ديوان المعاني/أحسن ما قيل في الضربة الدامية

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أحسن ما قيل في الضربة الدامية

أحسن ما قيل في الضربة الدامية - ديوان المعاني

أحسن ما قيل في الضربة الدامية

قول ابن المعتز:

شَقَّ الصفوفَ بسيفهِ

وشفى حزازاتِ الأحَنْ

دامي الجراح كأنه

وردٌ تفتَّح في فَننْ

ومن عجيب ما قيل في كثرة الطعن يقع في الجسد قول بعضهم:

فلولاَ الله والمهرُ المفدَّى

لرحتَ وأنتِ غربالُ الإهابِ

وقال قيس بن الخطيم في سعة الطعنة:

طعنتُ ابنَ عبدِ القيسِ طعنةَ ثائرٍ

لها نَفَذٌ لولا الشُّعاعُ أضاءها

ملكتُ بها كفي فأنهرتُ فتقَها

يَرَى قائمٌ من دونها ما وراءها

ومن أبلغ ما قيل في مضاء السيف قول النمر بن تولب:

أبقى الحوادثُ والأيامُ من نمرٍ

أسْبَادَ سَيفٍ قديم أثرهُ بادي

تظلُّ تحفِرُ عنهُ إن ضربت به

بُعد الذراعين والساقينِ والهادي

وهذا من الأفراط والغلو، وهو عند بعضهم مذمومٌ، إذا كان في هذا الحد، وعند آخرين ممدوحٌ، يقول إذا ضربت به قطع المضروب وتجاوزه، حتى غاص في الأرض فاحتجت أن تحفر عنه فتستخرجه. ودون ذلك في الغلو قول النابغة:

يطيرُ فُضاضاً بينهم كلُّ قَونَسٍ

ويتبعها منهم فراشُ الحواجبِ

تَقُدُّ السَّلوقيَّ المضاعَفَ نسجُهُ

وتوقد بالصُّفّاحِ نارَ الحُباحبِ

يقول: إنها تقد الدرع التي ضوعف نسجها والفارس حتى تبلغ الأرض فتقدح النار بالصفاح: وهي الحجارة. ومن بليغ ما قيل في صفة السيف، قول ابن يامين قال محمد بن داود بن الجراح: عن أبي هفان، عن الإياسي القاضي، عن الهيثم بن عدي، قال: لما صار سيف عمرو بن معدي كرب، الذي يسمى الصماصمة إلى الهادي وكان عمرو وهبه لسعيد بن العاص، فتوارثه ولده إلى أن مات المهدي، فاشتراه موسى الهادي منهم بمال جليل، وكان موسى من أوسع بني العباس خلقاً وأكثرهم عطاءً، للمال، قال: فجرده ووضعه بين يديه، وأذن للشعراء، فدخلوا ودعا بمكتل فيه دنانير، فقال: قولوا في هذا السيف فبدرهم ابن يامين فقال:

حازَ صمصامةً الزُّبَيديِّ من بي

نِ جميع الأنامِ موسى الأمينُ

سيفُ عمروٍ وكانَ فيما سمعنا

خيرَ ما أغمدت عليه الجفون

أوقدت فوقَهُ الصواعقُ ناراً

ثم شابت به الزُّعاف القُيون

فإذا ما هززته بهرَ الشم

سَ ضياءً فلم تكن تستبين

يستطيرُ الأبصار كالقبسِ المشع

لِ ما تستقرُّ فيهِ العيون

وكأن الفرندَ والجوهرَ الجار

يَ في صفحتيه ماءٌ معينُ

نَعَم مِخراقُ ذي الحفيظة في الهي

جا بعضَّاتها ونعمَ القريرينُ

ما يبالي إذا انتضاهُ لضربٍ

أشمالٌ سطت بهِ أم يمين

وكأن المنونَ نِيطت إليه

فهو من كلِّ جانبيه مَنون

أخذ عليه من هذه الأبيات تشبيهه السيف بالشمس، ثم بالقبس، لأنه قد حطه درجات، فقال موسى: أصبت ما في نفسي، واستخفه الفرح، فأمر له بالمكتل والسيف. فلما خرج الشعراء: إنما حرمتم لأجلي فدونكم المكتل ولي في هذا السيف غنى، قال فقال موسى فاشترى اليف منه بمال جزيل ه. وذكر الهيثم بن عدي هبة عمرو بن معديكرب الصمصامة لسعيد بن العاص فقال: قال سعيد بن العاص: وهو بالكوفة لعمرو بن معديكرب هب لي الصمصامة، فإنك قد ضعفت عن حمله، وكان وزنه ستة أرطال فقال عمرو: ما ضعفت قناتي ولا جناني ولا لساني، وإن اختل جثماني، وهو لك على أنه أوحش من لا يؤنسه، وأظلم من لا يقبسه. ثم قال:

خليلٌ لم أهبهُ من قِلاهُ

ولكنَّ المواهبَ في الكرامِ

خليلٌ لم أخُنهُ ولم يخُنِّي

على الصمصامِ أضعافُ السلام

وقوله: أوحش من لم يؤنسه، وأظلم من لا يقبسه يقول: إذا كنت أستوحش من جانب العدو آنسني، وإذا أظلم لي الليل أضاء لي. وقال البحتري:

مُصْنعٍ إلى حُكم الردَى فإذا مضى

لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل

متوقد يَبري بأوَّلِ ضربةٍ

ما أدركتْ ولو أنها في يذبل

فإذا أصابَ فكلٌّ شيء مَقتلٌ

وإذا أصيبَ فما له من مقتلِ

يغشى الوغى فالترسُ ليس بجنة

من حدِّه والدرعُ ليس بمعَقلِ

وذكر عمرو بن معديكرب أنواع السلاح فأجاد:أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أبو عبد الله بن عرفة، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي، قال: حدثني رجلٌ من ولد أبي سرحة الغفاري، قال:قدم عمرو بن معديكرب، على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأله عن سعد بن أبي وقاص، فقال عمرو: أعرابي في نمرته، عاتقٌ في حجلته، أسدٌ في تامورته، نبطي في جبايته. فقال كيف علمك بالسلاح ؟ فقال بصير: قال: فأخبرني عن النبل، قال: منايا تخطىء وتصيب، قال: فأخبرني عن النبل، قال: فأخبرني عن الرمح قال: أخوك وربما خانك. قال: فأخبرني عن الترس. قال: هو المجن، وعليه تدور الدوائر. قال: فأخبرني عن السيف. قال: عنده قارعت أمك الثكلى. قال: بل أمك، والحمى أضرعتني لك. النمرة: كساءٌ أسود تلبسه الأعراب، والعاتق: الجارية الكعاب، وصفه بالحياء. والتامورة ههنا الأجمة. فقال: نبطيٌّ في جبايته، وصفه بالاستقصاء في جباية الخراج. وقوله: 'الحمى أضرعتني لك': أي الاسلام قيدني لك، وأذلني، ولو كنت في الجاهلية ما كلمتني بهذا الكلام، وهو مثل العرب تضربه عند الشيء يضطرها إلى الخضوع. ومثل ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد، عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، قال: قال الأغر النهشلي، ووقع بينه وبين قومه شر، فأرسل ابنه، وقال يا بني، كن يداً لأصحابك على قتالهم، وإياك والسيف، فإنه ظل الموت، واتق الرمح، فإنه رشأ المنية، ولا تقرب السهام، فإنها رسل تعصي وتطيع. قال: فيم أقاتل ؟قال: بما قال الشاعر:

جلاميدٌ أملاء الأكفّ كأنها

رؤوسُ رجالٍ حُلّقت في المواسمِ

فعليك بها فألصقها بالأعقاب والسوق. وقد أحسن التنوخي في صفة الحرب حيث يقول:

في موقف وقفَ الحمامُ ولم يَزِغ

عن ساحتيه وزاغت الأبصارُ

فَقَناً يسيلُ من الدماءِ على قنا

بطوالهنَّ تُقَصَّرُ الأعمارُ

ورؤوس أبطالٍ تطايَرُ بالظٌّبى

فكأنها تحتَ الغبار غبارُ

وقد أجاد ابن المعتز في هذا المعنى حيث يقول:

قومٌ إذا غضبوا على أعدائهم

جَرُّوا الحديدَ أزجَّةً ودُروعا

وكأن أيديهم تُنَفِّرُ عنهمُ

طيراً على الأبدانِ كُنَّ وقُوعا

وقال أيضاً:

بطعنٍ تضيعُ الكفُّ في لَهواتهِ

وضربٍ كما شُقَّ الرداءُ المَرعبَلُ

وقال أيضاً:

قَرَينا بعضَهم طعناً وجيعاً

وضرباً مثلَ أفواهِ اللقاحِ

وقال البحتري وأحسن في ذلك:

ألوي إذا طعنَ المدجج صَكهُ

ليديهِ أو نثرَ القناة كُعوبا

فأنا النذيرُ لمنْ تغطرسَ أو طغى

من مارنٍ يدعُ النُحورَ جُيوبا

وقد ظرف في قوله أيضاً:

ولو لم يحاجِز لؤلؤٌ بِفرارهِ

لكانَ لصدرِ الرُمحِ في لؤلؤٍ ثقبَ

ومن المختار قول مالك بن نويرة:

بسُمرٍ كأشطانِ الجرور نواهلٍ

يجوز بها ذو المنايا ويهتدي

يقعنَ معاً فيهم بأيدي كماتنا

كأنّ المنايا للرماح بموعد

ومن أبلغ ما قيل، في صفة الضرب والطعن، من قديم الشعر، قول عبد مناف بن ربعي:

فالطعنُ شعشعةٌ والضربُ هيقعةً

ضربَ المُعَوِّلَ تحتَ الديمة العضدا

وللقسيّ أزاميلٌ وغمغمةٌ

حِسّ الجنوب تسوِّي الماءَ والبردا

الهيقعة: وقع الشيء الصلب على مثله، سمعت هيقعة الحجر والحديد، وشبه أصوات القسي بصوت السحاب الذي فيه برد. والمعول الذي يتخذ العالة وهو أن يعمد الراعي، أذا خاف المطر إلى الشجر، يتعضده ويجعل عضده على شجرتين متقاربتين، ويستكن تحته. والعضد: ما يعضد من الشجر، أي يقطع والعضد المصدر. ومن أجود ما قيل، في نفوذ التدبير في الحرب، مع الغيبة عنها قول ابن الرومي في صاعد:

يَظلُّ من الحربِ العوانِ بمعزلٍ

وآثارهُ فيها وإن غابَ شهَّدُ

كما احتجبَ المقدارُ والحُكمْ حكمهُ

على الناسِ طراً ليس عنده مُعَرَّدُ

أخذه من قول بشار بن برد:

الدهرُ طلاعٌ بأحداثهِ

ورُسلهُ فيها المقادير

محجوبة تُنفذ أحكامَها

ليسَ لنا عن ذاكَ تأخيرُ

وقال:

حصرتَ عميدَ الزَّنج حتى تخاذلت

قواهُ وأودى زاده المُتزودُ

وكانت نواحيهِ كثافاً فلم تزل

تحيَّفُها حتى كأنك مبردُ

تُفرقُ عنهُ بالمكايدِ جُنْدَهُ

وتزدارهم جنداً وجيشُك محصّد

سكنت سكوناً كان رَهناً بوثبةٍ

عَماسٍ كذاك الليثُ للوثبِ يلبدُ

فما رمتهُ حتى استقلَّ برأسه

مكان قناةِ الظهرِ أسمرٌ أجردُ

مناك له مِقدارهُ فكأنما

تقوّضَ ثَهلانٌ عليهِ وصِنْددُ

فقال: صندد، بفتح حرف الردف، وهو خطأ، وليس في العربية، فعلل إلا درهم وهجرع وهو الطويل الأحمق، وهبلع وهو الكثير البلع، وقلعم وهو الكثير القلع للأشياء، وكان بنى قصيدته على فتح الردف، ولم يلزمه ذلك وكابر على فتح صندد ورمدد، وهما مكسوران فزعم محمد بن حبيب أنه رواهما بالفتح، وكابر أيضاً على فتح الراء من درم في قصيدته التي أولها:

أفيضا دماً ان الرزايا لها قِيم

وإنما هو ردم. وأحسن ما قيل في الكيد والحرب قول أبي تمام:

هززتَ له سيفاً من الكيدِ إنما

تُجذُّ به الأعناقُ ما لم يجرّدِ

يسرُّ الذي يسطو بهِ وهو مُغَمدٌ

ويُفضحُ من يسطو به غير مُغَمدِ

يقول: إن أخفيت الكيد ظفرت وسررت، وإن أظهرته افتضحت وخبت. وقد أحسن في وصف الرماح حيث يقول:

أنهبتَ أرواحهُ الأرماح إذ شُرعت

فما تُردُّ لريبِ الموتِ عنهُ يدُ

كأنها وهي في الأرواحِ والغةٌ

وفي الكُلى تجدُ الغيظَ الذي يجدُ

من كلّ أزرقَ نظارٍ بلا نظرٍ

إلى المقاتلِ ما فيه متنهِ أودُ

كأنه كان خِدنَ الحبِّ مُذ زمنٍ

فليس يُعجزهُ قلبٌ ولا كبدُ

ويشبه بياض السيف بالملح فمن أجود ما قيل فيه قول النمري:

ذكرٌ يرونقه الدماءُ كأنما

يعلو الرجالَ بأُرجوان فاقعِ

وثرى مضارب شفر تيهِ كأنها

ملحٌ تناثرَ من وراءِ الدارعِ

ويشبه الفرند بمدب الذر، فمن قديم ما قيل فيه قول امرىء القيس:

مُتوَسَّداً عَضْباً مضاربُه

في مَتنهِ كمدبةِ النملِ

وقول أوس بن حجر:

وذو شَطباتٍ قَدَّهُ ابن مُجَدَّعٍ

له رَونقٌ ذرِّيه يتأكّلُ

وأشبرنيه الهالكيُّ كأنه

غديرٌ جرى في متنهِ الريحُ سلسلُ

وأخرج منه القينُ أثراً كأنه

مَدَبُّ دباً سودٍ سرى وهو مسهلُ

وقال ابن المعتز وأبدع

وجَرَّدَ من أغمادِهِ كلَّ مُرهَفٍ

إذا ما انتضته الكفُّ كاد يسيلُ

ترى فوقَ متنيهِ الفرِندَ كأنما

تنفّسَ فيهِ القينُ وهو صقيلُ

وقال: إسحاق بن خلف:

ألقي بجانبِ خصرهِ

أمضى من الأجل المُتاح

وكأنما ذرَّ الهما

ءَ عليه أنفاسُ الرِّياحِ

وقال قيس بن الخطيم:

أجالدهُم يومَ الحديقةِ حاسراً

كأن يدي بالسيف مِخراقُ لاعِبِ

بسيفٍ كأن الماءَ في صفحاتهِ

طحاريرُ غيمٍ أو قُرونُ جنادِبِ

أخذه ابن المعتز فقال:

ولي صارمٌ فيه المنايا كوامنٌ

فما يُنتضَى إلا لسفكِ دماءِ

ترى فوقَ متنيهِ الفِرندَ كأنه

بقيَّةُ غيمٍ رقَّ دونَ سماءِ

وقد أجاد ابن الرومي في قوله:

خيرُ ما استعصمت بهِ الكفُّ عضبٌ

ذكرٌ متنُهُ أنيثُ المَهزِّ

ما تأمَّلْتَه بعينِك إلاّ

أبرقت صفحتاهُ من غير هزِّ

مثله أفزعَ الشجاعَ إلى الدّر

ع فغالى به على كلِّ بزِّ

وما أبالي أصمَّمتْ شفرتاهُ

في محزٍّ أو جازتا عن محزّ

وقال آخر:

جرّدُوها فألبسوها المنايا

عِوضاً عوضت من الأغمادِ

وكأن الآجالَ ممن أرادوا

وظَباها كانت على ميعادِ

وقلت:

تميلُ كفيّ من سيفٍ إلى قلمٍ

والعزُّ نصفانِ بينَ السيفِ والقلمِ

وقال ابن المعتز:

وسيوفٍ كأنها حينَ سُلت

ورقٌ هزّهُ سُقوطُ قِطارِ

ودروع كأنّها شَمَطٌ جَعْ

دٌ دهينٌ يضلُّ فيه المَدَاري

وقال ابن الأعرابي أحسن ما قيل في صفة الرماح:

وبكلَّ عَرَّاص المَهزّةِ مارنٍ

فيه سنانٌ مثلُ ضوءِ الفرقَدِ

أحسن ما قيل في صفة الرماح قول المزرد:

أصم إذا ما هُزَّ مالت سراته

كما مال ثعبانُ الرمالِ الموائلِ

له رائدٌ ماضي الغرار كأنه

هلالٌ بدا في ظلمةِ الليلِ ناحلِ

وقال الأصمعي أحسن ما قيل في صفة الرمح قول أبي زبيد:

وأسمر مربوعٌ يرى ما أريته

بصيرٌ إذا صوّبته للمقاتلِ

وقال ابن الأعرابي أحسن ما قيل في ذلك قول مسكين:

بكلِّ رُدَيْنيّ كأنَّ كعوبَه

قطانسق يستورد الماءَ صائفُ

كأنَّ هلالاً لاحَ فوق سراتهِ

جلا الغيمَ عنهُ والقتامَ الحراجفُ

وأحسن ما قيل في سرعة وقع الرماح، وتداركه قول دريد بن الصمة:

نظرتُ إليهِ والرماحُ تنَوشهُ

كوقع الصياصي في النسيج المددِ

الصيصة: الشوك الذي يسوي به الحائك الثوب، والصيصية أيضاً: الحصن ويقال للناشز من ساق الديك الصيصية أيضاً. وقد أحسن البحتري في قوله:

في معركٍ ضنكٍ تخالُ بهِ القنا

بين الضلوعِ إذا انحنينَ ضلوعا

وأجود ما قيل في إدمان حمل الرمح قول الآخر:

وقد طالَ حملي الرُّمحَ حتى كأنهُ

على فرسي غُصنٌ من البانِ نابتُ

يطولُ لساني في العشيرةِ مُصلحاً

على أنه يومَ الكريهةِ ساكتُ

والسكوت في الحرب دليل على سكون الجأش، وكثرة الصوت فيها إمارة الفزع. وقد قيل:

وكثرة الصوت والإيعاد من فشل

وقلت في الرمح:

يغدو بصدْق الكعوبِ لَدْن

يهتزُّ ما بينَ كوكبينِ

أعني الزج والسنان. وقال البحتري:

كأنما الحربةُ في كفّهِ

نجمُ دُجىً شيَّعهُ البدرُ

وقد شبهت العرب الرماح بالأشطان، والأسنة بالشهبان، فتركنا ذكر ذلك لشهرته واستفاضته. أجود ما قيل في القوس من قديم الشعر قول أوس بن حجر وهو أوصف العرب للسلاح:

فجرّدَها صفراءَ لا الطولُ عابها

ولا قِصرٌ أزرَى بها فتعطلا

كتومٌ طِلاع الكفِّ لا دونَ مَلِئها

ولا عجسُها عن موضع الكفِّ أفضلا

وحشوَ جفيرٍ من فروعِ غرائب

تنطّعَ فيها صاعٌ وتأمَّلا

تُخَّيرنَ أنضاءً وركّبن أنصُلاً

كجمرِ الغضا في يوم ريحٍ تزيّلا

وقال الشماخ في صوت القوس:

إذا أنبضَ الرامونَ عنها ترنمت

تَرَنُّمَ ثكلى أوجعتها الجنائزُ

وقال آخر:

هي إذا أنبضت عنها تسجعُ

ترنم الثكلى أبَتْ لا تَهجعُ

وقال آخر:

سمعُ عندَ النزع والتوتيرِ

في سيتَيْها رنّة الطّنبورِ

وقال الأصمعي:أحسن كلام في الإيجاز، قول عكلي في صفة الفرس:

في كفه معطيةٌ منوع

ومن أحسن ما قاله محدث في القوس، قول ابن المعتز بالله:

أتيح لها هفانُ يخطم قوسه

بأصفر حَنّانِ القرَى غير أعزلا

فأودعَهُ سهماً كمدِرى مواشطٍ

بعثنَ به في مَفْرقٍ فتغلغلا

بطيئاً إذا أسرعتَ إطلاَ فُوقِه

ولكن إذا أبطاتَ في النزع عجّلا

أفواقُها حشوُ الجفير كأنها

أفواهُ أفرخةٍ من النِّغرَانِ

وأجود ما شبه بن أفواق السهام قول الآخر:والنغران: جمع نغرة وهي عصفورة. وقاتل الفند الزماني:

ونبلي وقفاها كعراقيب قطاً طحل

أخذه عتاب بن ورقاء فقال:

وحطّ عن منكبهِ شريانةَ

مما اصطفى باري القسيِّ وانتقى

أمّ بناتٍ عَدَّها صانِعُها

ستِّين في كنانةٍ مما برى

ذات رؤوس كالمصابيح لها

أسافلٌ مثل عراقيبِ القطا

إن حُرِّكت حنّت إلى أولادها

كحنِّةِ الوالهِ من فقدْ الطّلا

حتى إذا ما قُرِنَت ببعضِها

لانت ومال طرفاها وانثنى

وقال ابن الرومي في قوس بندق:

كأنّ قَراها والغرور التي بها

وإن لم تجدها العينُ إلا تتبُّعا

مذَرُّ سحيقِ المسك فوقَ صلايةٍ

أدبَّ عليها دارجُ الذَّر أكرعُا

لها أولٌ طوع اليدينِ وآخرٌ

إذا سُمتَهُ الإغراقَ فيهِ تمنعا

تطوّعُ لراميها الرمايا كأنما

دعاها لهُ داعي المنايا فأسمعا

يُقلبُ نحو الجوّ عيناً بصيرةً

كعيِنك بل أذكى ذكاءً وأسرعا

لها عَولةٌ أولى بها من تصيبهُ

وأجدرُ بالأعوالِ من كان موَجعا

وهذا مثل قوله في امرأة:

تُشكي المحبَّ وتلفى الدهرَ شاكيةً

كالقوسِ تصمي الرَّمايا وهي مِرنان

وقال المتنبي في سداد الرمي:

تُصيبُ ببعضها أفواقَ بعض

فلولا الكسرُ لاتصلت قضيبا

وقال الراجز في ضد ذلك:

مستهترٌ بالرمي واهٍ عَضده

يطيعهُ القلبُ وتعصيهِ يَدُهْ

أحصن شيء يومَ يرمي طَرَده

كأنَّهُ فؤاده أو كبده

وقال ابن الرومي في سهام:

وكل ابن ريح يسبقُ الطرفَ معجه

مَروقٌ ومنزوعٌ حَوَمةِ الجذبِ

صنيعٌ مريشٌ قَوَّمَ القينُ متنهُ

فجاءَ كما سُلَّ النخاع من الصلبِ

يغلغلهُ في الدرع نصلٌ كأنهُ

لسانُ شُجاع محرج همَّ بالسلبِ

وقال ابن المعتز في قوس البندق:

وماءٍ به الطيرُ مربوطةٌ

تحاكي الحليَّ بأطواقهما

غدونا عليهِ وشمسُ النهار

لم تكسهُ ثوبَ إشراقها

فظلنا وظلت عُيونُ القسيِّ

ترمي الطيورَ بأحداقها

وقد أحسن القائل في صفة الرماح على العواتق:

ترى غابةَ الخطيِّ فوقَ رؤوسهم

كما أشرفت فوقَ الصوارِ قرونها

ومما يجري مع ذلك قول أبي فراس بن حمدان:

وما الذنبُ إلا العر يركبهُ الفتى

وما ذنبهُ إن جاوزتهُ المطالبُ

ومن كان غير السيفِ كافل رزقهِ

فللذلِّ منهُ لا محالةَ جانب

وما جاء عن أهل الجاهلية في النشاب، شيءٌ إلا قول سيف بن ذي يزن يذكر القوس:

هَزُّوا بناتِ الرياح نحوهمُ

أعوجُها طامحٌ وزمزمها

كأنها بالفضاءِ أرشيةٌ

يخفُّ منقوضها ومُبرَمُها

فأما النبل فقد جاء فيها عنهم شيءٌ كثيرٌ:

وبيض من النسيج القديم كأنها

نهاءُ بقاع ماؤُها مترايعُ

تصفقها هوجُ الرياح إذا صفَت

وتعقبها الأمطارُ فالماءُ راجعُ

وهو مأخوذٌ من قول امرىء القيس:

تفيضُ على المرءِ أردانُها

كفيضِ الأتيِّ على الجَدْجَدِ

وقال البحتري:

يمشون في زرد كأنَّ مُتونها

في كل معركةٍ مُتونَ نهاءِ

بيضُ تسيل على الكماةِ فضولها

سيلَ السرابِ بقفرة بيداء

وإذا الأسنةُ خالطتها خلتها

فيها خيال كواكبٍ في ماءِ

ومعنى البيت الأخير دقيقٌ غريبٌ حسنٌ مصيبٌ ما أظنه سبق إليه. ومن مليح ما جاء في صفة الدروع قول بعض بني هاشم:

وعليَّ سابغةُ الذُّيولِ كأنها

سلخٌ كسانيهِ الشجاعُ الأرقمُ

ومن مليح ما جاء في صفة الحرب، ما أخبرنا به أبو القاسم، عن القعدي، عن أبي جعفر، عن المدائني، قال: قال رجل من بني تميم لعبادي: لم يكن لآل نصر بن ربيعة صولة في الحرب. قال: لقد قلت بطلاً، ونطقت خطلاً، كانوا والله إذا أطلقوا عقل الحرب، رأيت فرساناً تمور كرجل الجراد، وتدافع كتدافع الأمداد، في فيلق حافاته الأسل، يضطرب عليها الأجل، إذا هاجت لم تتناه دون بلوغ إرادتها، ومنتهى غايات طلباتها، لا يدافعها دافع، ولا يقوم لها جمع جامع، وقد وثقت بالظفر لعز أنفسها، وأيقنت بالغلبة لضرواة عادتها، فلها العلو والتمكين، ولمن ناوأها الذل والتوهين، خصت بذلك على العرب أجمعين. ومما يجري مع ذلك، ما أخبرنا به أبو القاسم عن العقدي عن أبي جعفر قال: أنشد جريرٌ هشام بن عبد الملك:

لقوميَ أحمي للحقيقةِ منكمُ

وأضربُ للجبّار والنقعُ ساطعُ

وأوثقُ عندَ المرْدَفاتِ عشيةً

لحاقاً إذا ما جرَّدَ السيف لامعُ

فقال هشام لم تركت نساءك حتى أردفن ؟ ألا جعلتهم كنسوة المخبل ! فما سمعنا بعربيات قط أمنع منهن حيث يقول:

وساقطةٍ كُور الخِمار حييَّةٍ

على ظهر عُرْيٍ زالَ عنها جِلالُها

تَشُدُّ يديها بالسنامِ وقد رأت

مُسومةً يأوي إليها رِعالها

نزلنا فساقينا الكُماةَ دِماءَها

سجالَ المنايا حيث تُسقى سجالُها

وأجود ما قيل في ثياب الرجال في الحرب قول الحارث بن عباد:

قَرِّبا مربطَ النعامةِ مني

لقَحَتْ حربُ وائل عن حِيالِ

قَرِّباها فإنَّ كفيَ رهنٌ

أنْ تزولَ الجبالُ قبل الرجالِ

وقد وصف الله ذلك في كتابه فقال:'إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوصٌ'. ولم يصف أحدٌ من المتقدمين والمتأخرين القتال في المراكب إلا البحتري:أخبرنا به أبو أحمد، قال: أخبرنا الصولي، قال: سمعت عبد الله بن المعتز يقول: لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية، في وصف إيوان كسرى، فليس للعرب سينية مثلها، وقصيدته في البركة:

ميلوا إلى الدارِ من ليلى نُحييها

واعتذارته في قصائده إلى الفتح، التي ليس للعرب، بعد اعتذارات النابغة إلى النعمان مثلها، وقصيدته في دينار بن عبد الله، التي وصفها فيها ما لم يصفه أحدٌ قبله، أولها:

ألم تر تغليس الربيع المبكر

ووصف حرب المراكب في البحر لكان أشعر الناس في زمانه. فكيف إذا أضيف إلى هذا، صفاء مدحه، ورقة تشبيهه. وكان كثيراً ما ينشد له ويعجب من جودته:

غدوتُ على المأمونِ صُحباً وإنما

غدا المركبُ الميمونُ تحتَ المظفَّرِ

إذا زمجرَ النوتيُّ فَوقَ عَلاَتهِ

رأيتَ خطيباً من ذُؤابةِ منبرِ

يَغضُّونَ دُونَ الاستنامِ عيونهم

وقوفَ السماطِ للعظيم المؤمَّر

إذا ما علت فيه الجَنوبُ اعتلى لَهُ

جناها عُقابٍ في السماءِ مُهجَّر

إذا ما انكفا في هَبوَةِ الماءِ خلتَهُ

تلفعَ في أثناء بُردٍ محبَّر

وحولك ركَّابونَ للهولِ عاقروا

كؤوسَ الردى من دراعينَ وحُسر

تميلُ المنايا حيثُ مالت أكفُّهم

إذا أصلتوا حدَّ الحديدِ المذكَّر

إذا رشقوا بالنارِ لم يكُ رشقُهم

ليُقلعَ إلا عن شِواءٍ مُقتّرِ

صدمتَ بهم صُهبَ العثانين دونَهمُ

ضِرابٌ كإيقاد اللظّى المستعر

كأن ضجيجَ البحرِ بينَ رماحِهم

إذا اختلفت ترجيعُ عودٍ مُجرجر

تُقاربُ من زَحفَيهم فكأنما

تؤلّفُ من أعناقِ وحشٍ منفّرِ

فما رحت حتى أجلت الحرب عن طُلىً

مقطعةٍ فيهمَ وهامٍ مُطيَّرِ

على حينَ لا نقعٌ يطوِّحُه الصَّبا

على الأرضِ يلقي للصَّريعِ المقطر

وكنتَ ابن كسرى قبلَ ذاك وبعدَهُ

ملّياً بأن تُوهي صَفَاة ابنِ قيصر

جدحتَ له الموتَ الزعافَ فعافهُ

وطار على ألواحِ شَطْبٍ مسمِّرِ

مضى وهو مولي الريحَ يشكرُ فضلها

عليه ومن يولي الصنيعة يَشكُرِ

ومن أجود ما قيل في السهم من قديم الشعر قول عنترة:

أبينا فما نُعطى السواء عدونا

قياماً بأعضادِ السراء المعطّفِ

بكلِّ هتوفٍ عجسها رَضوّية

وسهم كسيرِ الحميريِّ الموقفِ

وقال راشد بن شهاب اليشكري:

نبلٍ قران كالسيور سَلاجِمٍ

وفِلقِ هَتوف لا سقّيٍ ولا نَشَم

ومُطَّرِدِ الكعبين أحمر عانز

وذات قَتِيرٍ في مواصلها دَرَمُ

وصف النبل والقوس، والرمح والدرع، في بيتين فأحسن، والأدرم: الأملس الذي لا حجم له، والسلاجم الطوال، والسقي الذي يشرب الماء، والنشم شجرٌ. ومن أجود ما قيل في البيض من قديم الشعر قول سلامة بن جندل:

إذا ما علونا ظهرَ نشز كأنما

على الهام مناقَيْضُ بيض مفلَّقِ

وقول الآخر:

كأنّ نعام الدَّوِّ باض عليهم

ورواه بعضهم:

كأن نعاج الجو باض عليهم

فقيل له: أخطأت من وجهين: أحدهما أن النعاج لا تكون في الجو، والآخر أنها لا تبيض. ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن المعتز:

وبيضٍ كأنصاف البدورِ أبيةٍ

إذا امتحنتهنَّ السيوفُ خِيارُ

فتشبيههاً بأنصاف البدور تشبيه غريبٌ مصيبٌ:أجود ما قيل في أتباع الرجال الرئيس في الحرب قول البحتري:

حمرُ السيوفِ كأنما ضَربت لهم

أيدي القيونِ صفائحاً من عسجدِ

في فتيةٍ طلبوا غُبارك أنَّهُ

رَهجٌ ترفّعَ عن طريقِ السؤددِ

كالرمح فيه بضعُ عشرةَ فقرة

مُنقادة خلفَ السنانِ الأصيدِ

وقد أحسن ابن هرمة في قوله وهو في غير هذا المعنى:

إذا شَدُّوا عمائمهم ثنوها

على كرمٍ وإن سفروا أناروا

يبيعُ ويشتري لهمُ سواهم

ولكن في الطعانِ هُمُ التجارُ

ومن أجود ما قيل في صفة الشجاع الجواد قول الآخر:

خُلِقت أناملهُ لقائم مُرهَفٍ

ولبتِّ عارِفةٍ وذِروة مِنبَرِ

يلقى الرماحَ بوجههِ وبصدرهِ

ويُقيمُ هامتهُ مقامَ المِغفَرِ

ويقولُ للطِّرفِ اصطبر لشبا القنا

فهدمتُ رُكنَ المجدِ إن لم تعقَرِ

وإذا تأملَ شخصَ ضيقٍ مقبل

مُتسربلٍ سربال ليلٍ أغبرِ

أوما إلى الكَوْماء هذا طارقٌ

نحَرتَنيَ الأعداءُ إن لم تنحَري

ومن أبلغ ما حذر به الحرب قول بعض العجم:دافع بالحرب ما أمكن فإن النفقة في كل شيء من الأموال، إلا الحرب فإن النفقة فيها من الأرواح. وقال النابغة الجعدي:

وتستلبُ المالَ الذي كانَ رَبُّها

ضنيناً به والحربُ فيها الحرائبُ

فتبعه أبو تمام فقال:

والحربُ مشقةٌ من الحرب

وقول جذل الطعان:

دعاني أشبُّ الحرب بيني وبينهُ

فقلتُ له لا بل هَلمَّ إلى السِّلم

وإياك والحرب التي لا أديمها

صحيحٌ وما تنفكُّ تأتي على الرغم

فإن يظفرِ الحِزْبُ الذي أنتَ منهمُ

وينقلبوا ملءَ الأكفِّ من الغُنم

فلا بُدَّ من قتلي لعلك فيهمُ

وإلا فجرحٌ لا يكون على العظمِ

فلما أبى خلّيتُ فضلَ ردائهِ

عليه فلم يرجع بحزمٍ ولا عزم

وكان صريع الخيلِ أوَّلَ وَهلةٍ

فبعداً له مختارَ جهل على علمِ

ومن أجود ما قيل في تهوين الحرب والقتل، ما أنشدناه أبو أحمد في خبر أخبرناه عن الصولي، عن عبيد الله السكوني، قال: دخل محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي، على بعض أمراء الكوفة، وقد جرى عليه ظلمٌ، فلم ينصفه فخرج من عنده. وقال:

يا أيها الرجُلُ الذي بيمينه

غيثُ الزمانِ وصولةُ الحِدْثانِ

أنعم صباحاً بالسيوفِ وبالقنا

إنّ السيوفَ تحيةُ الفتيان

قد أبطرتكَ سلامةٌ فنسيتَ ما

أسلفتَ من برٍ ومن إحسانِ

والدهرُ خِدنُ مَسَّرةٍ ومضرَّةٍ

مُتقلِّبٌ بالناسِ ذو ألوانِ

يخاطب نفسه، ويأمرها بمجاهرة السلطان بالعصيان، إذ ليس عنده للظلم نكير، فيكون ذلك سبباً للحرب، فحيي بالسيوف فلا يفزع فإنها تحية الفتيان. وقال علي بن جبلة:

كأنَّ أرماحَهُ تعطي إذا عمِلت

تحتَ العجاجةِ أسماعاً وأبصارا

ومن أحسن ما قيل في تقسيم الخيل في الحرب قول النابغة: أخبرنا أبو أحمد قال: أنشدنا محمد بن يحيى، قال: أنشدنا المبرد قول النابغة، وذكر أنه أحسن ما قيل في تقسيم الخيل في الحرب:

خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ

تحت العجاجِ وخيلٌ تعلِكُ اللُّجُما

قال ثعلب: قلت لأبي الأعرابي: الصائمة التي لا تصهل وغير الصائمة التي تصهل فما هذه الأخرى ؟ قال التي تعلك اللجم في الكمين. أخذه محمد بن مسلمة البشري يصف تأديبه فرسه:

عوَّدْتهُ فيما يزور حبائبي

إمهالهُ وكذاك كلُّ مُخاطرِ

فإذا احتبى قربوسَه بعنانهِ

علكَ الشكيمَ إلى انصرافِ الزائرِ

من أجود ما قيل في ارتفاع الغبار، ولمعان الأسنة فيه، من قديم الشعر قول النابغة:

تبدو كواكبُهُ والشمسُ طالعةٌ

نوراً بنورٍ وإظلاماً بأظلامِ

قالوا أراد قول الناس: لأرينك الكواكب نهاراً، وقالوا: أراد توضح الأسنة في سواد العجاج:ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بشار:

كأن مثارَ النقعِ فوقَ رؤوسِنا

وأسيافنَا ليلٌ تَهاوى كواكُبِه

وقال النمري:

ليل من النقعِ لا شمسٌ ولا قمر

إلا جبينك والمذروبَةُ الشرُع

وقول ابن المعتز:

وعمَّ السماءَ النقعُ حتى كأنه

دخانٌ وأطرافُ الرماح شرارُ

وأبلغ ما قيل في الإقدام والاقتدار على العدو قول بعضهم:

عشيةَ كنا بالخيارِ عليهم

أنَنقصُ من أعمارهم أم نزيدها

ومن بديع المعاني في صفة اللقاء قول بعض الأعراب:

على كلِّ جرداءِ القَرى أعوجيةٍ

إذا طرَدت لم ينجُ منها طريدها

وما قادَ من قوم إلينا جيادَهم

فنلقاهمُ إلا رجعنا نقودها

وقلت في معناه:

إلى ابن الأولى شادوا المعاليَ بالظُّبى

وعَمُّوا البرايا باللُّهى والرغائبِ

إذا طلبوا رَوحَ الحياةِ وطيبها

فبين سواقٍ للردَى وحواصب

إذ البيضُ في سُودِ القساطلِ أنجمٌ

غواربُ تهوي في الطلى والغوارب

وتحملهم يومَ الكريهةِ ضُمَّرٌ

تشولُ إلى الهيجاءِ شَوْلَ العقارب

فكم وقفةٍ في الرّوعِ منهم وحملةٍ

أثارت بناتِ الحتفِ من كلِّ جانب

تَردُّ الجيادَ تحت قسطلةِ الوغى

جنائب أو تقتادُها في الجنائب

بابيض مصقولٍ كأن بحدِّه

ضرائبَ من تصميمهِ في الضرائبِ

ومن أجود ما قيل في كثرة الجيش قول الأخنس بن شهاب:

بجأواءَ ينفي وردُها سَرعانَها

كأن وميض البيض فيها كواكبُ

الجأواء: الكتيبة يضرب لونها إلى الكلفة، وذلك من صدإ الحديد، والسرعان: الأوائل، يقول: إن المياه لا تسعهم، والأمكنة تضيق بهم، فكلما نزل فرقة منهم رحل من تقدمهم. وقال أوس بن حجر:

ترى الأرضَ منا بالفضاء مريضةً

مُعضِّلةً منا بجمعٍ عرمرمِ

التعضيل: أن ينشب الولد في بطن أمه. ومثله قول النابغة:

جمعٌ يظلُّ بهِ الفضاء مُعضَّلاً

يدعُ الأكامَ كأنهنَّ صحاري

وأعجب من هذا قول زيد الخيل:

بجيشٍ تضلُّ البلقُ في حجراتهِ

ترى الأكم فيه سُجداً للحوافرِ

وجمع كمثلِ الليلِ مرتجس الوغى

كثيرٌ تواليهِ سريعُ البوادرِ

أخبرنا أبو أحمد، عن العبشمي، عن المبرد قال: يروى عن حماد الرواية قال: قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها: كم كانت خيل أبيك ؟ حيث يقول:

بجيش تضل البلق في حجراته

قال: ثلاث أفراس أحدها فرسه. قالوا: وقتلت خثعم رجلاً من بني سليم بن منصور، فقالت أخته ترثيه:

لعمري وما عمري عليّ بهّين

لنعمَ الفتى غادرتمُ آل خثعما

وكان إذا ما أوردَ الخيلَ بيشةً

إلى جنبِ أشراجِ أناخَ فألجما

فأرسلها رهواً كانَّ رِعالها

جرادٌ زَهتهُ ريحُ نجدٍ فأتهما

فقيل لها: كم كانت خيل أخيك ؟ قالت: اللهم لا أعرف إلا فرسه. قوله: تضل البلق في حجراته، غاية في صفة الكثرة، لأن البلق مشاهير، فإذا خفي مكانها في جمع، فليس وراءه في الكثرة شيء، والعرب تقول 'أشهر من فارس الأبلق'، ورؤساء العرب لا يركبون البلق في الحرب لئلا ينم عليهم فيقصدوا بشر. أخبرنا أبو أحمد، عن أبي بكر بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من بدر الموعد، لم يلق كيداً وأصحابه سبعون راكباً، وفيهم فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد، قال حسان بن ثابت:

أقمنا على الرسِّ النزوع لياليا

بأرعَن جَرارٍ عريض المباركِ

ترى العوفجَ الحوليَّ تَذري أصوله

مناسمُ أخفافِ المطيِّ الوراتكِ

إذا ارتحلوا عن منزل خلتَ أنه

قريبُ المدى بالموسم المتعاركِ

نسيرُ فلا تنجو اليعافيرُ وسطنا

وإن داءلت منا بشد مواشك

دعوا فلجاتِ الشام قد حالَ دونها

ضرابٌ كأفواهِ المطيِّ الأواركِ

بأيدي رجالٍ هاجروا نحو ربهم

وأنصاره حقاً وأيدي الملائكِ

إذا أقبل العضروط من أرضِ عالج

فقولا لهُ ليس الطريقُ هنالك

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع ويضحك. ومثل هذا في ترهيب العدو حسن. وقال أبو دعفل بن شداد الكلابي في المعنى الذي تقدم:

وأقبلَ عامرٌ من لبن سيراً

إلينا ثم أقسمَ لا يَديم

بجمعٍ تهلكُ البلقاءُ فيهِ

فتنشدُ والمفضضةُ اللطيمُ

ومن بليغ ما قاله محدث في كثرة الجيش وتكاثفه واجتماعه قول أبي نواس:

أمامَ خميسٍ أدُجوان كأنه

قميصٌ محوكٌ من قنا وجيادِ

الأدجوان: الأسود واشتقاقه من الدجى، وروي الأرجوان وهو الأحمر. وقال البحتري:

لما أتاك يقودُ جيشاً أرعناً

يمشيَ عليهِ كثافةً وجموعا

قال ابن الرومي:

فلو حصبتهم بالفضاء سحابةٌ

لظل عليهم حَصبها يتدحرجُ

وهو من قول قيس بن الخطيم:

لو أنك تُلقي حنظلاً فوقَ بيضنا

تدحرجَ عن ذي سامةِ المُتقاربِ

السام: عرق الذهب والفضة، وهو ههنا الطرائق المذهبة في البيض. وقلت:

ولقد نقودُ الخيلَ تخطرُ بالقنا

فَتَصُبُّهنَّ على العدى آجالا

ما إن يلين لها مَدىً فتخالها

تجري بطاءً إذ جَرَيْنَ عجالا

وقال أبو عمرو بن العلاء: أحسن ما قيل في صفة جيش قول النابغة:

أو يزجروا مكفهراً لا كِفاءَ له

كالليلِ يخلطُ أصراماً بأصرامِ

تبدو كواكبُهُ والشمسُ طالعةٌ

نوراً بنورٍ وإظلاماً بإظلامِ

فذكر ذلك ليونس فقال أحسن منه قول العجاج:

كأنما زهاؤهُ لمن جَهَر

ليلٌ ورز وَغْرِه إذا وغَر

سارٍ سرى من قِبَلِ العينِ فجر

والأول أحسن عندي. ومن أجود ما قيل في صفة السوط قول الشعبي:أخبرنا أبو أحمد، عن أبيه، عن عسل، قال:كان الشعبي، إذا تحدث، كأنه لم يسمع من غيره، لحلاوة منطقه، وعذوبة لفظه، فتحدث يوماً، فقال له رجلٌ كان يجالسه يقال له حنيش: اتق الله ولا تكذب، فقال له الشعبي: ما أحوجك إلى محذرع عظيم الثمرة، لين المهزة، أخذ من مغرز عنقٍ إلى عجب ذنب، فيوضع على مثل ذلك منك، فيكثر لك رقصاتك من غير جذل. قال: وما هو بأبي أنت وأمي ؟ قال: أمرٌ لك فيه أدب، ولنا فيه أربٌ. يعني السوط. ومن أحسن ما وصف به الرأس إذا حمل على القناة قول مسلم:

ويجعل الهام تيجان القنا الذُّبُلِ

مأخوذ من قول جرير:

تيجان كسرى وقيصرا

ومن أجود ما قيل في المصلوب ما أنشدنيه بعض البصريين:

أنظر إليه كَأنَّهُ في جِذعِهِ

لما توشَحِ بالجبالِ ودُرِّعا

رامٍ رمى عن قوسهِ بمذلَّقٍ

وأراد صحة رميه فتسمّعا

وهذا من أتم ما قيل فيه. ومن المستحسن فيه قول البحتري:

فَتراهَ مُطَّرداً على أعوادِهِ

مثلَ اطِّراد كواكب الجوزاءِ

وقول ابن الرومي:

يلعبُ الدستبند فرداً وإن كا

نَ لهُ شاغِلٌ عن الدستبند

وقال مسلم بن الوليد:

كأنَّهُ شِلو كبشٍ والهواءُ لهُ

تنورُ شاويةٍ والجذعُ سفّودُ

ومما يجري مع ذلك، ما أخبرنا به أبو القاسم، عن العقدي، عن أبي جعفر، عن المدائني، قال:قال أهل خراسان لوكيع: كيف قتلت ابن خازم ؟ قال: لما صرع قعدت على صدره، فحوال القيام فلم يقدر. فغلبته بفضل القنا، وقالت: يا لثارات دوبلة، فقال: لعنك الله أتقتل كبش مضر بأخيك علج، لا يساوي كف نوى ؟ وتنخم في وجهي، فما رأيت أحداً أكثر ريقاً منه. فذكر ابن هبيرة يوماً هذا الحديث فقال: هل البسالة إلا أن يكثر الريق على تلك الحال. ومن جيد ما قيل في طرائق الدم على المطعون قول أبي خراش الهذلي:

ونهنهتُ أولي القومِ عني بطعنةٍ

كأوشحةِ العذراءِ ذاتِ القلائدِ

أوشحة جمع وشاح وهو سيرٌ كأنه شراكٌ، عليه ودعٌ، فشبه لون الدم بالسير، والزبد بالودع. ومما يجري مع ذلك الحذر من الموتور. ما قلت فيه:

لا تأمننَّ أخا العداوةِ إنهُ

إنْ أمكنتهُ فرصة لم يمُهل

للهِ دَرُّكَ كيفَ تأمن محنِقاً

تغلى عداوةٌ صدرهِ في مِرجلِ

وما الحزمُ إلا في اجتثاثِ أصُولهِ

والأيمُ لم يؤمن إذا لم يقتلِ

ومن الجيد مما قيل في سعة الطعنة قول بشر:

إذا نفذتهم كرت عليهم

بطعنٍ مثال أفواه الخبورِ

الخبر المزادة والجمع خبور. وقال عمرو بن شاس:

بطعن كايزاغ المخاضِ إذا اتقت

وضربٍ كأفواهِ المفرجة الهدلِ

شبه اللحم الذي يتدلى من فم الجرح، بمشفر البعير، الذي به قروح في فمه فيهدل لها مشفرة. وقال عمرو بن شأس أيضاً:

وأسيافنا آثارهنَّ كأنها

مشافر قرحى في مباركها هُدلُ

وقال غيره:

بضربٍ كآذانِ الفراءِ فضولهُ

وطعن كايزاغ المخاض تبورها

الفراء: جمع الفرا وهو حمار الوحش. وقال خلف الأحمر:

وأطعن الشجساجة المشلشله

على غشاش دَهَش وعجله

يردُّ في نحرِ الطبيبِ فتله

أي يسح الدم، ويشلشله، يفرقه. وقال خداش بن زهير:

وطعنةِ خلس كفرع الأزاء

أفرغ في مثعبِ الحائرِ

تهالُ العوائدُ من فرغها

تَردُّ السبار على السابرِ

السبار: الشيء الذي تسير به الطعنة، أي تقدر والسابر الذي يسبرها، والحاير: المطمئن من الأرض المرتفع الحروف والجمع حوران، والمثعب: مسيل الماء. هذا آخر صفة الحرب والسلاح، وما يجري معهما، والحمد لله حق حمده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبة الطاهرية وعلى الخلفاء الراشدين. ^

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي قسم البيان، بين القلم واللسان، لتكون النعمة فيه مشتركة بين الغائب والحاضر، والمقيم والمسافر، إتماماً للنعمة على عباده، وإكمالاً للعارفة في عمارة بلاده، ودل على موضع الصنيعة في البيان، ونبه على موضع العارفة في اللسان، حيث يقول تعالى: 'الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان' وأخبر عن عظيم قدر القلم، وما تضمن من سوابغ النعم، حيث يقول تعالى: 'إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم' وأعلى قدره، وفخم أمره، حين أقسم به على أجل أمرٍ وأنبله، وأشرفه وأفضله، فقال: 'ن والقلم وما يسطرون' فسبحان من جعل جلائل النعم، وسوابغ الآلاء والقسم، في شخص ضيئل، وقد قصير، تقل قيمته، وتصغر قمته، مع جلالة شأنه، وعلو مكانه.

هذا كتاب المبالغة

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي