ديوان المعاني/أحسن ما قيل في الصبر

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أحسن ما قيل في الصبر

أحسن ما قيل في الصبر - ديوان المعاني

أحسن ما قيل في الصبر

أخبرنا أبو أحمد عن الصولي، عن ابن الرياشي، عن أبيه عن الأصمعي، قال: قال أبو عمرو: أحسن ما قيل في الصبر قول أبي خراش:

تقولُ أراهُ بعدَ عروة لاهيا

وذلك رزءٌ لو علمت جليلُ

فلا تحسبي أني تناسيتُ عهدهُ

ولكنَّ صبري يا أميمُ جميلُ

وبعده:

ألم تعلمي أنْ قد تفرقَ قبلنا

خليلا صفاء مالكٌ وعقيلُ

وقال الأصمعي: أحسن ما قيل فيه مع الشرح وقول أبي ذؤيب:

وتجلّدي للشامتين أريهمُ

أني لريبِ الدهرِ لا أتضعضعُ

حتى كأني للحوادثِ مروةٌ

بصفا المشقر كل يوم تُقرعُ

وقوله:

وإني لصبرتُ النفسَ بعدَ ابن عنبس

وقد لجَّ من ماء الشؤون لجوجُ

لأُحسبَ جلداً أو لينبأ شامتٌ

وللشرِّ بعد القارعات فروج

وأجود ما قاله محدث فيه قول ابن الرومي أنشدناه أبو أحمد عن ابن المسيب، راوية ابن الرومي عن ابن الرومي:

أرى الصبرَ محموداً وفيه مذاهبُ

فكيف إذا ما لم يكن عنهُ مَذهبُ

هناك يحقُّ الصبرُ والصبرُ واجبٌ

وما كان منهُ كالضرورةِ أوجب

فشدَّ امرؤٌ بالصبر كفّاً فإنه

له عصمةٌ أسبابها لا تقضبُ

هو المهربُ المنجى لمن أحدقتْ به

مكارِهُ دهرٍ ليس عنهنَّ مهربُ

لبوسُ جمال جُنةٌ من شماتة

شفاءُ أسى يثني به ويثوب

فيا عجباً للشيء هذي خلالهُ

وتاركُ ما فيه من الخطِّ أعجب

وقد يتظى الناسُ أنّ أساهمُ

وصبرهمُ فيه طباعٌ مركب

وإنهما ليس كشيء مصرَّفٍ

يصرفهُ ذو نكبةٍ حين ينكبُ

فإن شاءَ أن يأسى أطاعَ له الأسى

وان شار صبراً جاءهُ الصبر يجلبُ

وليسَ كما ظنوهما بل كلاهما

لكل لبيبٍ مُستطاعٌ مسببُ

يصرفه المختار منها فتارةً

يرادُ فيأتي أو يزدادُ فيذهب

إذا احتجَّ محتجٌّ على النفس لم يكد

على قدر ما يمنى له تتعتب

وساعدها الصبرُ الجميلُ فأقبلت

إليها له طوعاً جنائب تجنب

وإن هو مناها الأباطيلَ لم تزل

تقاتلُ بالغيب القضاء فتغلب

فتضحي جزوعاً ان أصابت مُصيبة

وتمسي هلوعاً إذا تعذر مطلب

فلا يعذرنَّ التارك الصبر نفسه

بأن قيل إن الصبر لا يكتسبُ

ومن أجود ما قيل في ذم الحقد قول ابن الرومي:

الحقد داءٌ دفينٌ لا دواءَ له

بيري الصدور إذا ما جمرُهُ حرثا

فاستشفِ منه بصفحٍ أو معاتبةٍ

فإنما يبرئ المصدورَ ما نفثا

واجعل طلابك بالأوتار ما عظمت

ولا تكن لصغيرِ الأمر مكترثا

ثم قال يمدحه:

وخيرُ سجيّات الرجالِ سجيّةٌ

توفيكَ ما تُسدي من القرضِ والفرضِ

وما الحقدُ إلا توأمُ الشكر في الفتى

وبعضُ السجايا ينتسبنَ إلى بعضِ

فحيثُ ترى حقداً على ذي إساءةٍ

فثمَّ ترى شكراً على حسنِ القرْضِ

ولولا الحقودُ المستكناتُ لم يكن

لينقض وتراً آخرَ الدهرِ ذو نقضِ

وأول من مدح الحقد عبد الملك بن صالح في قوله:إن كنت تريد الحقد بقاء الخير والشر عندي إنهما الباقيان. وأجمع كلمة قيلت في الصبر قول بعضهم:الصبر مظنة النصر. وقال الآخر:الصبر مطية لا تكبو وإن عنف عليه الزمان. وسمعت عم أبي يقول:الصبر شرية تثمر أرية وقال:

نفرج أيام الكريهة بالصبر

وقال آخر:

وهل جزعٌ يُجدي عليَّ فأجزُع

فجعل الصابر الصبر ضرورة لعلمه أن الجزع غير مجد. وقلت:

قالوا صبرتَ وما صبرتُ جلادةً

لكن لقلةِ حيلتي أتصبرُ

وليس في الحيوان شيء أصبر من الحمار والجمل، وذلك أنهما يحملان الحمل الثقيل، على الدبر، ويبلغان به الغاية البعيدة على الحفا، حتى قالت العرب: 'أصبر من ذي ضاغط' وهو أن يضغط موضع الأبط أصل الكركرة حتى يدميه. ويقولون:

أصبرُ من عودٍ بجنبيه جلبٍ

قد أثّر البِطانُ فيه والحِقَبُ

قال حلحلة بن قيس من أشيم فصار مثلاً، وقال سعيد بن ابان بن عيينة بن حصن:

أصبرُ من ذي ضاغِط مُعَرَّكِ

ألقى بواني صدرهِ للمِبركِ

ويقولون: 'أصبر من ضب' لما هو فيه من القشف واليبس. وقالوا: 'حيلة من لا حيلة له الصبر' وسمعت والدي يقول: لعن الله الصبر، فإن مضرته عاجلة، ومنفعته آجلة، وذلك أنك معجل بالصبر ألم القلب، لتنال المنفعة في العاقبة، ولعلها تفوتك لعارض يعرض، وكنت قد تعجلت الضرر، من غير أن تصل إلى نفع. فنظمته بعد ذلك وقلت:

الصبرُ عمن تحبه صبرُ

ونفعُ من لامَ في الهوى ضررُ

من كان دون المرادِ مُصطبراً

فلستُ دون المرادِ أصطبرُ

منفعةُ الصبرِ غيرُ عاجلةٍ

وربما حالَ دُونها الغير

فقم بنا نلتمسْ مآربنا

أقامَ أو لم يقم بنا القدر

ان لنا أنفساً تسودنا

أعانهن الزمان أو يذر

وابغ من العيش ما تسرُّ به

إنْ عذَل الناس فيه أو عذروا

وقال أبو هلال:أجمع كلمات سمعناها في الحلم ما سمعت عم أبي يقول:الحليم ذليل عزيز، وذلك أن صورة الحليم صورة الذليل الذي لا انتصار له، واحتمال السفه والتغافل عنه، في ظاهر الحال ذل، وان لم يكن به. وقيل: 'الحليم مطية الجهول لاحتماله جهله وتركه الانتصاف منه'. وقال الأول:

وليس يتمُّ الحلمُ للمرءِ راضياً

إذ كان عندَ السخطِ لا يتحلمُ

كما لا يتمُّ الجودُ للمرء موسراً

إذا كان عندَ العسرِ لا يتكرمُ

ولهذا قال شيخ من الأعراب وقد قيل له ما الحلم ؟ قال الذي تصبر عليه. وقال الشاعر:

لن يدرك المجدَ أقوامٌ وإن كرمَوا

حتى يذِلوا وإن عَزّوا لأقوامِ

ويُشتَموا فترى الألوان مُسفرةً

لا صفح ذُلٍّ ولكن صفحَ أحلام

وسمعته يقول:الحلم عقال الشر، وذلك أن من سمع مكروهة، فسكت عنها انقطع عنه أسبابها، وإن أجاب أتصلت بأمثالها. وأنشدوا في هذا المعنى:

وتخرج نفسُ المرءِ عن وقع شتمةٍ

ويشتمُ ألفاً بعدها ثم يَصبرُ

ولا أعرف في الحلم معنى أحسن من معنى معاوية في قوله: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنبٌ أورثه من حلمي، وما غضبي على من أملك أو ما غضبي على من لا أملك. يريد: إني إذا كنت مالكا للمذنب، فإني قادر على الانتقام منه، فلم ألزم نفسي الغضب ؟ وإن لم أكن أملكه، فليس يضره غضبي، فلم أغضب عليه فأضر نفسي ولا أضره. وقال الشاعر في الحلم والاغضاء عن المكروه مع القدرة على التغيير:

مغض على العوراء لو

لا الحلمُ غيرهُ انتصارهُ

وأسمع بعضهم الشعبي فقال له:إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. وهذا أعجب ما جاء في هذا الباب وأحسنه. وأجود شيء قيل في الحلم من الشعر، ما أخبرنا به أبو أحمد، أخبرنا ابن دريد، أخبرنا أبو عثمان، عن الأخفش قال: نال رجل من الخليل بن أحمد وأسمعه فقال الخليل:

سألزم نفسي الصفحَ عن كلِّ مُذنبٍ

وإن كثرت منهُ عليَّ الجرائمُ

وما الناسُ ألا واحدٌ من ثلاثةً

شريفٌ ومشروفٌ ومثلٌ مُقاوم

فأما الذي فوقي فأعرفُ فضلهُ

وأتبعُ فيه الحقَّ والحقُّ لازم

وأما الذي مثلي فأن زلَّ أو هفا

تفضلتُ إنَّ الفضلَ بالعزِّ حاكم

وأما الذي دوني فأن قالَ صُنتُ عن

إجابتهِ عرضي وإن لامَ لائمُ

قسم هذا الشاعر ثم فسر فأحسن ولم يدع مزيداً. ومن عجيب ما روي في الحلم، ما أخبرنا به أبو أحمد عن رجاله، قال: جيء قيس بن عاصم، بابن له قتيلاً، وابن أخ له كتيفا، وقيل له: هذا قتل ابنك، فلم يقطع حديثه ولا نقض حبوته، فلما فرغ من حديثه، التفت إلى بعض بنيه، فقال: قم إلى ابن عمك فأطلقه، وإلى أخيك فادفنه وإلى أم القتيل فاعطها مائة ناقة، فإنها غريبة، لعلها أن تسلو عنه ثم اتكأ على شقة الأيسر، وقال:

إني امرؤٌ لا يعتري خُلُقي

دَنَسٌ يغيرُهُ ولا أفنُ

من مِنقرٍ في بيتِ مَكرُمَةٍ

والفرعُ يَنبتُ فوقهُ الغصنُ

خُطباءُ حينَ يقولُ قائلهم

بيضُ الوجوهِ مصاقعُ لُسنُ

لا يفطنونَ لعيبِ جارهمِ

وهمُ لحفظِ جوارهم فُطنُ

ويوصف الحلم بالرزانة، وأجود ما قيل في ذلك قول مروان بن أبي حفصة:

ثلاثٌ بأمثالِ الجبالِ حياهمُ

وأحلامُهم منها لدَى الوزنِ أثقلُ

وقد ذكرناه. والعرب تسمي العلم حلماً قال المتلمس:

لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا

وما عُلّم الانسانُ إلا ليعلما

ومن أشرف نعوت الإنسان، أن يدعى حليماً، لأنه لا يدعاه حتى يكون عاقلاً، وعالماً ومصطبراً محتسباً، وعفواً وصافحاً ومحتملاً وكاظماً، وهذه شرائف الأخلاق وكرائم السجايا والخصال. وقد خولف هؤلاء، فقيل في خلاف مذهبهم هذا أنشد المبرد:

أبا حسن ما أقبحَ الجهلَ بالفتى

وَللحلُم أحياناً من الجهلِ أقبحُ

إذا كانَ حلمُ المرءِ عَوْنَ عدوِّهِ

عليه فإنَّ الجهلَ لأعفى وأروحُ

وقال غيره:

قليلُ الأذى إلا عن القرن في الوغى

كثيرُ الأيادي واسعُ الذرعِ بالفضلِ

ويحلم ما لم يجلب الحلمُ ذلةً

ويجهلُ ما شدت قوى الحلمَ بالجهل

وقال غيره:

ترفعتُ عن شتم العشيرةِ أنني

رأيت أبي قد كفَّ عن شتمهم قبلي

حليمٌ إذا ما الحلمُ كان جلالةً

وأجهلُ أحياناً إذا التمسوا جهلي

وقال غيره:

إذا الحلم لم ينفعك فالجهل أحزم

وقالوا: ليس شيء خيراً من الحق إلا العفو، وذلك أن عقاب المستحق للعقاب حق، والعفو خير منه. ومن أحسن ما جاء فيه قول بعضهم:لو أن المسيء لي عبد الأخ لي، لرأيت تغمده، والصفح عنه إجلالاً لقد مولاه وإعظاماً لحق صاحبه، فأنا بالصفح عن عبد الله أولى. وفي ذم العفو قول عمارة بن عقيل:

وما ينفكُّ من سعد إلينا

قطوعُ الرحم بادية الأديمِ

ونغفرها كأن لم يفعلوها

وطولُ العفوِ أدربُ للظلومِ

أجود ما قيل في المشهورة قول بشار. أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا محمد بن يحيى حدثنا الغلاني، حدثنا محمد بن عبد الرحمن التميمي، قال: دخل بشار على إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين، فأنشده قصيدة، يهجو فيها المنصور، ويشير برأي يستعمله في أمره، فلما قتل إبراهيم، خاف بشار فقلب الكنية وأظهر أنه قالها في أبي مسلم. أولها:

أبا جعفر ما كلُّ عيشٍ بدائم

وما سالمٌ عما قليلٍ بسالمِ

على الملك الجبارِ يقتحمُ الردى

ويصرعُهُ في المأزقِ المتلاحمِ

كأنك لم تسمع بقتل متوّجٍ

عظيم ولم تعلم بهلك الأعاجم

تقسم كسرَى رهطهُ بسيوفهم

وأمسى أبو العباسِ أحلامَ نائم

وقد ترد الأيام عزاً وربما

وردن كلوماً باديات الشكائم

ومروانُ قد دارت على نفسه الردى

لاجرامه لا بل قليل الجرائم

وأصبحت تجري سادراً في طريقهم

ولا تتقي أشباه تلك الفقائم

تجردتَ للاسلامِ تغفو رسومه

وتُعري مطايا لليوث الضراغم

فما زلتَ حتى استنصر الدينُ أهلَه

عليك فعاذوا بالسيوفِ الصوارمِ

لحى الله قوماً رأسوك عليهم

وما زلَت مرؤوساً خبيثَ المطاعمِ

أقول لبسامٍ عليه جلالةٌ

غَدَا أريحياً عاشقاً للمكارمِ

من الفاطميين الدعاةِ إلى الهدى

جهاراً ومن يهديك مثل ابن فاطمَ

سراجٌ لعينِ المستضيء وتارةً

يكونُ ظلاماً للعدوِّ المزاحم

إذا بلغَ الرأي المشورةَ فاستعن

برأي نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورَى عليك غضاضةً

فإن الخوافي قوةٌ للقوادم

وما خيرُ كفٍّ أمسك الغُلُّ اختها

وما خيرُ سيفٍ لم يؤيَّد بقائم

وخلِّ الهوينا للضعيف ولا تكن

نؤوماً فإنَّ الحزمَ ليس بنائم

وحارب إذا لم تُعطَ إلا ظُلامةً

شبا الحرب خيرٌ من قبول المظالم

هذا ما أورده أبو هلال العسكري، وفي بعض الكتب زيادة في هذه القصيدة وهي:

فآذن على الشورى المقرب نفسه

ولا تُشهدِ الشورى أمرأً غير كاتمٍ

فإنك لا تستطردُ الهمَّ بالمنى

ولا تبلغُ العليا بغير المكارم

وما قارعَ الأقوامَ مثلُ مشَّيع

أريبٍ ولا جلى العمى مثلُ عالمِ

وما خير كف البيت. قال أبو بكر: فحدثني الجمحي قال: سمعت المازني يقول: سمعت أبا عبيدة يقول: ميمية بشار هذه أحب إلي من ميميتي جرير والفرزدق. وقيل لبشار: ما أحسن أبياتك في المشورة ؟ فقال: المستشير بين صواب يفوز بثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه فقيل له: هذا والله أحسن من شعرك. ومن الأفراد التي لا شبيه لها قول عبد الملك بن صالح في ذم المشورة:ما استشرت أحداً إلا تكبر علي، وتصاغرت له، ودخلتني الذلة، فعليك بالاستبداد، فإن صاحبه جليل في العيون، مهيب في الصدور، فإذا افتقرت إلى العقول، حقرتك العيون فتضعضع شأنك، ورجفت بك أركانك، واستحقرك الصغير، واستخف بك الكبير، وما عز سلطان، لم يغنه عقله من عقول وزرائه وآراء نصحائه. فذم المشورة كما ترى وهي ممدوحة بكل لسان. وقال رومي لفارسي: نحن لا نملك من يشاور. فقال الفارسي: نحن لا نملك من لا يشاور، وقد أجمع الناس أن الفرس أعقل من الروم. ومن أوجز ما قيل في الطمع قول بعضهم: إذا طمعت مللت. ويقولون: الطمع طبع، والطبع الدنس، وأنشد:

لا خيرَ في طمع يدعو إلى طَبع

وغَفةٌ من قوام العيش تكفيني

والغفة القوت، وأصلها الفأرة وسميت بذلك لأنها قوت للسنور. وأنا أقول: إن أول الطمع ذلة، وأوسطه شقوة وآخره حسرة. وقال ثابت قطنة:

ألائمتي عميرة أن رأتني

عزفت النفس عما لا ينالا

أحزم كلما سمعناها عن العرب قولهم: 'إن ترد الماء بماء أكيس' معناه ينبغي أن تحتفظ بما عندك حتى تصل إلى غيره، ولا تلقي ما في يدك رجاء لما هو أكثر منه، فلعلك لا تناله لحادث يحدث. مثل ذلك قولهم: 'لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا' أي لا يترك معتمداً إلا إذا وجد مثله. وأصله في الحرباء لا يترك ساق شجرة حتى يمسك بساق أخرى. قال الشاعر:

أنَّى أتيحَ لها حرباء تنضبة

لا يرسل الساقَ إلا ممسكاً ساقا

أجود ما قيل في الحياء قول الخنساء:

ومخرقٌ عنه القميص تخالهُ

بين البيوتِ من الحياءِ سقيما

حتى إذا رُفعَ اللواء رأيتَهُ

تحت اللواءِ على الخميسِ زعيما

أخذه بعضهم وأحسن:

يشبهون سيوفاً في صرامتهم

وطول أنضيةِ الأعناقِ والقممِ

إذا غدا المسكُ يجري في مفارقهم

راحوا كأنهمُ مرضى من الكرم

وقال غيره:

كريمٌ يغضُّ الطرف فضلُ حيائه

ويدنو وأطرافُ الرماحِ دوانِ

وكالسيف إن لاينته لان مسهُ

وحَدَّاه إن خاشنتهُ خشنان

وقال أبو دهبل:

نَزْرُ الكلامِ من الحياءِ تخالهُ

صمتاً وليس بجسمه سُقمُ

عُقِمَ النساءُ فلا يلدن شبيههُ

إن النساءَ بمثله عقمُ

غيره:

إني كأني أرى من لا حياءَ لهُ

ولا أمانةَ بين الناسِ عُريانا

أجود ما قيل في تفضيل الجد على العقل والاخبار بأن الحظ والعقل لا يجتمعان قول الأول:

وما لبُّ اللبيبِ بغيرِ حظٍ

بأغنى في المعيشة من فتيلِ

رأيتُ الحظَّ يسترُ عيبَ قومٍ

وهيهاتَ الحظوظُ من العقولِ

والعرب تقول: 'اسع بجدٍّ أو دع'. أجود ما قيل في التنزه والتصون وترك السؤال قول بعضهم:السخاء أن تكون بمالك متبرعاً، وعن مال غيرك متورعا. فجعل اليأس مما في أيدي الناس سخاءُ، لأن النفس، إذا سخت وسمحت، لم تتطلع إلى مال الغير، كما أنها إذا ضاقت وحرصت، تاقت إلى ما ليس لها. وهو معنى حسن دقيق أخذه ابن أبي خازم فقال:

ومنتظر سؤالك بالعطايا

وأفضل من عطاياه السؤال

إذا لم يأتك المعروفُ طوعاً

فدعهُ فالتنزه عنه مالُ

وما أحسب أني سمعت في هذا المعنى أحسن من هذا وقلت:

ألا أنَّ القناعةَ خيرُ مالٍ

لدى كرمٍ يَروحُ بغيرِ مال

وان تصبر فإنّ الصبر أولى

بمن عثرت به نُوَب الليالي

تجمل إن بُليتَ بسوءِ حالٍ

فإنَّ من التجملِ حسن حالِ

أجود ما قيل في مضاء العزم، وثبوت الرأي والفطنة، من الشعر القديم قول أوس بن حجر:

الألمعيُّ الذي يظنُّ بك الظن

كأنْ قد رأى وقد سمعا

وقالت الحكماء: لا ينتفع الرجل بعلمه، حتى ينتفع بظنه. وكان عمر رضي الله عنه يقول: إذ أنا لم أعلم ما لم أر، ما علمت ما رأيت. وقلت:

أمانُك مصروفٌ إلى كلِّ راهبٍ

وسيُبك موقوفٌ على كل راغبِ

تباشرتِ الدنياِ بجدواك واكتفت

فلم تتباشر بالغيوثِ الصوائب

تبسمَ منك الدهرُ عن زائن له

وعين عليه في اختلافِ النوائب

بصيرٌ له دونَ العواقبِ فكرةٌ

تكشف عن رأي وراءَ العواقب

ليشكركَ مجدٌ لا تزال تحوطهُ

وتحميهِ بالنصلينِ: عزمٍ وقاضب

كأني إذا أمسكت منك بعُرْوةٍ

أخذت بأهدابِ الغيومِ السواكبِ

وليس في المضاء والعزيمة أجود من قول أبي تمام:

وَرَكبْ كأطراف الأسنةِ عرّسوا

على مثلها والليلُ تسطو غياهبه

لأمرٍ عليهم أن تتمَّ صدورُهُ

وليس عليهم أن تتمَّ عواقبُه

مأخوذ من قول الأول:

غلام وغى تقحمها فأودى

وخانَ بلادَهُ الزمنُ الخؤونُ

وكان على الفتى الأقدامُ فيها

وليس عليهِ ما جنتِ المنون

وقوله:

وقد علم الأفشينُ وهو الذي به

يُصانُ رداء الملك من كل جانبِ

بأنك لما استخذل الأمر واكتسى إهابي سيفي في وجوه التجارب:

تجللتهُ بالرأي حتى أريته

به ملءَ عينيه مكانَ العواقبِ

سللت له سيفين رأياً ومنصلاً

وكلٌّ لنجمٍ في الدُّجُنَّةِ ثاقب

وكنت متى تهزز لخطب تغشه

ضرائب أمضى من رقاق المضارب

وقال:

وسارت به بين القنابل والقنا

عزائمُ كانت كالقنا والقنابلِ

ومن جيد ما قيل في كتمان السر قول الأول:

تلاقت حيازيمي على قلب حازم

كتوم لما ضمت عليه أصابعهْ

أواخي رجالاً لستُ أطلعُ بعضهم

على سرِّ بعضٍ ان قلبي واسعة

وقال الآخر:

سأكتمه سري وأحفظُ سرَّهُ

ولا غرَّني أنّي عليه كريمُ

عليمٌ فينسى أو جهولٌ يذيعهُ

وما الناسُ إلا جاهلٌ وعليمُ

والمثل السائر:

إذا ضاقَ صدرُ المرءِ عن سِرَّ نفسهِ

فصدرُ الذي يستودعُ السر أضيقُ

أحسن ما قيل في العقل ما أنشدناه أبو أحمد عن ابن دريد:

أفضلُ قسم الله للمرءِ عقلهُ

فليسَ منَ الخيرات شيءٌ يقاربه

إذا كملَ الرحمنُ للمرء عقلَه

فقد كملت أخلاُقه وضرائبه

يعيشُ الفتى بالعقل في الناسِ أنه

على العقل يجري علمهُ وتجاربه

ومن كان غلاباً بعقل ونجدةٍ

فذو الجدِّ في عقل المعيشة غالبه

يزين الفتى في الناس صحةُ عقله

وإن كان محظوراً عليه مكاسبه

ويزري الفتى في الناس قلةُ عقله

وإن كرُمَتْ أعراقه ومناسبه

ونحوه قول الآخر:

ولم أرَ مثلَ الفقر أوضع للفتى

ولم أرَ مثلَ المالِ أرفع للنذلِ

ولم أرَ من عدمٍ أضرّ على الفتى

إذا عاشَ بين الناسِ منعدم العقل

وقال سهل بن هارون: العقل راية الروح، والعلم راية العقل والبيان ترجمان العلم. أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا أحمد بن عبد الواحد، أخبرنا أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي، قال: قال قس بن ساعدة: أفضل العقل معرفة الرجل بنفسه، وأفضل العلم وقوف المرء عند علمه، وأفضل المروءة استبقاء الرجل ماء وجهه، وأفضل المال ما قضيت منه الحقوق. ومن العجب، أن العرب تمثلت في جميع الخصال، بأقوام جعلوهم أعلى ما فيها، فضربوا بها المثل، إذا أرادوا المبالغة، فقالوا: 'أحلم من الأحنف ومن قيس بن عاصم'. 'وأجود من حاتم ومن كعب بن أمامة'. وأبين من سحبان. 'وأرمى من ابن تقن'. 'وأعلم من دغفل'. ولم يقولوا أعقل من فلان، فلعلهم لم يستكملوا عقل أحد، على حسب ما قال الأعرابي، وقد قيل له: حد لنا العقل، فقال: كيف ولم أره كاملاً في أحد قط. ووصف بعضهم الحجاج بالعقل، وعكس أمره آخر فوصفه بالحمق، قال عتبة بن عبد الرحمن:رأيت عقول الناس تتقارب إلا ما كان من عقل الحجاج بن يوسف وإياس بن معاوية، تم قال أبو الصفدي، كان الحجاج أحمق بني مدينته في بادية النبط، ثم حماهم دخولها فلما رحل عنها دخلوها من قرب. وقال يونس بن حبيب: كان والله يفتق ولا يرتق، ويخرق ولا يرفق، وقال بعضهم: ما دخل العراق أكثر أدباً من الحجاج، فلما طال مكثه في ولايته، واشتد في سلطانه، وترك الناس الرد عليه فسد أدبه، وقال له عبد الملك: إن الرجل لا يكون عاقلاً حتى يعرف نفسه، وأمير المؤمنين يقسم عليك لتخبره عن نفسك، فقال: أنا حديد حقود، ذو قسوة حسود، فانتحل الشر بحذافيره وجمعه بزوبره. ومن العجب، أنهم قالوا: من عرف نفسه نجا، وقد عرف الحجاج نفسه وهو هالك. وقالوا: العاقل لا يخبر بعيب نفسه، وقال بعضهم لا يعرف الرجل حقيقة ما اشتمل عليه من العيب، كما أن آكل الثوم لا يجد رائحته من نفسه:وقلت في ذلك:

لو تمَّ شيءٌ منَ الدنيا لذي أدبٍ

لانضاف مال إلى علمي وآدابي

فتمَّ جاهيَ عندَ الناسِ كلهم

وطابَ عيشيَ في أهلي وأصحابي

عز الكمالُ فلا يحظى بهِ أحدٌ

فكلُّ خلقٍ وان لم يدرِ ذو عاب

وقال إسماعيل بن غزوان: كل علم لا يكون في مغرس عقل وبيان، لا يكون في نصاب علم وخلق، لا يجري على عرقه فليس له ثبات، إذا احتيج إلى الثبات وقال أبو داود:

على أعراقهِ يجري المذكى

وليس على تكلفهِ وجهده

وقال بعض الملوك لحاجبه: أدخل عليَّ رجلاً عاقلاً، فأدخل عليه رجلاً قال: ثم عرفت عقله ؟ قال: رأيته يلبس الكتان في الصيف، والقطن في الشتاء واللبيس في الحر، والجديد في القر. ومما قيل في علامة العاقل أعجب إلي من قول الأول: علامة العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شانه. وقال بعضهم: إنما تنفع التجارب من كان عاقلاً. ومما يدخل في الباب، ما أخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر، عن عبد الرحمن، عن عمه قال: لم يقل أحد في التفرح بالمنادمة إلى الإخوان، والتسلي بمناعة أهل الحفاظ بمثل قول بشار حيث يقول:

وأبثثتُ عَمراً بعضَ ما في جوانحي

وجرعتهُ من مرِّ أتجرّعُ

ولا بدَّ من شكوى إلى ذي حفيظةٍ

إذا جعلْت أسرارُ نفسي تطلّعُ

ومن أجود ما قيل في ترك الشيء إذا أدبر قول بعض الأعراب:

إذا ضيعتَ أولَ كلِّ أمرٍ

أبت أعجازُهُ إلا التواء

وإن حملتَ أمرك كلَّ وغدٍ

ضعيفٍ كان أمركما سواء

وإن داويتَ دنيا بالتناسي

وبالليان أخطأت الدواء

وقال الأعشى:

إذا حاجةٌ ولّتكَ لا تستطيعُها

فخذْ طرَفاً من غيرها حينَ تسبقُ

فذلك أحرى أن تنالَ جسيمَها

وللقصدِ أهدى في المسيرِ وألحقُ

ومن أجود ما قيل في المهابة من قديم الشعر ما ينسب إلى الفرزدق وهو لغيره في علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما:

يغضي حياءً ويُغضى من مهابته

فما يُكلَّمُ إلاّ حينَ يبتسِمُ

جعله مهيباً في السكون والإغضاء، ولو جعله مهيباً مع الصولة والبطش لما كان كذلك فهو بليغ جداً. وأنشدنا أبو أحمد عن بعض رجاله، لشاعر في بعض العلماء هو الإمام مالك بن أنس إمام دارة الهجرة رحمه الله تعالى:

يأبى الجوابَ فما يراجعُ هيبةً

والسائلونَ نواكسُ الأذقانِ

هدى التقيّ وعزُّ سلطانِ النهى

وهو المهيبُ وليس ذا سلطانِ

ومن أحسن تشبيه جاء في الهيبة قولهم: 'كأن على رؤوسهم الطير'. وذلك أن الهائب تسكن جوارحه فكأن على رأسه طائراً يخاف طيرانه إن تحرك. وقال أبو نواس:

أضمرُ في القلبِ عِتاباً لهُ

فإن بدا أُنسيبُ من هيبته

ومثل ها في النسيب كثير وشبيهه قول الأول:

أهابُك إجلالاً وما بك قُدرةٌ

عليَّ ولكنْ ملءُ عينٍ حبيبها

وما هجرتك النفسُ أنك عندها

قليلٌ ولا ان قلَّ منك نصيبها

ولا ترى أجود من قوله: ملءُ عين حبيبها ولا أحسن ولا أبلغ ولعلك لا تجد لفظة تقوم مقامها، ويقولون: حسن يملأ العين، وهيبة تملاء الصدر. وقال:

وتملأ عين الناظر المتوسم

وقال ابن الرومي:

في فتيةٍ من ولدَ المنصورِ

أملأ للعين من البدورِ

وقال آخر:

إذا ذكَرت أمثالها تملأ الفما

وقد أجاد أبو تمام في صفة الهيبة والمخافة فقال:

ثَبتُ المقامِ يرى القبيلة واحداً

ويُرى فتحسبهُ القبيلُ قبيلا

وقال:

قد أترعْت منه الجوانحُ هيبةً

بطلْت لديها سَورةُ الأبطالِ

لو لم يزاحفْهم لزاحفَهم له

ما في قلوبهم من الأوجال

ومثله قول ابن المعتز:

أنا جيشٌ إذا غدوتُ وحيداً

ووحيدٌ في الجحفلِ الجراء

وقلت في ذلك:

قبيلكُم في العزِّ يعلو قبائلاً

وواحدكم في المجدِ يكثر معشرا

وقال الأشجع في إبراهيم بن نهيك وقد ولي لمعونة:

شدَّ الخطامَ بأنفِ كلِّ مخالفٍ

حتى استقامَ له الذي لم يخطم

لا يصلح السلطان إلا هيبةً

تلقى البريءَ بفضلِ جرم المجرمِ

منعت مهابتك النفوسَ حديثها

بالشيء تكرهه وإن لم تعلم

ونهجتَ من حزمِ السياسة منهجاً

فهمت مذهبه الذي لم يفهم

وأبلغ من هذا كله ما أنشدناه أبو أحمد عن العبشمي عن المبرد:

وأتيت حياً في الحروب محلهم

والجيش باسم أبيهم يستهزم

يقول: به الجيش يستهزم إذا ذكر فليس أبلغ منه. ومثله قول الفرزدق:

لبيكِ وكيف خيلُ ليلٍ مغيرةٌ

تساقي الحِمامَ بالرُّدينيةِ السُّمرِ

لقُوا مثلَهم فاستهزموهم بدعوةٍ

دعوها وكيفا والجيادُ بهم تجري

ومثله قول الآخر:

سماؤك تمطر الذهبا

وحربك يلتظي الهبا

وأي كتيبة لاقت

ك لم تستحسنِ الهربا

فجعلها تستحسن الهرب إذا لاقته، ولا تخشى اللائمةَ إذا فرت منه فهو غاية. ومما هو بليغ في باب المهابة قول الأشجع:

وعلى عدوك يا بنَ عمِّ محمد

رصدان ضوءُ الصبحُ والأظلامُ

فإذا تنبهَ رعتهُ وإذا هذى

سلت عليك سيوفك الأحلامُ

فنقله أبو نواس إلى غزال فقال:

قسيتُ فيِ الهمومَ والأطما

وصرتُ فيه بينَ الورى علما

أكون يقظان في تذكرهِ

حتى إذا نمتُ كانَ لي حلما

ومما هو أبلغ من ذلك كله قول النبي صلى الله عليه وسلم 'نصرت بالرعب' وما وصف أحد هيبة صاحب السلطان إذا بدا كما وصفها البحتري في قوله:

إذا ما مشى بين الصفوفِ تقاصرت

رؤوسُ الرجالِ عن أشمّ سميدعِ

يقومون من بُعدٍ إذا أبصروا بهِ

لأبلج موقورِ الجلالةِ أروعِ

يدعونَ بالأسماءِ مثنى وموحداً

إذا حضروا بابَ الرّواق المرفعِ

وإن سار كُفَّ اللحظ عن كلِّ منظر

سواه وغُضَّ الصوتُ عن كلِّ مَسمَعِ

فلستَ ترى إلا إفاضةَ شاخص

إليهِ بعينٍ أو مشير بأصبعِ

وقوله:

تراءوك من أقصى السماطِ فقصروا

خُطاهم وقد جازوا الستورَ وهم عجل

ولما قضوا صدرَ السلامِ تهافتوا

على يدِ بسام سجيتهُ رسلُ

إذا أسرعوا في خطبة قطعتهمُ

جلالةُ طلقِ الوجهِ جانبهُ السهل

إذا نكسوا أبصارَهم من مَهابة

ومالوا بلحظٍ خلتَ أنهم قبلُ

وقال أبو بكر الصولي وهو من البليغ:

إذا ما بدا والقومُ فوقَ سروجهم

تناثرتِ الأشرافُ منهم على الأرضِ

وقال البحتري:

ومبجل وسطَ الرجالِ خفوفهم

لقيامِه وقيامهم لقعودهِ

فالله يكلؤهُ لنا ويحوطهُ

ويعزهُ ويزيدُ في تأييده

أبلغ ما جاء في وصف العلم قول علي رضي الله تعالى عنه:قيمة كل امرىءٍ ما يحسنه. وشذ به بعضهم فقال: قيمة كل امرىء علمه. ولا أعرف في مدح العلم، وعد خصاله، أبلغ من كلامه رضي الله تعالى عنه، خاطب به كميل بن زياد، أثبته لك هنا وإن كان مشهوراً:أخبرنا أبو أحمد، حدثنا الهيثم بن أحمد الزيداني، حدثنا علي بن حكيم الأذري، حدثنا الربيع بن عبد الله المدني، حدثنا عبد الله بن حسن، عن محمد بن علي، عن آبائه عن كميل بن زياد، قال: أخذ بيدي علي رضي الله تعالى عنه، فلما أصحرنا قال:يا كميل إن هذه القلوب أوعية، وخيرها أوعاها فاحفظ عني، ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يأووا إلى ركن وثيق. يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، يا كميل محبة العلم دين، تدان به تكتسب به الطاعة في حياتك، وجميل الأحدوثة بعد وفاتك، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، يا كميل، مات خزان المال، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه إن ههنا لعلماً جماً، لو أصبت له حملة بلى أصبت لقناً، غير مأمون يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا فيستظهر بحجج الله على أوليائه، أو منقاداً لحملة الحق، لا بصيرة له في أجنائة، فيقدح الشك في قلبه عند أول عارض من شبهة، أولا ذا ولاذا فمنهوم باللذات، سلس القياد للشهوات، ومغرم بالجمع والادخار، ليس من رعاة الدين، أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة، اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجة: إما ظاهر وإما خائف، لئلا تبطل حجة الله وتبيانه، وكم وأين أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون قدراً، بهم يحفظ الله تعالى حججه حتى يودعوها أسماع نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم ؟ هجم بهم العلم على حقائق الأمور، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعده المترفون، وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها، متعلقة بالمحل الأعلى، يا كميل، أولئك أولياء من خلقه، وعماله في أرضه، والدعاة إلى دينه، هاه شوقاً إلى رؤيتهم. ومما حث به على تحفظ العلوم، قول بعض الأوائل:خير العلم ما إذا غرقت بسفينتك سبح معك. وقال الخليل:

أفخر وكاثر بالقري

حة إنها فخرُ المكاثر

وأعلم بأنَّ العلمَ ما

أوعيتَ في صحف الضمائر

وقال أبو هلال رحمه الله تعالى: لو قال ما ضمنته صحف الضمائر كان أجود. وقال غيره:

استودعَ العلم قرطاساً فضيعهُ

وبئس مُستودَعُ العلمِ القراطيسُ

وقلت:

تقل غناء عن جهولٍ مغمر

دفاتر تلقى في الظروفِ وترفعُ

تروح وتغدو عنده في مضيعةٍ

وكائن رأينا من نفيسٍ يضيع

ومن المختار في طلاقة اللسان قول الآخر:

إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف

لعيّ ولم يثن اللسانَ على هُجرِ

يصرِّفُ بالقولِ اللسانَ كما انتحى

وينظرُ في أعطافهِ نظرَ الصقر

ونحوه:

لا خيرَ في حشوِ الكلا

م إذا اهتديتَ إلى عيوبه

وأجود ما قيل في إقامة الإعراب، وترك التغيير ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي:

ويعجبني زيُّ الفتى وجمالُه

ويسقط من عينيَّ ساعةَ يلحنُ

على أن للإعراب حداً ورُبما

سمعت من الأعراب ما ليس يحسنُ

ولا خيرَ في اللفظ الكريه استماعه

ولا في قبيح اللحن والقصدُ أزينُ

سمعت أبا أحمد يقول: أحسن ما سمعت في السؤال: قول عبد الله بن العباس وقد سئل: بم أدركت هذا العلم ؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول. ثم أخبرنا قال: أخبرنا الحسن بن علي بن عاصم، ثنا الهيثم بن عبد الله، حدثنا علي بن موسى الرضى، حدثني أبي، حدثني أبو جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:'العلم خزائن مفتاحها السؤال فاسألوا فإنه يؤخر فيه أربعة: السائل والمستمع والعالم والمحب لهم'. وأجود ما قيل في السؤال من الشعر ما أنشدناه أبو أحمد أنشدنا ابن الأنباري عن أبيه:

شفاء العيِّ في طولِ السؤالِ

وعدلك في المقالِ وفي الفعالِ

وبحثك في الأمورِ عن المعاني

وتخريج المقالِ من المقالِ

وقولك بالصواب إذا أنارت

شواهدُهُ ورفضك للجدال

وصمُتك حينَ تَسمعُ من حكيم

ليفهمَك الصحيحَ من المحالِ

أجود ما قيل في صفة اللسان وأتمه، ما أخبرنا به أبو أحمد، أخبرنا أبو بكر بن دريد، قال أحمد بن عيسى العكلي: حدثنا الخليل عن عبد الله بن صالح بن مسلم القاضي قال: قال بعض الحكماء لابنه:يا بني، اللسان أداة يظهر بها البيان، وشاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل به الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع يدرك به الحاجة، ومعز يرد الأحزان، وواعظ ينهى عن القبيح، ومزين يدعو إلى الحسن، وزارع يحرث المودة، وحاصد يذهب بالضغين، وملهٍ يوقف الأسماع، ألا ترى أن الله تعالى رفع درجة اللسان بأن أنطقه بالتوحيد، وليس شيء من الجوارح ينطق به غيره. ومن أجود ما أحتج به للكلام: ما أخبرنا به أبو أحمد، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن أبي طاهر، حدثنا أبو تمام، قال: تذاكرنا الكلام في مجلس سعيد بن عبد العزيز التنوخي وحسنه، والصمت ونبله، فقال سعيد: ليس النجم كالقمر، إنك إنما تمدح السكوت بالكلام، ولا تمدح الكلام بالسكوت، وما أنبأ عن شيء فهو أكبر منه. ومثله ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبيه، عن أحمد، حدثنا أبو تمام، حدثنا أبو عبد الرحمن الأموي: قال: ذكر الكلام في مجلس سليمان بن عبد الملك، فذمه أهل المجلس، فقال سليمان: كلا ! إن من تكلم فأحسن، قدر أن يسكت فيحسن، وليس كل من سكت فأحسن، قدر أن يتكلم فيحسن. وليس كل من سكت فأحسن، قدر أن يتكلم فيحسن. ومن أجود ما أحتج به للصمت، ما أخبرنا به أبو أحمد، أخبرنا أبي أخبرنا أحمد بن أبي طاهر، حدثنا حبيب بن أوس، حدثني عمرو بن هاشم البيروتي قال: تحدثنا بباب الأوزاعي، وفينا أعرابي من بني عليم بن جناب، لا يتكلم فقيل له: بحق ما سميتم خرس العرب، ألا تتحدث مع القوم ؟ فقال إن الحظ للمرء في أذنه وإن الحظ في لسانه لغيره، وإنما جعل للمرء أذنان ولسان، ليكون استماعه ضعف كلامه. قال فحدثنا الأوزاعي، فقال والله لقد حدثكم فأحسن. وقد سوى بعضهم بين الصمت والكلام، فحدثني أبو أحمد عن أبيه عن أحمد بن أبي طاهر، عن أبي تمام، حدثني يحيى بن إسماعيل الأموي، حدثني إسماعيل بن عبيد الله قال جدي: الصمت منام العاقل والنطق يقظته ولا منام إلا بيقظة ولا يقظة إلا بمنام. قال أبو هلال: وأنا أقول الصمت يورث الحبسة والحصر وإن اللسان كلما قلب وأدير بالقول كان أطلق له: أخبرني بعض أصحابنا قال: ناطقت فتى من بعض أهل القرى، فوجدته ذليق اللسان، فقلت له: من أين لك هذه الذلاقة ؟ قال: كنت أعمد كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ، فأقرأها برفع صوت، فلم أجر على ذلك مدة حتى صرت إلى ما ترى. وسمى البيان سحراً لدقة مسلكه. وأول من نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أجمع ما مدح به البيان:حدثنا أبو القاسم عبد الوهاب بن إبراهيم، أخبرنا أبو بكر أحمد بن حماد العقدي، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن الحارث الخزاز، أخبرنا المدائني قال: قال أبو الحسن بن مسلم بن محارب بن مسلم بن زياد، عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن الأهتم: أخبرني عن الزبرقان بن بدر': فقال: مطاع في أذنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: إنه ليعلم مني أكثر من هذا ولكنه حسدني. فقال عمرو: أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة، ضيق العطن، أحمد الوالد، لئيم الخال، وما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى، رضيت فقلت أحسن ما أعلم، وسخطت فقلت أسوأ ما أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إن من البيان لسحرا وان من الشعر لحكمة'. وإنما تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقضه وإبرامه في حال واحدة، ومثل هذا من البلاغة أصعب مراماً وأعجز مطلباً، وقد أشبعنا القول فيه في كتاب صنعة الكلام. ومما يدخل في بابه، ما أخبرنا به أبو أحمد أخبرنا الصولي، حدثني الطيب بن محمد الباهلي، قال موسى بن سعيد بن مسلم عن أحمد بن يوسف الكاتب قال: دخل خالد بن صفوان التميمي على أبي العباس السفاح وعنده أخواله من بني الحارث بن كعب فقال له ما تقول في أخوالي ؟ قال:هم هامة الشرف، وخرطوم الكرم، وغرس الجود، إن فيهم لخصالاً ما اجتمعت في غيرهم من قومهم، إنهم لأطولهم أمماً، وأكرمهم شيماً وأطعمهم طعماً، وأوفاهم ذمماً وأبعدهم هماً، هم الجمرة في الحرب، والرفد في الجدب، والرأس في الخطب، وغيرهم بمنزلة العجب. فقال: لقد وصفت أبا صفوان فأحسنت، فزاد أخواله في الفخر، فغضب أبو العباس لأعمامه: فقال: أفخر يا خالد، فقال أعلى أخوال أمير المؤمنين ؟ فقال: نعم وأنت من أعمامه، فقال:وكيف أفاخر أقواماً هم بين ناسج برد، وسائر قرد، ودابغ جلد، دل عليهم الهدهد وغرقتهم الفأرة وملكتهم امرأة ؟ فأشرق وجه أبي العباس وجعل يضحك. قال وحدثني ابن المزرع قال: سمعت عمرو بن بحر الجاحظ، وقد ذكر كلام خالد هذا يقول: والله لو نفكر في جمع معايبهم، واختصار اللفظ في مثالبهم، بعد ذلك المدح المهذب سنة، لكان قليلاً فكيف على بديه لم يرض فكراً. وأجود ما قيل في كراهة المزاح قولهم: إن المزاح هو السباب الأصغر، وقيل المزاح سباب النوكى. وأجود ما قيل في تخوف عاقبته قول أبي نواس:

إنه نار وقدحُ القادحِ

وأيّ جدٍ بلغ المازحُ

ومثله:

صارَ جداً ما فرحت به

رُبَّ جدٍ جَرَّه لعبُ

وقلت:

غضبت للمزح ولم تنظر في موقعهِ

المزح في موضعهِ كالجدِّ في موضعهِ

أجود ما قيل في التضافر والتعاون، قول قيس بن عاصم المنقري يوصي ولده وقومه: وجدت في كتاب غير مسموع، لما حضر عبد الملك بن مروان الوفاة، وعاينته قال:يا بني أوصيكم بتقوى الله، وليعطف الكبير منكم على الصغير، ولا يجهل الصغير حق الكبير، وأكرموا مسلمة بن عبد الملك فإنه نابكم الذي عنه تعبرون، ومجنكم الذي به تستجيرون، ولا تقطعوا من دونه رأياً، ولا تعصوا له أمراً، وأكرموا الحجاج بن يوسف، فإنه الذي وطأ لكم المغابر، وذلل لكم قارب العرب، وعليكم بالتعاون والتضافر، وإياكم والتقاطع والتدابر. فقال قيس بن عاصم لبنيه:

بصلاح ذاتِ البينِ طولُ بقائكم

إن مُدَّ في عمري وإن لم يُمددِ

حتى تلين جلودكم وقلوبكم

لمسوَّد منكم وغير مسوَّد

إن القداحَ إذا جُمعنَ فرامها

بالكسر ذو حَنق وبطش أيّدِ

عزت ولم تُكسر وإن هيَ بُدِّدَتْ

فالوهنُ والتكسيرُ للمتبدد

ثم قام علي بن خالد بن يزيد بن معاوية وخالد بن عبد الله بن أسيد فقال لهما: قد حضر من الأمر ما تريان، فإن كان في نفوسكما شيء من بيعة الوليد نزعتماه وجعلتما الأمر حيث شئتما: قالا: بل رضينا أكمل الناس لها، وأقواهم عليها، قال: أما والله لو غيرنا قلتما لمتما قبلي، ثم رفع طرف فراشه، فإذا تحته سيف مجرد، فقال: للوليد لا أعرفنك إذا أنا مت تعصر عينيك وتمسحها نعل الأمة الوعكاء شمر وابرز والبس جلد النمر، وادع الناس إلى بيعتك، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا. ثم لم يزل متمثلاً بقول الشاعر:

وهل من خالد أما هلكنا

وهل بالموتِ يا للناسِ عار

ثم قال: الحمد لله الذي لا يبالي صغير هلك في ملكه أم كبير ثم قضى. فقال هشام بن عبد الملك:

وما كان قيسٌ هلكهُ هلك واحدٍ

ولكنه بنيانُ قومٍ تهدما

فسمعها الوليد فتطير منها، فرفع يده فلطمه، وقال: إنك أعور مشؤوم، هلا قلت كما قال التميمي:

إذا سيدٌ منا ذرا حدُّنا به

تخبط فينا نابُ آخر مقرمِ

فسمع مسلمة الصيحة، فقال: ذروا الصياح، فإنكم إن استقمتم استقام الناس، وإن اختلفتم اختلفوا. أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا أبو بكر بن دريد، أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، قال: كان عبد الملك بن مروان، ذات ليلة، في سمره مع ولده، وأهل بيته، وخاصته، فقال: ليقل كل واحد منكم أحسن ما قيل من الشعر، وليفضل من رأى من الشعراء تفضيله، فأنشدوا وفضلوا، فقال بعضهم: أمرؤ القيس، وقال بعضهم النابغة وقال بعضهم: الأعشى، ولما فرغوا قال: أشعر والله من هؤلاء جميعاً عندي الذي يقول:

وذي رحمٍ قلمتُ أظفارَ ضغنهِ

بحلميَ عنهُ وهو ليس لهُ حلُم

إذا سُمتهُ وصلَ القرابةِ سامني

قطيعتها تلك السفاهةُ والظِلمُ

وأسعى لكي أبني ويهدم صالحي

وليس الذي يبني كمن شأنهُ الهدمُ

يحاولُ رغمي لا يحاولُ غيرَهُ

وكالموتِ عندي أن يحل به رغمُ

فإن أنتصر منهُ أكن مثلَ رائش

سهامَ عدوٍ يستهاضُ بها العظمُ

وبادرت منه النأي والمرءُ قادرٌ

على سهمهِ ما دام في كفه السهم

فإن أعفُ عنهُ أغض جفناً على القذى

وليس لهُ بالصفحِ عن ذنبهِ علم

حفظتُ الذي قد كان بيني وبينهُ

وهل يستوي حربُ الأقاربِ والسلم

فما زلتُ في لِين لهُ وتعطفٍ

عليهِ كما تحنو على الولدِ الأمُّ

لأستلَّ منهُ الضغنَ حتى سللته

وإن كان ذا ضغنٍ يضيقُ به الحزم

فقالوا: يا أمير المؤمنين، من قائل هذه الأبيات ؟ فما أحسنها وأرضاها ؟ قال: معن ابن أوس المزني. ومن أجمع ما قيل في المعروف، قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'المعروف كاسمه'. أخبرني عم أبي عن أبيه قال: قال العتابي كنت واقفاً بباب المأمون، أنتظر من يستأذنه لي، فأقبل يحيى بن أكثم، فقمت إليه، فقلت: أستأذن لي على أمير المؤمنين، فقال: لست بحاجب، فقلت: ولكنك ذو فضل، وذو الفضل معوان، قال: سلكت بي غير سبيلي، قلت: ان الله قد أتحفك بجاه، وهو مقبل عليك بالزيادة إن شكرت، وبالنقصان إن كفرت، وأنا لك منذ اليوم أنفع منك لنفسك، أدعو إلى ازدياد نعمتك وتأبى علي، ولكل شيء زكاة، وزكاة الجاه رفد المستعين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أفضل المعروف فضل جاهك تعود به على من لاجاه له'. فعقدت وخل، فما لبث ان خرج الحاجب يسأل عني، فدخلت فقال: حدثنا أبو نصر التمار عن سفيان بن عيينة عن ابن نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وجعفر الطيار، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فتذاكروا المعروف فقال علي: المعروف حصن من الحصون، وكنز من الكنوز، فلا يزهدنك فيه كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر ما أضاعه جحود الكافر. وقال العباس: المعروف أفضل الأمور، وأوثق الحصون، ولا يتم إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته تممته، إن بأهل المعروف من الرغبة، أكثر مما بأهل الحاجة إليهم، وبيان ذلك أن لهم ذكره وسناه وفخره، فمهما أتيت من معروف، فإنما أتيته لنفسك. وقال عمر: إن لكل شيء أنفاً، وأنف المعروف السراح. فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 'فيم أنتم' ؟ فقالوا: نتذاكر المعروف، فقال عليه الصلاة والسلام:'المعروف كاسمه، وأول من يدخل الجنة المعروف وأهله'. ومن أجود ما قيل في بذل المعروف، وإن كان قليلاً، ما أخبرنا به أبو أحمد عن الجوهري، عن المنقري، عن الأصمعي، عن بعض العباسيين، قال: كتب كلثوم بن عمرو إلى رجل في حاجة:بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله بقاءك، وجعله يمتد بك إلى رضوانه وجنته. أما بعد فإنك كنت روضة من رياض الكرم، تبتهج النفوس بها، وتستريح القلوب إليها، وكنا نعفيها من النجعة استتماماً لزهرتها، وشفقة على نضرتها، وادخاراً لثمرتها، حتى مرت بنا في سفرتنا هذه سنة، كانت قطعة من سني يوسف، اشتد علينا كلبها، واخلفتنا غيومها، وكذبتنا بروقها، وفقدنا صالح الإخوان فيها، فانتجعتك وأنا بانتجاعي بك كثير الشفقة عليك، مع علمي بأنك نعم موضع الزاد، واعلم بأن الكريم إذا استحى من إعطاء القليل، ولم يحقر الكثير، لم يعرف جوده، ولم تظهر همته، وأنا أقول في ذلك:

ظلُّ اليسارِ على العباسِ محدودُ

وقلبهُ أبداً بالبخلِ معقودُ

إنَّ الكريمَ ليخفي عنك عسرتهُ

حتى تراه غنياً وهو مجهودُ

وللبخيل على أموالهِ عللٌ

زرقُ العيونِ عليها أوجهٌ سود

إذا تكرهت أن تعطي القليل ولم

تقدر على سعةٍ لم يظهر الجود

بثَّ النوالَ ولا يمنعك قلتهُ

فكل ما سدَّ فقراً فهو محمودُ

قال: فشاطره ماله حتى بعث إليه قيمة نصف خاتمه وفرد نعله. ومن مليح ما جاء في هذا المعنى قول ابن الرومي:

أبا عمروٍ لك المثلُ المعلّى

وجدُّ عدوَّك التَّربُ الذليلُ

رأيتُ المطلَ ميداناً طويلاً

يروضُ طباعَهُ فيهِ البخيلُ

فما هذا المطالُ فدتك نفسي

وباعُكَ بالندَى باعٌ طويلُ

أظُّنك حينَ بقدركَ لي نوالاً

يقلُّ لديك لي منهُ الجزيلُ

فلا تقدرْ بقدركَ لي نوالاً

ولا قدري فيحقرُ ما تنيلُ

وأطلِقْ ما تهمُّ بهِ عساهُ

كفافي أيها الرجلُ النبيلُ

وإلا فالسلامُ عليكَ مِنّي

نبتْ دارٌ فأسرعَ بيَ الرحيلُ

إذا ضاق على أملٍ بلادٌ

فما سُدَّتْ على عزمٍ سبيلُ

وقال غيره:

وما الجودُ عن فقرِ الرجالِ ولا الغنى

ولكنهُ خيمُ الرجال وخيرُها

ومن عجيب المعاني في عظم السؤال، وموازنته للنوال، بل رجاحته عليه، ما أخبرنا به أبو أحمد، أخبرنا أبو بكر بن دريد، أخبرنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد قال: دخل كوثر بن زفر بن الحارث الكلابي على يزيد بن المهلب فقال له: أيها الأمير، أنت أعظم قدراً من أن تستعان أو يستعان عليك، وليس تفعل المعروف شيئاً ألا وهو يصغر دونك، وأنت أكبر منه، وليس العجب أن تفعل، ولكن العجب أن لا تفعل. فقال: سل حاجتك، قال: حملت عشر ديات وقد بهظتني، فقال: قد أمرت لك بها، وشفعتها لك بمثلها، فقال: أما ما سألتك بوجهي فأقبله منك، وأما ما أبتدأتني به فلا حاجة لي فيه. قال ولم وقد كفيتك مؤنة السؤال ؟ قال لأني رأيت الذي أخذت مني بمسألتي إياك بوجهي، أكثر مما نالني من عرفك، وكرهت الفضل على نفسي. فقال له يزيد أسألك بحقك علي لما رأيتني أهله من إنزال الحاجة بي إلا قبلتها فقبلها. وسأل العتابي رجلاً فحصر وأقل، فقيل له: قد أقللت، فقال وكيف لا أقل ومعي ذل المسألة، وحيرة الطلب، وخضوع الهيبة، وخوف الرد. وقيل لآخر متى يكون البليغ عيياً ؟ قال: إذا سأل حاجة لنفسه. وقال أحمد بن أبي خالد الأحول: ما استكثرت بذلاً بذلته قط، لأني أرى الأجر والشكر أكثر منه، ولا استصغرت معروفاً قط لأني أراه أكبر من تركه. ومن جيد ما قيل في الترغيب في المعروف قول الأول:

فإنك لا تدري إذا جاءَ سائلٌ

أأنتَ بما تعطيهِ أم هو أسعدُ

عسى سائلٌ ذو حاجةٍ ان منعتهُ

من اليومِ سؤلاً أن يكون لهُ غدُ

هذا آخر كتابا الخصال، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بصرنا سبل الحمد، ووقفنا على طرق الذم، لنضع كلاً منهما في موضعه، ونستعمله في حينه، ونلحقه بمستحقه، إذ ذكر من أحبه فقال:'نعم العبد إنه أواب'، ووصف من مقته فقال:'همازٍ مشاءٍ بنميم، مناعٍ للخير معتدٍ أثيم، عتلٍ بعد ذلك زنيم'. فذم قوله وفعله، وعاب شيمته، وخلقه وهتك الشتم عرضه، وسود بالذم وجهه، جزاءً بما اكتسب من ذميم الفعال، ووفقاً لما أطلقها من اسم المقال، نكالاً من الله والله عزيز حكيم. وصلى الله على نبيه محمد البشير النذير الداعي إلى الله باذنه والسراج المنير وعلى آله الطيبين وعترته. ^هذا كتاب المبالغة

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي