ديوان المعاني/أحسن ما قيل في بياض الثغر

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أحسن ما قيل في بياض الثغر

أحسن ما قيل في بياض الثغر - ديوان المعاني

أحسن ما قيل في بياض الثغر

قول البحتري أيضاً:

ويرجعُ الليلُ مبيضاً إذا ضحكتْ

عن أبيضٍ خضلِ السمطين وضاحِ

فجعله يجلو الظلام لبياضه، وذكر كثيرة الريق، فقال: خضل لأن قلة الريق تورث تغير الفم، وذكر حسن تنضيد الثغر فجعله سمطين. فلا يرى في هذا المعنى أجمع من هذا البيت. وقد أحسن ابن طباطبا:

ثغرُهُ عندَ سرده

كالعناب المزردِ

مثل دُرٍّ منظمٍ

بين درٍ منضد

وقد أحسن البحتري وابلغ في قوله:

وأرتنا خّداً يراح لهُ الور

دُ ويشتمهُ جنى التفاحُ

وشتيتاً بغضُّ لؤلؤ النظ

م ويُزري على شتيت الأقاحي

فأضاءَت تحت الدُّجنة للشر

بِ وكادتْ تضيءُ للمصباح

وأشارتْ إلى الغناء بألحا

ظٍ مراضٍ من التصابي صحاح

فطربنا لهنَّ قبل المثاني

وسكرنا منهنَّ قبل الرّاحِ

وتدير الجفون من عدم الأل

باب ما لا يَدُورُ في الأقداحِ

وقلت:

مخضبة الأطراف تحسب أنها

أساريع في أفواههنَّ عقيقُ

دهاني منها نرجسٌ يرشق الحشا

وهل نرجسٌ يا للرجالِ رشوق

ومبتسمٌ عذْبُ المذاقة مونق

تجمعَ فيهِ لؤلؤٌ ورحيقُ

وقلت لبعض البغداديين: ما أحسن ما قيل في طيب النكهة والريق وحسن الثغر ؟ فقال قول ابن الرومي:

وقبَلتُ أفواهاً عذاباً كأنها

ينابيعُ خمرٍ خضّبتْ لؤلؤ البحرِ

فقلت: إلا أن قوله لؤلؤ البحر فضل لا يحتاج إليه، لأن اللؤلؤ لا يكون إلا في البحر، ولو كان في غير البحر لؤلؤ فليس لنسبته إليه فائدة. وقد أحسن ابن الرومي في وصف طيب النكهة فقال:

وما تعتريها آفةٌ بشرية

من النوم إلا أنها تتخترُ

كذلك أنفاسُ الرِّياض بسحرة

تطيبُ وأنفاسُ الأنام تغيرُ

هذا التمثيل مليح جداً. وأجود ما قيل في الريق أيضاً قوله:

يا رُبَّ ريقٍ بَدرُ الدُّجى

يمجُّهُ بينَ ثناياكا

يروي ولا ينهاكَ عن شربهِ

والماءُ يرويك وينهاكا

ولا أعرف لهذا البين نظيراً في معناه. وقد سبق ابن الرومي إلى قوله:

سقتهُ ابنةُ العمريِّ من خمرِ عينها

ووجنتهِا كأساً يميتُ ويدنفُ

فقالَ امزجيها بالرُّضابِ لعلهُ

يسكنُ من خمر الهوى ويخففُ

فصدَّتْ ملياً ثم جادَتْ بريقةٍ

يزيد بها سكرُ المحبِّ ويضعفُ

فراح بضعفي سكره من مزاجها

وقد يسأل العدل الولاة فيسعفُ

فهل من مزاج زاد في سكر شاربٍ

سوى ريقِ ذاتِ الخال أم أنت تعرفُ

وقال:

مَزَجت خمرة عينيها بريقتها

كيما تكفكفُ عني من حمياها

فاشتد إسكارها إياي إذ مُزِجَتْ

ومَزْجُك الكأس ينهى عنك طغياها

وأخبرنا أبو أحمد عن يحيى، عن الرياشي، قال: قال الأصمعي: أحسن ما قيل في الثغر قول ذي الرمة:

وتجلو بفرعٍ من أراك كأنهُ

من العنبر الهنديِّ والمسك ينفحُ

ذُرى أقحوانٍ واجه الليل وارتقى

إليهِ الندى غاديه والمتروَح

وقد أحسن ديك الجن في قوله:

وقهوة كوكبها يُزْهِرُ

ينفحُ من خدِّهِ المِسكُ والعنبرُ

وردية يحتثها أحور

كأنها من خدِّهِ تُعصرُ

مهفهف لم يبتسم ضاحكا

مذْ كانَ إلا كنبيذ الجوهر

وقد جمع كشاجم فأحسن في قوله:

البدرُ لا يغنيك عنها إذا

غابتْ وتغنيك عن البدر

في فمها مسكٌ ومشمولةٌ

صرفٌ ومنظومٌ من الدُّرِّ

فالمسكُ للنكهةِ والخمرُ لل

رّيقةِ واللؤلؤ للثغرِ

جمع ثم قسم تقسيماً صحيحاً، ولم يترك مزيداً. ومن البارع المشهور في هذا المعنى قول الصنوبري:

تلك الثنايا من عقدها نظمتْ

أم نظمَ العقدُ من ثناياها

وقال غيره وأحسن التقسيم:

وثنايا وريقة كغديرِ

وعقارِ وروضةٍ من أقاح

قال ابن المعتز:

مشربٌ عذبٌ مشارعه

جامدٌ وفي خَمره بَردُ

وقال:

قلتُ للكأسِ وهو يَكرَعُ منها

ذَقتَ منه واللَّهِ أطيبَ منكِ

وقال:

يا سرُّ إن أنكرتني فلكم

ليلٍ رأتك مَعي كواكبُهْ

بأبي حَبيبٌ كنتُ أعهدُه

لي واصلاً فازورَّ جانبه

عَبِقُ الكلامِ بمسكة نفحَتْ

من فيه ترضى من يُعاتبه

وقد أحسن أبو تمام في قوله:

تعطيك منطقَها فتعلم أنه

يجنى عذوبتِه يمرُّ بثغرِها

وهو من قول بشار:

يا أطيبَ الناس ريقاً غيرَ مُختَبرٍ

إلا شهادةُ أطرافِ المساويكِ

وقل بشار من قول قيس:

كأنَّ على أنيابها الخمر شجّما

بماء الندى من آخرِ الليل غابق

وما ذقتُه إلا بعيني تفرُّساً

كما شيمَ من أعلى السحابة بارقُ

ومثله قول الآخر:

وتبسم عن ألمى اللثات مفلج

خليق الثنايا بالعذوبة والبردِ

وقال ابن الرومي:

بدا لي وميضٌ مؤذنٌ أنّ صوبَه

عريضٌ وما عندي سوى ذاك مخبرُ

وما ذقتهُ إلا لشيم ابتسامها

فكم مَخبرٍ يبديه للعينِ منظرُ

وقال عمارة بن عقيل:

كأنَّ على أنيابها مبيتُ الكرى

وقيعه يردى تهلل في تعب

تأمل عين لا تقيل إذا ارتأت

وقلب وما أنباك أشعر من قلبِ

وقال آخر وأحسن:

بأبي فمٌ شهدَ المحب له

قبلَ المذاقِ بأنه عَذب

كشهادةٍ لله خالصة

قبلَ العيانِ بأنه ربُّ

وقلت في معنى الأول:

قول لما لاح من خدرهِ

والليلُ يرخي الفضل من سترهِ

بدرهُ أحسنُ من وجههِ

أم وجههُ أحسنُ من بدرهِ

د مالت الرّقةُ في شطرهِ

ومالت الغلظةُ في شطره

أزرهُ غصتْ بأردافه

ووشحه جالت على خصره

صبحتُ لا أدري وإن لمْ يكنْ

في الأرض شيءٌ أنا لم أدرهِ

شعرهُ أحسنُ من وجههِ

أمْ وجههُ أحسنُ من شعره

درُّه يؤخذُ من لفظهِ

أم لفظهُ يؤخذُ من درِّهِ

ثغرُهُ ينظمُ من عقدهِ

أم عقدُه ينظمُ من ثغرهِ

من عذير الصبِّ من صدِّهِ

ومن يجيرُ القلب من هجرهِ

ا ليته يَعرِفُ حُبي لهُ

عساه يجزيني على قَدْرهِ

أحسن ما قيل في حديث النساء قول القطامي:

هنَّ ينبذن من قولٍ يصبنَ به

مواقعَ الماءِ من ذي الغلةِ الصادي

هي الدُّرُّ منثوراً إذا ما تكلمتْ

وكالدُّرِّ منظوماً إذا لم تكلمِ

تعبّدُ أحرارِ القلوب بدلها

وتملأ عينَ الناظرِ المتوسمِ

وقد أحسن ابن المعتز غاية الإحسان في قوله:

لعمرك ما أجدى هواك سوى المنى

عليّ وما ألقاك إلا كما أخلو

ثم قال:

وشر أحاديث عذاب لو أنها

جنى النحلِ لم يمججْ حلاوتَها النحلُ

الناس كلهم شبهوا حلاوة الحديث بحلاوة العسل، وزاد ابن المعتز هذه الزيادة فأحسن:

وحديثها السحرُ الحلال لو أنه

لم يجن قتل المسلم المتحرزِ

إنْ طالَ لم يُملل وإنْ هي أوجزَت

وَدَّ المحدَّثُ أنها لم توجِز

شرك القلوب وفتنة ما مثلها

للمطمئنِّ وعقلة المستوفز

ومن جيد ما قيل في الحديث ومشهوره قول ابن الرومي:

ولقد سئمتُ مآربي

فكأنَّ أطيبَها خبيثْ

إلا الحديثَ فإنهُ

مثل اسمهِ أبداً حديثْ

وقلت:

وحديثُ الرِّجال روْضةُ أنسٍ

باتَ يرعاهُ أهلُ نُبلٍ وسرو

ومن جيد ما قيل في الحياء: ما أخبرني به عم أبي، قال: قال أبو العباس، الفضل ابن محمد اليزيدي، قال: قال الهيثم: قال لنا صالح بن حسان يوماً هل تعرفون بيتاً شريفاً في امرأة خفرة ؟ قلنا نعم بيت حاتم إذ يقول:

يضيءُ بها البيتُ القليل خصاصه

إذا هي ليلاً حاولتْ أن تبسما

قال لم يصف شيئاً، قلنا فبيت الأعشي:

كأنَّ مشيتها من بيتِ جارتها

مرُّ السحابةِ لا ريثٌ ولا عجل

قال قد جعلها خرجت وهذا ضد الخفر، قلنا فهات ما عندك قال: قول أبي قيس بن الأسلت:

ويكرِمُها جاراتها فيزُرنها

وتعتلُّ عن إتيانهنَّ فتعتذرُ

أجود ما قيل في العناق قول بكر بن خارجة:

إني رأيتك في نومٍ تعانقني

كما تعانقُ لامُ الكاتبِ الألفا

وهذا من المقلوب، لأن الألف تعانق اللام، ويجوز أن يحتج له بأن يقال الألف لا تعانق اللام إلا واللام معانقة لها. ومن أطرف ما قيل في ذلك قول ابن معتز:

كأنني عانقتُ رَيحانةً

تنفّستْ في ليلهِا البارِدِ

فلو ترانا في قميصِ الدُّجَى

حسبتَنا من جسدٍ واحدِ

وقلت في نحو ذلك:

ونحن نظمٌ في الهوَى واحدٌ

كأننا عِقدانِ في نحرِ

وقال التنوخي:

لله أيامٌ مَضينَ قطعتها

وطوالها بالقاصراتِ قصارُ

أخلو النهارَ على النهار وأنثني

والشمسُ لي دونَ الشعار شعارُ

خَدَّاهُ وَرْدٌ والنواظرُ نرجسٌ

والثغر سوسنُ والرضابُ عُقار

حتى إذا ما الليلُ أقبلَ ضمنا

دُونَ الإزارِ من العناقِ إزار

فعلى النحورِ من النحور قلادَةٌ

وعلى الخدود من الخدود خمارُ

وقد أحسن وطرف إلا أنه أخذ قوله من العناق إزار من قول ابن الرومي:

طالما التفّضتْ إلى الصب

ح لنا ساقٌ بساقِ

في قِناعٍ منْ لثامٍ

وإزارٍ منْ عِناقِ

وأنشد أبو أحمد، عن الصولي: عن أحمد بن سعيد لابن عيد، كأنه الكاتب:

وكلانا مُرتَدٍ صاحبَهُ

كارتداءِ السيفِ في يوم الوغى

بخدودٍ شافياتٍ من جوى

وشفاهٍ مُروِياتٍ من ظما

نتساقى الريقَ فيما بيننا

زق أمات القطا زغبَ القطا

أحسن ما قيل في الشعور من الشعر القديم قول الأعشي:

فأفضيت منها إلى جنةٍ

تدَلتْ عليَّ عناقيدُها

ليس لأشعار المتقدمين نظير، وكان بشار يتعجب من حسنه ويقدمه على جميع ما قيل في الشعر. وقد أحسن القائل:

بيضاء تسحبُ من قيام فرعها

وتغيبُ فيه وهو جثلٌ أسحمُ

وكأنها فيهِ نهارٌ ساطعٌ

وكأنه ليلٌ عليها مظلم

أخذه بعضهم فقال وأحسن:

نشرَت عليَّ ذوائباً من شعرها

حذَرَ الكواشح والعدوِّ المحنقِ

كأنني وكأنها وكأنهُ

صبحانِ باتا تحتَ ليلٍ مطبق

وقد أحسن السري القول في سواد الشعر مع أوصاف أخر وهو قوله:

صقولةٌ بسنى الصباحِ وجوهَها

مصبوغةٌ بدُجى الظلام طرارُها

أغصانُ بانٍ أبدعتْ في حملها

فغرائبُ الوردِ الجنيّ ثمارُها

طالتْ ليالي الحبِّ بعد فراقها

وأحبهنَّ إلى المحبِّ قصارُها

ولرُبِّ ليلاتٍ بهنَّ تفرَّجتْ

أسدانُها وتأرَّجتْ أسحارُها

ما كانَ ذاك العيشُ إلا سكرةً

رَحلتْ لذاذتُها وحلَّ خمارُها

وقال ديك الجن:

أنظر إلى شمسِ القصورِ وبدرِها

وإلى خزاماها وبهجةِ زهرِها

لم يبلُ عينك أبيضاً في أسودٍ

جمعَ الجمالَ كوجهِها في شعرِها

وقال أبو تمام:

بيضاء تسحبُ شعرَها من وجهِها

في حسنهِ أو وجهَها من شعرِها

وقال أبو النواس:

وسالتْ من عقيصتها

سلاسلُ كُسّرتُ حَلَقا

وقال آخر:

سيقربُ منك الردى عنوةً

إذا ما نأتْ عنك أحمالُهْ

فهل أنتَ باك على أثره

وهل تشجينك أطلاله

سيكثرُ من بعدِ ترحالهِ

توَجُّعُ صبٍّ وإعواله

بنفسي الذي قلقتْ وشحه

وضاقَ بما فيه خلخالُهْ

يريك الحنادسَ إدبارهُ

ويبدي لك الصبحَ إقباله

مليحُ الدَّلالِ قليلُ النوالِ

جميلٌ وإنْ قلّ إجمالُهْ

وقلت:

رخيمٌ فاترُ اللحظ

رشيقٌ مُخطفُ الخصرِ

وقد عُممَ بالليل

وقد قنعَ بالفجرِ

وما ينفعني حسن

ك يا أحسن من بدرِ

إذا كان نصيبي من

ك طول البينِ والهجرِ

وقال كشاجم:

بالله يا متفرداً في حسنه

ومقلتا هروت بين محاجرِهُ

ومحكماً أردافهُ في خصره

ومصافحاً خلخالَهُ بضفائره

ويكاتمُ الاسرار حتى إنه

ليصونها من أنْ تَمرَّ بخاطره

لا تغضبن على فتى يرضى بما

أوليتهُ انتعلتَ بناظرِهْ

أخذ قوله:

ومصافحاً خلخاله بضفائره

من قول أبي النواس:

باتوا وفيهم شموسٌ دجن

ينعلُ أقدامها القرونُ

تعومُ أعجازُهنَّ عوماً

وتنثني فوقها المتونُ

غريبُ شكل بديع حسن

أفردهُ المثلُ والقرينُ

بانوا بروحي فصرتُ وقفاً

لا بي حَراكٌ ولا سكونُ

وقال نصر بن أحمد:

سلسلَ الشعرُ فوقَ وجهٍ فحاكى

ظلمةَ الليلِ فَوْقَ ضَوءِ الصباح

وقال السري:

قصرتْ ليلةُ الخورنقِ حسناً

والليالي الطوالُ فيه قصارُ

إذ وجوهُ الأنام فيه رياضٌ

ومياهُ السرورِ في غمارُ

وجناتٌ تحيرَ الوَردُ فيها

وثغورٌ جرتْ عليها العقار

فضحاهُ من الذّوائبِ ليلٌ

ودُجاه من الخدودِ نهار

وقال:

ومالت غصونٌ طوقتْها مناطقٌ

ولاحتْ شموسٌ توّجتْها حنادْس

وقلت:

وذي غنج يأوي إلى فرعه الدُّجى

ولكنها عن وجهه تتفرَّجُ

ففيه ظلام بالصباح معمم

وفه صباحٌ بالظلامِ متوَّجُ

يروق سُليمى منك جَعد مسلسلٌ

ويسليك منها أقحوانٌ مفلّجُ

وفرعُك من صبغ الشباب ممسكٌ

وخدُّك من ماء الجمال مضرّجُ

ووجهُك مثلُ الروض يغسلُه الحيا

تمشطهُ أيدي الرياح فيبهجُ

أبلغ ما قل في صفة الأصداغ والعذار: فمن بديع ما قيل في الصدغ قول ابن المعتز:

له طرة كجناحِ الغُدافِ

تلوحُ على غمرة مقمرة

وفي عطفةِ الصدغِ خالٌ له

كما استلبَ الصولجانُ الكرة

وكأنَّ عقربَ صدغه وقفتْ

لما دنتْ من نارِ وجنتهْ

وقوله:

غُلالة خَدِّه وردٌ جنيّ

ونونُ الصّدغ منقوطٌ بخالِ

وقوله:

وكأنَّ دارةَ صدغهِ وعذارهِ

ألفٌ تقوم تحتَ نون تغطف

وقال ديك الجن:

فقام مختلفاً كالبدرِ مطلِفاً

والخشف ملتفتاً والغصن منقطفا

رقّتْ غلالةُ خدّيه فلو رُميا

باللحْظِ أو بالمنى بأن يكفا

كأنَّ لاماً أُديرتْ فوقَ وجنتِه

واختطَّ كاتبُها من تحتها ألفا

وقلت:

إذا التوى الصدغ فوق وجنته

رأيتَ تفاحةً بها عضّه

وقلت:

الغيمُ بين ممسّك ومكفّر

والرَّوضُ بين مجدّدٍ ومدبّجِ

فإذا شربتَ فمنْ رحيقٍ سلسل

وإذا رشفتَ فمن شتيت أفلجِ

من ريقٍ أهيفَ كالقضيبِ مخضراً

أو كفِّ أبلج كالصباحِ الأبلجِ

فإذا جلا لك غرَّة في طرَّة

ألوى بقلبك أبلج في أدعج

فانظر عناقَ ممسك لمكفر

يجلوه حسنُ مفلّج ومضرّج

وإذا تعانَق خدُّهُ وعِذارُهُ

فانظر عِناقَ عقائق وبنفسجِ

وقال آخر:

عجبي لخضرة زَعفران عذارِه

ومن العجائب زعفرانٌ أخضرُ

وقال ابن معتز:

من كفِّ ريم تثنى مناطقهُ

على هضيم الكشحين ممشوق

يعطيك ما شاء من معانقة

مقفلة من وراء معشوقِ

مسطرُ الخدِّ بالعذارِ ولا

يحسنُ غصنٌ إلا بتوْرِيقِ

وقلت:

له وجنتا وَرْدٍ وعينا غزالةٍ

وغُرَّة إصباح وطُّرة غيهبِ

وصدغٌ يناجي الأذنَ وهو مُعقرَبٌ

وطوراً يناغي الخدَّ غير مُعقربِ

له من ظلام اللِيل أحسنُ ملبسٍ

وفوقَ ضياء الصبح أحسنُ ملعبِ

وقال الصنوبري:

تلك طرارٌ عليك أمْ حلقٌ

زانك صدغانِ أم هما زردُ

وقلت:

يفتنُ القلبَ بخدٍّ

لم يدَعْ للوَرْد قدرا

مثلما تكتبُ بالمس

ك على الكافورِ سطرا

وعذار يسحرُ الصبَّ

وما يعرفُ سحرا

وبصدغ دارَ في الخدِّ

كما تعقدُ عشرا

كلما أظلم ليلي

كان لي وجهك فجرا

وقال ابن معتز:

لعمرُك ما أزْرَتْ بيوسفَ لحيةٌ

ولكنّه قد زاد حُسناً وأُضعِفا

فلا تعتذر من حبهِ في التحائهِ

فما يحسنُ الدينارُ إلا مسيفا

وقال في خضرة الشارب:

تَبسَّمَ إذ مازَحتُهُ فكأنما

تكشفَ عن دُرٍّ حجابَ زبرجدِ

وقال بعض المتأخرين وأحسن:

ومُعذَّرين كأنَّ نبتَ خدُودهم

أقلامُ مسك تستمدُّ خلوقا

قرنوا البنفسجَ بالشقيقِ ونظموا

تحت الزَّبرْجَدِ لؤلؤاً وعقيقا

وقلت:

وعانقت حلق من صدغه حلقا

كالعين في العين أو كالجيم في الجيم

وقلت وليس من هذا الباب:

كأنما النور مضحكٌ يقق

وعطفةُ الغصن شاربٌ خضرُ

وقلت:

وترى النوُرَ مثلَ مضحك خُوْد

وترى الغصنَ مثلَ شارِبِ أمرد

ولعبد الرحمن السيلي رجل من أهل خراسان:

وشادن سائقات الشعر قد سلكتْ

في عارضيهِ على جهدٍ بها طرقا

هذا البيت متكلف جداً:

لما رأتْ أنها قد أخطأت وجَنتْ

ولَّتْ تَعودُ فدارَت كلها حلقا

وهو مأخوذ من قول كشاجم:

علم الشعر الذي عاجلهُ

أنَّه جار عليهِ فوقف

فقال هذا وقف وقال عبد الرحمن دارت حلقا الفرق بينهما هذا. وقلت:

لا والذي دار من صدغيك وانعطفا

وصار نوناً إذا صيرتهُ ألفا

ما كنتُ إذ خنتني إلا أخا ثقةٍ

لم تستعضْ منهُ إذ ضيعتهُ خلفا

لم أسبق لمعنى البيت الأول:وقلت:

قد التوى صدغُه واختطَّ عارضهُ

كأنَّهُ ألفٌ من فوْقه نونُ

وقلت أيضاً ولم أسبق إلى معناه:

ومغنج قالَ الكمالَ لوجهه

كنْ مجمعاً للطيباتِ فكانَهُ

زعمَ البنفسجٌ أنه كعذارِهِ

حسناً فسلوا من قفاهُ لسانَهُ

أعني الهنة النابتة تحت ورقة البنفسج:وقلت:

بنفسجُ عارضه ينثني

إلى حمرةٍ من وجنتيه

فيجعلُ قلبيَ في كفه

يسيءُ إليهِ ويعدو عليه

وقال ابن المعتز:

والصدغُ فَوقَ العِذار منكسرٌ

كصولجانٍ يرد ضربتَهْ

وقال:

وصدغه كالصولجان المنكسر

أجود ما قيل في حسن القد، ورقة الخصر، وكبر العجيزة:أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا أبي، عن عسل بن ذكوان، وأخبرنا به أبو علي بن أبي حفص، عن جعفر بن محمد العسكري، عن بعض رجاله قال: قال أبو عمرو بن العلاء لأصحابه أنشدوني أحسن ما قيل في حسن القد، وعظم العجيزة، فأنشده بعضهم قول علقمة:

صِفر الوشاحين ملءُ الدّرعِ بهنكةٌ

كأنّها رشأٌ في البيتِ ملزومُ

قال: لم تأت بشيء، فأنشد بيت ذي الرمة:

ترى خلفها نصفاً قناة قويمة

ونصفاً نقا يرتَج أو يتمرمرُ

وأنشد بيت الأعشى:

صِفر الوشاحين ملءُ الدِّرع بهنكةٌ

إذا تمشتْ يكادُ الخصرُ ينْحَوِلُ

وأنشد بيت ذي الرمة:

عجزاءُ ممكورةٌ خمصانةٌ قلقٌ

عنها الوشاح وتمَّ الجسمُ والقصبُ

فقال أحسن من هذا كله قول الحارث:

غرثان سمط وشاحها قلقٌ

شبعان من أردافِها المرطُ

قال أبو هلال أخذه عبد الله بن عبد الله بن طاهر فقال:

سلمى وما سلمى تفوق المنى

والوصف أنواعاً وألوانا

وشاحها يحسدُ خلخالها

كجائع يحسدُ شبعانا

نقله إلى وصف الساق، وأخذه ابن المعتز بلفظه ومعناه فقال:

وظباءٌ غرائرُ

مشبعات المأزِر

ومن البديع قول أبي نواس:

وريّان من ماءِ الشبابِ كأنهُ

يظمأ من ضُمرِ الحشا ويجاع

أخذه الآخر فقال:

ظبيٌ كأنَّ بخصرهِ

من ضمرهِ ظمأ وجوعا

وقلت:

وقد نقطن أذقانا

كشمامِات كافورِ

وقد شَدَّتْ زنانيراً

على مثل الزنانيرِ

وقد أحسن ابن المعتز حيث يقول:

وتحت زنانير شددنَ عقودها

زنانير عكان معاقدها السُّرُرُ

وقال مؤمل وأفرط:

من رأى مثلَ حِبتي

تشبهُ البدرَ إذ بدا

تدخلُ اليومَ ثم تد

خلُ أردافها غدا

وأنشد أبو أحمد قال أنشدني أبو بكر بن دريد:

قد قلتُ لما مرَّ يخطو ماشياً

والرِّدفُ يجذبُ خصرهُ من خلفه

يا منْ يُسلمُ خَصرهُ من ردفه

سلمْ فؤادَ محبهِ من طرفه

وقد أحسن القائل في وصف لين القوام والترنح:

ممن له حسن الرحيق وطيبه

ومزاج شاربه ومشى نريبه

وقلت:

لا والظباء الآنسات إذا رَنتْ

فافتنّ حسنُ عُيونهنَّ فتونا

إنْ لُحنَ لُحنَ كواكباً أو نُحنَ نح

نَ لطائماً أو مِلنَ ملنَ غصونا

ويدرن من مُقَلِ إليك فواترٍ

يكسينَ قلبكَ بالفتورِ فتونا

ما خنتُ عهدَ هوىً عليك وقفتهُ

وأخو المروءَةِ لا يكونُ خَؤونا

وقبل هذا:

مترجرجُ الأردافِ مضطمرُ الحشا

لدنُ القوامِ يكادُ يعقد لينا

دأبَ النعيمُ له فأثمرَ صدرُهُ

ثمراً إذا جلتْ الثمار حلينا

يقال حلا الشيء في الفم وحلى في القلب. وكتبت في فصل لي: والله يعلم أني أخدمه بالضمير خدمة، لو تصورت له لرآها الرائي ممطوراً، ووشياً منثوراً، ولؤلؤاً منظوماً ومنثوراً، بل لأبصر أعطاف الفتيان تتثنى تثني الأغصان في قراطق الحبير، ومن زبرات الديباج والحرير، وقد اطلعت أزرارهم بواهر الأقمار، مطرفة بعقارب الاصداغ، وحلق الأطرار، فأقبلوا يسفرون عن غرة الصباح، ويبسمون عن حباب الراح، ويمزجون الدلال بخجل، أسأرء فيهم الوصال فإذا حضروا وكلوا الأبصار، وإذا غابوا استوهبوا القلوب والأفكار، فهم الداء والدواء ومنهم السقم والشفاء. ومن الإفراط في ذكر الغيد وهو لين القامة قول ماني:

أتمنى الذي إذا أنا أومأ

تُ إليه بطرفِ عيني عيني تجّنى

أهيفٌ كالقضيبِ لو أنَّ ريحاً

حَرَّكتْ هدبَ ثوبه لتثنَّى

وأجود ما قيل في النهود وعظم العجيزة قول الأعرابي: بيضاء جعدة لا يمس الثوب منها، إلا مشاشة كتفيها، وحلمتي ثدييها. أخذه الشاعر فقال: أو أخذه الأعرابي من الشاعر:

أبت الرَّوادفٌ والثديُّ لقمصِها

مَسَّ البطونِ وأن تمسَّ ظهورا

وإذا الرَّياحُ مع العشيِّ تَناوَحَتْ

نَبهنَ حاسِدَةً وهجنَ غيورا

وقلت:

تمشي بأردافٍ أبيْنَ قعودَها

بينَ النساءِ كما أبينَ قيامها

وقال ابن المعتز في النهود:

يا غُصُناً إنْ هزَّة مشيُهُ

خَشِيتُ أنْ يَسقُطَ رُمَّانُهُ

إرحَم مَليكاً صارَ مستَعبداً

قد ذَلَّ في حُبِّكَ سُلطانهُ

وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد، عن العكلي عن ابن خالد، عن الهيثم بن عدي، قال: قعد أعرابي إلى جانب دار إسماعيل بن علي بالكوفة، فخرجت جارية فطفق الأعرابي ينظر إليها، فقال له رجل: ما نظرك إلى شيء غيرك ؟ أقبل على شأنك واصبر، والجارية تسمع فقال الأعرابي ربلات تصطك، وغصن يهتز وثدي يخرق إهابه وتقول اصطبر، فضحكت الجارية، وقالت: والله ما مدحني أحد مثل ما مدحتني به. فقال: بأبي أنت وأمي، إن الهوى يظهر جيد القول، ويبدي المستتر الكامن، وإنك لمما يكنى عنه. الربلات: مجامع الفخذين ؟وقلت:

أيا وَرداً على غصن

بكرِّ اللحظ يلقطه

ورماناً على فنن

يكادُ المشيُ يسقطهُ

أتى والبدرُ يحسدُهُ

وشمسُ الدُّجن تغبطهُ

وخوفُ الناس يقبضهُ

وحبُّ الوصل يبسطهُ

وأحسن ما قيل في الثدي:

قبيحٌ بمثلكِ أنْ تَهجري

وأقبح من ذاك أن تُهجري

أقاتلتي بفتورِ الجفونِ

ورُمَّانتينِ على منبرِ

كحقين من لبّ كافورَةٍ

برأسيهما نقطتا عنبر

والناس يستسنون قول مسلم بن الوليد:

فأقسمت أنسى الدَّاعياتِ إلى الصبا

وقد فاجأتْها العينُ والستر واقعُ

فغطتْ بكفيها ثمارَ نحورها

كأيدي الأساري أثقلتها الجوامع

وهو حسن جداً ومثله قول النمري:

أعميرُ كيفَ بحاجةٍ

طُلبتْ إلى صُمِّ الصُّخورِ

لله دَرُّ عِداتكم

كيفَ انتسبنَ إلى الغُرورِ

ولقد تبيتُ أناملي

تجنينَ رُمّانَ الصدورِ

وقال علي بن الجهم:

شاخصٌ في الصدر غضبان على

قَببِ البطنِ وطيِّ العُكَنِ

يملأ الكفَّ ولا يفضلهُ

وإذا أثنيته لا ينثني

وقد طرف ابن الرومي في قوله:

صدورٌ فوقهنَّ حِقاق عاجٍ

وحَليٌ زانُه حسنُ اتساقِ

يقول القائلونَ إذا رأوها

أهذا الحلي من هذي الحقاقِ

أجود ما قيل في الخضاب بأنامل المرأة، من قديم الشعر، قول الأسود بن يعفر:

يسعى بها ذو تُؤمتين مُقرطقٌ

قَتأتْ أنامِلهُ من الفرْصَادِ

فأخذ المحدثون ذلك، وتصرفوا فيه فمن أحسن ذلك قول أبي نواس:

يا قمراً أبصرتُ في مأتم

يندبُ شجواً بين أترابِ

يبكي فيلقي الدُرّ من نرجسٍ

ويلطمُ الوَرْدَ بعنابٍ

وقال ديك الجن:

ودعتُها لفراقٍ فاشتكتْ كبدي

وشبكتْ يدَها من لوعةٍ بيدي

وحاذرتُ أعينَ الواشينَ وانصرفَتْ

تعضُّ من غيظها العَّنابَ بالبردِ

فكانَ أوَّلَ عهدِ العينِ يومَ نأتْ

بالدَّمعِ آخرُ عهدِ القلبِ بالجلد

ومن البديع في هذا المعنى قول الآخر:

قالوا الرَّحيل فأسرَعَتْ أطرافها

في خَدِّها وقد اكتسينَ خضابا

فاخضرَّ موضعُ كفِّها فكأنما

غَرسَتْ بأرض بنفسج عُنابا

وقال الناشىء وهو أحسن الواصفين لهذا المعنى:

من كفِّ جاريةٍ كأنَّ بنانَها

من فضةٍ قد طرّفتْ عُنّابا

وكأنَّ يمناها إذا نطقتْ به

يلقى على يدها الشمالِ حسابا

وقال أيضاً:

لنا قينةٌ ترنو بناظرتينِ

بما في قلوبِ الناسِ عالمتين

تخالُ تطاريف الخضابِ بكفها

فصوصَ عقيقٍ فوق قضب لجينِ

وقال:

متعاشقان مكاتمان هواهما

قد نامَ بينهما العتابُ فطابا

يتناقلان اللحظَ من جفنيهما

فكأنما يتدارسان كتابا

وإذا هَدَت عينُ الرَّقيب تخالست

كفاهما خلس السلام سلابا

بأنامل منه يلوحُ مدادها

وأنامل منها كسينَ خضابا

فكأنما يجني لها من كفه

عنباً وتجنيهِ لهُ عنابا

يذكر أثر المداد بأنامله أثر الخضاب بأناملها. وقلت:

انظر إلى النقش من أطرافها البضه

مثل البنفسج منثوراً على فضهْ

أوخلتها أخذَتْ أطراف خرمة

فنضدته على جمارة غضهْ

ومن غريب ما قيل في نظم حليهن قول النمر بن تولب:

كَعابٌ عليها لؤلؤٌ وزبرجدٌ

ونظمٌ كأجوانِ الجرادِ مفصّلُ

قوله كأجوان الجراد غريب بديع، لم يسبق إليه ولا أعرف أحداً أخذه منه. ومن البديع قول الدمشقي:

بدر بدا والشمسُ في كفّه

وأنجمُ الليلِ عليهِ رعاثُ

وهو من الليلِ ومن طرفهِ

وشعرهِ في ظلماتٍ ثلاثْ

أحسن ما قيل في صفة الدمع إذا امتزج بالدم قول أبي الشيص:

لهوتُ عن الأحزان إذا أسفر الضحى

وفي كبدي من حَرِّهِنَّ حريق

مزجتُ دماً بالدَّمعِ حتى كأنما

يُذابُ بعيني لؤلؤٌ وعقيق

وقول أبي تمام:

نثرت فريدَ مدامع لم تُنظَمِ

والدمعُ يحملُ بعضَ ثقلِ المُغرَمِ

وصلتْ نجيعاً بالدُّموعِ فخدُّها

في مثلِ حاشيةِ الرِّداء المعلمِ

وقال:

أبيتُ أراعي أنجم الليل بعدكم

فيا ليتَ شعري هل تراعونها بعدي

ودمعٍ نثرتُ دُرَّه وعقيقَه

كأني حللتُ العقدَ من طرفِ العقدِ

ومن أجود ما قيل في بياض الدمع، على الحمرة الخد، ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي:

لو كنتَ يومَ الوداعِ حاضرَنا

وهنَّ يطفئن لوعةَ الوجدِ

لم ترَ إلا الدُّموعَ جاريةً

تسقطُ من مِقلةٍ على خدِّ

كأنَّ تلك الدموع قطرُ ندىً

يقطرُ من نَرْجسٍ على ورَدْ

ونحوه قول ابن الرومي:

لما دَنا البَيْنُ ورَاحَ الدّلُّ

وَدَّعْتها ودَمعُها مُنهلُّ

وخَدُّها من قطره مُخضلُّ

كأنَّهُ ورْدٌ عليهِ طلُّ

ومن أجمع بيت قيل قول المحدثين:

فأسبلت لؤلؤاً من نَرجسٍ وسقتْ

وَرْداً وعضَّتْ على العُنَّاب بالبرَدِ

ليس لهذا البيت نظير. وقلت:

يبكي فيسقي الدَّمعُ وجنتَه

كما سقى الطلُّ وردةً غضّه

ومن المشهور قول بعضهم وهو حسن:

كأنَّ الدُّموعَ على خدِّها

بقيةُ طلٍّ على جلنارِ

ونحوه ما أنشدناه أبو أحمد في العرق:

يحدر من أرجاءِ صورةِ وجهه

من الفم سُح في الجبين وفي الخدِّ

فُرادى ومثنى يستبينُ كأنَّهُ

سقيطُ ندى وفي على وَرَق الوردِ

ومثله ما قلت:

أخْرَجهُ الحمَّام كالفضه

يحسدُ منهُ بعضهُ بعضهْ

كأنما الماءُ على جسمه

طلٌّ على سَوْسنةٍ غضه

وفي صفة الدمع:

توريدُ دمعي من خدَّيك مختلسُ

وسقم جسمي من عينيك مُسترقُ

لم يبق لي رمَقٌ أشكو هوَاك به

وإنما يتشكى من به رَمقُ

وأبلغ ما قيل في امتلاء العين من الدمع قول بعض الأعراب أظنه:

فظلتُ كأني من وراءَ زُجاجةٍ

إلى الدار من فرطِ الصّبابة أنظرُ

وقول البحتري في معناه:

ويحسنُ دَلُّها والموتُ فيهِ

وقد يستحسن السيفُ الصقيلُ

وقفنا والعيونُ مُشغّلاتٌ

يعالج دمعها طرفٌ قليلُ

نَهتهُ رقبةُ الواشينَ حتى

تعلق لا يعيضُ ولا يسيلُ

قوله يحسن دلها والموت فيه أحسن ما قيل في الدلال. ومن أعجب ما قيل في الدمع، قول بعضهم، ونسب إلى السري، ولا أظنه له:

بنفسي من رَدَّ التحيةَ ضاحكاً

فجدَّدَ بعدَ اليأس في الوصل مطمعي

إذا ما بدا أبدى الغرامُ سرائري

وأظهرَ للعذَّال ما بينَ أضلعي

وحالتْ دُمُوعُ العينِ بيني وبينهُ

كأنَّ دُموعَ العينِ تعشقهُ معي

وهذا معنى ظريف حسن جداً. ومن حسن الاستعارة في صفة الدمع ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي:

قد كانَ في طول البكا لي راحةٌ

وعنانُ سرِّي في يدِ الكتمانِ

حتى إذا الإعلانُ نبهَ واشياً

رقأتْ دموعي خشيةَ الإعلانِ

ومن البديع في ذلك قول بشار وهو مشهور:

ماءُ الصبابةِ نارُ الشوقِ تحذره

فهلْ سمعتمِ بماءٍ فاض من نارِ

وقلت:

أشكو الهوى بدُموع قادها قلق

حتى علقنَ بجفن رَدَّها الغرقُ

ففي فؤادي سبلٌ للأسى جددٌ

وفي الجفونِ مقيلٌ للكرى قلق

لهيبُ قلبي أفاضَ الدَّمعَ من بصري

والعودُ يقطرُ ماءً حيتَ يحترقُ

ولا أظنني سبقت إلى هذا التمثيل. وقال ابن المعتز:

ولطمةُ خدٍّ تجعلُ الوَرْدَ خُرَّما

وتنثرُ دمعاً لا يباعُ بأثمانِ

ونظير المصراع الأول قول صاحب مصر:

والله لولا أنْ يُقالَ تغيرا

وصبا وإنْ كانَ التصابي أجدرا

لأعادَ تفاحَ الخدود بنفسجاً

لثمي وكافورَ الترائبِ عنبرا

وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي، قال: أنشد الحسن بن رجاء عن المبرد، يوماً بيت ذي الرمة:

لعلَّ انحدارَ الدَّمع يُعقبُ راحةً

من الوجد أو يشفي نجيَّ البلابل

وقال له من قال في مثله ؟ فقال قد ملح الحسن بن وهب في قوله:

إبك فما اكثر نفع البكا

والحبُّ إشفاقٌ وتعليلُ

إفزع إليه في ازدحام الجوى

ففيهِ مسلاةٌ وتسهيل

وهو إذا أنتَ تأمَّلتهُ

حزْنٌ على الخدَّين محلولُ

وقد ملح العباس بن الأحنف:

إني لأجحدُ حبكم وأسرُّهُ

والدَّمعُ معترَفٌ به لم يجحد

والدَّمعُ يشهدُ أنني لك عاشقٌ

والناسُ قد علموا وإن لم يشهد

وقال:

طال عهدي بها فلما رأتني

نظمتْ لؤلؤاً على تفاحِ

وقد أحسن الآخر في قوله:

إذا لا جوابَ لمفحمٍ متحير

إلا الدُّموع تصانُ بالأطرافِ

قوله تصان بالأطراف عبارة صحيحة جيدة. وقال آخر:

تقول غداةَ البين عندَ وداعها

لكَ الكبد الحرَّى فسر ولك الصبرُ

وقد سبقتها عبرَةٌ فدموعُها

على خدِّها بيضٌ وفي نحرِها حمرُ

معناه إذا انحدرت إلى نحرها، إنصبغت بلون الطيب والزعفران بها. ومن غريب المعنى قول الآخر:

غَدَتْ بأحبتي كوم المطايا

فبانَ النومُ وامتنعَ القرارُ

وكان الدَّمعُ لي ذخراً معدّاً

فأنفقتُ الذَّخيرةَ يومَ ساروا

أجود ما قيل في طيب عرف المرأة: جميع ما مر بي من الشعر في هذا الفن متقارب في المعنى، لا يفضل بعضه بعضاً إلا في القليل، ومنه ما هو جيد المعنى حلو المعرض، فتركته لأن الشرط قد تقدم بايراد الجيد لفظاً، ومعنى، ورصفاً، وذلك قليل ليس يقع إلا بعد التصفح الطويل والتعب الكثير:فمن أجود ما قيل في ذلك من قديم الشعر قول الأعشى:

ما روضةٌ من رياضِ الحَزنِ معشبةً

خضراءَ جاد عليها مسبلٌ هطلُ

يضاحك الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ

مؤزَّرُ بعميم النبتِ مكتهلُ

يوماً بأطيبَ منها نشر رائحةٍ

ولا بأحسنَ منها إذ دنا الأصلُ

وقول القطامي وهو جيد النظم متضمن لماء الطلاوة:

وما ريحُ قاعِ ذي خُزامَى وحَنوة

له أرجٌ من طيبِ النبتِ عازبُ

بأطيبَ من ميٍّ إذا ما تقلبتْ

من الليلِ وسنى جانباً بعد جانب

إلا أنه جاء بالمعنى في بيتين:ومما هو مضطرب الرصف جيد المعنى قول ابن الطثرية:

خَودٌ يكون بها القليلُ يمسّه

من طيبها عبقا يطيبُ ويكثرُ

هذا البيت على غاية اضطراب الرصف:

شكر الكرامة جلدها فصفا لها

إنَّ القبيحةَ جلدها لا يشكرُ

قوله شكر الكرامة جلدها في غاية من الحسن، أخذه ابن الرومي فقال:

ألوفُ عطرٍ تذكي وهي ذاكيةٌ

إذا أساءتْ جوارَ العطرِ أبدانُ

يغيمُ كلُّ نهار من مجامرها

ويشمسُ الليل منها فهو ضحيانُ

كأنها وعثِانُ المّدَّ يشملُها

شمسٌ عليها ضباباتٌ وأدخان

وأخذ ابن المعتز قول القطامي ببعض لفظه، إلا أنه زاد زيادة حسنة، وجاء بألفاظ بديعة وهو قوله:

وما ريحُ قاع زاهرٍ مستِ الندى

وروضٌ من الرَّيحانِ سحّتْ سحائبُهْ

فجاء سُحيراً بين يومٍ وليلةٍ

كما جرَّ من ذيلِ الغلالةِ ساحبه

بأطيبَ من أثوابِ شمر موهبا

إذا الليلُ أدجى دابرَ كتائبهِ

إذا رغبتْ عن جانب من فراشِها

تضوَّعَ مسكاً أينَ مالت جوانبُهْ

وقد طرف ابن الأحنف في قوله:

ذكرتُك بالرَّيحان لما شمتهُ

وبالرَّاح لما قابلت أوجه الشربِ

تذكرت بالرَّيحان منك روائحاً

وبالرَّاح طعماً من مقّبلك العذبِ

وأنشدني أبو أحمد عن الصولي قال أنشدني عبيد الله بن عبد الله لنفسه:

تطيرتُ أيامَ اجتنابك أن ترى

مكانَك عيني لا خلا منك خاليا

فأسكنتُهُ نوراً كرّياك طيبهُ

يذكرني منك الذي لستُ ناسيا

وقد أحسن وحسنه قليل. وقيل لأعرابي أية رائحة أطيب ؟ قال رائحة بدن تحبه إو ولد تربه فقال ابن الرومي:

ريحه ريح طيب الأولاد

وقلت:

يمرُّ بي وفدُ الصبا

والليل يقضي نحبهُ

مرَّ بروضٍ زاهرٍ

ذرَّ عليهِ عشبهُ

فخلتهُ من طيبهِ

نشوةَ من أحبه

ومن البليغ قول سحيم:

فما زالَ بُردي طيباً من ثيابها

إلى الحولِ حتى أنهجَ البردُ باليا

وأبلغ من ذلك وصفهم طيب المواضع التي وطنها الحبيب، وأول من قال ذلك النميري:

تضوع مسكاً بطنُ نعمانَ إذ مشتْ

به زينبٌ في نسوةٍ خفرات

ومن أحسنه وأرشقه قول جميل:

ألا أيها الربع الذي غيرّ البلا

عفا وخلا من بعد ما كانَ لا يخلو

تداءبَ ريحُ المسك فيهِ وإنما

به المسكُ إذ جرَّتْ به ذيلها جملُ

وقوله:

وأنت الذي حّببت شغباً إلى بدا

إليّ وأوطاني بلادٌ سواهما

حللت بهذي مرَّةً ثم مرة

بهذي فطابَ الواديان كلاهما

وقال الآخر:

أرى كلَّ أرض يممتها وإن مضت

لها حججٌ يزداد طيباً ترابُها

وقد طرف ابن الأحنف في قوله:

وجدَ الناسُ ساطعَ المسكِ من دج

لة قد أوسعَ المشاربَ طيبا

فهمُ ينكرونَ ذاك وما يد

رُونَ أنْ قد حللتَ منها قريبا

وقال البحتري:

فكان العبيرُ بها واشياً

وجرسُ الحلي عليها رقيبا

وقلت:

تأملتُ منها غزالاً ربيبا

وبدراً منيراً وغصناً رطيبا

جلتُ لك عن خضل واضحٍ

يبيتُ سناه عليها رقيبا

وهزّت لنا بسراة الكثيبِ

قضيباً تفرّعَ منه كثيبا

عشيةَ راحتْ وأترابها

يقبلن للهجرِ طَرفاً مُريبا

كواكبُ ليلٍ إذا ما رأت

كواكب شيبٍ تهاوت غروبا

وأقمارُ روضٍ قمرن العقولَ

وغزلانُ رملٍ قلبن القلوبا

إذا زدُتها نَظراً زدتني

جمالاً بديعاً وشكلاً غريبا

رحلنَ العشيةَ من ذي الغضا

وخلفنَ فيه جمالاً وطيبا

وقد أحسن القائل في قوله:

جاريةٌ أطيب من طيبها

والطيبُ فيها المسك والعنبرُ

ووجهها أحسنُ من حليها

والحلي فيها الدُّرُّ والجوهرُ

ولو قيل: إن هذا أحسن ما قاله محدث في ذلك لم يكن بعيداً. ومما هو غاية قول امرىء القيس:

ألم تر أني كلما جئتُ طارقا

وجدت بها طيباً وإنْ لم تطيب

وقد طرف القائل:

أتاها بعطرٍ أهلها فتضاحكتْ

وقالتْ وهل يحتاج عطرٌ إلى عطرِ

وقد أجاد البحتري:

لنا من ريقه راحٌ

ومن رّياه ريحانُ

وأنشدنا أبو أحمد في طيب الريح، إلا أنه وصف رجل:

سقياً لأيام مضتْ

وكأنَّ معهدَها حلوم

أيامَ يفني لي ويف

ني رهطَه الرجلُ العريمُ

إذ لا دليل عليّ في

برد الضحى إلا النسيمُ

أجود ما قيل في حب الصغار من شعر المتقدمين قول نصيب.

ولولا أنْ يقالَ صبا نصيبٌ

لقلت بنفسيَ النشء الصغارُ

بروحي كلُّ مهضومٍ حشاها

إذا ظلمتْ فليسَ لها انتصارُ

إذا ما الذلُّ ضاعفن الحشايا

كفاها أن يُلاثَ لها الإزارُ

ومن مليح ذلك قول عوف بن محلم:

وصغيرةٍ علقتُها

كانتْ من الفتَنِ الكبارِ

كالبدرِ إلا أنها

تبقى على ضوءِ النهارِ

وأنشدني أبو أحمد عن الصولي قال أنشدني عبد الله بن الحسن وقد ملح وطرف:

جاريةٌ أذهلَها اللعبُ

عما يقاسي الهائمُ الصبُّ

شكوتُ ما ألقاه من حبَّها

فأقبلتْ تسألُ ما الحبُّ

ومن مليح ذلك ما روي أن عبد الملك بن مروان عرضت عليه جارية فقال لها أبكر أنت أم ثيب. ؟ فقالت بل ثيب، فأنشد عبد الملك:

قالوا عشقتَ صغيرةً فأجبتهم

خيرُ المطي لديَّ ما لمْ يركبْ

كم بينَ حبةِ لؤلؤٍ مثقوبةٍ

لبستْ وحبةِ لؤلؤٍ لم تثقب

فقالت الجارية:

إن المطايا لا يلذُّ ركوبُها

ما لم تذَلَّلْ بالزِّمام وتركَبْ

الحبُّ أملك للفؤادِ بقهرهِ

من أن يُرى للسرِّ فيه نصيبُ

قد أحسنا جميعاً، إلا أن وجه الكلام أن يقال يثقب ويؤلف في النظام أصدق ما قيل في صفة الحب قول العباس بن الأحنف:

من كانَ يزعم أن يداري في الهوى

حتى يشكك فيه فهو كذوبُ

الحبُّ أملك للفؤادِ بقهرهِ

من أن يُرى للسرِّ فيه نصيبُ

وقلت:

آفةُ السرِّ من جفو

- نٍ دوامٍ دوامعِ

كيف يخفى مع الدمو

عِ الهوامي الهوامعِ

ما رأينا أخا هوى

سِرُّه غير ذائعِ

إنَّ نيرانَ حُبه

بادياتُ الطوالعِ

من أظرف ما قيل في ذكر الشركة في الهوى ما أنشدنيه أبو أحمد:

ما لي جفيتُ وكنتُ لا أجفى

وعلامةُ الهجرانِ لا تخفى

وأراك تمزجني وتشربني

ولقد عهدتُك شاربي صِرفا

وقد أحسن العباس بن الأحنف في هذا المعنى وهو قوله:

يا فور لم أهجرْكمُ لملالةٍ

منيّ ولا لمقالٍ واشٍ حاسدٍ

لكنني جرَّبتكُم فوجدتُكم

لا تصبرونَ على طعامٍ واحدِ

وقد جاء أبو نواس بهذا المعنى إلا أن قول العباس أطبع، قال أبو نواس:

أتيتُ فؤادها أشكو إليه

فلْم أخلص إليه من الزَّحامِ

فيا مَنْ ليس يكفيها مُحبٌّ

ولا ألفا محبِّ كلَّ عامِ

أظنك من بقيةَ قوم موسى

فهمْ لا يصبرون على طعامِ

ومما سبق به العباس الشعراء كلهم قوله:

أحرم منكم بما أقولُ وقد

نال به العاشقونَ من عشقوا

صرتُ كأني ذُبالةٌ نصبتْ

تضيىءُ للناسِ وهي تحترقُ

وأول من ذكر هذا المعنى صاحب كليلة ودمنة وإلى معنى قول البيت الأول يومىء قول البحتري:

قصائد ما تنفكُّ فيها غرائب

تألق في أضعافها وبدائعُ

مكرَّمةُ الأنساب فيها وسائلٌ

إلى غير من يحبى بها وذرائعُ

ومما سبقت إليه من المعاني ما قلته:

رُفِعَ السترُ فانثنى غصنُ بانِ

يتجلى الهلالُ في معناه

ليس لي أنْ أنالَ ما أتمنى

من جنى وصلهِ اللذيذِ جناه

فلو أني كمنت في بعضِ شعري

فإذا ما شداه قبلت فاه

ومن أبلغ ما قيل في بخل المعشوق من قديم الشعر ما أنشدناه أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد عن عبد الرحمن عن عمه:

وما نطفةٌ كانت سلالةَ بارقٍ

نمت على طريق الناسِ ثم استظلتْ

بأطيبَ من أثيابِ تلثم بعدما

حدا الليلُ أعقابُ النجومِ فولّت

وقد بخلت حتى لو أني سألتها

قذى العين من ضاحي الترابِ لضنّتْ

ومن أحسن ما قيل في وقوف النظر على المعشوق قول بعضهم قيد الحسن عليه، وهو من قول امرىء القيس قيد الأوابد وقد أحسن الآخر في قوله:

ظبيٌ له من قلوبِ الناسِ نابتةٌ

من الموَدَّةِ تجني أطيبَ الثمرِ

إذا بدا رمتِ الأبصارُ وجنتَه

معاً فلم تختلف عينان في نظرِ

ونحوه قول المتنبي:

وخصر تثبتُ الأبصارُ فيهِ

كأنَّ عليهِ من حدقٍ نطاقا

ومن أجود ما قيل في كمال الحسن ما أنشدناه أبو أحمد:

كلُّ شيء من محاسنِها

كامنٌ في حسنه مثلا

ليسَ فيها ما يقالُ له

كملتْ لو أنَّ ذا كملا

وقال أبو نواس:

لو مني الحسن ما تعداها

أخذه أبو تمام فقال:

معتدل لم يعتدلْ عدلهُ

في عاشق طالَ به خبلهُ

أظرفه أحسنُ أم طرفُه

وحسنهُ أكملُ أم عقلهُ

انظر فما عاينتَ في غيره

من حَسَنٍ فهو له كلّهُ

لو قيلَ للحسن تمنَّ المنى

إذاً تمنّى أنه مثلهُ

أيُّ خصالٍ حازَها سيدي

لو لم يكدِّر صفوَها مطلهُ

وقال أبو نواس:

تمَّتْ وتم الحسنُ في وجهها

فكلُّ شيء ما خلاها محالْ

للناسِ في الشهرِ هلالٌ ولي

من وجهها كلّ صباح هلالْ

وقال:

متتائهٌ بجمالهِ صَلِفٌ

لا يُستطاعُ كلامُهُ تِيْها

لو كانت الأشياءُ تعرفه

أجلَلْنَهُ إجلال باريها

لو تستطيع الأرض لأجتمعت

حتى يكون جميعه فيها

وقال:

ألاحظُ حسنَ وجنتهِ

فتجرحني وأجرَحُها

وقال غيره:

شكوتُ إلى شبيهك إذ تجلى

هواك فلم يُزِلْ شكوى الحزينِ

وكانَ كأنتَ إشراقاً وحسناً

وقلةَ رحمةٍ للمستكينِ

أحسن ما قيل في إعراض الحبيب قول النمر بن تولب:

فَصدَّت كأنَّ الشمسَ تحت قناعها

بدا حاجبٌ منها وضنَّتْ بحاجبِ

وقد مر قبل. ومن ظريف ما جاء في ذلك قول ابن الرومي:

ما ساءَني إعراضُه

عنِّي ولكنْ سرَّني

سالفتاهُ عِوضٌ

عن كلِّ شيءٍ حَسنِ

وقال الآخر وأحسن:

صدَّ عنَّي محمدُ بنُ سعيدِ

أحسن العالمينَ ثاني جيدِ

صدّ عنَّي من غير جرمٍ إليه

ليسَ إلا لحسنهِ في الصدودِ

والفرد الذي لا شبيه له، في كثرة اعتلال المعشوق على العاشق، وكثرة تجنيه عليه قول بعضهم:

شكوت فقالت كلّ هذا تبرما

بحبي أراحَ الله قلبكَ من حبي

فلما كتمتُ الحبَّ قالت لشد ما

صبرتَ وما هذا بفعل الشجي الصبِّ

وأدنو فتقصيني فأبعد طالباً

رضاها فتعتدُّ التباعدَ من ذنبي

فشكواي تؤذيها وصبري يسوؤها

وتجزع من بعدي وتنفرُ من قربي

وقريب منه قول مسلم:

ويخطىء عذْري وجه جُرميَ عندها

فأجني إليها الذنبَ من حيثُ لا أدري

إذا أذنبتْ أعدَدْتُ عذراً لذنبها

فإن سخطتْ كانَ اعتذاري من العذر

بذكرك ماتَ اليأسُ في حضرةِ المنى

وإن كنتُ لم أذكرك إلا على ذكرِ

وقد أصاب صفة العاشق. وقلت:

صبابة نفس لا ترى الهجرَ حاليا

وصبوة قلب ما ترى الوصل شافيا

نزلتُ على حكم الصّبابة والهوى

فصرتُ أرى للخلِّ ما لا يرى ليا

ولولا الهوى ما كنتُ آملُ باخلا

وأرحم ظلاّما وأذكرُ ناسيا

ومن شأنه أني إذا ما ذكرتهُ

جفاني وسماني إذا غبتُ جافيا

على أنني أنأى فأدنو تذكراً

ولستُ كمنْ يدنو فينأى تناسيا

ويعجبني حُبي له وصبابتي

إليهِ وإمساكي عليهِ وداديا

فلو ظنني أسلوهُ لم يك هاجراً

ولو خالني أنساهُ لم يكُ نائيا

ولكنَّ عشقي في ضمان جفونه

فيأمن سلواني ويرجو غراميا

ومن أصاب وصف العاشق الصادق العشق على حقيقته الذي يقول:

إذا قَربتْ دارٌ كلفتُ وإن نأتْ

أسفتُ فلا للقرب أسلو ولا البعدِ

وإن وَعَدَتْ زادَ الهوى لانتظارها

وإن بخلتْ بالوَعدِ متُّ على الوعدِ

ففي لكِّ حال لا محالةَ فرحةٌ

وحبك ما فيهِ سوى محكم الجهدِ

ومثله قول الآخر:

وما في الأرض أشقى من محبٍّ

وإن وَجَدَ الهوى حلوَ المذاقِ

تراه باكياً في كلِّ حين

مخافَةَ فرقةٍ أو لاشتياق

فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم

ويبكي إن دَنوا خوفَ الفراقِ

فتسخنِ عينهُ عندَ التنائي

وتبرد عينهُ عندَ التلاقي

ووصفه الهوى بالحلاوة مع هذه الصفات وصف بديع غريب. ومثله قول ابن الأحنف:

إذا رضيتْ لم يهنني ذلك الرِّضا

لصحةِ علمي أن سيتبعه عتبُ

وأبكي إذا ما أذنبتْ خوفَ عتبها

فأسألها مرضاتها ولها الذَّنبُ

وصالكمُ صرمٌ وحبكُم قلى

وعطفكمُ صَدٌ وسلمكُم حَربُ

ومثل البيت الأول قول سعيد بن حميد ويروى الفضل الشاعرة:

ما كنتُ أيام كنت راضيةً

عني بذاك الرِّضا بمغتبطِ

علماً بأنَّ الرِّضا سيتبعه

منك التجنّي وكثرةُ السخطِ

فكلُّ ما ساءَني فعن خُلق

منك وما سَرَّني فعن غلطِ

ومن البديع في طلب نيل المعشوق قول الآخر:

عِدينا مَوْعداً ثم اجحدينا

فكم من مبطل حقاً بجحدِ

وإلا فابذلي من غيرِ وعد

فقد تكف السماءُ بغير رعدِ

وقلت في نحو ذلك:

تسيء على بعد الدِّيار تنائيا

وخلفك عند القرب من عصب البعدِ

كثير سروري في قليل وفائه

وعند ابتسام البرقِ قهقهة الرعدِ

ومن أبلغ ما قيل في الرضا عن المعشوق بالقليل قول جميل:

أقلبُ طَرْفي في السماءِ لعلّه

يوافقُ طرفي طرفَها حينَ تنظرُ

ومثله قول ابن المعلوط:

أليسَ الليلُ يلبس أمَّ عمروٍ

وإيّانا فذاك لنا تدان

بلى وأرى السماءَ كما تراها

ويعلوها النهارُ كما علاني

وأنشدني أبو أحمد عن ابن الأنباري لجميل:

وإني لأرضى من بثينةَ بالذي

لو استيقنَ الواشي لقرَّتْ بلابلُهْ

بلا وبالا استطيع تنقضي

وبالأمل المكذوب قد خاب آمله

وبالنظرة العجلى وبإلحولِ تنقضي

أواخرهُ لا نلتقي وأوائله

وكان جميل يصدق في حبه وكثير يكذب. ومن رديء هذا الباب قول بعضهم:

وما نلتُ منها محرماً غير أنني

إذا هي بالتْ بُلتُ حيث تبولُ

وعفة هذا كعفة المتنبي في قوله:

إني على شغفي بما في خمرها

لأعفُّ عما في سراويلاتِها

سمعت بعض الشيوخ يقول من الفجور ما هو أحسن من هذه العفة إذ عبر عنها بهذا اللفظ. وأخبرنا أبو أحمد، أخبرنا الجوهري، عن عمر بن شبة، قال: حدثني أبو يحيى الزهري عن رجل ذكره قال: قيل لكثير ما أنسب بيت قالته العرب ؟ قال: الناس يقولون:

أريدُ لأنسى ذكْرَها فكأنما

تمثّلُ لي ليلى بكلِّ سبيلِ

وأنسب عندي منه:

وقل أمُّ عمروٍ داؤه ودواؤه

لديها ورياها الطبيب الموافقُ

وهذا البيت جيد المعنى رديء الرصف. وأبلغ ما قيل في شدة الحب ما أنشدناه قدامة:

يوَدُّ بأنْ يمسي سقيماً لعلها

إذا سمعتْ منه بشكوى تراسله

ويهتزُّ للمعروف في طلب العلى

لتحمدَ يوماً عندَ سلمى شمائله

وقلت في معناه:

وقلتُ عساها إن مرْضتُ تعودني

فأحببتُ لو أني غدَوْتُ مريضا

وزدتُ اتساعاً في المكارم والعلا

ليصبحَ جاهي عندهنَّ عريضا

ومن الشعر المختار في النسيب قول أبي المطاع:

أفدى الذي زرته والسيفُ يخفرني

ولحظُ عينيه أمضى من مضاربهِ

فما خلعت نجاداً في العناقِ لهُ

حتى لبستُ نجاداً من ذوائبهِ

فباتَ أنعمنا بالاً بصاحبهِ

من كان في الحبِّ أشقانا لصاحبهِ

وقلت في معنى البيت الآخر:

بقدرِ الصبابةِ عندَ المغيب

تكونُ المسرَّةُ عندَ الحضورِ

وأطيب ما كان بردُ الثغور

إذا هو صادفَ حرَّ الصدور

ومن المختار في صفة العذار:

وقلت الشعرُ يسليني هواهُ

ولمْ أعلم بأنَّ الشعرَ حيني

فظلتُ لشقوتي أفدى وأمي

سوادَ عذارهِ بسودِا عيني

ومن أعجب ما قيل في التهالك في الحب ونهاية التقرب إلى المعشوق قول ديك الجن:

بانوا فصارَ الجسمُ من بعدهم

ما تصنعُ الشمسُ لهُ فيَّا

بأيِّ وجهٍ أتلقاهمُ

إذا رأوني بعدَهمْ حيّا

ومن أبدع ما قيل في عدم السلو قول ابن الرومي:

أأسماءُ أيُّ الواعدينَ ترينهُ

أشدَّكما مطلاً فإني لا أدري

أأنتِ بنيلٍ منك يبردُ غُلّتي

أن النفس بالسلوانِ عنك وبالصبر

لم يقل في بعد الحبيب أحسن من قول ابن الأحنف: أخبرنا أبو أحمد عن الصولي، عن هارون بن عبد الله المهلبي، قال كنا عند دعبل فذكر العباس بن الأحنف، فقال جيده قليل، ولا أعرف أحسن من شعره في الشمس:

هي الشمسُ مسكنها في السماء

فعزِّ الفؤادَ عزاءً جميلا

فلن تستطيعَ إليها الصعودَ

ولنْ تستطيعَ إليك النزولا

ومن البديع القليل النظير قوله أيضاً يذكر كلام الناس فيه وفي معشوقه:

قد سحَب الناسُ أذيالَ الظنونِ بنا

وفرَّقَ الناسُ فينا قولهم فرقا

فكاذبٌ قد رمى بالظنِّ غيركُم

وصادقٌ ليس يدري أنهُ صدقا

وهذا معنى غريب بديع ما أظنه سبق إليه. ومما هو في معنى قوله:

هي الشمس مسكنُها في السماء

الخ قول الآخر:

شكوتُ إلى بدرٍ هوايَ فقال لي

ألستَ ترى بدْرَ السماءِ الذي يسري

فقلتُ بلى قالَ التمسهُ فإنَّهُ

نظيري ومثلي في علوٍّ وفي قدر

فإنْ نلتهُ فاعلمْ بأنك نائلي

وإن لم تنلهُ فابغ أمراً سوى أمري

فكانَ كلا البدرين صعباً مرامه

فويلَي من بدرِ السماء ومن بدري

ومن الغريب البديع في مدح الفراق لمكان القبلة والاعتناق قول محمد بن عبد الله بن طاهر:

ليسَ عندي شحطُ النوى بعظيم

فيه غمٌّ وفيه كشفُ غمومِ

من يكن يكرَهُ الفراقَ فإني

أشتهيهِ لموضع التسليم

إنَّ فيه اعتناقه لوداع

وانتظار اعتناقه لقدوم

فلكم قبلةٍ وغيبةِ شهرٍ

هي خيرٌ من امتناع مقيمِ

وأخبرنا أبو أحمد عن ابن المسيب لابن الرومي:

فإذا كانَ في الفراق عناقٌ

جعل اللَّهُ كلَّ يوم فراقا

أجود ما قيل في خفقان القلب قول قيس بن ذريح:

كأنَّ القلبَ ليلةَ قِيلَ يُغدى

بليلى العامريةِ أو يُراحُ

قطاةٌ عزّها شَرَكٌ فباتت

تجاذبهُ وقد علقَ الجناحُ

فلولا التضمين الذي فيه لكان غاية. ومن الغريب في ذلك قول ديك الجن:

ومملوء من الحزن

يعالج سورةَ الأرقِ

تكادُ غروبُ مقلتهِ

تعمُّ الأرضَ بالغرقِ

كأنّ فؤاده قلقا

لسانُ الحيةِ الفرق

وقد أحسن في قوله:

علمت قلبي وجيباً لست أعرفه

ما أنكر القلب إلا كلما خفقا

يا شوق إلفين حال البينُ بينهما

فغافصاه على التوديع فاعتنقا

لو كنت أملك عيني ما بكيت بها

تطيراً من بكائي بعدهم شفقا

وقد أحسن القائل وجاء بما في نفس العاشق:

ولو داواكَ كلُّ طبيب ركب

بغير كلام ليلى ما شفاكا

ولو أصبحتَ تملك كلَّ شيء

سوى ليلى عتبت على غناكا

ومن أعجب ما قيل في الشفقة على المعشوق قول أبي دلف العجلي:

أحبك جنان وأنتَ مني

مكان الرُّوح من جسد الجبانِ

ولو أني أحبك حُبَّ نفسي

لخفتُ عليك بادرَهَ الطعانِ

لإقدامي إذا ما الخيلُ جالتْ

وهابَ شجاعها وقعَ الطعانِ

خص الجبان لأنه أشد شفقة على نفسه من الشجاع، وهذا من جيد الاستطراد. ومن بليغ ما قيل في الحب، مع الشجاعة، ومن أجود ما قيل في اليأس عن الوصل، قول مجنون ليلى أو غيره:

خرجتُ فلم أظفرْ وعدتُ فلم أفزْ

بنيلٍ كلا اليومين يومُ بلاءِ

فيا حسرتي ما أشبهَ اليأسَ بالغنى

وإن لم يكونا عندنا بسواء

وقال:

وقد أيقنتْ نفسي بأنْ حيلَ بينها

وبينَك لو يأتي بيأس يقينها

أرى النفسَ عن ليلى تعاني بِلاعنا

وقد جُن من وجدي بليلى جنونها

ومثل ذلك:

فإن يك عن ليلى غنى وتجلدُ

فرُّبَ غنى نفسٍ قريبٌ من الفقرِ

ومن أطرف ما قيل في النحول ما أنشدنيه أبو أحمد:

أسر إذا بليت وُذاب جسمي

لعلَّ الريحَ تحملني إليهِ

وقال ابن المعتز:

ماذا ترى في مدنَفٍ

يشكوك طولَ سقمه

أضنيتهُ فيما يطي

ق ضعفه حمل اسمهِ

فلا يراك عائداً

إلا بعينِ وهمِه

وقال كشاجم:

وما زال يبري أعظُمَ الجسمِ حبُّها

وينقصُها حتى لطفنَ عن النقصِ

وقد ذُبتُ حتى صرت إن أنا زرتُها

أمنتُ عليها أن يرى أهلُها شخصي

وقال ديك الجن وبالغ:

أنحلَ الوجدُ جسمهُ والحنين

وبَرَاهُ الهوى فما يستبين

لم يغش أنه جليدٌ ولكنْ

دَقَّ جداً فما تراهُ المنون

وقال نصر بن أحمد:

قد كانَ لي فيما مضى خاتمٌ

فاليوم لو شئتُ تمنطقتُ به

وذُبتُ حتى صرتُ لوزجَّ بي

في مُقلةِ النائم لم ينتبه

الحسن بن وهب:

أبليتُ جسمي من بعد جدَّته

فما تكادُ العيونُ تبصرهُ

كأنه رسمُ منزل خلقٍ

تعرفهُ العينُ ثمَّ تنكرهُ

ومما لا أظن أن له شبيهاً قول بعض الحول وليس في هذا المعنى:

حمدت إلهي إذ بُليت بحبها

على حَوَلِ يغني عن النظرِ الشزرِ

نظرتُ إليها والرقيبُ يظنني

نظرتُ إليهِ فاسترحتُ من العذر

ومن فصيح ما قيل في اقتياد الهوى صاحبه قول بعض نساء الأعراب:

ألا قاتل اللَّهُ الهوى ما أشدَّهُ

وأصرعهُ للمرءِ وهو جليدُ

دعاني الهوى من نحوها فأجبتهُ

فأصبح بي يستن حيثُ يريدُ

وقال كشاجم وأحسن في قوله وليس من هذا المعنى:

أقبلتْ ثمَّ عرَّجتْ

ليتها لم تُعرِّج

في حدادٍ كأنها

وَردَةٌ في بنفسج

ومن أحسن ما قيل في مجيء الفراق بعد التلاق قوله أيضاً:

لم أستتمَّ عناقهُ لقدومهِ

حتى بدأتُ عناقَه لوداعِه

فمضى وأبقى في فؤادي حسرةً

تركته موقوفاً على أوجاعه

وأنشدني أبو أحمد قال أنشدني الصولي أنشدني الحسين بن يحيى أنشدني الحسين بن الضحاك لنفسه:

بأبي زورٌ تلفت لي

فتنفستُ عليهِ الصعدا

بينما أضحك مسروراً به

إذ تقطعتُ عليه كمدا

وأنشدنا عنه لأبي العميثل:

لقيتُ ابنةَ السهمي زينبَ عن عُفرِ

ونحن حرَامٌ مُسيَ عاشرة العشرِ

فكلمتُها ثنتينِ كالثلجِ منهما

وأخرى على لوحٍ أحدِّ من الجمرِ

الأولى تسليم اللقاء فيه باردة طيبة والأخرى تسليم الوداع. ومن جيد ما قيل في تجدد الشوق على قرب الديار قول بعض العرب:

ويزدادُ في قربِ الديارِ صبابةً

ويبعدُ من فرط اشتياق طريقها

وما ينفع الحرَّان ذا اللوعِ أن يرى

حياضَ القرَى مملوءةً لا يذوقها

ومن جيد ما قيل في رد العذول:

إذا أمرتني العاذلاتُ بهجرِها

هفتْ كبدٌ مما يقلنَ صديعُ

وكيفَ أطيعُ العاذلاتِ ووجهُها

يؤرِّقني والعاذلاتُ هجوعُ

ومن جيد ما قيل في روضة النفس على الهجو ما أنشده أبو إسحاق الموصلي:

وإني لأستحيي كثيراً وأتقي

عيوباً وأستبقي الموَدَّةَ بالهجرِ

وأنذرُ بالهجرانِ نفسي أروضُها

لأعَلم عندَ الهجرِ هل لي من صبرِ

وقال غلام من فزارة:

وأعرض حتى يحسب الناسُ أنما

هي الهجرُ لا والله ما بي لك الهجرُ

ولكن أروضُ النفسَ أنظر هل لها

إذا فارقتْ يوماً أحبتها صبرُ

وزاد العباس بن الأحنف فقال:

أورضُ على الهجرانِ نفسي لعلها

تمسك لي أسبابها حينَ تهجرُ

والزيادة في قوله:

وأعلمُ أنَّ النفسَ تكذبُ وعدَها

إذا صدقَ الهجران يوماً وتغدرُ

وما عَرَضَتْ لي نظرةٌ مذ عرفتُها

فأنظر إلا مثلتْ حين أنظر

وهذا من قول جميل:

أريدُ لأنسى ذكرَها فكأنها

تمّثلُ لي ليلى بكلِّ سبيلِ

وذكر بعضهم أنه يهجرها مخافة العين تصيب وصلها: أنشدناه أبو أحمد عن الصولي، عن أحمد بن يحيى، وأحمد بن سعيد الدمشقي عن الزبير:

خشيتُ عليها العينَ من طولِ وصلِها

فهاجرتُها يومين خوفاً من الهجرِ

وما كانَ هجراني لها من مَلالةٍ

ولكنني جرَّبتُ نفسي على الصبرِ

ومن فصيح الشعر الداخل في هذا الباب قول إبراهيم بن العباس أنشدناه أبو أحمد عن الصولي عن ثعلب وأبي ذكوان قالا أنشدنا إبراهيم بن العباس لنفسه:

يمرُّ الصبا صفحاً بساكن ذي الغضا

فيصدَعُ قلبي أن يهبَّ هبوبُها

قريبةُ عهدٍ بالحبيب وإنما

هوى كلِّ نفس أين حلَّ حبيبها

تطلعُ من نفسي إليكَ طوالعٌ

عوارفُ أن اليأس منك نصيبها

وإنما أغار إبراهيم بن العباس على ذي الرمة حيث يقول:

إذا هبت الأرواحُ من نحو جانب

به أهل ميٍّ زاد شوقي هبوبها

هوى تذرفُ العينان منه وإنما

هوى كلِّ نفس أينَ حلَّ حبيبها

وقال العباس بن الأحنف في غير هذا المعنى:

متى تبصريني يا ظلوم تبيني

شمائلَ بادي البثِّ منصدع القلب

بريئاً تمنى الذنبَ لما هجرته

لكيما يقال الهجرُ من سبب الذَّنب

وقد كنتُ أشكو عتبها وعتابها

فقد فجعتني بالعتابِ وبالعتبِ

أشفق عليها من أن تهجره بغير ذنب، فيقال إنها ملول ليلحقها هجنة. ومن أجود ما قيل في الوقوف على الديار، قول امرىء القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في مصراع فليس له شبيه في جميع أشعارهم. وأحسن ما قيل في وصف الديار وبلاها ما أنشدناه أبو أحمد عن المبرمان عن أبي جعفر عن أبيه:

ولم يترك الأرواح والقطرُ والندى

من الدارِ إلا ما يشفُّ ويشفقُ

وقلت:

قد عريت أنا بها حين اكتستْ

أرديةَ الرَّيح عشياً وضحى

لم يبقَ فيها غيرُ ما يذكي الجوى

ويصرفُ النومَ ويبعثُ البكى

وأنشدنا أبو القاسم:

ألا حيِّ من أجل الحبيبِ المغانيا

لبسنَ البلى مما لبسنَ اللياليا

ولأعرابي:

طللان طالَ عليهما الأبدُ

دثرا فلا علمٌ ولا نضدُ

لبسا البلى فكأنما وجدا

بعدَ الأحبةِ مثلَ ما أجدُ

وهذا مثل قول جرير:

أحب لحب فاطمة الديارا

والذي أورد من أنواع هذه المعاني إنما هو إشارة إلى جمهورها وتنبيه على معظمها، ولو اتبعت كل ما فيه أمثاله وعلقت عليه أشكاله، لكثرت واتصلت، وتوفرت حتى أملت وأضجرت، وتجاوز الحد في القول في هذه فيه وهجنة على قائلة ؟ومن أجود ما قيل في حب السودان:

أحبُّ النساء السودَ من حبِّ تكتم

ومن أجلها أحببتُ من كانَ أسودا

فجئني بمثلِ المسكِ أطيب نفحة

وجئني بمثل الليل أطيب مرقدا

البيت الثاني على غاية الجودة وحسن التمثيل. وقلت:

صرفتُ ودَّي إلى السودان من هجر

وما أميل إلى رومٍ ولا خزرِ

أصبحتُ أعشقُ من وجهٍ ومن بدن

ما يعشقُ الناسُ من عينٍ ومن شعرِ

فإنْ حسبت سوادَ الجلدِ منقصةً

فانظر إلى سفعة في وجنة القمر

وروي للجاحظ:

يكونُ الخالُ في وجهٍ مليح

فيكسوهُ الملاحةَ والجمالا

ولستَ تملُّ من نظرٍ إليهِ

فكيفَ إذا رأيتَ الوجهَ خالا

وقد ملح بعضهم في خلاف ذلك:

إنّ الذي يعشق من لا يرى

كميتٍ من شدة الغلمة

وإنَّ من يعشقُ زنجيةً

لكالذي دلك في الظلمة

أجود ما قيل في الخيال من قديم الشعر قول قيس بن الخطيم:

أنى سريتِ وكنتِ غير سروبِ

وتقرِّلُ الأحلامُ غيرَ قريبِ

ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه

في النوم غير مكدَّرٍ محسوبِ

كان المنى بلقائها فلقيتها

ولهوتُ من لهو امرىء مكذوبِ

وقول عمرو بن قميئة:

نأتكَ أمامة إلا سؤالا

وإلا خيالاً يوافي خيالا

خيالي يخيل لي نيلها

ولو قدرتْ لم تخيل نوالا

وهذا من معاني القدماء غريب، وهو أبلغ ما قيل في بخل المعشوق، ومن هاتين القطعتين أخذ المحدثون أكثر معانيهم في الخيال، ومن البارع الفصيح في هذا المعنى قول البعيث:

أزارتك ليلى والرِّكاب خواضع

وقد بهر الليل النجومُ الطوالعُ

فأعطتك آيات المنى غير أنها

كواذب إن حصلتها وخوادع

على حين ضمَّ الليلُ من كلُّ جانب

جناحيهِ وانقضت نجومٌ ضواجع

وأعجلها عن زورةٍ لم أفز بها

من الصبح حادٍ يزعج الليل ساطع

وأحسن النميري حيث يقول:

عجباً لطيفك أنه

يشفي الجوى وهو الجوى

أخذه مسلم فقال:

طيف الخيال عهدِنا منك إلماما

داويتَ سُقماً وقد هيّجتَ أسقاما

ومن اللفظ الغريب قوله:

زف فحياني الكرى طيفها وهنا لخيالي

لا أعرف أنه سبق إلى هذا اللفظ. وقال أبو تمام:

استزَارَتْهُ فكرتي في المنام

فأتاها في خفية واكتتامِ

يا لها ليلةً تزاورت الأر

واحُ فيها سراً من الأجسامِ

مجلسٌ لم يكنْ لنا فيه عيبٌ

غير أنا في دعوةِ الأحلامِ

وهذه معان جياد إلا أنه ليس لألفاظها طلاوة. ومن غريب المعاني في هذا قول دعبل:

سرى طيفُ ليلى حين حان هُبوبُ

وقضيتُ شوقي حين كاد يؤوبُ

ولم أر مطروقاً يُحلُّ بطارقٍ

ولا طارقاً يَقري المنى ويثيبُ

يقول إن العادة إن يقري الطارق المطروق، والخيال طارق يقري المطروق. ومن الغريب الدقيق قول ابن الرومي:

طرقَتْنا فأنالتْ نائلا

شكره لو كان في النية الجحودُ

ثم قالتْ وأحستْ عَجَبي

من سراها حيث لا تسري الأسود

لا تعجبْ من سُرانا فالسُّرى

عادةُ الأقمارِ والناسُ هجودُ

فرأيت في هذه الأبيات زيادة وتضميناً فقلت:

رقبتْ غفلة الرقيبِ فزارتْ

تحت ليل مطرَّز بنهارِ

فتعجبتُ من سُراها فقالتْ

غير مستطرفُ سرى الأقمارِ

ثم مالتْ بكأسها فسقتني

جلناريةً على جلّنارِ

آخر:

فيا ليت طيفاً خيلتهُ لي المنى

وإنْ زادني شوقاً إليك يعودُ

أكلفُ نفسي عنك صبراً وسلوة

وتكليف ما لا يستطاع شديدُ

الجيد أن يقول تكلف ما لا يستطاع وأما تكليفه في الحقيقة، فغير شديد على المكلف وإنما جعل هذا التكليف مكان التكلف وهو رديء. وقال الحمدوني:

لم أنلهُ فنلتهُ بالأماني

في منامي سراً من الهجرانِ

واصل الحلمُ بيننا بعد هجر

فاجتمعنا ونحنُ مفترقان

وكأنَّ الأرواحِ خافتْ رقيباً

فطوتْ سرًّها عن الأبدانِ

منظرٌ كانَ نُزْهَةَ العين إلا

أنَّه ناظرٌ بغيرِ عِيان

وقال ابن المعتز:

لا فرَّجَ اللَّهُ عن عيني برؤيته

إن كنتُ أبصرتُ شيئاً بعدَهُ حسنا

إلا خيالاً عسى إن نمتُ يطرقني

وكيفَ يحلمُ من لا يعرفُ الوسنا

وقال:

كلامهُ أخدعُ من لحظهِ

ووعدهُ أكذبُ من طيفهِ

وليس لأحد في الخيال ما للبحتري كثرة فمنه قوله:

بعينيك إعوالي وطُولُ شهيقي

وإخفاقُ عيني من كرىً وخُفُوقِ

على أنَّ تهويماً إذا عارض اطّبى

سُرى طارقاً في غيرِ وقتِ طَرُوقِ

فباتَ يعاطيني على رِقبة العِدى

ويمزجُ ريقاً من جَناه بريقي

وبتُّ أهابُ المِسكَ منه وأتّقي

رُداع عبير صائكٍ وخُلوق

أرى كذب الأحلام صدقاً وكم صَغَتْ

إلى خبرٍ أذْناي غيرِ صَدُوقِ

وما كانَ من حقٍّ وبُطلٍ فقد شفى

حرَارَةَ متبولٍ وخبلَ مشُوقِ

وقلت في خلاف ذلك:

طرقَ الخيال فزار منه خيالا

فسرى يغازل في الرّقاد غزالا

يا كشفهَ للكربِ إلا أنهُ

ولى على دبرِ الظلامِ فزالا

فغدا المتيمُ وهو أكبرُ صبوةً

وأشدُّ بلبالاً وأكسفُ بالا

وما قيل في الامتزاج والاختلاط مثل قول الخريمي:

ليالي أرى في جنابك روضةً

وآوي إلى حصن منيع مراتبه

وإذْ أنتَ لي كالخمر والشهدِ ضعفا

بماءٍ لصاف ضعفته جنائبه

وقال بشار:

لقد كانَ ما بيني زماناً وبينها

كما بينَ ريح المِسكِ والعنبر الوردِ

أجود ما قيل في صفة الركب:أخبرنا أبو أحمد أخبرنا الصولي، حدثنا محمد بن سعيد، عن عمر بن شبة قال كان الناس يقدمون قول أبي النجم ويتعجبون من حسنه:

كأن تحتَ درِعها المنعَطِّ

ضخمِ القَذَال حسنِ المخطِّ

وقد بدا منها الذي تغطي

كأنما قُطَّ على مِقطِّ

شطاً رميتُ فوقَه بشطِّ

كهامةِ الشيخِ اليماني الشمط

لم يعلُ في البطنِ ولم ينحط

حتى قال بشار:

عجزاء من سِرب بني مالك

لها حرٌ من بطنها أرفعُ

زيّنَ أعلاهُ بإشرافه

وانضمَّ من أسفله المشرع

قال أبو هلال رحمه الله تعالى أول من أتى بهذا المعنى النابغة حيث يقول:

وإذا طعنتَ طعنتَ في مستهدفِ

رابي المجسةِ بالعبيرُ مُقَرْمدِ

وإذا نزَعْتَ تَزْعتَ عن مستحصفٍ

نزع الحزَّور بالرِّشاء المحصدِ

يصف ضيقه ويقول إن النازع منه يتعب من نزعه كما يتعب الحزور - وهو الغلام - إذا فقال الرشيد: من قال هذا وهماً فإني أقوله علماً، والله درك يا أصمعي، فإني أجد عندك ما يضل عنه العلماء، فأخذه محدث فقال:

يؤازرُهُ قلبي عليّ وليس لي

يدانِ بمنْ قلبي عليَّ دائي

وأخذه سهل بن هارون فقال:

أعان طرفي على جسمي وأعضائي

بنظرةٍ وقفتْ جسمي على دائي

وكنتُ غراً بما تجني علي يدي

لا علم لي أنَّ بعضي بعضُ أعدائي

وهذا شعر في تكلف، أخذه البحتري:

ولستُ أعجبُ من عصيان قلبك لي

عمداً إذا كانَ قلبي فيك يعصيني

وقال ابن الأحنف:

قلبي إلى ما ضَرَّني داعي

يكثرُ أسقامي وأوجاعي

كيف احترازي من عدوّي إذا

كان عدوّي بين أضلاعي

ومن جيد ما قيل في قرب الدار مع تباعد القلوب قول النظار الفقعسي:

يقولونَ هذي أمُّ عمرو قريبة

دَنَتْ بك أرضٌ نحوها وسماءُ

ألا إنما بُعدُ الحبيبِ وقربُهُ

إذا هو لم يوصلْ إليه سواء

وفي خلافه:

وإني زوَّارُ لمنْ لا يزورني

إذا لم يكنْ في وُدِّه بمريبِ

يقرّبُ لي دار الحبيب وإن نأتْ

وما دارُ من أبغضتهُ بقريبِ

ومن ظريف الشكاية قول إبراهيم بن العباس:

فدعني راغماً أشقى بوجدي

وخُد قلبي إليكَ بغيرِ حمدِ

سقام لا يرقُّ عليَّ منه

ووجد لا يكافئهُ بودّ

وقد أصفيتهُ ودّي بجهدي

فعارضَ في الجفاءِ بمثل جهدي

ومن جيد ما مدح به الفراق قول بعض الكتاب: في الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأوبة والسلامة من الملال، وعمارة القلب بالشوق والدلالة على فضل المواصلة واللقاء. وقال الشاعر:

جزى اللَّهُ يومَ البينِ خيراً فإنه

أرانا على علاتهِ أمَّ ثابتِ

وكتب بعضهم في معنى قول الشاعر:

وما في الأرض أشقى من محب

وقد تقدم: تفكيري في مرارة البين، يمنعني من التمتع بحلاوة الصبر، وتكره عيني أن تقربك مخافة أن تسخن ببعدك، فلي عند الاجتماع كبد ترجف، وعند التنائي مقلة تكف. ومثله: لا والذي بيده السلامة من نزوح دارك، وبعد مزارك، ما زادني اللقاء إلا صبابة وأسفاً والاجتماع إلا نزاحا وكلفا، لأني منقسم القلب بين رجاء يعدني بقربك، وحذر يوعدني ببعدك، وإذا قربت دارك كلفت، وإن نأت أسفت، فلا في القرب أسلو ولا البعد. وسمعت لماني الموسوس معنى أظنه ابتكره وهو:

بكتْ عيني غداةَ البَينِ دمعاً

وأخرى بالبكى بخلتْ علينا

فعاقبتُ التي بخلتْ علينا

بأن غمضتها يومَ التقينا

وسبكه البيت الأول، ورصفه رديء جداً، لا خير فيه، وإنما استغربت المعنى فأوردته. وقد أخذه ابن الرومي فشرحه وزاد فيه وهو من قوله:

ولقد يؤلفنا اللقاءُ بليلةٍ

جعلتْ لنا حتى الصباح نظاما

نجزي العيون جزاءهنَّ عن البكى

وعن السهاد فلا نصيبُ اثاما

فنبيحهنَّ مُرادَهنَّ يردنه

فيما ادَّعَينَ ملاحةَ ووساما

ونكافىء الأذانَ وهي حقيقةٌ

إذ لا تزال تكابدُ اللواما

فنبثهنّ من الحديُ مثوبةً

تشفي الغليلَ وتكشفُ الأسقاما

ونكافىء الأفواهَ عن كتمانها

إذ لا يزالُ لها الصماتُ لجاما

فنبيحهنَّ ملاثماً ومراشفاً

ما ضرَّها أن لا تكونَ مداما

نجزي الثلاثة أنصباء ثلاثة

مقسومة آناؤها أقساما

ولخالد الكاتب معنى يلحق بما تقدم وهو قوله:

بكيتُ دماً حتى بكيتُ بلا دم

بكاءَ فتى فرد على شجن فردِ

أأبكي الذي فارقتُ بالدَّمعِ وحدَهُ

لقد جلَّ قدرُ الدَّمع فيه إذاً عندي

وكتبت في فصل لي:قد جل شوقي إليك ووجدي بك عن أن يبرد نارهما، ويسكن أوراهما، دمع ينصب على مثله، فتحسبه دراً يتكسر على در، ويمتزج بالدم فتخاله شذور عقيق، في نظام فريد. ومما يلحق بما تقدم أيضاً قول سعيد بن حميد:

وما كانَ حُبيها لأوَّلِ نظرةٍ

ولا غمرة من بعدها فتجلتِ

ولكنها الدُّنيا تولتْ فما الذي

يسلي عن الدُّنيا إذا ما تولتِ

وقال أعرابي:استقى من البئر. وأحسن ابن الرومي في وصف الضيق والحرارة حيث يقول:

لها هنٌ تستعيرُ وقدته

من قلب صبٍّ وصدر ذي حنقْ

كأنما حرُّه لخابره

ما أوقدتْ في حشاه من حُرق

يزداد ضيقاً على المراسِ كما

تزداد ضيقاً أنشوطة الوهَق

وقال في سعته:

يسعُ السبعةَ الأقاليمَ طرّاً

وهو في أصبعينِ من إقليم

كضمير الفؤاد يلتهمُ الدُّن

يا وتحويه دفتا حيزوم

ومن النادر قول الناجم:

إن ردفَ الفتاةِ عجنةُ خبا

زٍ وقدَّامها من الأدم جبنه

وقال المعذل بن غيلان:

ومركب كبيضةِ الأدحيّ

كأن نبتَ الشعرِ المطليّ

عليه شونيزٌ على فرنيّ

ومما يجري مع ذلك قول بعضهم:

أقولُ والقومُ تعادى بهم

إلى الوغى مضمرةٌ قرح

استحمل الله على مركبٍ

يحثُّ بالسيرِ ولا يبرح

وهو مثل قول مسلم:

ما مركب من ركوبِ الخيلِ يعجبني

كمركبٍ بينَ دملوج وخلخالِ

ومثل الأول:

فباتَ يسري ليلهُ ولم ينم

ولم يجاوز سيرَه قيسُ قدم

وقال الفرزدق:

ثم اتقتني بجهم لا سلاحَ له

كمنخرِ الثورِ محبوساً على البقر

كأنَّ رمانة في جوفه انفجرت

تكادُ توقدُ ناراً ليلةَ القدرِ

وأبلغ ما قيل في كبره قول الفرزدق:

إذا بطحتْ فوقَ الأثافي رفعتها

بثديينِ في نحرٍ عريضٍ وكعثبِ

يقول إنها إذا بطحت على وجهها، لم يمس الأرض منها شيء، لأن نهود ثدييها وكبر ركبها مثل أثافي القدر لبدنها، وهذا أبلغ من قول بشار الذي اختاره الأصمعي. وقال الراجز في وصف الضيق:

كأنّ حجاماً شديداً أبهره

يدارك المصّ ولا يفتره

ومما قيل في حب الكبار قول المجنون:

وعهدي بليلى وهي ذاتُ موصد

ترد علينا بالعشي المراميا

فشبَّ بنو ليلى وشبَّ بنوا بنيها

وأعلاقُ ليلى في الفؤادِ كما هيا

ابن المعتز:

من معيني على السهر

وعلى الهمِّ والفكر

وابلائي من شادنٍ

كبر الحبّ إذ كبر

ومن البديع قول ابن الأحنف:

لعمري لقد كذبَ الزَّاعمون

بأنَّ القلوبَ تحاذي القلوبا

ولو كان حقاً كما يزعمونَ

لما كانَ يشكو محبٌّ حبيبا

ومما يلحق بالفصل الأول، ما أخبرنا به أبو أحمد، عن الصولي عن البلعي، عن أبي حاتم قال: سمعت الأصمعي يقول: سمعت الرشيد يقول: قلب العاشق عليه مع معشوقه فقلت له: هذا يا أمير المؤمنين أحسن من قول عروة بن حزام العذري في آخر أبياته التي أنشدها:

أراني تعروني لذكراك رعدةٌ

لها بينَ جلدي والعظام دبيبُ

وما هو إلا أنْ أراها فجاءةً

فأبهت حتى ما أكاد أجيبُ

وأصرف عن رأيي الذي كنتُ أرتئي

ويعزب عني ذكرهُ ويغيبُ

ويضمرُ قلبي عذرها ويعينها

عليّ فما لي في الفؤادِ نصيبُ

أعللُ أصحابي بجدِّي وباطلي

وأسماء جدّ القلب مني وباطله

ومن بديع المعاني قول ابن أبي فنن:

أديمتُ بالألحاظِ وجنتهُ

فاقتصَّ ناظرُهُ من القلبِ

أخذ علي بن عاصم فقال:

ضربتْ إلفي بيدي

خانَ يميني جلدي

فاقتصَّ لما اغرَوْرَقَتْ

مقلتهُ منْ كبدي

فر أقلتْ بعدها

سوطي من الأرضِ يدي

ومن أجود ما قيل في تكافؤ الحسن قول الراجز وكان ينبغي أن يقدم:

جاءتْ تهضُّ الأرضُ أي هضِّ

يدفعُ منها بعضها من بعضِ

يقول: يتحير الناظر فيها، ولا تقف عينه على واحد فيصيبها بعين، لأن بعضها يشغل عن بعض. ومن بديع المعاني قول بعض الشعراء:

قصاراك مني الودّ ما دمت حيةً

وودّك ماء المزن غير مشوب

وآخر شيء أنت في كل مضجع

وأوَّل شيء أنتِ عندَ هبوبِ

ومن جيد القول في الفراق قول أبي محلم:

وما خفتُ وشك البينِ حتى رأيتهم

تنفض أنماط لهم وقطوع

لعمرك ما شيءٌ مريتُ بذكرهِ

كآخر يأتي بغتةً فيروع

ومما لا أعرف في معناه أجود منه قول بعضهم:

ما بينَ بابِ الوزير والمسجدِ الجا

مع ظبيٌ كالظباء في جيدهِ

أطمارهُ رَثَّةٌ فقد ضاعَ لا

ضاعَ وضاعَ التمييزُ في بلده

ليسَ لهُ ناقدٌ فيعرفهُ

وآفةٌ التبرِ ضعفُ منتقده

وفي خلاف ذلك قول صاحب البصرة:

ولستُ بواصفٍ أبداً حبيباً

أعَرِّضهُ لأهواءِ الرِّجالِ

تراني آمن الشركاء فيهِ

وآمن فيهِ أحداث الليالي

معنى آخر:

وقائلة متى يفنى هواهُ

فقلتُ لها إذا فنيَ الملاح

معنى آخر:

وإذا أتيتك زائراً متشوقاً

قَصرَ الطريقُ وطالَ عند رجوعي

معنى آخر:

إذا طلعتْ شمسُ النهار فإنها

أمارةُ تسليمي عليك فسلمي

آخر التشبب والحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده. ^

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي قال فأبلغ، وأنعم فأسبغ، أحل الملاذ ومنح لينعم عباده في العاجل، ويدل على ما أعد لمحسنهم في الآجل فقال: 'يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً' وقال: 'يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً'. وقال تعالى: 'قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق' وله الحمد على كمال بره، وتمام لطفه، والصلاة على خير خلقه، محمد النبي وآله.

هذا

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي