وحي القلم/نهضة الأقطار العربية

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

نهضة الأقطار العربية

نهضة الأقطار العربية - وحي القلم

نهضة الأقطار العربية لا ريب في أن النهضة واقعة في الأقطار العربية، مستطيرة في أرجائها استطارة الشرر يضرم في كل جهة ناراً حامية، ويستمد من كل ما يتصل به لعنصره الملتهب، ولا ريب في أن الشرق قد تفلت من أوهام السياسة وخرافاتها، وقد اختلف على الغرب بعد أن طابقه زمناً، وتابعه مدة، وعرفه بمقدار ما بلاه، وكذبه ما صدقه، ونفر منه بقدر ما اطمأن إليه ؛ ولا ريب في أن العقل الشرقي قد تطور وأدرك معنى نكث العهد ونقض الشرط في السياسة الغربية، وعلم أن ذلك هو بعينه العهد والشرط في هذه السياسة ما دامت المفاوضة والتعاقد بين الذئب والشاة. .ولا ريب أن الشرق يجاذب الآن مقاليده التي ألقاها، ويضرب على سلاسله التي تقيد بها، ويكابد الصعود والهبوط في نهضته هذه ؛ وقد كان بلغ من رضائه على الذل وقراره على الضيم، وجهله وتجاهله - أن أوربا ربطت أقطاره كلها في بضعة أساطيل تجذبها جذب الكواكب للأرض.غير أني مع هذا كله لا أسمي هذه النهضة إلا من باب المجاز والتوسع في العبارة، والدلالة بما كان على ما يكون ؛ فإن أسباب النهضة الصحيحة التي تطرد اطراد الزمن، وتنمو نمو الشباب، وتندفع اندفاع العمر إلى أجل بعينه - لا يزال بيننا وبينها مثل هذا الموت الذي يفصل بيننا وبين سلفنا وأوليتنا ؛ وإلا فأين الأخلاق الشرقية، وأن المزاج العقلي الصحيح لأمم الشرق، وما هذا الذي نحن فيه من روح لا شرقية ولا غربية ثم أين المصلحون الذين لا يساومون يملك ولا إمارة، ولا يطلبون بالإصلاح غرضاً من أغراض الدنيا أو باطلاً من زخرفها ؟ ثم أين أولئك الذين تجعلهم مبادئهم العالية القوية أول ضحاياها، وتروي منهم عرق الثرى الذي يغتذي من بقايا الأجداد لينبت منه الأحفاد ؟إن الجواب على نهضة أمة نهضة ثابتة لا يكون من الكلام وفنونه، بل من مبدأ ثابت مستمر يعمل عمله في نفوس أهلها ؛ ولن يكون هذا المبدأ كذلك إلا إذا كان قائماً على أربعة أركان: إرادة قوية، وخلق عزيز، واستهانة بالحياة، وصبغة خاصة بالأمة.فأما الإرادة القوية فلا تنقص الشرقيين، وإنما الفضل فيها لساسة الغرب الذين بصرونا بأنفسنا إذ وضعونا مع الأمم الأخرى أمام مرآة واحدة وجعلوا يقولون مع ذلك إننا غير هؤلاء، وإن هذا الإنسان الذي في المرأة غير هذا الفرد الذي فيها. . .ولكن أين الخلق ؟ وأين العزة القومية ؟ وأين العصبية الشرقية ؟ وهذه مفاسد أوربا كلها تنصب في أخلاق الشرقيين كما تنصب أقذار مدينة كبيرة في نهر صغير عذب ؛ فلا الدين بقي فينا أخلاقاً، ولا الأخلاق بقيت فينا ديناً، وأصبحت الميزة الشرقية فاسدة من كل وجوهها في الروح والذوق، ولم يعد لنا شيء يمكن أن يسمي المدنية الشرقية، وأخذ الحمقى والضعفاء منا يحاولون في إصلاحهم أن يؤلفوا الأمة على خلق جديد ينتزعونه من المدنية الغربية، ولا يعلمون أن الخلق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة، وهم يغتبطون إذا قيل لهم مثلاً: إن مصر قطعة من أوربا ؛ ولا يعلمون ما تحت هذه الكلمة من تعطيل المدنية الشرقية، والذهاب بها، وإفسادها، وتعريضها للذم، وتسليط البلاد عليها، مما لا حاجة بنا إلى التبسط في شرحه.لست أقول إن نهضة الشرق العربي لا أساس لها ؛ فإن لها أساساً من حمية الشباب، وعلم المتعلمين ؛ ومن جهل أوربا الذي كشفته الحرب ؛ ولكن هذا كله على قوته وكفايته في بعض الأحيان لإقامة الأحداث الكبرى واهتياج العواصف السياسية - لا يحمل ثقل الزمن الممتد، ولا يكفي لأن يكون أساساً وطيداً يقوم عليه بناء عدة قرون من الحضارة الشرقية العالية، بل ما أسرعه إلى الهدم والنقض، لو صدمته الأساليب اللينة من الدهاء الأوروبي على اختلافها. . .إذا قدر لأوربا أن تفوز بأسلوبها الجديد، أسلوب استعباد الشرق بالصداقة. . .على طريقة ادعاء الثعلب للدجاج أنه قد حج وتاب وجاء ليصلي بها. . .والذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي لا تعتبر قائمة على أساس وطيد إلا إذا نهض بها الركنان الخالدان: الدين الإسلامي، واللغة العربية ؛ وما عداهما فعسى أن لا تكون له قيمة في حكم الزمن الذي لا يقطع بحكمه على شيء إلا بشاهدين من المبدأ والنهاية.وظاهر أن أغلبية الشرق العربي ومادته العظمى هي التي تدين بالإسلام، وما الإسلام في حقيقته إلا مجموعة أخلاق قوية ترمي إلى شد المجموع من كل جهة، ولعمري إني لأحسب عظماء أمريكا كأنهم مسلمو التاريخ الحديث في معظم أخلاقهم، لولا شيء من الفرق هو الذي لا يمنعهم أن ينحطوا إذا هم بلغوا القمة ؛ فإن من عجائب الدنيا أن قمة الحضارة الرفيعة هي بعينها مبدأ سقوط الأمم، وهذا عندنا هو السر في أن الدين الإسلامي يكره لأهله أنواع الترف والزينة والاسترخاء، ولا يرى النحت والتصوير والموسيقى والمغالاة فيها وفي الشعر إلا من المكروهات، بل قد يكون فيها ما يحرم إن وجد سبب لتحريمه ؛ إذ كانت هذه الفنون في الغالب وفي الطبيعة الإنسانية هي التي تؤدي في نهايتها إلى سقوط أخلاق الأمة ؛ بما تستتبعه من أساليب الرفاهية والضعف المتفنن، وما تحدثه للنفس من فنون اللذات والإغراق فيها والاستهتار بها ؛ وما سقطت الدولة الرومانية ولا الدولة العربية إلا بكأس وامرأة ووتر، وخيال شعري يفتن في هذه الثلاثة ويزينها.وإذا كان لا بد للأمة في نهضتها من أن تتغير، فإن رجوعنا إلى الأخلاق الإسلامية الكريمة أعظم ما يصلح لنا من التغير وما نصلح به منه، فلقد بعد ما بيننا وبين بعضها، وانقطع ما بيننا وبين البعض الآخر ؛ وإذا نحن نبذنا لخمر، والفجور، والقمار، والكذب، والرياء ؛ وإذا أنفنا من التخنث، والتبرج، والاستهتار بالمنكرات، والمبالغة في المجون، والسخف، والرقاعة، وإذا أخذنا في أسباب القوة، واصطنعنا الأخلاق المتينة: من الإرادة، والإقدام، والحمية، وإذا جعلنا لنا صبغة خاصة تميزنا من سوانا، وتدل على أننا أهل روح وخلق - إذا كان ذلك كله فلعمري أي ضير في ذلك كله، وهل تلك إلا الأخلاق الإسلامية الصحيحة، وهل في الأرض نهضة ثابتة تقوم على غيرها ؟إن من خصائص هذا الدين الأخلاقي أنه صلب فيما لا بد للنفس الإنسانية منه إذا أرادت الكمال الإنساني، ولكنه مرن فيما لا بد منه لأحوال الأزمنة المختلفة مما لا يأتي على أصول الكريمة.وليس يخفى أنه لا يغني غناء الدين شيء في نهضة الأمم الشرقية خاصة، فهو وحده الأصل الراسخ في الدماء والأعصاب.ومتى نهض المسلمون وهم مادة الشرق، نهض إخوانهم في الوطن والمنفعة والعادة من أهل الملل الأخرى، واضطروا أن يجانسوهم في أغلب أخلاقهم الاجتماعية، ولا حجر على حريتهم في ذلك إلا كبعض الحجر على حرية المريض إذا أوجرته الدواء المر.ولما كان المسلمون إخوة بنص دينهم، وكانت مبادئهم واحدة، ومنافعهم واحدة، وكتابهم واحد ؛ فلا جرم كان من السهل - لو رجعوا إلى أخلاق دينهم وانتبذوا ما يصدهم عنها - أن يؤلفوا من الشرق كله دولاً متحدة يحسب لها الغرب حساباً ذا أرقام لا تنتهي. .إن هذا الشرق في حاجة إلى المبادئ والأخلاق، وهي مع ذلك كامنة فيه، ومستقبله كامن فيها ؛ غير أنها لا تصلح في الكتب ولا في الفنون، بل في الرجال القائمين عليها.فالقلوب والأدمغة هي أساس النهضة الصحيحة الثابتة، وإذا نحن تأملنا هذه النهضة الراهنة وجدنا أساسها خرباً من جهات كثيرة، ووجدنا المكان الذي لا يملؤه إلا القلب الكبير ليس فيه إلا خيال كاتب من الكتاب والموضع الذي لا يسده إلا الرأس العظيم قد سدته قطعة من صحيفة. . .ولقد تنبأ نبي هذا الدين صلى الله عليه وسلم بهذه الحالة التي انتهى إليها الشرق العربي بإزاء الغرب، فقال لأصحابه يوماً: كيف بكم إذا اجتمع عليكم بنو الأصفر اجتماع الأكلة على القصاع ؟ فقال عمر رضي الله عنه: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله أم من كثرة ؟ قال: بل من كثرة، ولكنكم غثاء كغثاء السيل قد أوهن قلوبكم حب الدنيا.فوهن القلب بحب الدنيا - على ما ينطوي في هذه العبارة من المعاني المختلفة - هو علة الشرق، ولا دواء لهذه العلة غير الأخلاق، ولا أخلاق بغير الدين الذي هو عمادها، ألا وإن أساس النهضة قد وضع، ولكن بقيت الصخرة الكبرى وستوضع يوماً، وهذا ما اعتقده ؛ لأن الغرب يدفع معنا هذه الصخرة ؛ ؛ ليقرها في موضعها من الأساس وهو يحسب أنه يدفعنا نحن إلى الحفرة ليدفعنا فيها. .وهذا عمى في السياسة لا يكون إلا بخذلان من الله قدره وقضاه.وإني أرى أنه لا ينبغي لأهل الأقطار العربية أن يقتبسوا من عناصر المدنية الغربية اقتباس التقليد، بل اقتباس التحقيق، بعد أن يعطوا كل شيء حقه من التمحيص ويقلبوه على حالتيه الشرقية والغربية ؛ فإن التقليد لا يكون طبيعة إلا في الطبقات المنحطة، وصناعة التقليد وصناعة المسخ فرعان من أصل واحد، وما قلد المقلد بلا بحث ولا روية إلا أتى على شيء في نفسه من ملكة الابتكار وذهب ببعض خاصيته العقلية ؛ على أننا لا نريد من ذلك ألا نأخذ من القوم شيئاً ؛ فإن الفرق بعيد بين الأخذ في المخترعات والعلوم، وبين الأخذ من زخرف المدنية وأهواء النفس وفنون الخيال ورونق الخبيث والطيب ؛ إذ الفكر الإنساني إنما ينتج الإنسانية كلها، فليس هو ملكاً لأمة دون أخرى ؛ وما العقل القوي إلا جزء من قوة الطبيعة.فإن نحن أخذنا من النظامات السياسية فلنأخذ ما يتفق مع الأصل الراسخ في آدابنا من الشورى والحرية الاجتماعية عند الحد الذي لا يجوز على أخلاق الأمة ولا يفسد مزاجها ولا يضعف قوتها.وإذا نقلنا من الأدب والشعر فلندع خرافات القوم وسخافاتهم الروائية إلى لب الفكر ورائع الخيال وصميم الحكمة، ولنتتبع طريقتهم في الاستقصاء والتحقيق، وأسلوبهم في النقد والجدل، وتأتيهم إلى النفس الإنسانية بتلك الأساليب البيانية الجميلة للتي هي الحكمة بعينها.وأما في العادات الاجتماعية فلنذكر أن الشرق شرق والغرب غرب - وما أرى هذه الكلمة تصدق إلا في هذا المعنى وحده - والقوم في نصف الأرض ونحن في نصفها الآخر، ولهم مزاج وإقليم وطبيعة وميراث من كل ذلك ولنا ما يتفق ولا يختلف ؛ وإن أول الأدلة على استقلالنا أن نتسلخ من عادات القوم، فإن هذا يؤدي بلا ريب إلى إبطال صفة التقليد فينا، ويحملنا على أن نتخذ لأنفسنا ما يلائم طبائعنا وينمي أذواقنا الخاصة بنا، ويطلق لنا الحرية في الاستقلال الشخصي ؛ ولقد كنا سادة الدنيا قبل أن كانت هذه العادات الغربية التي رأينا منها ومن أثرها فينا من أفسد رجولة رجالنا وأنوثة نسائنا على السواء ؛ وما هؤلاء الشبان المساكين الذين يدعون إلى بعض هذه العادات ويعملون على بثها في طبقات الأمة إلا كالذي يحسب أن أوروبا يمكن أن تدخل تحت طربوشه. .ولقد غفلنا عن أننا ندعو الأوروبيين إلى أنفسنا وإلى التسلط على بلادنا بانتحالنا عاداتهم الاجتماعية ؛ لأنها نوع من المشاكلة بيننا وبينهم، ووجه من التقريب بين جنسين يعين على اندماج أضعفهما في أقواهما ويضيق دائرة الخلاف بينهما، ثم هو من أين اعتبرته وجدته في فائدته للأوروبيين أشبه بتليين اللقمة الصلبة تحت الأسنان القاطعة ؛ وهل نسي الشرقيون أن لا حجة للغرب في استبعادهم إلا أنه يريد تمدينهم ؟وحيثما قلنا 'الدين الإسلامي' فإنما نريد الأخلاق التي قام بها، والقانون الذي يسيطر من هذه الأخلاق على النفس الشرقية ؛ وهذا في رأينا هو كل شيء ؛ لأنه الأول والآخر.^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي