيطان:ألا إن البهيمة والعقلية في هذا الإنسان، مجموعهما شيطانية.ألا وإنه ما من شيء جميل أو عظيم إلا وفيه معنى السخرية به.هنا تتعرى المرأة من ثوبها، فتتعرى من فضيلتها.هنا يخلع الرجل ثوبه، ثم يعود إليه فيلبس فيه الأدب الذي خلعه.رؤية الرجل لحم المرأة المحرمة نظر بالعين والعاطفة.يرمي ببصره الجائع كما ينظر الصقر إلى لحم الصيد.ونظر المرأة لحم الرجل رؤية فكر فقط.تُحوِّل بصرها أو تخفضه، وهي من قلبها تنظر.يا لحوم البحر ! سلخك من ثيابك جزار !يا لحوم البحر ! سلخك جزار من ثيابك.جزار لا يذبح بألم ولكن بلذة.ولا يَحِزّ بالسكين ولكن بالعاطفة.ولا يُميت الحي إلا موتاً أدبيّاً.إلى الهيجاء يا أبطال معركة الرجال والنساء.فهنا تلتحم نواميس الطبيعة، ونواميس الأخلاق.للطبيعة أسلحة العُرْي، والمخالطة، والنظر، والأنس، والتضاحك، ونزوع المعنى إلى المعنى.وللأخلاق المهزومة سلاح من الدين قد صَدِئ ؛ وسلاح من الحياء مكسور !يا لحوم البحر ! سلخك من ثيابك جزار.الشاطئ كبير كبير، يسع الآلاف والآلاف.ولكنه للرجل والمرأة صغير صغير، حتى لا يكون إلا خلوة.وتقضي الفتاة سنتها تتعلم، ثم تأتي هنا تتذكر جهلها وتعرف ما هو.وتمضي المرأة عامها كريمة، ثم تجيء لتجد هنا مادة اللؤم الطبيعي.لو كانت حجّاجة صوّامة، للعنتها الكعبة لوجودها في 'إستانلي'.الفتاة ترى في الرجال العريانين أشباح أحلامها، وهذا معنى من السقوط.والمرأة تسارقهم النظر تنويعاً لرجلها الواحد، وهذا معنى من المواخير.أين تكون النية الصالحة لفتاة أو امرأة بين رجال عريانين ؟ !يا لحوم البحر ! سلخك من ثيابك جزار !هناك التربية، وهنا إعلان الإغفال والطيش.وهناك الدين، وهنا أسباب الإغراء والزلل.هناك تكلف الأخلاق، وهنا طبيعة الحرية منها.وهناك العزيمة بالقهر يوماً بعد يوم، وهنا إفسادها بالترخص يوماً بعد يوم.والبحر يعلّم اللائي والذين يسبحون فيه كيف يغرقون في البر.لو درى هؤلاء وهؤلاء معرّة اغتسالهم معاً في البحر، لاغتسلوا من البحر.فقطرة الماء التي نجّستها الشهوات قد انسكبت في دمائهم.وذرة الرمل النجسة في الشاطئ، ستكبر حتى تصير بيتاً نجساً لأب وأم.يا لحوم البحر ! سلخك من ثيابك جزار !يجيئون للشمس التي تقوى بها صفات الجسم ؛ليجد كل من الجنسين شمسه التي تضعف بها صفات القلب.يجيئون للهواء الذي تتجدد به عناصر الدم ؛ليجدوا الهواء الآخر الذي تفسد به معاني الدم.يجيئون للبحر الذي يأخذون منه القوة والعافية ؛ليأخذوا عنه أيضاً شريعته الطبيعية: سمكة تطارد سمكة.ويقولون: ليس على المصيف حرج،أي: لأنه أعمى الأدب، وليس على الأعمى حرج.يا لحوم البحر ! سلخك من ثيابك جزار !المدارس، والمساجد، والبِيَع، والكنائس، ووزارة الداخلية ؛هذه كلها لن تهزم الشاطئ.فأمواج النفس البشرية كأمواج البحر الصاخب، تنهزم أبداً لترجع أبداً.لا يهزم الشاطئ إلا ذلك 'الجامع الأزهر'، لو لم يكن قد مُسخ مدرسة !فصرخة واحدة من قلب الأزهر القديم، تجعل هدير البحر كأنه تسبيح.وترد الأمواج نقية بيضاء، كأنها عمائم العلماء.وتأتي إلى البحر بأعمدة الأزهر للفصل بين الرجال والنساء.ولكني أرى زمناً قد نقل حتى إلى المدارس روح 'الكازينو' !يا لحوم البحر ! سلخك من ثيابك جزار !'هنا على رغم الآداب، مملكة للصيف والقَيْظ، سلطانها الجسم المؤنث العاري.أجسام تعرض مفاتنها عرض البضائع ؛ فالشاطئ حانوت للزواج !وأجسام تعرض أوضاعها كأنها في غرفة نومها في الشاطئ.وأجسام جالسة لغيرها، تحيط بها معانيها ملتمسة معانيه ؛ فالشاطئ سوق للرقيق.وأجسام خَفِرة جالسة للشمس والهواء ؛ فالشاطئ كدار الكفر لمن أُكره.وأجسام عليلة تقتحمها الأعين فتزدريها ؛ لأنها جعلت الشاطئ مستشفى.وأجسام خليعة أضافت من 'إستانلي' وأخواتها إلى منارة الإسكندرية ومكتبة الإسكندرية، مزبلة الإسكندرية.كان جدال المسلمين في السفور، فأصبح الآن في العري.فإذا تطور، فماذا بقي من تقليد أوروبا إلا الجدال في شرعية جمع المرأة بين الزوج وشبه الزوج ؟ '.انتهى ما استطعت ترجمته، بعد الرجوع في مواضع من القصيدة إلى بعض القواميس الحية. . .إلى بعض شبان الشاطئ.^

قصيدة مترجمة عن الملَك

ترجمنا عن الشيطان قصيدة 'لحوم البحر' وهذه ترجمة عن أحد الملائكة، رآني جالساً تحت الليل وقد أجمعت أن أضع كلمة للمرأة الشرقية فيما تحاذره أو تتوجس منه الشر ؛ فتَخَايل الملك بأضوائه في الضوء، وسنح لي بروحه، وبث فيّ من سره الإلهي، فجعلتُ أنظر في قلبي إلى فجر من هذا الشعر ينبُع كلمة كلمة، ويُشرق معنى معنى، ويستطير جملة جملة، حتى اجتمعت القصيدة وكأنما سافرتُ في حلم من الأحلام فجئتُ بها.وانطلق ذلك الملَك وتركها في يدي لغة من طهارته للمرأة الشرقية في ملائكيتها:احذري. . .!احذري أيتها الشرقية وبالغي في الحذر، واجعلي أخص طباعك الحذر وحده.احذري تمدن أوروبا أن يجعل فضيلتك ثوباً يوسع ويضيق ؛ فلُبس الفضيلة على ذلك هو لبسها وخلعها.احذري فنهم الاجتماعي الخبيث الذي يفرض على النساء في مجالس الرجال أن تؤدي أجسامهن ضريبة الفن.احذري تلك الأنوثة الاجتماعية الظريفة ؛ إنها انتهاء المرأة بغاية الظَّرف والرقة إلى. . .إلى الفضيحة.احذري تلك النسائية الغزلية ؛ إنها في جملتها ترخيص اجتماعي للحرة أن. . .أن تشارك البَغِيّ في نصف عملها.أيتها الشرقية ! احذري احذري !احذري التمدن الذي اخترع لقتل لقب الزوجة المقدس، لقب 'المرأة الثانية'.واخترع لقتل لقب العذراء المقدس، لقب 'نصف عذراء'.واخترع لقتل دينية معاني المرأة، كلمة 'الأدب المكشوف'.وانتهى إلى اختراع السرعة في الحب، فاكتفى الرجل بزوجة ساعة.وإلى اختراع استقلال المرأة، فجاء بالذي اسمه 'الأب' من الشارع، لتلقي بالذي اسمه 'الابن' إلى الشارع.أيتها الشرقية ؛ احذري احذري !احذري، وأنتِ النجم الذي أضاء منذ النبوة، أن تقلدي هذه الشمعة التي أضاءت منذ قليل.إن المرأة الشرقية هي استمرار متصل لآداب دينها الإنساني العظيم.هي دائماً شديدة الحفاظ، حارسة لحَوْزتها ؛ فإن قانون حياتها دائماً هو قانون الأمومة المقدس.هي الطهر والعفة، هي الوفاء والأنفة، هي الصبر والعزيمة، وهي كل فضائل الأم.فما هو طريقها الجديد في الحياة الفاضلة، إلا طريقها القديم بعينه.أيتها الشرقية ! احذري احذري !احذري 'ويحك' تقليد الأوروبية التي تعيش في دنيا أعصابها، محكومة بقانون أحلامها.لم تعد أنوثتها حالة طبيعية نفسية فقط، بل حالة عقلية أيضاً تشك وتجادل.أنوثة تفلسفت فرأت الزوج نصف الكلمة فقط، والأم نصف المرأة فقط.ويا ويل المرأة حين تنفجر أنوثتها بالمبالغة، فتنفجر بالدواهي على الفضيلة.إنها بذلك حرة مساوية للرجل، ولكنها بذلك ليست الأنثى المحدودة بفضيلتها.أيتها الشرقية ! احذري احذري !احذري خجل الأوروبية المترجِّلة من الإقرار بأنوثتها.إن خجل الأنثى يجعل فضيلتها تخجل منها.إنه يسقط حياءها ويكسو معانيها رجولة غير طبيعية.إن هذه الأنثى المترجلة تنظر إلى الرجل نظرة رجل إلى أنثى.والمرأة تعلو بالزواج درجة إنسانية، ولكن هذه المكذوبة تنحط درجة إنسانية بالزواج.أيتها الشرقية ! احذري احذري !احذري تَهَوُّس الأوروبية في طلب المساواة بالرجل.لقد ساوتْه في الذهاب إلى الحلَّاق، ولكن الحلَّاق لم يجد في وجهها اللحية.إنها خُلقت لتحبيب الدنيا إلى الرجل، فكانت بمساواتها مادة تبغيض.العجيب أن سر الحياة يأبى أبداً أن تتساوى المرأة بالرجل إلا إذا خسرته.والأعجب أنها حين تخضع، يرفعها هذا السر ذاته عن المساواة بالرجل إلى السيادة عليه.أيتها الشرقية ! احذري احذري !احذري أن تخسري الطباع التي هي الأليق بأم أنجبت الأنبياء في الشرق.أم عليها طابع النفس الجميلة، تنشر في كل موضع جو نفسها العالية.فلو صارت الحياة غيماً ورعداً وبرقاً، لكانت هي فيها الشمس الطالعة.ولو صارت الحياة قَيْظاً وحَرُوراً واختناقاً، لكانت هي فيها النسيم يتخطَّر.أم لا تبالي إلا أخلاق البطولة وعزائمها ؛ لأن جداتها ولدن الأبطال.أيتها الشرقية ! احذري احذري !احذري هؤلاء الشبان المتمدنين بأكثر من التمدن.يبالغ الخبيث في زينته، وما يدري أن زينته معلنة أنه إنسان من الظاهر.ويبالغ في عرض رجولته على الفتيات، يحاول إيقاظ المرأة الراقدة في العذراء المسكينة !ليس لامرأة فاضلة إلا رجلها الواحد ؛ فالرجال جميعاً مصائبها إلا واحداً.وإذ هي خالطت الرجال، فالطبيعي أنها تخالط شهوات، ويجب أن تحذر وتبالغ.أيتها الشرقية ! احذري احذري !احذري ؛ فإن في كل امرأة طبائع شريفة متهورة ؛ وفي الرجال طبائع خسيسة متهورة.وحقيقة الحجاب أنه الفصل بين الشرف فيه الميل إلى النزول، وبين الخسة فيها الميل إلى الصعود.فيكِ طبائع الحب، والحنان، والإيثار، والإخلاص، كلما كبرتِ كبرتْ.طبائع خطرة، إن عملتْ في غير موضعها ؛ جاءت بعكس ما تعمله في موضعها.فيها كل الشرف ما لم تنخدع، فإذا انخدعت فليس فيها إلا كل العار.أيتها الشرقية ! احذري احذري !احذري كلمة شيطانية تسمعينها: هي فنية الجمال أو فنية الأنوثة.وافهميها أنت هكذا: واجبات الأنوثة وواجبات الجمال.بكلمة يكون الإحساس فاسداً، وبكلمة يكون شريفاً.ولا يتسقّط الرجل امرأة إلا في كلمات مزينة مثلها.يجب أن تتسلح المرأة مع نظرتها، بنظرة غضب ونظرة احتقار.أيتها الشرقية ! احذري احذري !احذري أن تُخدَعي عن نفسك ؛ إن المرأة أشد افتقاراً إلى الشرف منها إلى الحياة.إن الكلمة الخادعة إذ تقال لك، هي أخت الكلمة التي تقال ساعة إنفاذ الحكم للمحكوم عليه بالشنق.يغترّونكِ بكلمات الحب والزواج والمال، كما يقال للصاعد إلى الشنَّاقة: ماذا تشتهي ؟ ماذا تريد ؟الحب ؟ الزواج ؟ المال ؟ هذه صلاة الثعلب حين يتظاهر بالتقوى أمام الدجاجة.الحب ؟ الزواج ؟ المال ؟ يا لحم الدجاجة ! بعض كلمات الثعلب هي أنياب الثعلب.أيتها الشرقية ! احذري احذري.احذري السقوط ؛ إن سقوط المرأة لهوله وشدته ثلاث مصائب في مصيبة: سقوطها هي، وسقوط من أوجدوها، وسقوط من تُوجدهم ! نوائب الأسرة كلها قد يسترها البيت، إلا عار المرأة.فيد العار تقلب الحيطان كما تقلب اليد الثوب، فتجعل ما لا يُرى هو ما يُرى.والعار حكم ينفذه المجتمع كله، فهو نفي من الاحترام الإنساني.أيتها الشرقية ! احذري احذري !'لو كان العار في بئر عميقة لقلبها الشيطان مئذنة، ووقف يؤذن عليها.يفرح اللعين بفضيحة المرأة خاصة، كما يفرح أب غني بمولود جديد في بيته.واللص، والقاتل، والسكير، والفاسق، كل هؤلاء على ظاهر الإنسانية كالحر والبرد.أما المرأة حين تسقط، فهذه من تحت الإنسانية هي الزلزلة.ليس أفظع من الزلزلة المرتجة تشق الأرض، إلا عار المرأة حين يشق الأسرة.أيتها الشرقية ! احذري احذري ! '.^'وكيف يُشعَب صدع الحب في كبدي'، كيف يشعب صدع الحب ؟لعمري ما رأيت الجمال مرة إلا كان عندي هو الألم في أجمل صوره وأبدعها ؛ أتُراني مخلوقاً بجرح في القلب ؟ولا تكون المرأة جميلة في عيني، إلا إذا أحسست حين أنظر إليها أن في نفسي شيئاً قد عرفها، وأن في عينيها لحظات موجهة، وإن لم تنظر هي إلي.فإثبات الجمال نفسه لعيني، أن يثبت صداقته لروحي باللمحة التي تدل وتتكلم: تدل نفسي وتتكلم في قلبي.كنت أجلس في 'الإسكندرية' بين الضحى والظهر، في مكان على شاطئ البحر، ومعي صديقي الأستاذ 'ح' من أفاضل رجال السلك السياسي، وهو كاتب من ذوي الرأي، له أدب غَضّ ونوادر وظرائف ؛ وفي قلبه إيمان لا أعرف مثله في مثله، قد بلغ ما شاء الله قوة وتمكناً، حتى لأحسب أنه رجل من أولياء الله قد عُوقب فحُكم عليه أن يكون محامياً، ثم زيد الحكم فجعل قاضياً، ثم ضُوعفت العقوبة فجعل سياسياً.وهذا المكان ينقلب في الليل مسرحاً ومرقصاً وما بينهما، فيتغاوى فيه الجمال والحب، ويعرض الشيطان مصنوعاته في الهزل والرقص والغناء، فإذا دخلته في النهار رأيت نور النهار كأنه يغسله ويغسلك معه، فتحس للنور هناك عملاً في نفسك.ويُرى المكان صدراً من النهار كأنه نائم بعد سهر الليل، فما تجيئه من ساعة بين الصبح والظهر، إلا وجدته ساكناً هادئاً كالجسم المستثقل نوماً ؛ ولهذا كنت كثيراً ما أكتب فيه، بل لا أذهب إليه إلا للكتابة.فإذا كان الظهر أقبل نساء المسرح ومعهن من يطارحهن الأناشيد وألحانها، ومن يُثقفهن في الرقص، ومن يُروِّيهن ما يمثلن إلى غير ذلك مما ابتلتهن به الحياة لتُساقط عليهن الليالي بالموت ليلة بعد ليلة.وكن إذا جئن رأينَني على تلك الحال من الكتابة والتفكير، فينصرفن إلى شأنهن، إلا واحدة كانت أجملهن، وأكثر هؤلاء المسكينات يظهرن لعين المتأمل كأن منهن مثل العنز التي كُسر أحد قرنيها، فهي تحمل على رأسها علامة الضعف والذلة والنقص، ولو أن امرأة تتبدد حيناً فلا تكون شيئاً، وتجتمع حيناً فتكون مرة شيئاً مقلوباً، وأخرى شكلاً ناقصاً، وتارة هيئة مشوهة ؛ لكانت هي كل امرأة من هؤلاء المسكينات اللواتي يمشين في المسرّات إلى المخاوف، ويعشن ولكن بمقدمات الموت، ويجدن في المال معنى الفقر، ويتلقَّين الكرامة فيها الاستهزاء، ثم لا يعرفن شابّاً ولا رجلاً إلا وقعت عليهن من أجله لعنة أب أو أم أو زوجة.وتلك الواحدة التي أومأتُ إليها كانت حزينة متسلبة، فكأنما جذبها حزنها إلي، وكانت مفكرة فكأنما هداها إلي فكرها، وكانت جميلة فدلها علي الحب، وما أدري - والله - أي نفسينا بدأت فقالت للأخرى: أهلاً.ورأيتها لا تصرف نظرها عني إلا لترده إلي، ولا ترده إلا لتصرفه ؛ ثم رأيتها قد جال بها الغزل جولة في معركته، فتشاغلتُ عنها لا أُريها أني أنا الخصم الآخر في المعركة.بيد أني جعلت آخذها في مطارح النظر، وأتأملها خلسة بعد خلسة في ثوبها الحريري الأسود، فإذا هو يشُب لونها فيجعله يتلألأ، ويظهر وجهها بلون البدر في تِمّه، ويبديه لعيني أرق من الورد تحت نور الفجر.ورأيت لها وجهاً فيه المرأة كلها باختصار، يشرق على جسم بَضّ ألين من خَمْل النعام، تعرض فيه الأنوثة فنها الكامل ؛ فلو خُلق الدلال امرأة لكانتها.وتلوح للرائي من بعيد كأنها وضعت في فمها 'زر ورد' أحمر منضمّاً على نفسه.شفتان تكاد ابتسامتهما تكون نداء لشفتيْ محب ظمآن !أما عيناها فما رأيت مثلهما عيني امرأة ولا ظبية ؛ سوادهما أشد سواداً من عيون الظباء ؛ وقد خُلقتا في هيئة تثبت وجود السحر وفعله في النفس ؛ فهما القوة الواثقة أنها النافذة الأمر، يمازجها حنان أكثر مما في صدر أم على طفلها ؛ وتمام الملاحة أنهما هما بهذا التكحيل، في هذه الهيئة، في هذا الوجه القمري.يا خالق هاتين العينين ! سبحانك سبحانك !قال الراوي:وأتغافل عنها أياماً ؛ وطال ذلك مني وشق عليها، وكأني صغرت إليها نفسها، وأرهقتها بمعنى الخضوع، بيد أن كبرياءها التي أبت لها أن تُقدِم، أبت عليها كذلك أن تنهزم.وأنا على كل أحوالي إنما أنظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعاً في الهواء: لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول: أخذت مني.ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني، دون فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنى أكبر من المرأة، أكبر منها ؛ غير أنه هو منها.قال الراوي:فإني لجالس ذات يوم وقد أقبلتُ على شأني من الكتابة، وبإزائي فتى رَيِّق الشباب، في العمر الذي ترى فيه الأعين بالحماسة والعاطفة، أكثر مما ترى بالعقل والبصيرة، ناعم أملد تم شبابه ولم تتم قوته، كأنما نكصت الرجولة عنه إذ وافته فلم تجده رجلاً. . .أو تلك هي شيمة أهل الظَّرف والقصف من شبان اليوم: ترى الواحد منهم فتعرف النضج في ثيابه أكثر مما تعرفه في جسمه، وتأبى الطبيعة عليه أن يكون أنثى فيجاهد ليكون ضرباً من الأنثى ! إني لجالس إذا وافت الحسناء فأومأتْ إلى الفتى بتحيتها، ثم ذهبتْ فاعتلَت المنصة مع الباقيات، ورقصت فأحسنت ما شاءت، وكأن في رقصها تعبيراً عن أهواء ونزعات تريد إثارتها في رجل ما، فقلت لصاحبنا الأستاذ 'ح': إن كلمة الرقص إنما هي استعارة على مثل هذا، كما يستعرْنَ كلمة الحب لجمع المال ؛ ولا رقص ولا حب إلا فجور وطمع.ثم إنها فرغَتْ من شأنها فمرت تتهادى حتى جاءت فجلست إلى الفتى. . .فقال الأستاذ 'ح' وكان قد ألمّ بما في نفسها: أتُراها جعلته ههنا محطة ؟قال الراوي: أما أنا فقلت في نفسي: لقد جاء الموضوع. . .وإني لفي حاجة - أشد الحاجة - إلى مقالة من المكحولات، فتفرغت لها أنظر ماذا تصنع، وأنا أعلم أن مثل هذه قليلاً ما يكون لها فكر أو فلسفة ؛ غير أن الفكر والفلسفة والمعاني كلها تكون في نظرها وابتساماتها وعلى جسمها كله.وكان فتاها قد وضع طربوشه على يده ؛ فقد انتهينا إلى عهد رجع حكم الطربوش فيه على رأس الشاب الجميل، كحكم البرقع على وجه الفتاة الجميلة.فأسفر ذاك من طربوشه، وأسفرت هذه من نقابها.قال الراوي: فما جلستْ إلى الفتى حتى أدنت رأسها من الطربوش، فاستنامت إليه، فألصقت به خدها.ثم التفتت إلينا التفاتة الخِشْف المذعور استروح السَّبُع ووجد مقدماته في الهواء، ثم أرخت عينيها في حياء لا يستحي.وأنشأت تتكلم وهي في ذلك تسارقنا النظر، كأن في ناحيتنا بعض معاني كلامها.ثم لا أدري ما الذي تضاحكتْ له، غير أن ضحكتها انشقت نصفين، رأينا نحن أجملهما في ثغرها.ثم تزعزعت في كرسيها كأنما تهم أن تنقلب ؛ لتمتد إليها يد فتمسكها أن تنقلب.ثم تساندت على نفسها، كالمريضة النائمة تتناهض من فراشها فيكاد يَئِنّ بعضها من بعضها، وقامت فمشت، فحاذتنا، وتجاوزتنا غير بعيد، ثم رجعت إلى موضعها متكسرة كأن فيها قوة تعلن أنها انتهت.قال الراوي:ونظرتُ إليها نظرة حزن ؛ فتغضبت واغتاظت، وشاجرت هذه النظرة من عينيها الدَّعْجَاوين بنظرات متهكمة، لا أدري أهي توبخنا بها، أم تتهمنا بأننا أخذنا من حسنها مجاناً ؟فقلتُ للأستاذ 'ح'، وأنا أجهر بالكلام ليبلُغها:أما ترى أن الدنيا قد انتكست في انتكاسها، وأن الدهر قد فسد في فساده، وأن البلاء قد ضُوعف على الناس، وأن بقية من الخير كانت في الشر القديم فانتُزعت ؟قال: وهل كان في الشر القديم بقية خير وليس مثلها في الشر الحديث ؟قلت: ههنا في هذا المسرح قِيَان لو كانت إحداهن في الزمن القديم، لتنافس في شرائها الملوك والأمراء سراة الناس وأعيانهم، فكان لها في عَهَارة الزمن صون وكرامة، وتتقلب في القصور فتجعل لها القصور حرمة تمنعها ابتذال فنها لكل من يدفع خمسة قروش، حتى لرُذَّال الناس وغوغائهم وسَفَلتهم ؛ ثم هي حين يُدبِر شبابها تكون في دار مولاها حميلة على كرم يحملها، وعلى مروءة تعيش بها.وقديماً أخذت سلَّامة الزرقاء في قبلتها لؤلؤتين بأربعين ألف درهم، تبلغ ألفي جنيه.فهل تأخذ القينة من هؤلاء إلا دَخِينة بمليمين ؟قال الأستاذ 'ح': ما أبعدك يا أخي عن 'بورصة' القبلة وأسعارها، ولكن ما خبر اللؤلؤتين ؟قال الراوي:كانت سلامة هذه جارية لابن رَامين، وكانت من الجمال بحيث قيل في وصفها: كأن الشمس طالعة من بين رأسها وكتفيها ؛ فاستأذن عليها في مجلس غنائها الصيرفي الملقب بالماجن، فلما أذنت له، دخل فأقعى بين يديها، ثم أدخل يده في ثوبه فأخرج لؤلؤتين، وقال: انظري يا زرقاء جُعلتُ فداك.ثم حلف أنه نُقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم.قالت: فما أصنع بذاك ؟ قال: أردت أن تعلمي.ثم غنت صوتاً وقالت: يا ماجن هبهما لي، ويحك.قال: إن شئت - والله - فعلت.قالت: قد شئت.قال: واليمين التي حلفتُ بها لازمة لي إن أخذتهما إلا بشفتيك من شفتيّ.قال الراوي:ورأيتها قد أذنت لي، وأنصتت لكلامي، وكأنما كانت تسمعني أعتذر إليها، واستيقنتْ أن ليس بي إلا الحزن عليها والرثاء لها، فبدت أشد حياء من العذراء في أيام الخِدْر.ثم قلت: نعم كان ذلك الزمن سفيهاً، ولكنها سفاهة فن لا سفاهة عربدة وتصعلك كما هي اليوم.فنظرت إلي نظرة لن أنساها ؛ نظرة كأنها تدمع، نظرة تقول بها: ألستُ إنسانة ؟ فلم أملك أن قلت لها: تعالي تعالي.وجاءت أحلى من الأمل المعترض سنحت به الفرصة، ولكن ماذا قلت لها وماذا قالت ؟^جاءت أحلى من الأمل المعترض سنحت به فرصة ؛ وعلى أنها لم تَخْطُ إلينا إلا خطوة وتمامها، فقد كانت تجد في نفسها ما تجده لو أنها سافرت من أرض إلى أرض، ونقلها البعد النازح من أمة إلى أمة.يا عجباً ! إن جلوس إنسان إلى إنسان بإزائه، قد يكون أحياناً سفراً طويلاً في عالم النفس.فهذه الحسناء تعيش في دنيا فارغة من خِلال كثيرة: كالتقوى، والحياء، والكرامة، وسمو الروح، وغيرها ؛ فإذا عرض لها من يشعرها بعض هذه الخلال، وينتزعها من دنيا اضطرارها وأخلاق عيشها ولو ساعة ؛ فما تكون قد وجدت شخصاً، بل كشفت عالَماً تدخله بنفس غير النفس التي تدبّرها في عالم رزقها.ولا أعجب من سحر الحب في هذا المعنى ؛ فإن العاشق ليكون حبيبه إلى جانبه، ثم لا يحس إلا أنه طوى الأرض والسموات ودخل جنة الخلد في قبلة.جلست إلينا كما تجلس المرأة الكريمة الخَفِرة، تعطيك وجهها وتبتعد عنك بسائرها، وتُريك الغصن وتخبأ عنك أزهاره.فرأيناها لم تستقبل الرجل منا بالأنثى منها كما اعتادت ؛ بل استقبلت واجباً برعاية، وتلطفاً بحنان، وأدباً من فن بأدب من فن آخر ؛ وكان هذا عجيباً منها ؛ فكلمها في ذلك الأستاذ 'ح' فقالت: أما واحدة، فإننا نتبع دائماً محبة من نجالسهم، وهذه هي القاعدة.وأما الثانية، فإننا لا نجد الرجل إلا في الندرة ؛ وإنما نحن مع هؤلاء الذين يتسوَّمون بسيما الرجال، كحيلة المحتال على غفلة المغفل ؛ وهم معنا كالقدرة بالثمن ما يشتريه الثمن، ليسوا علينا إلا قهراً من القهر ؛ ولسنا عليهم إلا سلباً من السلب، مادة مع مادة، وشر على شر ؛ أما الإنسانية منا ومنهم فقد ذهبت أو هي ذاهبة.قال 'ح': ولكن.فلم تدعه يستدرك بل قالت: 'إن 'لكن' هذه غائبة الآن، فلا تجيء في كلامنا، أتريد دليلاً على هذا الانقلاب ؟ إن كل إنسان يعلم أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين ؛ ولكن كل امرأة منا تعلم أن الخط المعوج هو وحده أقرب مسافة بينها وبين الرجل.قالت: فإذا وجدتْ إحدانا رجلاً بأخلاقه لا بأخلاقها، ردتها أخلاقه إلى المرأة التي كانت فيها من قبل، وزادتها طبيعتها الزَّهْو بهذا الرجل النادر، فتكون معه في حالة كحالة أكمل امرأة، بيد أنه كمال الحلم الذي يستيقظ وشيكاً ؛ فإن الرجل الكامل يكمل بأشياء، منها وا أسفا ! منها ابتعاده عنا.ثم قالت: وصاحبك هذا منذ رأيته، رأيته كالكتاب يشغَل قارئه عن معاني نفسه بمعانيه هو.وضحكتُ أنا لهذا التشبيه، فمتى كان الكتاب عند هذه كتاباً يشغل بمعانيه ؟ غير أني رأيتها قد تكلمت واحتفلت، وأحسنت وأصابت ؛ فتركتها تتحدث مع الأستاذ 'ح'، وغبت عنهما غيبة فكر ؛ وأنا إذا فكرت انطبق علي قولهم: خَلِّ رجلاً وشأنه، فلا يتصل بي شيء مما حولي.وكان كلامها يسطع لي كالمصباح الكهربائي المتوقد، فقدّمها فكرها إلي غير ما قدمتها إلي نفسها، ورأيت لها صورتين في وقت معاً، إحداهما تعتذر من الأخرى.وكنت قبل ذلك بساعة قد كتبت في تذكرة خواطري هذه الكلمة التي استوحيتها منها ؛ لأضعها في مقالة عنها وعن أمثالها، وهي:إذا خرجت المرأة من حدود الأسرة وشريعتها، فهل بقي منها إلا الأنثى مجردة تجريدها الحيواني المتكشف، المتعرض للقوة التي تناله أو ترغب فيه ؟ وهل تعمل هذه المرأة عند ذلك إلا أعمال هذه الأنثى ؟'وما الذي استرعاها الاجتماع حينئذ فترعاه منه وتحفظه له، إلا ما استرعى أهلُ المال أهلَ السرقة ! إن الليل ينطوي على آفتين: أولئك اللصوص، وهؤلاء النساء'.وكيف ترى هذه المرأة نفسها إلا مشوهة ما دامت رذائلها دائماً وراء عينيها، وما دام بإزاء عينيها دائماً الأمهات والمحصنات من النساء، وليس شأنها، من شأنهن ؟ إن خيالها يحرز في وعيه صورتها الماضية من قبل أن تزِلّ ؛ فإذا خلت إلى نفسها كانت فيها اثنتان، إحداهما تلعن الأخرى، فترى نفسها من ذلك على ما ترى.'وهي حين تطالع مرآتها لتتبرج وتحتفل في زينتها، تنظر إلى خيالها في المرآة بأهواء الرجال لا بعيني نفسها ؛ ولهذا تبالغ أشد المبالغة ؛ فلا تُعنَى بأن تظهر جميلة كالمرأة، بل مثمرة كالتاجر، وتكسُّبها بجمالها يكون أول ما تفكر فيه ؛ ومن ذلك لا يكون سرورها بهذا الجمال إلا على قدر ما تكسب منه ؛ بخلاف الطبع الذي في المرأة، فإن سرورها بمسحة الجمال عليها هو أول فكرها وآخره'.'إن الساقطة لا تنظر في المرآة - أكثر ما تنظر - إلا ابتغاء أن تتعهد من جمالها ومن جسمها مواقع نظرات الفجور وأسباب الفتنة، وما يستهوي الرجل وما يفسد العفة عليه ؛ فكأن الساقطة وخيالها في المرآة، رجل فاسق ينظر إلى امرأة، لا امرأة تنظر إلى نفسها'.ذهبتُ أفكر في هذه الكلمة التي كتبتُها قبل ساعة، ولم أستطع أن ألمس في هذه القضية وجه القاضي ؛ فدخلتني رقة شديدة لهذا الجمال الفاتن، الذي أراه يبتسم وحوله الأقدار العابسة ؛ ويلهو وبين يديه أيام الدموع ؛ ويجتهد في اجتذاب الرجال والشبان إلى نفسه، والوقت آتٍ بالرجال والشبان الذين سيجتهدون في طرده عن أنفسهم.وتغشّاني الحزن، ورأتْ هي ذلك وعرفتْه ؛ فأخرجتْ منديلها المعطر ومسحت وجهها به، ثم هزته في الهواء، فإذا الهواء منديل معطر آخر مسحت به وجهي.وقال الأستاذ 'ح': آه من العطر ! إن منه نوعاً لا أستنشيه مرة إلا ردني إلى حيث كنتُ من عشرين سنة خلت، كأنما هو مسجل بزمانه ومكانه في دماغي.فضحكت هي وقالت: إن عطرنا نحن النساء ليس عطراً، بل هو شعور نُثبته في شعور آخر.فقلت أنا: لا ريب أن لهذه الحقيقة الجميلة وجهاً غير هذا.قالت: وما هو ؟قلت: إن المرأة المعطرة المتزينة، هي امرأة مسلحة بأسلحتها.أفي ذلك ريب ؟ قالت: لا.قلت: فلماذا لا يسمى هذا العطر بالغازات الخانقة الغرامية ؟فضحكت فنوناً ؛ ثم قالت: وتسمى 'البودرة' بالديناميت الغرامي.ونقلني ذلك إلى نفسي مرة أخرى، فأطرقت إطراقة ؛ فقالت: ما بك ؟ قلت: بي كلمة الأستاذ 'ح'، إنها ألهبت في قلبي جمرة كانت خامدة.قالت: أو حركت نقطة عطر كانت ساكنة !فقلت: إن الحب يضع روحانيته في كل أشيائه، وهو يغير الحالة النفسية للإنسان، فتتغير بذلك الحالة للأشياء في وهم المحب.'فعطر كذا' مثلاً هو نوع شذيّ من العطر، طيب الشَّمِيم، عاصف النشوة، حادّ الرائحة ؛ لكأنه ينشر في الجو روضة قد مُلئت بأزهاره تُشم ولا تُرى ؟ وإنه ليجعل الزمن نفسه عَبِقاً بريحه، وإنه ليُفعم كل ما حوله طيباً، وإنه ليسحر النفس فيتحول فيها.وهنا ضحكت وقطعت علي الكلام قائلة: يظهر لي أن 'عطر كذا' هاجر أو مخاصم.قلت: كلا، بل خرج من الدنيا وما انتشقتُ أَرَجه مرة إلا حسبته ينفَح من الجنة.فما أسرع ما تلاشى من وجهها الضحك وهيئته، وجاءت دمعة وهيئتها، ولمحت في وجهها معنى بكيت له بكاء قلبي.جمالها، فتنتها، سحرها، حديثها، لهوها ؛ آه حين لا يبقى لهذا كله عين ولا أثر، آه حين لا يبقى من هذا كله إلا ذنوب، وذنوب، وذنوب !وأردنا أنا و'ح' بكلامنا عن الحب وما إليه، ألا نُوحشها من إنسانيتنا، وأن نَبُل شوقها إلى ما حُرمته من قدرها قدر إنسانة فيما نتعاطاه بيننا.والمرأة من هذا النوع إذا طمعت فيما هو أغلى عندها من الذهب والجوهر والمتاع ؛ طمعت في الاحترام من رجل شريف متعفف، ولو احترام نظرة، أو كلمة.تقنع بأقل ذلك وترضى به ؛ فالقليل مما لا يدرك قليله، هو عند النفس أكثر من الكثير الذي ينال كثيره.ومثل هذه المرأة، لا تدري أنت: أطافت بالذنب أم طاف الذنب بها ؟ فاحترامها عندنا ليس احتراماً بمعناه، وإنما هو كالوُجُوم أمام المصيبة في لحظة من لحظات رهبة القدر، وخشوع الإيمان.وليست امرأة من هؤلاء إلا وفي نفسها التندم والحسرة واللهفة مما هي فيه، وهذا هو جانبهن الإنساني الذي يُنظر إليه من النفس الرقيقة بلهفة أخرى، وحسرة أخرى، وندم آخر.كم يرحم الإنسان تلك الزوجة الكارهة المرغمة على أن تعاشر من تكرهه، فلا يزال يغلي دمها بوساوس وآلام من البغض لا تنقطع ! وكم يرثي الإنسان للزوجة الغيور، يغلي دمها أيضاً ولكن بوساوس وآلام من الحب ! ألا فاعلم أن كل مَنْ مثل هذه الحسناء تحمل على قلبها مثل هم مائة زوجة كارهة مرغَمة مستعبَدة، يخالطه مثل هم مائة زوجة غيور مكابدة منافسة ؛ ولقد تكون المرأة منهن في العشرين من سنها وهي مما يكابد قلبها في السبعين من عمر قلبها أو أكثر.وهذه التي جاءتنا إنما جاءتنا في ساعة منا نحن لا منها هي، ولم تكن معنا لا في زمانها ولا في مكانها ولا في أسبابها، وقد فتحت الباب الذي كان مغلقا في قلبها على الخفَر والحياء، وحولت جمالها من جمال طابعه الرذيلة، إلى جمال طابعه الفن، وأشعرت أفراحها التي اعتادتها روح الحزن من أجلنا، فأدخلت بذلك على أحزانها التي اعتادتها روح الفرح بنا.من ذا الذي يعرف أن أدبه يكون إحساناً على نفس مثل هذه ثم لا يحسن به ؟تتجدد الحياة متى وجد المرء حالة نفسية تكون جديدة في سرورها.وهذه المرأة المسكينة لا يعنيها من الرجل من هو، ولكن كم هو. . .لم تر فينا نحن الرجل الذي هو 'كم'، بل الذي هو 'من'.وقد كانت من نفسها الأولى على بعد قصي كالذي يمد يده في بئر عميقة ليتناول شيئاً قد سقط منه ؛ فلما جلستْ إلينا، اتصلت بتلك النفس من قرب ؛ إذ وجدت في زمنها الساعة التي تصلح جسراً على الزمن.قال الراوي:كذلك رأيتها جديدة بعد قليل، فقلت للأستاذ 'ح': أما ترى ما أراه ؟قال: وماذا ترى ؟ فأومأت إليها وقلت: هذه التي جاءت من هذه.إن قلبها ينشر الآن حولها نوراً كالمصباح إذا أضيء، وأراها كالزهرة التي تفتحت ؛ هي هي التي كانت، ولكنها بغير ما كانت.فقالت هي: إني أحسبك تحبني ؛ بل أراك تحبني ؛ بل أنت تحبني، لم يخف علي منذ رأيتك ورأيتني.قلت: هبيه صحيحاً، فكيف عرفته ولم أصانعك، ولم أتملق لك، ولم أزد علي أن أجيء إلى هنا لأكتب ؟قالت: عرفته من أنك لم تصانعني، ولم تتملق لي، ولم تزد على أن تجيء إلى هنا لتكتب.قلت: ويحك، لو كُحلت عين 'الميكرسكوب' لكانت عينك.وضحكنا جميعاً ؛ ثم أقبلت على الأستاذ 'ح' فقلت له: إن القضايا إذا كثر ورودها على القاضي جعلت له عيناً باحثة.قال الراوي:وأنظر إليها، فإذا وجهها القمري الأزهر قد شَرِق لونه، وظهر فيه من الحياء ما يظهر مثله على وجه العذراء المخدّرة إذا أنت مسستها برِيبة ؛ فما شككت أنها الساعة امرأة جديدة قد اصطلح وجهها وحياؤها، وهما أبداً متعاديان في كل امرأة مكشوفة العفة.وذهبت أستدرك وأتأول، فقلت لها: ما ذلك أردتُ، ولا حَدَست على هذا الظن، وإنما أنا مشفق عليك متألم بك، وهل يعرض لك إلا الطبقة النظيفة من المجرمين والخبثاء وأهل الشر ؛ أولئك الذين أعاليهم في دور الخلاعة والمسارح، وأسافلهم في دور القضاء والسجون ؟فقالت: أعترف بأنك لم تحسن قلب الثوب، فظهر لكل عين أنه مقلوب، لكنك تحبني وهذا كافٍ أن ينهض منه عُذْر !قال الأستاذ 'ح': إنه يحبك، ولكن أتعرفين كيف حبه ؟ هذا باب يضع عليه دائماً عدة من الأقفال.قالت: فما أيسر أن تجد المرأة عدة من المفاتيح.قال: ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه ؛ فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس: ما تطمع إلا أن تراه، وما يطمع إلا أن يراها، ولا شيء غير ذلك ؛ ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه إليها، وليس إلا هذا.قالت: إن هذا لعجيب.قال: والذي هو أعجب أن ليس في حبه شيء نهائي، فلا هجر ولا وصل ؛ ينساك بعد ساعة، ولكنك أبداً باقية بكل جمالك في نفسه.والصغائر التي تُبكي الناس وتتلذع في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرة في همهم ويطفئوها وينتهوا منها ككل شهوات الحب، تبكيه هو أيضاً وتعتلج في قلبه، ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر ؛ وهذا هو تجبره على جَبَّار الحب.قال الراوي:ونظرت إليها ونظرت، وعاتبت نفس نفساً في أعينهما، وسألت السائلة وأجابت المجيبة، ولكن ماذا قلت لها وماذا قالت ؟^قال الراوي:نظرت إليها ونظرت: أما هي، فَرَنت إلي في سكون، وكانت نظرتها معاتبة طويلة التملق والتوجع، وفيها الانكسار والفُتور، وفيها الاسترخاء والدلال.وبينا كان طَرْفها ساجياً فاتراً كأنه ينظر أحلامه، إذ حدَّدَتْه إلي فجأة ونظرت نظرة مدهوش، فبدت عيناها فزعتين ولكن في وجه مطمئن.ثم لم تكد تفعل حتى ضيقت أجفانها وحدّقت النظر متلألئاً بمعانيه، فبدت عيناها ضاحكتين ولكن في وجه متألم.ثم ابتسمت بوجهها وعينيها معاً، وأتمت بذلك أجمل أساليب المرأة الجميلة المحبوبة في اعتراضها على من تحبه، وجدالها مع فكره، وكسر حجته في كبريائه، وانتزاع الفكرة المستقلة من نفسه.وأما أنا ؛ فكان نظري إليها ساكناً متألماً يقر أنه عجز عن جواب عينيها، وسيبقى عاجزاً عن جواب عينيها.إن وجهها هو الابتسام وروح الابتسام، وجسمها هو الإغراء وروح الإغراء، وفنها هو الفتنة وروح الفتنة، وهي بهذا كله هي الحب وروح الحب ؛ غير أن فهمها على حقيقتها في الناس يجعل ابتسامها عداوة من وجهها، وإغراءها جريمة لجسمها، وفنها رذيلة في جمالها ؛ وهي بهذا كله هي الشقاء وروح الشقاء.أما أني أحب فنَعَمْ ونِعِمَّا، بل أراه حبّاً فالقاً كبدي، وليس يخلو فؤادي أبداً من سوالف حب مضى ؛ وأما أني أسترذل في الحب وأمتهن فضيلتي وأنزل بها، فلا وأبداً.إن ذلك الحب هو عندي عمل فني من أعمال النفس، ولكن الفضيلة هي النفس ذاتها ؛ الحب أيام جميلة عابرة في زمني ؛ أما الفضيلة فهي زمني كله ؛ وذلك الجمال هو قوة من جاذبية الأرض في مدتها القصيرة، ولكن الفضيلة جاذبية السماء في خلودها الأبدي.على أنه لا منافرة بين الحب والفضيلة في رأيي، فإن أقوى الحب وأملأه بفلسفة الفرح والحزن، لا يكون إلا في النفس الفاضلة المتورعة عن مقارفة الإثم.وههنا يتحول الحب إلى ملكة سامية في إدراك معاني الجمال، فيكون الوجه المعشوق مصدر وحي للنفس العاشقة ؛ وبهذا الوحي والاستمداد منه ينزل المحب من المحبوب منزلة من يرتفع بالآدمية إلى الملائكية ؛ ليتلقى النور منها فنّاً بعد فن، والفرح معنًى بعد معنى، والحزن السماوي فضيلة بعد فضيلة.فهذا الحب هو طريقة نفسية لاتساع بعض العقول المهيأة للإلهام، كي تحيط بأفراح الحياة وأحزانها، فتبدع للدنيا صورة من صور التعبير الجميلة التي تثير أشواق النفس ؛ كأن كل محل وحبيبته من هؤلاء الملهمين، هما صورة جديدة من آدم وحواء، في حالة جديدة من معنى ترك الجنة، لإيجاد الصورة الجديدة من الفرح الأرضي، والحزن السماوي.والخطر في الحب ألا يكون فيه خطر، فهو حينئذ نداء الجنس، لا يكون إلا دنيئاً ساقطاً مبذولاً، فلا قيمة له ولا وحي فيه ؛ إذ يكون احتيالاً من عمل الغريزة جاءت فيه لابسة ثوبها النوراني من شوق الروح لتخدع النفس الأخرى فيتصل بينهما، حتى إذا اتصل بينهما خلعت الغريزة هذا الثوب واستعلنت أنها الغريزة، فانحصر الحب في حيوانيته، وبطلت أشواقه الخيالية أجمع.قال الراوي:وعرفت الحسناء هذا كله من عَرْضها نظرة وتلقيها نظرة غيرها، فقالت للأستاذ 'ح': أما أن يكون مع أثر الشعر والفكر في الجمال ودعوى الحب، أثر الزهد في الجسم الجميل وادعاء الفضيلة ؛ فإن بعيداً أن يجتمعا.قال 'ح': وأين تُبعدينه - ويحك - عن هذه المنزلة ؟ إني لأعرف من هو أعجب من هذا ! !قالت: وماذا بقي من العجب فتعرفه ؟قال: أعرف متزوجاً، أحب أشد الحب وأَمَضّه، حتى استهام وتدلّه، فكان مع هذا لا يكتب رسالة إلى حبيبته حتى يستأذن فيها زوجته، كيلا يعتدي على شيء من حقها.وزوجته كانت أعرف بقلبه وبحب هذا القلب، وهي كانت أعلم أن حبه وسُلْوانه إنما هما طريقتان في الأخذ والترك بين قلبه وبين المعاني، تارة من سبيل المرأة وجمالها، وتارة من سبيل الطبيعة ومحاسنها.فتنهّدت وقالت: يا عجباً ! وفي الدنيا مثل هذا الزوج الطاهر، وفي الدنيا مثل هذه الزوجة الكريمة ؟ثم إنها وَجَمَتْ هُنَيْهَةً تجتمع في نفسها اجتماع السحابة، ثم استدمعتْ، ثم أرسلت عينيها تبكي ؛ فبدرت أنا أُرَفِّه عنها حتى كفكفت من دمعها، وكأن 'ح' قد وخزها في قلبها وخزة أليمة بذكره لها الزوجة، ثم الزوجة الطاهرة، ثم الطاهرة حتى في وسوسة شيطان الغيرة.ارتفع ثلاث مرات بالزوجة، لترى هذه المسكينة أنها سافلة ثلاث مرات، وكأنه بهذا لم يكلمها، بل رسم لها صورتها في عيشها المخزي، وقال لها: انظري.ويا ما كان أجملها يترقرق الدمع في عينيها الفاتنتين الكحيلتين، فيبث منهما حزناً يخيل لمن رآه، أنه من أجلها سيُحزن الوجود كله !ليس البكاء من هاتين العينين بكاء عند من يراه إذا كان من العاشقين، بل هو فن الحزن يضع جمالاً جديداً في فن الحسن.وأكاد أعجب كيف وجد الدمع مكاناً بين المعاني الضاحكة في وجهها، لو لم يكن هذا الدمع قد جاء ليُظهر على وجهها الفن الآخر من جمال المعاني الباكية.وسألتها: ما الذي خامر قلبكِ من كلام الأستاذ 'ح' فأبكاكِ، وأنت كما أرى يتألق النور على جدران المكان الذي تَحُلّين به، فيظهر المكان وكأنه يضحك لك ؟فتشكَّكت لحظة ثم قالت: أبك ما تقول أم أنت تتهكم بي ؟قلت: كيف يخطر لك هذا وأنا أحترم فيك ثلاث حقائق: الجمال، والحب، والألم الإنساني ؟قالت: لا تثريب عليك ولكن صور إلي ببلاغتك كيف أحببتك وأنت غير متحبب إلي، وكيف جادلت نفسي فيك وداورتها، وكلما عزمت انحل عزمي ؟ فهذا ما لا أكاد أعرف كيف وقع، ولكنه وقع.هذه قطرة من الماء الصافي العذب، فضع عليها 'الميكرسكوب' يا سيدي، وقل لي ماذا ترى ؟قلت: إنك تخرجين من السؤال سؤالاً، فما الذي خامر قلبك من كلام 'ح' فبكيت له ؟قالت: إذن فليست هي قطرة من الماء، بل تلك دمعة من دموعي، فضع عليها الميكرسكوب يا سيدي.قال الراوي:وكانت حزينة كأنها لم تسكت عن البكاء إلا بوجهها، وبقيت روحها تبكي في داخلها.فأراد الأستاذ 'ح' أن يستدرك لغلطته الأولى فقال: إنك الآن تسألينه حقّاً من حقوقك عليه، فكل امرأة يحبها هي عروس قلمه ولها على هذا القلم حق النفقة.فضحكت نوعاً من الضحك الفاتر، كأنما ابتكره ثغرها الجميل لساعة حزنها ؛ ونظرتْ إليّ، فقلت: إن كان الأمر من نفقة العروس على القلم، فما أشبه هذا 'بلا شيء' جُحا.فضحكتْ أظرف من قبل، وخيل إلي أن ثغرها انطبق بعد افتراره على قبلة أفلتت منه، فأمسكها من آخرها.ثم قالت: ما هو 'لا شيء' جحا ؟قلت: زعموا أن جحا ذهب يحتطب، وحمل فوق ما يطيق، فبَهَظَه الحِمْل وبلغ به المشقة، ثم رأى في طريقه رجلاً أبله فاستعان به، فقال الرجل: كم تعطيني إذا أنا حملت عنك ؟ قال: أعطيك 'لا شيء'.قال: رضيت.ثم حمل الأبله وانطلق معه حتى بلغ الدار، فقال: أعطني أجري، قال جحا: لقد أخذته.واختلفا: هذا يقول: أعطني، وهذا يقول: أخذت ؛ فلبَّبه الرجل ومضى يرفعه إلى القاضي، وكانت بالقاضي لُوثة، وعلى وجهه رَوْءَة الحُمْق تخبرك عنه قبل أن يخبرك عن نفسه، فلما سمع الدعوى قال لجحا: أنت في الحبس أو تعطيه 'اللا شيء'.قال جحا في نفسه: لقد احتجت لعقلي بين هذين الأبلهين ؛ ثم إنه أدخل يده في جيبه وأخرجها مطبقة، وقال للرجل: تقدم وافتح يدي، فتقدم وفتحها.قال جحا: ماذا فيها ؟ قال الرجل: 'لا شيء'.فقال له جحا: خذ 'لا شيئك' وامض، فقد برئت ذمتي.قالوا: فذهب الرجل يحتج، فقال له القاضي: مَهْ ! أنت أقررت أنك رأيت في يده 'لا شيء'، وهو أجرك فخذه ولا تطمع في أزيد من حقك !وضحكتْ وضحكنا، ثم قالت: أنا راضية أن أكون عروس القلم، فليُجْرِ علي القلم نفقتي، وليُصوِّرْ لي كيف أحببت، وكيف آمرت نفسي وجادلتها ؟قلت: لا أتكلم عنكِ أنتِ ولا أستطيعه.بيد أنني لو صنفت رواية يكون فيها هذا الموقف، لوضعت على لسان العاشقة هذا الكلام تحدث به نفسها.تقول: كيف كنت وكيف صرت ؟ لقد رأيتني أعاشر مائة رجل فأخالطهم في شتى أحوالهم، وأصرفهم في هواي، وكلهم يجهد جهده في استمالتي، وكلهم أهل مودة وبذل، وما منهم إلا جميل مخلص، قد أَنِق وتجمل وراع حسنه ؛ كأنما هرب إلي في ثياب عرسه ليلة زفافه، وترك من أجلي عروساً تبكي وتصيح بوَيْلها.ثم أنا مع ذلك مغلقة القلب دونهم جميعاً: أَصْدُقُهم المودة والصحبة، وأكذبهم الحب والهوى ؛ فلست أحبهم إلا بما أنال منهم، ولست أتحبب إليهم إلا ما أُنَوِّلهم مني، وهم بين عقلي وحيلتي رجال لا عقول لهم، وأنا بين أهوائهم وحماقاتهم امرأة لا ذات لها.ثم أرى بغتة رجلاً فرداً، أكاد أنظر إليه وينظر إلي حتى يضع في قلبي مسألة تحتاج إلى الحل.وأرتاع لذلك فأحاول تناسيه والإغضاء عنه، فتلِجّ المسألة في طلب حلها، وتشغَل خاطري، وتتمدد في قلبي ؛ وهو هو المسألة.فأفزع لذلك وأهتم له، وأجهد جهدي أن أكون مرة حازمة بصيرة، كرجال المال في حق الثروة عليهم ؛ ومرة قاسية عنيدة، كرجال الحرب في واجبها عندهم ؛ ومرة خبيثة منكرة، كرجال السياسة في عملها بهم ؛ ولكني أرى المسألة تلين لي وتتشكَّل معي وتحتمل هذه الوجوه كلها، لتبقى حيث هي في قلبي ؛ فإنه هو هو المسألة.وأغتم لذلك غمّاً شديداً، وأراني سأسقط بعد سقوطي الأول وأقبح منه ؛ إذ الحياة عندنا قائمة بالخداع، وهذا يُفسده الإخلاص ؛ وبالمكر، وهذا يعطله الوفاء ؛ وبالنسيان، وهذا يبطله الحب ؛ وإذ عواطفنا كلها متجردة لغرض واحد، هو كسب المال وجمعه وادخاره ؛ وفضيلتنا عملية لا تُتخيَّل، حسابية لا تختل ؛ فيستوي عندنا الرجل بلغ جماله القمر في سمائه، والرجل بلغت دَمَامته الذباب في أقذاره ؛ والحب معنا هو: كم في كم ويبقى ماذا، أو كما يقول أهل السياسة: هو 'النقطة العملية في المسألة'.ولكن المسألة التي في قلبي لا ترى هذا حلّاً لها ؛ لأنه هو هو المسألة.فيزيد بي الكرب، ويشتد علي البلاء، وأحتال لقلبي وأُدَبِّر في خنقه، وأذهب أقنعه أن الرجل إذا كان شريفاً لم يحب المرأة الساقطة ؛ إذ يُعاب بصُحْبتها والاختلاف إليها، فإذا كان ساقطاً لم تحبه هي، فإنما هو صيدها وفريستها، وموضع نِقْمتها من هذا الجنس ؛ وأشرف على قلبي في المَلَامة والتعذيل فأقول له: ويحك يا قلبي ! إن المرأة منا إذا تفتح قلبها لحبيب، تفتح كالجرح لينزف دماءه لا غير.فيقتنع القلب ويجمع على أن ينسى، وأن يرجع عن طلبه الحب ؛ وأرى المسألة قد بطلت وكان بطلانها أحسن حل لها، وأنام وادعة مطمئنة، فيأتي هو في نومي ويدخل في قلبي، ويعيد المسألة إلى وضعها الأول، فما أستيقظ إلا رأيته هو هو المسألة.فأتناهى في الخوف على نفسي من هذا الحب، وأراه سجنها وعقابها، وقهرها وإذلالها، فأقول لها: ويلك يا نفسي ! إنما همك في الحياة وسائل الفوز والغَلَب، فأنتِ بهذا عدوة مسماة في غفلة الرجال صديقة، وقد وُضعت في موضع تعيشين فيه بإهانات من الرجال، يسمونها في نذالتهم بالحب ؛ فأنت عدوة الرجال بمعنى من الدهاء والخبث، وعدوة الزوجات بمعنى من الحقد والضغينة، وعدوة البغايا أيضاً بمعنى من المغالبة والمنافسة، وكل ما يستطيع الدهاء أن يعمله فهو الذي علي أنا أن أعمله، فماذا أصنع وأنا أحب ؟ وكيف أنجح وأنا أحب ؟ ولكن النفس تجيبني على كل هذا بأن هذا كله بعيد عن المسألة، ما دام هو هو في المسألة.قال الراوي:وكانت كالذاهلة مما سمعتْ، ثم قالت: ألك شيطان في قلبي ؟ فهذا كله هو الذي حدث في سبعة أيام.قال 'ح': ولكن كيف يقع هذا الحب ؟ وهَبْكَ صنفت تلك الرواية، ووضعت على لسان العاشقة ذلك الكلام، فبماذا كنت تُنطقها في وصف حبها وما اجتذبها من رجل فاز بقلبها ولم يداورها، بعد مائة رجل كلهم داورها ولم يفز منهم أحد ؟ أتكون في وجه هذا الرجل أنوار كتباشير الصبح تدل على النهار الكامن فيه ؟قالت هي: نعم نعم.بماذا كنت تنطقها ؟قلت: كنت أضع في لسانها هذا الكلام تجيب به عاذلة تعذلها:تقول: لا أدري كيف أحببته، ولكن هذه الشخصية البارزة منه جذبتني إليه، وجعلت الهواء فيما بيني وبينه مفعماً بالمغناطيس مصدره، ومعناه هو، ولا شيء فيه إلا هو.عرضتْه لي شخصيته ظاهراً لأن جواب شخصيته في، وأصبح في عيني كبيراً لأن جواب شخصيتي فيه، ومن ذلك صارت أفكاري نفسها تزيده كل يوم ظهوراً، وتزيدني كل يوم بَصَراً، وأعطاه حقُّه في الكمال عندي حقَّه في الحب مني ؛ وبتلك الشخصية التي جوابها في نفسي، أصبح ضرورة من ضرورات نفسي.قال الراوي:ولما رأيتها في جوي كنسيمه وعاصفته، أردتها على قصتها وشأنها، فماذا قلت لها وماذا قالت ؟^قلت لها: إن قلبي وقلبك يتجاليان في هذه الساعة ويتباكيان ؛ أتدرين ماذا يقول لك قلبي ؟إنه ليقول عني: أعزز علي بأن تكوني ههنا، وأن تتألف منك هذه القصة التي تبدأ بالوصمة وتنتهي بالاستخذاء، فتنطلق المرأة في متالفها ومهاويها ليبلغ بها القدر ما هو بالغ ؛ وليس إلا الضرورة وسطوتها بها، والإذلال ومهانته لها، والاجتماع وتهكمه عليها، والابتذال واستعباده إياها ؛ ومهما يأتِ في القصة من معنى فليس فيها معنى الشرف ؛ ومهما يكن من موقف فليس فيها موقف الحياء ؛ ومهما يجر من كلام فليس فيها كلمة الزوجة، وأعزز علي بأن أرى المصباح الجميل المشبوب الذي وُضع ليضيء ما حوله، قد انقلب فجعل يُحرق ما حوله ؛ وكان يتلألأ ويتوقد، فارتد يتسعَّر ويتضرم ويجني ما يتصل به، وسقط بذلك سقطة حمراء.أفتدرين ماذا يقول لي قلبك ؟إنه يقول عنك: يا بؤسنا من نساء ! لقد وضعنا وضعاً مقلوباً، فلا تستقيم الإنسانية معنا أبداً، وكل شيء منقلب لنا متنكر ؛ والشفقة علينا تنقلب من تلقاء نفسها تهكماً بنا ؛ فنبكي من شفقة بعض الناس، كما نبكي من ازدراء بعض الناس.يا بؤسنا من نساء !قالت: صدقتَ، وكذلك تنقلب أسباب الحياة معنا أسباباً للمرض والموت ؛ فاليقظة ليس لها عندنا النهار بل الليل، والصَّحْو لا يكون فينا بالوعي بل بالسُّكْر، والراحة لا تكون لنا في السكون والانفراد، بل في الاجتماع والتبذل ؛ وماذا يرُدُّ على امرأة من واجباتها السهر والسكر والعربدة، والتبذل، وتدريب الطباع بالوقاحة، وتَضْرِيَة النفس على الاستغواء، والتصدي بالجمال للكسب من رذائل الفساق وأمراضهم، والتعرض لمعروفهم بأساليب آخرها الهوان والمذلة، واستماحتهم بأساليب أولها الخداع والمكر ؟إن حياة هذه هي واجباتها، لا يكون البكاء والهم إلا من طبيعة من يحياها، وكثيراً ما نعالج الضحك لنفتح لأنفسنا طُرُقاً تتهارب فيها معاني البكاء ؛ فإذا أثقلنا الهم وَجَلَّ عن الضحك وعجزنا عن تكلف السرور، خَتَلنا العقل نفسه بالخمر ؛ فما تسكر المرأة منا للسكر أو النشوة، بل للنسيان، وللقدرة على المرح والضحك، ولإمداد محاسنها بالأخلاق الفاجرة، من الطيش والخلاعة والسفه وهَذَيان الجمال الذي هو شعره البليغ، عند بلغاء الفساق.قال الأستاذ 'ح': أهذا وحاضر الغادة منكن هو الشباب والصبى والجمال وإقبال العيش، فكيف بها فيما تستقبل ؟قالت: إن المستقبل هو أخوف ما نخافه على أنفسنا، وليس من امرأة في هذه الصناعة إلا وهي معدة لمستقبلها: إما نوعاً من الانتحار، وإما ضرباً من ضروب الاحتمال للذل والخسف ؛ وليس مستقبلنا هذا كمستقبل الثمار النضرة إذا بقيت بعد أوانها، فهو الأيام العفنة بطبيعة ما مضى، بلى إن مستقبل المرأة البغيّ هو عقاب الشر.قال 'ح': هذا كلام ينبغي أن تعلمه الزوجات ؛ فالمرأة منهن قد تتبرم بزوجها وتضجر وتغتم، وتزعم أنها معذبة ؛ فتتسخط الحياة، وتندب نفسها ؛ ثم لا تعلم أنه عذاب واحد برجل واحد، تألفه، فتعتاده، فتُرزق من اعتياده الصبر عليه، فيسكن بهذا نِفَارها ؛ وتلك نعمة واجبها أن تحمد الله عليها، ما دام في النساء مثل الشهيدات، تتعذب الواحدة منهن فنوناً من العذاب بمائة رجل، وبألف رجل، وهم مع ذلك يبتلون روحها بعددهم من الذنوب والآثام.وقد تستثقل الزوجة واجباتها بين الزوج والنسل والدار، فتغتاظ وتشكو من هذه الرجرجة اليومية في الحياة ؛ ثم لا تعلم أن نساء غيرها قد انقلبت بهن الحياة في مثل الخسف بالأرض.وقد تجزع للمستقبل وتنسى أنها في أمان شرفها، ثم لا تعلم أن نساء يترقبن هذا الآتي كما يترقب المجرم غد الجريمة، من يوم فيه الشرطة والنيابة والمحكمة وما وراء هذا كله.فقلت: وهناك حقيقة أخرى فيها العزاء كل العزاء للزوجات، وهي أن الزوجة امرأة شاعرة بوجود ذاتها، والأخرى لا تشعر إلا بضياع ذاتها.والزوجة امرأة تجد الأشياء التي تتوزع حبها وحنان قلبها، فلا يزال قلبها إنسانيّاً على طبيعته، يفيض بالحب، ويستمد من الحب ؛ والأخرى لا تجد في هذا شيئاً، فتنقلب وحشية القلب، يفيض قلبها برذائل، ويستمد من رذائل ؛ إذ كان لا يجد شيئاً مما هيأته الطبيعة ليتعلق به من الزوج والدار والنسل.والزوجة امرأة هي امرأة خالصة الإنسانية، أما الأخرى فمن امرأة ومن حيوان ومن مادة مهلكة.وتمام السعادة أن النسل لا يكون طبيعيّاً مستقرّاً في قانونه إلا للزوجات وحدهن ؛ فهو نعمتهن الكبرى، وثواب مستقبلهن وماضيهن، وبركتهن على الدنيا ؛ ومهما تكن الزوجة شقية بزوجها، فإن زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزية ونعمة ؛ أما أولئك فليس لهن عاقبة ؛ إذ النسل قلب لحالتهن كلها ؛ وهو غنى إنساني، ولكنه عندهن لا يكون إلا فقراً ؛ وهو رحمة، ولكنها لا تكون إلا لعنة عليهن وعلى ماضيهن.وقد وضعت الطبيعة في موضع حب الولد الجديد من قلوبهن، حب الرجل الجديد، فكانت هذه نقمة أخرى.قال 'ح': أتريد من الرجل الجديد من يكون عندهن الثاني بعد الأول، أو الثالث بعد الثاني، أو الرابع بعد الثالث ؟قلت: ليس الجديد عليهن هو الواحد بعد الواحد إلى آخر العدد، ولكنه الرجل الذي يكون وحده بالعدد جميعاً ؛ إذ هو عندهن يشبه الزوج في الاختصاص وفي شرف الحب، فهو الحبيب الشريف الذي تتعلقه إحداهن وتريد أن تكون معه شريفة، ولكنه من نقمة الطبيعة أن ممن وجدته منهن لا تجده إلا لتعاني ألم فقده.يا عجباً ! كل شيء في الحياة يلقي شيئاً من الهم أو النكد أو البؤس على هؤلاء المسكينات، كأن الطبيعة كلها ترجمهن بالحجارة.قالت هي: وليست الحجارة هي الحجارة فقط، بل منها ألفاظ تُرجَم بها المسكينة كألفاظك هذه، وكتسمية الناس لها 'بالساقطة' ؛ فهذه الكلمة وحدها صخرة لا حجر.ثم تنهدت وقالت: من عسى يعرف خطر الأسرة والنسل والفضيلة كما تعرفها المرأة التي فقدتها ؟ إننا نحسها بطبيعة المرأة، ثم بالحنين إليها، ثم بالحسرة على فقدها، ثم برؤيتها في غيرنا ؛ نعرفها أربعة أنواع من المعرفة إذا عرفتها الزوجة نوعاً واحداً، ولكن هل ينصفنا الرجال وهم يتدافعوننا ؟ هل يرضون أن يتزوجوا منا ؟قلت: ولكن الأسرة لا تقوم على سواد عيني المرأة وحمرة خديها، بل على أخلاقها وطباعها ؛ فهذا هو السبب في بقاء المرأة الساقطة حيث ارتطمت ؛ وهي متى سقطت كان أول أعدائها قانون النسل.ومن ثم كانت الزلة الأولى ممتدة متسحبة إلى الآخر ؛ إذ الفتاة ليست شخصاً إلا في اعتبارها هي، أما في اعتبار غيرها فهي تاريخ للنسل، إن وقعت فيه غلطة فسد كله وكذب كله فلا يوثق به.وهذه الزلة الأولى هي بدء الانهيار في طباع رقيقة متداخلة متساندة، لا يقيمهما إلا تماسكها جملة ؛ وما لم يتماسك إلا بجملته فأول السقوط فيه هو استمرار السقوط فيه ؛ ولهذا لا يعرف الناس جريمة واحدة تعد سلسلة جرائم لا تنتهي، إلا سقطة المرأة ؛ فهي جريمة مجنونة كالإعصار الثائر يلفّها لفّاً ؛ إذا تتناول المرأة في ذاتها، وترجع على أهلها وذويها، وترعى إلى مستقبلها ونسلها ؛ فيهتكها الناس هي وسائر أهلها من جاءت منهم ومن جاءوا منها.والمرأة التي لا يحميها الشرف لا يحميها شيء، وكل شريفة تعرف أن لها حياتين إحداهما العفة، وكما تدافع عن حياتها الهلاك، تدافع السقوط عن عفتها ؛ إذ هو هلاك حقيقتها الاجتماعية ؛ وكل عاقلة تعرف أن لها عقلين تحتمي بأحدهما من نزوات الآخر، وما عقلها الثاني إلا شرف عرضها.قال الأستاذ 'ح': إن هذه هي الحقيقة، فما تسامح الرجال في شرف العرض إلا جعلوا المرأة كأنها بنصف عقل، فاندفعت إلى الطيش والفجور والخلاعة، أرادوا ذلك أم لم يريدوه.قلت: وهذا هو معنى الحديث: 'عفوا تعف نساؤكم' فإن عفاف المرأة لا تحفظه المرأة بنفسها، ما لم تتهيأ لها الوسائل والأحوال التي تعين نفسها على ذلك ؛ وأهم وسائلها وأقواها وأعظمها، تشدد الرجال في قانون العِرْض والشرف.فإذا تراخى الرجال ضعُفت الوسائل، ومن بين هذا التراخي وهذا الضعف تنبثق حرية المرأة متوجهة بالمرأة إلى الخير أو الشر، على ما تكون أحوالها وأسبابها في الحياة.وهذه الحرية في المدنية الأوروبية قد عودت الرجال أن يغضوا ويتسمحوا، فتهافت النساء عندهم، تنال كل منهن حكم قلبها ويخضع الرجل.على أن هذا الذي يسميه القوم حرية المرأة، ليس حرية إلا في التسمية، أما في المعنى فهو كما ترى:إما شرود المرأة في التماس الرزق حين لم تجد الزوج الذي يعولها أو يكفيها ويقيم لها ما تحتاج إليه، فمثل هذه هي حرة حرية النكد في عيشها ؛ وليس بها الحرية، بل هي مستعبَدة للعمل شر ما تستعبد امرأة.وإما طلاق المرأة في عَبَثَاتها وشهواتها، مستجيبة بذلك إلى انطلاق حرية الاستمتاع في الرجال، بمقدار ما يشتريه المال، أو تعين عليه القوة، أو يسوغه الطيش، أو يجلبه التهتك، أو تدعو إليه الفنون ؛ فمثل هذه هي حرة حرية سقوطها ؛ وما بها الحرية، بل يستعبدها التمتع.والثالثة حرية المرأة في انسلاخها من الدين وفضائله، فإن هذه المدنية قد نسخت حرام الأديان وحلالها بحرام قانوني وحلال قانوني، فلا مَسْقَطَة للمرأة ولا غَضَاضة عليها قانوناً. . .فيما كان يُعدّ من قبلُ خزياً أقبح الخزي وعاراً أشد العار ؛ فمثل هذه هي حرة حرية فسادها، وليس بها الحرية، ولكن تستعبدها الفوضى.والرابعة غَطْرَسة المرأة المتعلمة، وكبرياؤها على الأنوثة والذكورة معاً ؛ فترى أن الرجل لم يبلغ بعد أن يكون الزوج الناعم كقفاز الحرير في يدها، ولا الزوج المؤنث الذي يقول لها: نحن امرأتان، فهي من أجل ذلك مطلقة مخلاة كيلا يكون عليها سلطان ولا إِمْرة ؛ فمثل هذه حرة بانقلاب طبيعتها وزيغها، وهي مستعبدة لهوسها وشذوذها وضلالتها.حرية المرأة في هذه المدنية أوّلها ما شئت من أوصاف وأسماء، ولكن آخرها دائماً إما ضياع المرأة، وإما فساد المرأة.والدليل على التواء الطبيعة في المدنية، استواء الطبيعة في البادية ؛ فالرجال هناك قوَّامون على النساء، والنساء بهذا قوَّامات على أنفسهن ؛ إذ ينتقمون للمنكر انتقاماً يفور دماً ؛ وبهذه الوحشية يقررون شرف العرض في الطبيعة الإنسانية، ويجعلونه فيها كالغريزة، فيحاجزون بين الرجال والنساء أول شيء بالضمير الشريف الذي يجد وسائله قائمة من حوله.قال الراوي:وغطت وجهها بيديها، وقالت: إنك لا تزال ترجم بالحجارة، إن فيك متوحشاً.قلت: بل متوحشة.إنكِ أنتِ قد تكلمتِ فيَّ، فجمالك الذي يضع الإنسان في ساعة مجنونة ليمتعه بطيشها، قد وضعنا نحن في ساعة مفكرة وأمتعنا بعقلها ؛ وإذا قلت: جمالك، فقد قلت: وحيك، إذ لا جمال عندي إلا ما فيه وحي.أَمَا قلتِ: إنك لو خُيرت في وجودك لما اخترتِ إلا أن تكوني رجلاً نابغة يكتب ويفكر ويتلقى الوحي من الوجوه الجميلة ؟فدقت صدرها بيدها وقالت: أنا ؟ أنا لم أقل هذا.ثم أفكرت لحظة وقالت: إذا كنت أنت تزعم أنني قلته، فأظن أنني قلته.قال 'ح': رجل ؛ ويكتب ؛ ويفكر ؛ ولم تقل هي شيئاً من هذا ؟ أربع غلطات شنيعة من فساد الذوق.قالت: بل قل: أربع غلطات جميلة من فن الذوق ؛ إن الرجل الظريف القوي الرجولة، يجب عليه أن يغلط إذا حدث المرأة.قال 'ح': لتضحك منه ؟قالت: لا، بل لتضحك له.قلتُ: فلي إليك رجاء.قالت: إن صوتك يأمر، فقل.فماذا قلت لها وماذا قالت ؟^قلت لها: إن كلمة الكفر لا تكون كافرة إذا أُكره عليها من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان، وكلمة الفجور أهون منها وأخف وزناً وشأنا، ثم لا تكون إلا فاجرة أبداً، إذ لا إكراه على هذه الدعارة إكراهاً لا خيار فيه.وما أول الدعارة إلا أن تمد المرأة طرفها من غير حياء، كما يمد اللص يده من غير أمانة.ومن اضطُرّ إلى الكفر استطاع أن يخبأ محراب المسجد في أعماقه فيصلي ثمة، ولكن الفجور لا يترك في النفس موضعاً لدين ولا إيمان ؛ إذ هو دائب في إثارة الغرائز الطبيعية الحيوانية المسترسلة بلا ضابط، فيجعل المرأة تحيا بعيدة عن ضميرها ؛ فيُضعف منها أول ما يضعف آثار الآداب والأخلاق، فيهلك فيها أول ما يهلك إحساسها بمعنى المرأة الإنسانية وشعورها بمجد هذا المعنى.فإذا انتهت المرأة إلى هذا، لم يكن لها مبدأ ولا عقيدة إلا أن على غيرها أن يتحمل عواقب أعمالها، وهذه بعينها هي حالة المجنون جنون عقله ؛ أفلا تكون المرأة حينئذ مجنونة جنون جسمها ؟فساءها ذلك وبان فيها، ولكنها أمسكت على ما في نفسها ؛ والمرأة من هؤلاء لا يمشي أمرها في الناس ولا يتصل عيشها، إلا إذا كثرت طباعها كثرة ثيابها، فهي تخلع وتلبس من هذه وتلك لكل يوم ولكل حالة ولكل رجل ؛ فينبعث منها الغضب وهي في أنعم الرضى، كما ينبعث الرضى وهي في أشد الغيظ، كأن لم تغضب ولم ترض لأنها ليست لأحد ولا لنفسها.وتُساير غضبها ثم قالت: كأن كلامك أن لك رجاء إلي، فأنا أحب، أحب أن أعلم.قلت: وأنا كذلك أحب، أحب أن أعلم.فضحكت وسُرِّي عنها، وثبتت على شفتيها ابتسامة لو جاء مَلَك من السماء ليضع في ثغرها ابتسامة أجمل منها، لما وجد أجمل منها.ثم قالت: تحب أن تعلم ماذا ؟قلت: أحب أن أعلم منك قصة هذه الحياة ما كان أولها ؟قالت: لقد قضيتَ من حكمك فينا، ولكنك أخطأت، فلكل ليل مظلم كوكبه ؛ والكوكب الوقاد المعلق فوق ليل المرأة منا هو إيمانها ؛ نعم إنه ليس كإيمان الناس في واجباته، لكنه كإيمان الناس في تعزيته، والله ربنا وربكم !قلت: لو أُطيع الله بمعصيته لاستقام لك هذا، وإنما أَنْ تصفي الإيمان الأول الذي كان عملاً، فصار ذكرى، فصارت الذكرى أملاً، فظننتِ الأمل هو الإيمان.قالت: ثم إننا جميعاً مكرهات على هذه الحياة، فما نحن إلا صرعى المصادمة بين الإرادة الإنسانية وبين القدر.قلت: ولكن لم تهفُ واحدة منكن في غلطتها الأولى وهي مستكرهة على غلطة ؛ بل هي راغبة في لذة، أو مبادرة لشهوة، أو طالبة لمنفعة.قالت: هذا أحد الوجهين ؛ أما الآخر فالتماس الرزق وصلاح العيش ؛ فالرجل مع الرجل رأس ماله قوته، وعمله بقوته ؛ ولكن المرأة مع الرجل رأس مالها أنوثتها وعمل أنوثتها.وفي الوجه الأول - وجه اللذة والمنفعة - تحتال كلمة الفجور على المرأة بكلمات رقيقة ساحرة، منها الحب والزواج والسعادة، فتستسلم المرأة مضطرة ليقع شيء من هذا.وفي الوجه الثاني - وجه الرزق والعيش - تحتال الكلمة الخبيثة الفاجرة على المرأة المسكينة المستضعفة بكلمات رهيبة قاتلة، منها الجوع والفقر والشقاء، فتسقط المرأة مضطرة خِيفة أن يقع شيء من هذا ؛ وفي أحد الوجهين يكون الرجل هو الفاجر لفساد آدابه، وفي الوجه الآخر يكون الفاجر هو المجتمع لفساد مبادئه.قلت: أنا لا أنكر أن المرأة إذا سقطت في هذه المدنية، لم تقع أبداً إلا في موضع غلطة من غلطات القوانين ؛ وآفة هذه القوانين أنها لم تُسن لمنع الجريمة أن تقع، ولكن للعقاب عليها بعد وقوعها، وبهذا عجزت عن صيانة المرأة وحفظها، وتركتها لقانون الغريزة الوحشي في هؤلاء الوحوش الآدميين، الذين يأخذهم السُّعَار من هذه الرائحة التي لا يعرفونها إلا في اثنين: المرأة الجميلة والذهب.فما ألجأت المرأة حاجتها أو فقرها إلى أحدهم ورأى عليها جمالاً، إلا ضربه ذلك السعار ؛ فإن استخفَّتْ بنَزَوَاته وتعسرت عليه، طردها إلى الموت، ومنعها أن تعيش من قِبَله ؛ وإن صلحت له وتيسرت، آواها هي وطرد شرفها.وبخلاف ذلك الدين ؛ فإنه قائم على منع الجريمة وإبطال أسبابها، فهو في أمر المرأة يُلزم الرجل واجبات، ويُلزم المجتمع واجبات غيرها، ويُلزم الحكومة واجبات أخرى:أما الرجل فينبغي له أن يتزوج، ويتحصن، ويغار على المرأة، ويعمل لها ؛ وأما المجتمع فيجب عليه أن يتأدب، ويستقيم، ويعين الفرد على واجبات الفضيلة، ويتدامج ويشد بعضه بعضاً ؛ وأما الحكومة فعليها أن تحمي المرأة، فتعاقب على إسقاطها عقاب الموت والألم والتشهير ؛ لتقيم من الثلاثة حُرَّاساً جبابرة، من لا يخش الله خشيها ؛ فليس يمكن أبداً أن يكون في ديننا موضع غلطة تسقط فيه المرأة.قال الأستاذ 'ح': صدقْتَ، فالحقيقة التي لا مِرَاء فيها، أن فكرة الفجور فكرة قانونية ؛ وما دام القانون هو أباحها بشروط، فهو هو الذي قررها في المجتمع بهذه الشروط ؛ ومن هذا التقرير يُقدم عليها الرجل والمرأة كلاهما على ثقة واطمئنان ؛ ومن ثم تأتي الجرأة على اندفاع الناس إلى ما وراء حدود القانون، ومن هذا الاندفاع تأتي الساقطة بآخر معانيها وأقبح معانيها.وتقرير سيادة المرأة في الاجتماع الأوروبي، وتقديمها على الرجال، والتأدب معها ؛ كل ذلك يجعل جراءة السفهاء عليها جراءة متأدبة، حتى كأن المتحكِّك منهم في امرأة يقول لها: من فضلك كوني ساقطة، أما هنا فجراءة السفهاء جراءة ووقاحة معاً، وذلك هو سرها.القانون كأنما يقول للرجال: احتالوا على رضى النساء، فإن رضين الجريمة فلا جريمة ؛ ومن هذا فكأنه يعلمهم أن براعة الرجل الفاسق إنما هي في الحيلة على المرأة وإيقاظ الفطرة في نفسها، بأساليب من المَلَق والرياء والمكر، تتركها عاجزة لا تملك إلا أن تذعن وترضى ؛ وبهذا ينصرف كل فاجر إلى إبداع هذه الأساليب التي تُطلق تلك الفطرة من حيائها، وتُخرِجها من عفتها، 'تطبيقاً للقانون'.ولا سيادة في اجتماعنا للمرأة، ولكن القانون جعلها سيدة نفسها، وجعلها فوق الآداب كلها، وفوق عقوبة القانون نفسه إذا رضيت ؛ إذا رضيت ماذا ؟قلت: فإذا كان القانون هنا في مسألتنا هذه يعدل بالظلم، ويحمي الفضيلة بإطلاق حرية الرذيلة ؛ فهو إنما يُفسد الدين، ويَصرف الناس عن خوف الله إلى خوف ما يخاف من الحكومة وحدها ؛ وبهذا لا يكون عمله إلا في تصحيح الظاهر من الرجل والمرأة، ويدع الباطن يُسر ما شاء من خبثه وحيلته وفساده ؛ فكأنه ليس قانوناً إلا لتنظيم النفاق وإحكام الخديعة ؛ فلا جرم كان قانوناً لحالة الجريمة لا للجريمة نفسها ؛ فإذا أُخذت المرأة ملايَنة ورضى فهذا فجور قانوني.وإن كانت الملاينة هي عمل الحيلة والتدبير، وإن كان الرضى هو أثر الخداع والمكر، وإن ضاعت المرأة وسقطت، وذهب شرفها باطلاً، وألحقه الناس بما لا يكون من توبة إبليس فلا يكون أبداً.أما إذا أخذت المرأة مكارَهة وغَصْباً، فهذه هي الجريمة في القانون ؛ ويسميها القانون جريمة الاعتداء على العرض، وهي بأن تسمى جريمة العجز عن إرضاء المرأة، أحق وأولى.على أن المسكينة لم تؤخذ في الحالتين إلا غصباً، ولكن اختلفت طريقة الرجل الغاصب ؛ فإن كلتا الحالتين لم تَتَأدَّ بالمرأة إلا إلى نتيجة واحدة، هي إخراجها من شرفها، وحرمانها حقوق إنسانيتها في الأسرة، وطردها وراء حدود الاعتبار الاجتماعي، وتركها ثمة مُخَلَّاة لمجاري أمورها، فلا يتيسر لها العيش إلا من مثل الرجل الفاجر، فلا تكون لها بيئة إلا من أمثاله وأمثالها، كما يجتمع في الموضع الواحد أهل المصير الواحد، على طريقة القطيع في المجزرة.فقالت هي: الحق أن هذه الجريمة أولها الحب ؛ وهي لا تقع إلا من بين نقيضين يجتمعان في المرأة معاً: كبر حبها إلى ما يفوت العقل، وصغر عقلها إلى ما ينزل عن الحب.والمرأة تظل هادئة ساكنة رزينة، حتى تصادفها اللِّحاظ النارية من العين المقدَّرة لها، فلا يكون إلا أن تملأها ناراً ولهباً ؛ ولتكن المرأة من هي كائنة، فإنها حينئذ كمستودع البارود، يَهُول عظمه وكبره، وهو لا شيء إذا اتصلت به تلك الشرارة المهاجمة.وليست حراسة المرأة شيئاً يؤبه به أو يعتد به أو يسمى حراسة، إلا إذا كانت كالتحفظ على مستودع البارود من النار ؛ فيستوي في وسائلها الخوف من الشرارة الصغيرة، والفزع من الحريق الأعظم ؛ فيُحتاط لاثنيهما بوسائل واحدة في قدر واحد، واعتبار واحد.وإذا تُركت المرأة لنفسها تحرسها بعقلها وأدبها وفضلها وحريتها، فقد تُرك لنفسه مستودع البارود تحرسه جدرانه الأربعة القوية.والرجال يعلمون أن للمرأة مظاهر طبيعية، من الخُيَلاء والكبرياء والاعتداد بالنفس والمباهات بالعفة ؛ لكن هؤلاء الرجال أنفسهم يعلمون كذلك، أن هذا الظاهر مخلوق مع المرأة كجلد جسمها الناعم، وأن تحته أشياء غير هذه تعمل عملها وتصنع البارود النسائي الذي سينفجر.قلت: إذا كان هذا، فقبَّح الله هذه الحرية التي يريدونها للمرأة.هل تعيش المرأة إلا في انتظار الكلمة التي تحكمها بلطف، وفي انتظار صاحب هذه الكلمة ؟قالت: إنه هذا حق لا ريب فيه، وأوسع النساء حرية أضيعهن في الناس ؛ وهل كالمومس في حريتها في نفسها ؟ولكن يا شؤمها على الدنيا ! إنها هي بعينها كما قلت أنت حرية المخلوق الذي يُترك حرا كالشريد، لتجرب فيه الحياة تجاريبها.وماذا في يد المرأة من حرية هي حرية القدر فيها ؟قلت: ولهذا لا أرجع عن رأيي أبداً، وهو أنه لا حرية للمرأة في أمة من الأمم، إلا إذا شعر كل رجل في هذه الأمة بكرامة كل امرأة فيها، بحيث لو أُهينت واحدة ثار الكل فاستفادوا لها، كأن كرامات الرجال أجمعين قد أُهينت في هذه الواحدة ؛ يومئذ تصبح المرأة حرة لا بحريتها هي، ولكن بأنها محروسة بملايين من الرجال.فضحكت وقالت: 'يومئذ' ! هذا اسم زمان أو اسم مكان ؟قال الأستاذ 'ح': ولكنا أبعدنا عن قصة هذه الحياة، ما كان أولها ؟ قالت: إن الشبان والرجال عِلْم يجب أن تعلمه الفتاة قبل أوان الحاجة إليه ؛ ويجب أن يقر في ذهن كل فتاة، أن هذه الدنيا ليست كالدار فيها الحب، ولا كالمدرسة فيها الصداقة، ولا كالمحل الذي تبتاع منه منديلاً من الحرير أو زجاجة من العطر، فيه إكرامها وخدمتها.وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء ؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجَّمت، أي: توقَّحت، أي: تبذَّلت، استوى عندها أن تذهب يميناً أو تذهب شمالاً، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق ؛ وصاحبات اليمين في كَنَف الزوج وظِلّ الأسرة وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال.قلت: هذا هذا، إنه الحياء، الحياء لا غيره ؛ فهل هو إلا وسيلة أعانت الطبيعة بها المرأة لتسمو على غريزتها متى وجب أن تسمو، فلا تلقى رجلاً إلا وفي دمها حارس لا يغفل.وهل هو إلا سلب جمعته الطبيعة إلى ذلك الإيجاب الذي لو انطلق وحده في نفس المرأة لاندفعت في التبرج والإغراء، وعرض أسرار أنوثتها في المعرض العام ؟قالت: ذاك أردت، فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق، فلا تعدنه من فَرْط الجمال، بل من قلة الحياء.واعلم أن المرأة لا تخضع حق الخضوع في نفسها إلا لشيئين: حيائها وغريزتها.قلت: يا عجبا ! هذا أدق تفسير لقول تلك المرأة العربية: 'تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها'.فإن اختضعت المرأة للحياء كفَّت غريزتها.قالت:. . .وجعلها الحياء صادقة في نفسها وفي ضميرها، فكانت هي المرأة الحقيقية الجديرة بالزوج والنسل وتوريث الأخلاق الكريمة وحفظها للإنسانية.قلتُ: ومن هذا يكون الإسراف في الأنوثة والتبرج أمام الرجال كذباً من ضمير المرأة.قالت: ومن أخلاقها أيضاً ؛ ألا ترى أن أشد الإسراف في هذه الأنوثة وفي هذا التبرج لا يكون إلا في المرأة العامة ؟قلت: والمرأة العامة امرأة تجارية القلب.فكأن المسرفة في أنوثتها وتبرجها، هذه سبيلها، فهي لا تُؤمَن على نفسها.قالت: قد تؤمن على نفسها، ولكنها أبداً مُومِس الفكر في الرجال، فيوشك ألا تؤمن ؛ وهي رهن بأحوالها وبما يقع لها، فقد يتقدم إليها الجريء وقد لا يتقدم، ولكنها بذلك كأنها معلنة عن نفسها أنها 'مستعدة ألا تؤمن'.قال 'ح': لكن يقال: إن المرأة قد تتبرج وتتأنث لترى نفسها جميلة فاتنة، فيعجبها حسنها، فيسرها إعجابها.قالت: هذا كالقول: إن أستاذ الرقص الذي رأيتَهُ هنا، ينظر إلى نفسه كما ينظر رجل إلى راقصة تتأوّد وتهتز وتترجرج.إن هذا الرَّقَّاص فيه الحركة الفنية كما هي حركة ليس غير ؛ فهو كالميزان أو القياس أو أي آلات الضبط ؛ أما فتنة الحركة وسحرها ومعناها من المرأة الفاتنة في وهم الرجل المفتون بها ؛ فهذا كله لا يكون منه شيء في أستاذ الرقص ؛ وإن كان أستاذ الرقص.إن أجمل امرأة تَبصُق بفمها على وجهها في المرآة، إذا محي الرجل من ذهنها، أو لم يطل بعينيه من وراء عينيها، أو لم تكن ممتلئة الحواس به، أو بإعجابه، أو بالرغبة في إعجابه ؛ فمهما يكن من جمال هذه فإنها لا ترى وجهها حينئذ إلا كالدنيا إذا خلت من العدل.قلتُ: ولكنا أُبعدنا عن 'قصة هذه الحياة ما كان أولها ؟ '.قالت: سأفعل ذلك لموضعك عندي: إن قصتي في الفصل الأول منها هي قصة جمالي ؛ وفي الفصل الثاني هي قصة مرض العذراء ؛ وفي الفصل الثالث هي قصة الغفلة والتهاون في الحراسة ؛ وفي الفصل الرابع هي قصة انخداع الطبيعة النسوية المبنية على الرقة وإيجاد الحب وتلقيه والرغبة في تنويعه أنواعاً للأهل والزوج والولد ؛ ثم في الفصل الخامس هي قصة لؤم الرجل: كان محبّاً شريفاً يقسم بالله جهد أيمانه، فإذا هو كالمزوّر والمحتال واللص وأمثالهم ممن لا يُعرَفون إلا بعد وقوع الجريمة.ثم سكتتْ هُنَيْهة، فكان سكوتها يتم كلامها.وقال 'ح': فما هو مرض العذراء الذي كان منه الفصل الثاني في الرواية ؟قالت: كل عذراء فهي مريضة إلى أن تتزوج ؛ فيجب أن يُعْلِمها أهلها أن العلاج قد يكون مسموماً ؛ وينبغي أن يَحُوطوها بقريب من العناية التي يحاط المريض بها، فلا يُجعل ما حوله إلا ملائماً له، ويُمنع أشياء وإن أحبها ورغب فيها، ويُكره على أشياء وإن عافها وصَدَف عنها.قال 'ح': فيكون القانون الاجتماعي تصديقاً للقانون الديني من أن الذكورة هي في نفسها عداوة للأنوثة، وأن كل رجل ليس ذا رَحِم مَحْرَم يجب أن يكون مرفوضاً إلا في الحالة الواحدة المشروعة، وهي الزواج.قالت: فتكون المشكلة الاجتماعية هي: من ذا يُرغم الذكورة على هذه الحالة الواحدة المشروعة كيلا تضيع الأنوثة ؟قال: ولكن إذا كان سقوط الفتاة هو جناية 'الزواج المزور'، فما عسى أن يكون سقوط بعض المتزوجات ؟قالت: هو جناية 'الزواج المنقَّح'. . .تريد أنفسهن الخبيثة تنقيح الزوج ؛ والمومسات أشرف منهن، إذ لا يعتدين على حق ولا يَخُنَّ أمانة.ورفَّ على وجهها في هذه اللحظة شعاع من الشمس كان على جبينها كصفاء اللؤلؤ، ثم تحول على خدها كإشراق الياقوت ؛ ورأتْني أتأمله، فقالت: أنا منتشية بحظي في هذه الساعات ؛ وهذا الشعاع إنما جاء يختم نورها.ثم كانت السخرية العجيبة أنها لم تتم كلمة النور حتى جاء حظها الحقيقي من حياتها. . .وهو رجل يتحظاها ؛ كلما أخذته عينها ابتسمت له ابتساماً من الذل، لو لم تجعله هي ابتساماً لكان دموعاً ؛ ثم وقفت وما تتماسك من الهم، كأنها تمثال 'للجمال البائس' ؛ ثم حَيَّت وسَلَّمت ووَدَّعت ؛ وبعد 'واوات' أخرى مشت ساكنة، ومرآها يضج ويبكي.فوداعاً يا أوهام الذكاء التي تلمس الحقائق بقوة خالقة تزيد فيها !ووداعاً يا أحلام الفكر التي تضع مع كل شيء شيئاً يغيره !ووداعاً يا حبها.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي