ديوان المعاني/أصدق بيت قالته العرب

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أصدق بيت قالته العرب

أصدق بيت قالته العرب - ديوان المعاني

أصدق بيت قالته العرب أخبرنا أبو أحمد عن الصولي، عن أبي العيناء، قال: قال الأصمعي: أصدق بيت قالته العرب وأحكمه قول الحطيئة:

من يفعل الخيرَ لا يَعدم جوازِيَهُ

لا يذهبُ العرفُ بين الله والناسِ

وقال المحدث في معناه:

ما ضاع عرف وان أوليته حجراً

وقال الأفوه:

والخيرُ تزدادُ منهُ ما كفيتَ بهِ

والشرُّ يكفيكَ منهُ قلما زادَ

وقيل: خير من الخير فاعله، وخير من الذهب معطيه، وقال عبيد بن الأبرص:

الخيرُ يبقى وإن طالَ الزمانُ به

والشرُّ أخبثُ ما أوعيتَ من زاد

وأخبرنا أبو أحمد رحمه الله تعالى، أخبرنا الجوهري، أخبرنا عمر بن شبة، حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، حدثنا سفيان بن سعيد، عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، يحدث بحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالتها العرب:

أَلاَ كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ

وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ

وكل أناس سوفَ تدخلُ بَيْنَهُم

دويهيةٌ تصفرُّ منها الأناملُ

وأخبرنا أبو أحمد رحمه الله تعالى، أخبرنا الجوهري، أخبرنا أبو زيد، حدثنا ابراهيم بن المندر، حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، أن عثمان بن مظعون كان في جوار الوليد بن المغيرة، وكان لا يؤذى كما يؤذى أصحابه يعني من المسلمين، فسأل الوليد أن ينزل من جواره فبرىء منه، فلما جلس مع القوم ولبيد ينشدهم:ألا كل شيء ما خلا الله باطل. فقال عثمان: صدقت، ثم أنشد لبيد رأس البيت:وكل نعيم لا محالة زائل. فقال عثمان: كذبت. فأسكت القوم ولم يدروا ما أراد، ثم أعاد ثانية فصدقه عثمان وكذبه، لأن نعيم الآخرة لا يزول. فقال لبيد: ما هكذا كانت مجالسكم، فنزا رجل من قريش فلطم عين عثمان، فأحضرت، فقال له الوليد: كنت في ذمة منيعة فخرجت منها، وكنت عن الذي لقيت عينك غنيا. فقال: بل كنت إلى الذي لقيت فقيراً، وعيني التي لم تلطم إلى مثل ما لقيت صاحبتها فقيرة، فقال: إن شئت أجرتك ثانية، فقال: لا أرب لي في جوارك. وأول هذه القصيدة:

ألا تسألان المرءَ ماذا يُحاولُ

أنَجْبٌ فيُقضَى أم ضلالٌ وباطلُ

حبائلُهُ مبثوثةٌ بسبيله

ويَفنَى إذا ما أخطأتهُ الحبِائلُ

إذا المرءُ أسرَى ليلةً ظنَّ أنهُ

قضى عملاً والمرءُ ما عاشَ عاملُ

وأجود من هذا سبكاً ورصفاً قول الصلتان:

نرُوحُ ونَغْدُو لحاجاتنا

وحاجةُ من عاش لا تنقضي

وأخبرنا أبو أحمد عن رحالة، قال: قيل لرجل سماه: أنشدنا أصدق بيت قالته العرب، قال: الناس يقولون:

كل امرىء في شأنه ساعي

وأنا أقول:

كأن مُقرّ حين يغدو لحاجة

إلى كلِّ من يلقى من الناس مذنبُ

وأصدق بيت قاله محدث قول البحتري:

نصليك في الأكروُمتين فإنما

يسودُ الفتى من حيثُ يسخو ويَشْجَعُ

زرعتُ رجاءً في ذراك مُبكراً

وجُلُّ حصادِ المرءِ من حيثُ يزرع

أجود ما قيل في القناعة قول الشاعر:

إذا سُدَّ بابٌ عنك من دونِ حاجةٍ

فدعها لأخرى لينٌ لك بابُها

وإن قرابَ البطنِ يُغنيك ملؤه

ويكفيك سوآت الأمور اجتنابها

أخذه ابن الرومي فقال وأحسن:

إذا ما شئت أن تعرفَ

يوماً كذبَ الشهوَهْ

فكل ما شئت يعنيكَ

عن العذبةِ والحلوَهْ

وطأ من شئتَ يغنيك

عن الخناء في الذَّرْوَهْ

فكم أنساك ما تهوا

هُ نَيْلُ الشيءٍ لم تَهْوَهْ

وقال ابن هرمة:

إذا مطمعٌ يوماً غزاني غزوتهُ

كتائب ناس كرّها واطرِّادُها

أمصّ ثِمادي والمياه كثيرة

أعالج منها حضرَها واكتدادَها

وأرضى بها من بحر آخر أنه

هو الرأي أن ترضى النفوس ثمادِها

وأبرع بيت قيل من قديم الشعر، قول أبي ذؤيب:

والنفسُ راغبةٌ إذا رغبّتها

وإذا تُردُّ إلى قليلَ تقنعُ

وقد أحسن أبو العتاهية في قوله:

أنت محتاج فقيرٌ أبدا

دون ما ترضى بأدْنَى ما لديك

وذم بعضهم القناعة فقال: هي خلق البهيمة، معناه أنها إذا وجدت أكلت، وإن لم تجد باتت على الخسف، ليس لها محالة دون الانطواء على الجوع، ولا نكير دون الإقرار بالهزل. كما قيل:

ولا يقيم على ضيمٍ يُرادُ به

إلا الأذلاَّن غير الحي والوتدُ

هذا على الخسفِ مربوطٌ برمتهِ

وذا يُشَجُّ فلا يَرثي له أحدُ

وإلى هذا المذهب ذهب علي بن محمد في قوله:

إذا اللئيمُ مطَّ حاجبيّهِ

وذادَ عن حريم درهميهِ

فاترك عنانَ البخيل في يديهِ

وقم إلى السيف وشفرتيهِ

واستنزل الرزق بمضربيهِ

إن قعدَ الدَهرُ فقم إليهِ

وقلت:

سأستعطف الأيامَ حتى تردَّني

إلى جانب منها يلينُ ويسهلُ

وأقنعُ لا أن القناعة لي هوى

ولكنَّ صونَ العرض بالحر أجمل

وقال ديك الجن:

لا تقم للزِمانِ في منزلِ الضي

م ولا ترتبطكَ رقةُ حالِ

وإذا خفتَ إن يراهقك العد

مُ فعذ بالمثقفات العوالي

وأهن نفسكَ الكريمةَ للمو

ت وقحم بها على الأهوال

فلعمري للموتُ أجملُ بالحرِّ

من العيشِ ضارعاً للرجال

أي ماءٍ يجولُ في وجهك الحرِّ

إذا ما امتهنتهُ بالسؤال

ثم لا سيما وقد عصفَ الده

رُ بأهل الندَى وأهل النوال

فقليلٌ من الورَى من تراهُ

يُرتجى أن يصونَ عرضاً بمال

وفي المعنى الأول ما أنشدناه أبو أحمد رحمه الله تعالى، أنشدنا أبو بكر بن دريد، أنشدني أحمد بن المعذل لأخيه عبد الصمد:

رأت عدمي فاستراثت رحيلي

سبيلك إن سواها سبيلي

يرجى اليسار لها بالقفول

لعلَّ المنيةَ قبل القفولِ

لعمر التي وعدتك الثراءَ

بجدوَى الصديقِ وبرّ الخليل

لقد قذفتْ بك صعبَ المرامِ

واستجملت لك غير الجميلِ

سأقني العفاف وأغني الكفال

فليسَ غِنَى النفس جودُ الجزيلِ

ولا أتصدَّى لشكر الجوادِ

ولا أستعدُّ لذمِّ البخيلِ

وأعلمُ أن بنات الرجاءِ

تحلُّ العزيزَ محلَّ الذليلِ

وأن ليس مستغنياً بالكثيرِ

من ليسَ مُستغنياً بالقليلِ

قال أبو أحمد: لو كان شعر عبد الصمد كله هكذا، لرأيته نبي الشعر. وقال البصير:

قلتُ لأهلي وراموا أن أميرَهُم

بماء وجهي فلم أفعلْ ولم أكدِ

لا تجمعوا أن تهينوني وأكرمكم

ولا تمدُّوا إلى نيل اللئامِ يدي

تبلغوا وادفعوا الحاجاتِ ما اندفعت

ولا يكن همكم في يومكم لغدِ

فربَّ ملتمسٍ ما ليس يُدركهُ

ومدركٌ ما تمنى غير مجتهدِ

أبلغ ما قيل في مساعدة الرجل أخاه وأجوده، قول دريد بن الصمة، وقد أغار هو أوخوه عبد الله على نعم لقيس، فاستاقوها، فلما كانوا ببعض الطريق نزل عبد الله ليريح ويستريح ويقسم المال بين أصحابه، فنهاه دريد، فبينما هما كذلك رأوا غبرة فقالوا لرقيبهم: ما ترى ؟ قال: خيلاً كالعقبان، عليها فوارس كالصبيان، فقال: فزارة ولا بأس. ثم رأوا غبرة أخرى فقالوا له: ما ترى ؟ قال خيلا كأن قوائمها تنقلع من صخر، قال تلك عبس والموت، فلما خالطوهم قتل عبد الله، فقال دريد:

أمرتُهم أمرى بمُنعرجِ اللَّوَى

فلم يستبينوا الرشدَ إلا ضُحى الغدِ

فلما عصَوني كنتُ منهم وقد أرى

غَوايتهم أو أنفي غير مهتدي

وما أنا إلا من غَزيّةَ إن غوتْ

غوْيتُ وإن تَرشُد غَزّيةُ أرشَدِ

وأسرد دريد ثم نجا فغزاهم من قابل فقتل قاتل أخيه. ووجه المبالغة في هذا الكلام أنه أخبر بموافقة أخيه على علمه بأنها غي، وترك مخالفته مع معرفته أنها رشد، كراهة الخروج من هواه، وترك مطابقته على رضاه. وقريب منه قول عمر بن أبي ربيعة وروي لغيره:

وذي ودٍ أملتُ إليه نصحاً

وكان لما أشيرُ به سميعا

أطافَ بغيَّةٍ ونهيتُ عنها

وقلتُ تجنب الأمرَ الفظيعا

أردتُ رشادَهُ جَهدي فلما

عصى وأبى ركبناها جميعا

وأنشدنا أبو أحمد عن الصولي، عن الحسن بن محمد المهري، عن التوزي:

تنخّلتُ آرائي وسقتُ نصيحتي

إلى غير طلق للنصيح ولا هشِّ

وقال آخر:

لما أبى نُصحي سلكتُ سبيلهُ

وأوسعتهُ من زور قولٍ من غشِّ

وقال آخر:

ألم تعلما يا بني دجاجةَ أنني

أغشُّ إذا ما النصحُ لم يُتقبل

ومن جيد ما قيل في النصيحة، قول مخيس بن أرطأة:

عرضتُ نصيحةً مني ليحي

فقال غششتني والنصحُ مرُّ

وما بي أن أكونَ أعيب يحيى

يُقالُ عليه في نقعاء شرُّ

فقلتُ له تجنبٌ كلَّ شيء

يُقالُ عليك إن الحرَّ حرُّ

ومثل ما تقدم قول الشاعر، أنشدناه أبو أحمد عن جماعة:

إن أخا الصدقِ الذي لمن يخدعك

ومن يضرُّ نفسهُ لينفعكَ

ومن إذا صرفُ زمانٍ صدعك

شْئتَ شملَ نفسه ليجمعَك

وإن غدوتَ ظالما غدا معك

فسروه: يكفك عن الظلم، وليس كذلك، لأن معنى الأبيات لا يقتضيه، إنما أراد أنه: يعاونك على الظلم، على حسب ما قال عمر بن أبي ربيعة: ركبناها جميعا وقال ابن ميادة في النصيحة:

نصحتك يا رباحُ بأمرِ حزم

فقلت هشيمةٌ من أهل نجد

نهيتك عن رجال من قريش

على محبوكةِ الأصلابِ جُردِ

ووجداً ما وجدتُ على رياح

وما أغنيت شيئاً غير وجدي

وقال العباس بن جرير:

إرعَ الإخاءَ أبا محم

د الذي يصفو وصُنْهُ

وإذا رأيتَ منافساً

في نيل مَكرُمَة فَكُنْهُ

أن الصديقَ هو الذي

يرعاك حينَ تغيبُ عنه

وإذا كشفتَ غِطاءَهُ

أحمدتَ ما كشفتَ عنهُ

مثل الحسام إذا انتضا

هُ أخو الحفيظةِ لم يَخُنْهُ

يسعى لما تسعى له

كرماً وإن لم تَسْتَعِنْهُ

ومن أبلغ ما قيل في إرضاء الرجل عن أخيه قول الراجز:

لم أقضِ من صُحبةِ زيدٍ أربي

فتًى إذا نبهتهُ لم يَغضبِ

أبيض بسَّام وإن لم يعجبِ

ولا يَضن بالمتاع المحقبِ

موكل النفسِ بحفظِ الغيبِ

أقصى رفيقين له كالأقربِ

وهذا خلاف ما قيل:

من غاب غاب نصيبه

وقلت في قريب منه:

بذلُت من شكريَ ما لم يبذل

لما جد أجملَ إذا لم أُجْمِلِ

يحمل من ثقليَ ما لم يحملِ

فعزَّ في عينيَ حين ذَلَّ لي

إن جمالَ الحرِّ في التجمُّلِ

وقد يكون العزُّ في التذللِ

والمجد شهد يُجتَنى من حنظلِ

ومن قديم ما جاء في هذا النحو قول أوس:

وليس أخوك الدائم العهد بالذي

يلوُمكَ إن ولّى ويرضيكَ مُقبلا

ولكنهُ النائي إذا كنت آمِنا

وصاحبك الأدني إذا الأمرُ أعضلا

أبلغ ما قيل في التأني وأجوده، وأشده اختصاراً، ما أنشدناه أبو أحمد للمرار الفقعسي:

تقطع بالنزول الأرض عنا

وبعد الأرض يقطعه النزولُ

وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله الرحمن الرحيم: 'ألا إن الدين متينٌ، فأوغل فيه برفقٍ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى'. وتقول العرب: شر السير الحقحقة وهي شدة السير. وقلت في نحو قول المرار:

وحطّ بها أكوار خوصٍ لواغب

يقللُ إكثار الذميلِ ذميلُها

نغض عبرة حلَّ الفراقُ عقالها

وأقلقَ هجران الحبيبِ مقيلها

فلا غروَ إن فاضت دموعُ متيمٍ

على الدارِ يسقي ظلهن طلولها

ومن المشهور في التأني قول القطامي:

قد يُدركُ المتأني بعض حاجتهِ

وقد يكونُ مع المستعجلِ الزللُ

وقال غيره:

ومستعجل والمكثُ أدنى لرشدِه

ولم يدر ما يلقاه حين يُبادرُ

وقيل لبعض العلماء: لم لم يقل كل حاجته فيكون أبلغ ؟ قال: ليس كل من كلام الشعر، وقد صدق، ولو قال كل حاجته لكان متكلفاً مردوداً، وكثيراً ما يقع كل في الشعر قلق المكان، كوقوعه في بيت ابن طباطبا.

فيالأئمي دعني أغالي بقيمتي

فقيمةُ كلِّ الناسِ ما يحسنونهُ

ولا أعرف أن كلا وقع في بيت أحسن منه في بيت أبي العتاهية:

أعلمتُ عُتبةُ أنني

منها على أجلٍ مطل

وشكوتُ ما ألقى إلي

ها والمدامعُ تستهلُ

حتى إذا بَرمَتْ بما

أشكوكما يشكو الأذل

قالت فأي الناسِ تع

رفُ ما تقولُ فقلتُ: كل

ومن الذي يهوى فلا

يزَهى عليه ولا يذل

وقد أصاب القائل في صفة العقل:

وجدتُ العقلَ نوعين

فمطبوعٌ ومسموعُ

ولا ينفعُ مسموعٌ

إذا لم يكُ مطبوع

أجود ما قيل في الاختيار قول ابن المعذل أظنه:

إذا لم تَقدحي زَندْيك يوماً

فما يدريك أيهما الوريُّ

وأول الأبيات:

رأتنا أمُّ عمرو فازدرتنا

ونقضُ الحرب منظرُهُ زريُّ

إذا لم تقدحي زنديك يوماً

فما يدريك أيهما الوريُّ

سلي بي تخبري أني طروب

إلى الإيسار أبلجُ بختريُّ

وإني حين تختلف العوالي

إلى الإبطال أكيس قسوريُّ

كِليني للندَى والبأسِ إني

بكل بسالة وندىً حَرِيُّ

ومثله قول الآخر:

زِني القومَ حتى تعرفي عندَ وزنهم

إذا رُفِع الميزانُ كيفَ أميلُ

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: 'أخبر تقله' معناه اختبر من شئت تجد دون ما تظنه فيه، وتطلع على ما تكره منه فتبغضه، وليس في جميع ما قيل في هذا المعنى أبلغ منه ولا أوجز. وقد شرحه ابن الرومي فقال:

دعتني إلى فضلِ معروفكم

وجوهٌ مناظرُها مُعْجِبَهْ

فأخلفتمُ ما توسمته

وقلَّ حميدٌ على التجرِبَةُ

وكَمْ لمْعة خلتُها رَوْضَةً

فألفيتُها دِمنةً مُعِشبَهْ

ظلمتكُم لا تطيب الفرو

عُ إلا وأعراقُها طيِّبَهْ

وكنت حسبت فما حَسَبْ

تُ عفَّى الحساب مع المحسِبَهْ

فهل تعذروني كعذريّكم

بأنَّ أصولكم المذنبهْ

جزيتُ موازينكم بالسوا

ءِ وعُذرٌ بعذر فلا مَعتبه

وقد قال الناس: الطمأنينة قبل التجربة حمق. والمثل السائر. لا تحمدن امرأ حتى تجربه. سمعت عم أبي، يقول: ما سمعناه في الشكر أوجز من قول يحيى بن خالد:

الشكر كفؤ النعمة

ولا أطرف من قول البحتري:

الشكر نسيم النعمة

وأنا أقول لم يسمع أجمع في الشكر من قول إبراهيم بن العباس: أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي، عن أحمد بن إسماعيل، قال: قال إبراهيم بن العباس:الشكر داعية المزيد، وقيمة العارفة، ورباط النعمة، ولسان المعطفة. وأبلغ ما قيل في الشكر، من الشعر قول يحيى بن زياد الحارثي أنشدناه أبو أحمد عن الصولي:

حلفت بربِّ العيسِ تهوِي بركبها

إلى حرم ما عنه للركبِ معدلُ

لما بلغ الأنعامُ في الفضل غايةً

تفضلُ إلاَّ غايةُ الشكر أفضلُ

ولا بلغت أيدي المنيلين بَسطة

من الطولِ إلاَّ بسطةُ الشكر أطولُ

ولا ثقلت في الوزنِ أعباءُ منةٍ

على المرء إلاَّ منَّةُ الشكر أثقلُ

فمن شكرَ المعروف يوماً فَقد أتى

أخا العرف من جنس المكافاة من علُ

وقال الآخر:

فعلتَ خيراً كثيراً

وأنت أكثرُ منهُ

ونحنُ أكثرُ منه

لشكرنا لك عنهُ

وأجود ما قيل في عظم النعمة وقصور الشكر من قديم الشعر، قول طريح بن إسماعيل:

سعيت ابتغاءَ الشكر فيما صنعت بي

فقصرت مغلوباً وإني لشاكرُ

قوله: وإني لشاكر مع قوله: مغلوباً حسن الموقع، وهو مأخوذ من قول الآخر:

فراق حبيب لم يَبنْ وهو بائنٌ

لأنك توليني الجميلَ بداهةً

وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر

فأرجع مغبوطاً وترجع بالتي

لها أولٌ في المكرُمَاتِ وآخرُ

وقول الآخر:

ولو أنّ لي كلِّ منبتِ شعرةٍ

لساناً يبثُّ الشكر فيك لقصرَّا

وقال دعبل:

هُجرتُك لاعن جفوةٍ وملالةٍ

ولا لقلى أبطأتُ عنك أبا بكر

ولكنني لما أتيتك راغباً

فأفرطتَ في برِّي عجزتُ عن الشكر

فملآنَ لا آتيك إلا مِعذراً

أزورُك في الشهرين يوماً أو الشهر

فإن زدتَ في بري تزايدتُ جفوةً

فلا نلتقي حتى القيامة والحشرِ

وقول أبي نواس:

قد قلتُ للعباسِ مُعتذراً

من ضعف شُكريه ومعترفا

أنت امرؤٌ قلدتني نعماً

أوهت قوَى شُكري وقد ضعفا

لا تسدينَّ إليَّ عارِفَةً

حتى أقومَ بشكر ما سَلفا

وهو أول من أتى بهذا المعنى، إلا أنه عبر عنه عبارة طويلة، وأحد أدواء الكلام فضل ألفاظه على معانيه. وقال البحتري:

هاتيك أخرقُ إسماعيل في تعبٍ

من العلا والعلا منهن في تعبِ

أدأبتُ شكري فأمسي منك في نصبٍ

أقصر فماليَ في جَدواك من أرب

لا أقبلُ الدهرَ نيلاً لا يقومُ لهُ

شُكري ولو كان مسديهِ إليَّ أبي

لما سألتك وافاني نداك على

أضعاف شكري فلم أظفر ولم أخِبِ

وقلت في معناه:

تقاصرَ عن نداه باعُ شكري

قصورَ الزجِّ عن زلقِ اللسانِ

وآسى أن تطولَ يداي منهُ

إلى ما لا يُطاوِلُهُ لساني

كأن ندى يديه عناقُ بينٍ

فليس يَسرُّني إلا شجاني

لهجتُ بذكره لأبينَ عنه

فضاقَ بوصفه ذرعَ البيان

حناني ثقله ولو أنَّ قوساً

تلقى منكبيّ لما حناني

فها أنا منه مفتقرٌ وغان

وقلبي فيه منطلقٌ وعان

وقال البحتري:

إني هجرتك إذ هجرتك وحشةً

لا العودُ يذهبها ولا الإبداءُ

أخجلَتني بندى يديك فسوَّدتْ

ما بيننا تلك اليدُ البيضاءُ

وقطعتني بالجودِ حتى إنني

متخوِّفٌ أن لا يكون لقاء

صلةٌ غدتْ في الناسِ وهي قطيعةٌ

عجباً وبرٌّ راحَ وهو جفاء

لَيُواصِلَنَّكَ ركبُ شعرٍ سائر

يرويه فيك لحسنهِ الأعداء

حتى يتمَّ لك الثناءُ مخلَّداً

أبدا كما تّمت لك النّعماء

فتظلُّ تحسدَك الملوكُ الصِّيد بي

وتظلُّ تحسُدني بكَ الشعراء

وقد أحسن ثمامة فيما كتب إلى بعضهم: قد حيرني سوء رأيك في، فما أهتدي لطلب الاعتذار وأنت مولى نعمة أنا عبد شكرها، فلا تفطمني من حسن رأيك فأضوي، ولا تسقطني عن حيطتك فأثوي. وقريب من المعنى الأول قول البحتري:

مَنْ مُعيني منكم على ابنِ فُراتٍ

ومكافاةِ ما أنالَ وأسدَى

كلما قلتُ أطلقَ الشكرُ رقي

رجعتني لَهُ أياديه عبدا

سمعت عم أبي يقول: ما سمعنا بالرضى بالقسمة والشكر وأحسن من قول صالح بن مسمار: ما أدري أنعمة الله فيما بسط عليَ أفضل أم نعمته فيما زوى عني، فجعل ما منعه نعمة، والناس يجعلونه محنة ونقمة. وكتب بعضهم في المعنى الأول: أنا وإن كنت ذا فاقة إلى طولك، فليست، لي طاقة بما حملتنيه من برك، وما أجد لنفسي معقلاً، ولا أعرف لها متعللا، إلا في الاقتداء بمن عجز عن شكر ما أولى، فجبر نقيصته بالاعتراف والتقصير، واعتمد من شكره على تصريف المعاذير. وكتب إلي بعض الأصدقاء:وصل كتابك مقرونا بالتوقيع في معنى المعيشة، فأعاد الأمل جديداً والجد سعيدا، والهمة سامية تمسح وجه النجم، وتقبل عارض الشمس، وتمسك بعنان البدر فآذن بعمارة الجاه، وتكفل برفع القدر وضمن أعلاء الأولياء، وكتب الحساد وكب الأعداء، إلى غير ذلك من أنس أورده، وسرور جدده، ووحشة صرفها، وكربة كشفها، وفهمته وتأملت التوقيع، فتصور لي الغناء بصورته، وقابلني بصدق مخيلته، وعرفت أن الدهر قد غضت جفونه، ونامت عيونه، وتنحت عن ساحتي خطوته، وهذه نعم أعيا بذكرها، فكيف أطمع في أداء شكرها، بل عسى أن يكون الاعتراف بقصور الشكر عنها شكراً لها، ومقبلة لما خلص إلي منها، وأنا معترف بذلك، اعتراف الروض بحقوق الأنواء، إذا تحلى بيواقيت الأنوار ولآلىء الأنداء. وجعل جعفر بن يحيى البرمكي الشكر بإظهار حسن الحال أبلغ من الشكر بالقول:أخبرنا أبو أحمد أخبرنا المبرمان أخبرنا أبو جعفر بن القتيبي قال:أراد جعفر بن يحيى حاجة، كان طريقه إليها على باب الأصمعي، فدفع إلى خادم له كيساً فيه ألف دينار، وقال: إني سأنزل في رجعتي إلى الأصمعي، ثم سيحدثني ويضحكني، فإذا ضحكت فضع الكيس بين يديه، فلما رجع ودخل عليه فرأى حباً مكسور الرأس، وجرة مكسورة العنق، وقصة مشعبة، وجفنة أعشار، ورآه على مصلى بال، وعليه بركان أجرد، فغمز غلامه أن لا يضع الكيس بين يديه، فلم يدع الأصمعي شيئاً مما يضحك الثكلان والغضبان إلا أورده عليه، فما تبسم ثم خرج، فقال لرجل يسايره: من استرعى الذئب ظلم، ومن زرع سبخة حصد الفقر، إني والله لما علمت أن هذا يكتم المعروف بالفعل، ما حفلت بنشره له باللسان، وأين يقع مديح اللسان من آثار العيان ! إن اللسان قد يكذب، والحال لا يكذب، ولله درن نصيب حيث يقول:

فعادوا فأثنوا بالذي أنتَ أهلهُ

ولو سكتوا أثنْت عليك الحقائبُ

ثم قال: أعلمت أن ناس أبرويز أمدح لأبرويز من شعر زهير لآل سنان ؟ قد أتى جعفر في هذا الفصل من المعاني بما لم يأت به أحد قبله وشرحه شرحاً ليس مثله لأحد سواه. وقالت الحكماء:لسان الحال أصدق من لسان الشكوى. وقد أجاد ابن الرومي في هذا المعنى فقال:

حال تبيحُ بما أوليتَ من حِسنٍ

وكل ما تدعيه غيرُ مردودِ

كلي هجاءٌ وقتلي لا يحلُّ لكم

فما يداويكمُ مني سوى الجودِ

وقالوا:'شهادات الأحوال أعدل من شهادات الرجال'. ومما يجري في باب الشكر، وهو من أبدع ما قيل في معناه، ما أنشدناه أبو أحمد قال: أنشدنا الصولي قال: أنشدنا أحمد بن إسماعيل الخطيب لنفسه:

وإني وإنْ أحسنتُ في القولِ مرَّةً

فمنك ومن آثارك امتار هاجسي

تعلمتُ مما قلتهُ وفعلتهُ

فأهديتُ غصناً من حناي لغارسي

أخذه ابن طباطبا فقال في ابن رستم الأصبهاني:

لا تُنكرن اهداءَنا لك منطقاً

منك استفدنا حُسنهُ ونظامهُ

فالله جَلَّ وعزَّ يشكرُ فعلَ من

يتلو عليه وَحْيَهُ وكلامه

وفي غير هذا المعنى يقول أبو تمام:

كم غارةٍ لك في المكارمِ ضخمةٍ

غادرتَ فيها ما ملكتَ قتيلا

فرأيتَ أكثر ما بذلتَ من اللُهى

نزراً وأصغرَ ما شُكرتَ جزيلا

وقد أحسن ابن الرومي:

هاجرتُ عنك إلى الرجا

ل فكانَ عُرفهمُ كنُكركُ

ورجعتُ من كَثَب إلي

كَ مفرِّغاً نفسي لِشُكرك

ولما أرومُ بما أقو

ل زيادةً في رفع ذِكرك

لكنّه حقٌ أوَفّي

ه عِوانَك بعدَ بِكركْ

كم نعمةٍ لك ملء فِكْ

ري لا تُلاحِظها بفِكْركْ

^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي