ديوان المعاني/أوصاف خصال الإنسان المحمودة

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أوصاف خصال الإنسان المحمودة

أوصاف خصال الإنسان المحمودة - ديوان المعاني

أوصاف خصال الإنسان المحمودة

من: الجود والشجاعة، والعلم والحلم، والحزم والعقل، وما يجري مع ذلك

سمعت الشيوخ، رحمهم الله تعالى، يقولون: أجود بيت قالته العرب قول مسلم ابن الوليد:

يجودُ بالنفس إن ضَنَّ الجوادُ بها

والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجودِ

وأول من جاء بهذا المعنى علقمة بن عبدة:

تجودُ بنفس لا يُجادُ بمثلها

فأنتَ بها يومَ اللقاءِ خصيبُ

وهذا مثل قول بزيد بن أبي يزيد الشيباني: من جاد بنفسه عند اللقاء، وبماله عند العطاء، فقد جاد بنفسيه كلتيهما. وقال أعرابي: من جاد بماله، فقد جاد بنفسه وإن لا يكن جاد بها فقد جاد بفولمها. وقال علي بن الجهم:

طلبت هديةً لك باحتيالي

على ما كانَ من حسي وبَسّي

فلما لم أجِدْ شيئاً نَفيساً

يكونُ هديةً أهديت نفسي

وكتب العباس بن حرب إلى بعض الأمراء وأهدى إليه هديه:لا أعلم بمنزله توحشه من الأمير، أعزه الله، ولا توحشه مني أنا موقر من بلائه، وفي الطاعة له كيده، وفي المودة له كنفسه، وفي الخاصة كأحد أهله، وإنما ألطفه من ماله، وقد بعثت إليه ما يصلح ليومه، وأهديت له نفسي التي هي لبذلته وخدمته. وقال أبو تمام:

ولو لم يكن في كفهِ غيرُ نفسهِ

لجادَ بها فليتقِ الله سائلُهْ

وقد أنكر خلف بن خليفة إهداء النفس: قدم أخ له من سفر فاقتضاه خلف الهدية فقال: أهديت نفسي، فقال خلف:

أتانا أخٌ من غَيبةٍ كان غابها

وكنتُ إذا ما غابَ أنشدهُ الركبا

فقلتُ لهُ هل جئتنا بهدية

فقال: بنفسي قلتُ: انحفْ

هيَ النفسُ لا آسى عليها إذا نأت

ولا أتمنى ما حييتُ لها قُربا

إذا هي وافت من ثمانينَ قامةً

فلا السهلَ لقاها الآلةُ ولا الرحبا

وقالوا: قول مروان بن أبي حفصة:

كأنه حين يعطي المال يغنمه

أجود من قول زهير:

كأنك معطيه الذي أنت سائله

لأن للغنيمة حلاوة ليست للعطية. وأجود ما قيل عندي قول أبي العتاهية:

لو قيلَ للعباس: يا بن محمد

قل: لا وأنت مخلدٌ، ما قالها

أخبرنا أبو أحمد، عن الصولي، حدثنا الحسن بن الحسن الأزدي، حدثنا محمد بن حبيب، وعن الصولي أيضاً عن إبراهيم بن المعلى، عن ابن حبيب قال:قال أبو العتاهية يمدح العباس بن محمد:

لو قيلَ للعباس: يا بن محمد

قل: لا وأنت مخلدٌ، ما قالها

إن السماحةَ لم تزل معقولةً

حتى حللتَ براحتيك عِقالَها

وإذا المولكُ تسايرت في بلدةٍ

كانوا كواكبها وكنتَ هلالَها

فلم يثبه فقال:

هززتُك هزَّة السيفِ المحلَّى

فلما أن ضربتُ بك انثنيتُ

فهبها مِدحةً ذهبت ضَياعاً

كذبتُ عليك فيها وافترقتُ

فلما قرأ العباس الأبيات غضب وقال: والله لأجهدن في حتفه، قال: فمر أبو العتاهية بإسحاق بن العباس، فقال له إسحاق: أنشدني شيئاً من شعرك. فأنشده:

ألا أيها الطالبُ المستغيثُ

بمن لا يفيدُ ولا يَرفدُ

ألا تسأل الله من فضله

فإن عطاياه لا تنفذُ

إذا جئت أفضلهم للسؤال

ردَّ وأحشاؤه تُرَعدُ

كأنك من خشيةٍ للسؤالِ

في عينه الحيةُ الأسودُ

فَفِرَّ إلى الله من لُؤمهم

فأني أرى الناسَ قد أصلدوا

وإني أرى الناسَ قد أبرقوا

بلؤمِ الفعال وقد أرعدوا

ثم مضى، فقيل لإسحاق، ما هذا الشعر إلا في أبيك ! فقال إسحاق: أولى له أن عرض نفسه، وأحوج أبي العتاهية إلى مثل هذا مع ملكه وقعدته. ومثل قوله:

كذبت عليك فيها وافتريت

قول علي بن جبلة، وقال له أبو دلف: إنك تحسن أن تمدح ولا تحسن أن تهجو، فقال: الهدم أيسر من البناء، ثم قال:

أبو دلفٍ كالطبل يَذهب صوتُهُ

وبالطنهُ خلوٌ من الخيرِ أخربُ

أبا دلف يا أكذبَ الناسِ كلهم

سواي فأني في مديحك أكذبُ

وأخذ البحتري قوله:

كانوا كواكبَها وكنت هلالها

فقال في المتوكل:

إذا غبتَ عن أرض ويممتَ غيرها

فقد غابَ عنها شمسُها وهلالُها

غدْت بك آفاقُ البلادِ خَصيبةً

وهل تمحلُ الدنيا وأنتَ ثِمالُها

فأما قوله:

كأنك من خشيةٍ للسؤالِ

في عينهِ الحيةُ الأسود

فمن قول بعض العرب:

من دون سيبك وجهُ ليل مظلم

وحفيفُ نافحة وكلب موسدُ

وأخوك محتملٌ عليك ضغينة

وخسيفُ قومك لائمٌ لا يحَمدُ

والضيفُ عندك مثل أسودَ سالخٍ

لا بل أحبهما إليك الأسودُ

ومن جيد ما جاء في خلاف ذلك من الحث على الإنفاق ومجانبة الإمساك، قول ديك الجن:

قالوا: السلامُ عليك يا أطلالُ

قلتُ: السلامُ على المحيل مُحالْ

عاج الشقيّ مراده دِمَن البلى

ومرادُ عيني قلةٌ وحِجالُ

لأنادَمنَّ الراحَ وهي زُلال

ولأطرقنَّ البيتَ فيه غزال

ولأتركن حليلها وبقلبهِ

حُرقٌ وحشوُ فؤاده بلبال

وليشفين حبي فمٌ وحنى يدٌ

وكلاهما لي بادرٌ سلسال

ماذا الغنى والبخل مالك من غنى

وكذاك يا ذا المال مالك مال

أطلقْ يديكَ فإن بين يديك ما

يرديهما ووراءَ حالك حال

قد تسلم الأوكالُ وهي مواكلٌ

للتُّرهَّاتِ وتُقتلُ الأبطال

ورجالُ هذي النائباتِ وإن رَأوْا

شظفاً من الأيام فهي رجال

وقلت:

ولم يكن لك مالٌ يوم تكسِبُه

لكنه لك مالٌ يومُ تنفقه

تحبُّ من أجلهِ الدنيا وتورثها

وسوف توبقك الدنيا وتوبقه

سترتَهُ عن عيون الناس كلهم

ولستَ تعلم أن الدهرَ يرمقه

إن لم تبكر إليهِ في نوائبهِ

فسوف يطرقهُ ركضاً فيرهقة

وقد أحسن القائل:

إذا أعجبتك خصالُ امرىء

فكنهُ تكن مثلَ ما يعجبكْ

فليس على الجودِ والمكرمات

حجابٌ إذا جئتهُ يحجبك

هو المالُ إنْ أنت لم تخترب

أباحَ لك الدهرُ ما يخربك

وإذا كان أفضل الجود ما كان مع الحاجة، على حسب ما مدح الله تعالى به الأنصار، فقال: 'ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة'. وأجود ما قيل قول عروة بن الورد:

فلا تشتمني يا بنَ ورد فإنَّني

تعودُ على مالي الحقوقُ والعوائدُ

ومن يؤثر الحقَّ النؤوبَ يكن به

خَصاصةُ جسم وهو طيَّانُ ماجد

وقال عبد الملك بن مروان: ما وددت أن أحداً من العرب ولدني إلا قائل هذه الأبيات. ومن جيد ما قيل في الإيثار على النفس قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، كتبه عبيد الله بن سليمان حين ولي الوزارة:

أبى دهرنُا إسعافنَا في نفوسنا

فأسعفنا فيمن تُحبُّ ونكرمُ

فقلت له: نعماكَ فيهم أتمها

وَدَعْ أمرنَا إنَّ المهمَّ المقدَّمُ

وهذا غاية لأنه جعل أمر الممدوح أهم له من نفسه وإصلاح شأنه. ومن جيد ما قيل في جود على قوم دون قوم قول البحتري:

سحابٌ عداني جودُهُ وهو هامرٌ

وبحرٌ خطاني فيضُه وهو مفعَمُ

وبرقٌ أضاءَ الأرضَ شرقاً ومغرباً

وموضعُ رجلي منهُ أسودُ مظلمُ

ومن أجود ما قيل في كبر الهمة قول بعض العرب:

لهُ هِممٌ لا مُنتهى لكبارها

وهمتهُ الصغرى أجلُّ من الدهر

له راحةٌ لو أن مِعشارَ جُودِها

على البرَّكان البرُّ أندى من البحر

أخذه المتنبي فقال وقصر:

تجمعتْ في فؤاده هممٌ

ملءُ فؤادِ الزمانِ إحداهما

وموضع التقصير فيه أن الأول جعل همته الصغرى أجل من الدهر، وجعل المتنبي إحدى هممه ملء فؤاد الزمان، فإذا كانت ملء فؤاده فليس بأجل منها. ومما يذكر في وصف كبر الهمة أن سيف بن ذي يزن دخل على كسرى، فتطأطأ في طاق رفيع من طيقان قصره، وجلس فدفعت إليه مخدة، فجعلها على رأسه وكسرى يرمقه، فلما سأل سيف حاجته قيل له: إن الملك قد رأى منك خلتين عجيبتين: وضع المخدة على رأسك وإنما أعطيتها لتجلس عليها، وتطأطؤك في الطاق الرفيع. فقال: أما المخدة فرأيت عليها صورة الملك فوضعتها على أكرم موضع عندي، وأما تطأطئي في الطاق الكبير فإن همتي أكبر منه. فاستحسن كلامه وضم إليه جيشاً أزاح بهم الحبشة عن بلده:ومن بليغ ما قيل في كبر الهمة، قول علي بن محمد البصري:

قلبي نظيرُ الجبلِ الصعب

وهمّتي أكبرُ من قلبي

فاستخر الله وخذْ مُرهفاً

وافتك بأهلِ الشرقِ والغربِ

ولا تمت إن حَضرت ميتةٌ

حتى تميتَ السيفَ بالضربِ

ومن المذكور في ذلك قول أبي تمام:

رأى ابنُ دهرٍ عَرَقا في خيلهِ

أعلم منه بحُدَاءِ ابلِهِ

قد لعبت أيدي النَّوَى بشمْلهِ

ممتَّعاً مُضْطَلِعاً بحمْلهِ

مُنصلِتاً كالسَّيفِ عند سلّهِ

مولودَةٌ هِمَّتهُ من قَبْلهِ

قد دانَ ذو الفضل له بفضلهِ

كالصّابِ من يذقه لا يَسْتَحْلِهِ

إلاَّ بأن يسكنَ تحت ظِلّهِ

وقال:

هِمَّةٌ تَنْطَحُ النجومُ وجدٌّ

آلِفٌ للحضيضِ فهو حَضِيْضٌ

أبلغ ما قيل في يمن النقيبة قول الأعشى:

ولو رُحتَ في ظُلمةٍ قادحاً

حصاةً بنبعِ لأوريتَ نارا

الحصاة مع النبع لا تورى، قال: فأنت من يمن نقيبتك لو قدحت بهما لأوريت. وقال بعض الأعراب:

يذكّرني سعداً دعاءٌ بالقرى

لو أشرفَ القومُ على أرضِ العِدى

واختلطَ الليلُ بألوانِ الحصى

وأرسلوا سَعداً إلى الماءِ سرى

من غير دلوٍ ورِشاءٍ لاْستقى

وهو بليغ في هذا المعنى جداً:وقلت:

ليس للعينِ وراء شأوِه

إلى العلى والمكرُماتِ مُطَّرَحْ

قد شحَّ بالعرض وجاد باللُّهى

فحوى المجد بما جاد وشَحّ

فإذا هَمّ بأمرٍ نالَه

فسواءٌ جَدَّ فيه أو مَزَحْ

وقلت:

إذا ما بدت فينا عطاياهُ عقبت

وكم بادىء للمزنِ غير معقبِ

ولما يقرره تقلّب دهره

فقلت لعلَّ الدهرَ لم يتقلب

ويدنو له المطلوبُ حتى كأنما

يواكب ضوء الصبح في كل مطلب

أبلغ ما قيل في اهتمام الرجل بأمر أخيه قول بعضهم:

سأشكرُ عمراً إن تراخَتْ مَنيّتي

أيادي لم تُمنن وإن هي جلَّتِ

فتى غير مفراح إذا الخيرُ مسهُ

ولا مظهر الشكوى إذا النعلُ زَلَّتِ

رأى خلتي من حيثُ يُحفى مكانُها

فكانت قذى عينيه حتى تجلَّتِ

قوله: قذى عينيه لا يقوم مقامه شيء في شدة الاهتمام، لأن الانسان، إذا قذيت عينه، صرف الهمة إلى تقذيتها من غير اشتغال بشيء غيرها، وهو على قوله: من حيث يخفي مكانها، أبلغ لأنه يدل على تفقد شديد وعناية تامة. ومما هو في هذه الطريقة قول أمية بن أبي الصلت.

إذا ليلةٌ نابتك بالشكوِ لم أبت

لشكواك إلا ساهراً أتململُ

كأني أنا المطروقُ دونك بالذي

طُرقتَ به دوني فعيني تهمُلُ

وقالوا: أشجع بيت قالته العرب، قول عباس بت مرداس السلمي.

أشدُّ على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها

قالوا: أربعة من الشجعان تتبين دلائل الجبن في شعر ثلاثة منهم، فمن الثلاثة عنترة في قوله:

فإذا شربتُ فإنني مستهِلكٌ

مالي وعرضي وافرٌ لم يكلمِ

وإذا صحوتُ فما أقصِّر عن ندىً

وكما علمتِ شمائلي وتكرمي

وَخَليل غانيةِ تركتُ مجدلا

تمكو فَريضتهُ كشدقِ الأعلم

هلاَّ سألتِ الخيل يا بنة مالكٍ

إن كنت جاهلةً بما لم تعلمي

يخبرك من شهدَ الوقيعةَ أنني

أغشىَ الوَغى وأعفُّ عند المغنم

ومُدّجَّج كرهَ الكُماةُ نِزَالهُ

لا ممعن هَرَباً ولا مستسلم

سبقت يدايَ لهُ بعاجلِ طعنةٍ

ليس الكريم على القنا بمحرمِ

نبئت عمراً غير شاكر نعمتي

والكفرُ مخبلةٌ لنفسِ المنعمِ

ثم قال:

إذ يتقون بي الأسنةَ لم أخم

عنها ولكني تضايقَ مقدمي

قالوا: فدل على أنه وقف ولم يقدم، واعتذر بتضايق المقدم. وكان عنترة هجيناً، أمه أمة فاستعبده أبوه، وهذه كانت العرب عادتها في الهجناء، فكان يرعى ثم اتخذ سلاحاً وصنع مهراً فأغارت طيء على عبس فسبوا أهله وجيرانه، فركب مهره واتبع القوم ثم جنبهم حتى أتى من أمامهم، فما زال يطعن في أعين القوم حتى ردوا عليه أباه وأمه ثم عمد وابنته عبلة، ثم قال: لا انصرف بأهلي وأترك جيراني، فكر عليهم فقتل منهم أربعين، فردوا عليه جيرانه، وكان يقول له أبوه وعمه: كره، فيقول: لا يحسن العبد الكر، وإنما يحسن الحلب والصر، يقرعهم بذلك إذا كانوا قد استعبدوه، فاستلحقه أبوه يومئذٍ، وزوجه عمه عبلة ابنته، وكان عنترة يسمى الفلحاء وكانت أمه حبشية تسمى زبيبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: 'وما سمعت بأعرابي فاشتهيت أن أراه إلا عنترة'. والآخر قول عمرو بن معديكرب في قوله:

ولقد أجمعُ رجليَّ بها

حذرَ الموتِ وإني لفرورُ

ولقد أعطفها كارهةً

حينَ للنفسِ من الموت هريرُ

كل ما ذلك منّي خلق

وبكل أنا في الروع جديرُ

فقال: وإن لفرور. وقال بعض أهل الأدب: إنما هو لقرور بالقاف لأن الشجاع لا يمدح نفسه بالفرار سيما باللفظ البليغ من فرور. وليس كذلك لأن قوله:كل ما ذلك مني خلق. على أنه ذكر حال فرار، وحال ثبات، فحال الثبات قوله:ولقد أجمع رجلي بها. والحال الأخرى حال الفرار إذا كان ذلك أحزم. ولو ذكرنا حالا واحدة لم يحسن أن يقول: كل ماء لك مني خلق. وإنما دل على أصالته وعقله في ثباته وقت الثبات، وفراره ساعة الفرار، وليس الشجاعة أن يحمل الرجل نفسه على الهلكة، إنما ذلك هوج، والشجاعة أن يتقدم، وغالب ظنه أن يظفر، فأما أنه إذا علم أنه إذا أقدم هلك، ثم أقدم، فإن ذلك جنون، لأن كل أحد يقدر أن يقدم على الهلكة فيهلك، وإنما الشأن في أن يحمد غب إقدامه. وفي قريب من ذلك قوله:

فجاشت إليَّ النفسُ أولَ مرة

فرُدَّتْ على مكروها فاستقرَّتِ

فما جاشت نفسه إلا وجبن، ولو وصف عمرو هذه الأشياء من نفسه قيل: إنه ممن يصدق عن نفسه، على أنه ربما كذب الكذبة الصلعاء. وروى لنا أبو أحمد عن العبشمي، عن المبرد، وعن غيره، قال: وقف عمرو بن معد يكرب وخالد بن الصقعب النهدي في جماعة بالكناسه يتحدثون، فقال عمرو: أغرنا مرة على بني نهد، فخرجوا مستر عفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه، فطعنته فأرديته، ثم ملت عليه بالصمصامة، فأخذت رأسه، فقال خالد: حلاً أبا ثوار ؟ فان قتيلك هو المحدث. فقال عمرو: يا هذا ! إذا حدثت فاسمع، فانما نرهب هؤلاء المعدية. مسترعفين أي متقدمين، وقوله: حلا أبا ثور ! أي قل إن شاء الله. ويقال: حلف ولم يتحلل، أي لم يستثن. ويروى عن العرب كذب كثير، فمن ذلك ما يزعمون أنهم يرون الجن، ويكلمون الغيلان والسعالي، حتى زعم تأبط شراً انه طلب نكاح السعلاة في قوله:

وادهم قد جبت جلبابه

فيا جارتا أنت ما أهولا

فطالبتها بُضعَها فانثنت

بوجه تهوّل واستغولا

وكنت إذا ما هممتُ اعتزمتُ

وأحرى إذا قلتُ أن أفعلا

وقال آخر:

أخو قَفراتٍ حالفَ الجنَّ واتقى

من الانسِ حتى ما تقضت رسائلُهْ

له نسبُ الإنسيِّ يعرفُ نحله

وللجنِّ منهُ خَلقُهُ وشمائلُهْ

وقال عبيد بن أيوب:

فللَّه درُّ الغولِ أيُّ رفيقةٍ

لصاحبِ قفرٍ خائفٍ متقفرِّ

وكان كثيرٌ من شعرائهم يدعي أن له شيطاناً يعلمه الشعر، منهم الفرزدق كما يكنى شيطانه أبا لبينى، وذكر أنه ذهب إلى جبل فناداه، فجاء مثل الذباب، فدخل في حلقه، فقال قصيدته التي أولها:

عزفت بأعشاشٍ وما كنت تعزف

وقال أبو النجم:

وجدت كلّ شاعرٍ من البشرْ

شيطانهُ أنثى وشيطاني ذكر

وزعموا أن عروة بن عتبة صرخ بقومه فأسمعهم من مسيرة ليلة. ورووا أن لقمان بن عاد لما ضعف بصره كان يفصل بين أثر الذكر والأنثى، والذر إذا دب على الصفا في الليلة الظلماء. وقال رجل لأبي حنيفة: ما كذبت قط ! قال: هذه كذبة أشهد بها عليك. وسأل الحجاج قاصاً عن اسم بقرة بني اسرائيل، قال: حنتمة. فقال له رجل من أولاد أبي موسى الأشعري: في أي كتاب وجدت هذا ؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص. ودخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية، فقال: اسمع أبياتاً قلتها:

إذا أنتَ لم تنصف أخاكَ وجدتَهُ

على طرفِ الهجرانِ إن كان يعقلُ

ويركب حدَّ السيفِ من أن تضيمهُ

إذا لم يكن عن شفرةِ السيفِ مزحلُ

ثم دخل معن بن أوس المزني فأنشد:

لعمرك ما أدري وإني لأؤْجَلُ

حتى صار إلى البيتين، فقال معاوية: ما هذا يا أبا بكر ؟ فقال: أنا أصلحت المعاني، وهو ألف كلام، وهو بعد ابن ظئري، وما قال من شيء فهو لي. وكان عبد الله بن الزبير مسترضعاً في مزينة. والثالث عمرو بن الأطنابة حيث يقول:

وقولي كلما جشأتْ وجاشَتْ

مكانَكِ تحمدي أو تستريحي

فزعم أنه نفسه جشأت وجاشت، وليس ذلك إلا من الجبن. أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا أبو بكر بن دريد، عن الرياشي، حدثنا العتبي عن أبيه، قال: دخل الحارث بن نوفل بابنه على معاوية، فقال: ما علمت ابنك ؟ فقال: القرآن والفرائض، فقال روه من فصيح الشعر، فإنه يفتح العقل، ويفصح المنطق، ويطلق اللسان، ويدل على المروءة والشجاعة، ولقد رأيتني ليلة صفين وما يحبسني ألا أبيات عمرو بن الأطنابة حيث يقول:

أبت لي عفتي وأبى بلائي

وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ

وإعطائي على المكروهِ مالي

وضربي هامةَ الشيخ المشيحِ

وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانكِ تحمدي أو تستريحي

لأدفعَ عن مآثرَ صالحاتٍ

وأحمي بعدُ عن عرضٍ صحيحِ

بذي شطبٍ كلونِ الملح صافِ

ونفس لا تقرُّ على القبيحِ

قالوا: والذي يدل على الشجاعة الخالصة قول العباس بن مرداس:

أشدُّ على الكتيبةِ لا أبالي

أحتفي كان فيا أو سواها

وهذا على مذهب من ذكرنا قبل هوج، والذي يدل على أن التثبت والتأني وسكون النفس من تمام الشجاعة قول بلعاء بن قيس:

وفارس في غمارِ الموتِ مُنغمس

إذا تأنَّى على مكروهِهِ صدقا

غشيتهُ وهو في جأواء باسلة

عضباً أصابَ سواءَ الرأس فانفلقا

بضربةٍ لم تكن مني مخالسةً

ولا تعجلتها جبناً ولا فَرَقا

فذكر أن مخالسة الضرب من الجبن. وأحسن ما قيل في التقدم في الحرب قول زهير:

ليث بعثّر يصطادُ الرجالَ إذا

ما الليثُ كذّب عن أقرانِهِ صَدَقَا

يَطْعنهمُ ما ارتَمَوا حتى إذا ظعنوا

ضَارَبَ حتى إذا ما ضارَبُوا اعتنقا

وصفة بالتقدم على كل حال. وقل أحد منهم لم يصف نفسه بالتأخر. قال حصين بن حمام:

تأخرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجد

لنفسي حياةً مثلَ أنْ أتقدّما

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومُنا

ولكن على أقدامنا تُقطِر الدما

ذكر أنه تأخر، ثم رأى أن التقدم أحرز لظفر يعيش بن عزيزاً، أو موتٍ يموته شريفاً. وأخبرنا أبو أحمد، رحمه الله تعالى، عن أبيه عن علي، قال: قال المهدي لابن داب: أنشدني أحسن ما قيل في وصف الفتى الشجاع. فأنشده للشماخ:

وأشعثَ قد قدَّ السِّفارُ قميصَه

يجر شِواءً بالعصا غيرَ مُنضَجِ

دعوتُ إلى ما نابني فأجابني

كريمٌ من الفتيان غيرِ مُزلَّجِ

فتى يملأ الشِّيزى ويُروي سِنانهُ

ويضربُ في رأس الكميِّ المدجّجِ

فالتفت إلى عبد الله بن مالك الخزاعي وقال: هذه صفتك. وقالوا: أشجع بيت قالته العرب، قول كعب بن مالك:

نصلُ السيوفَ إذا قَصُرنَ بخطونا

قِدْماً ونُلحِقها إذا لم تَلحَقِ

ورأى بعض العرب سيفاً فقال: ما أجوده لولا قصر فيه ! فقال صاحبه: نصله بخطوة. فقال الرجل: تلك الخطوة أشد من مشيتي إلى الصين. وأبلغ ما قيل في سعة الخطو في الحرب قول أبي تمام:

خطوٌ ترى الصارمَ الهنديَّ منتصراً

به من المارنِ الخطيِّ منتصفاً

يقول: لسعة الخطو ينتصف صاحب السيف من صاحب الرمح. وقالوا: أشجع ما قيل قول الشاعر:

أقولُ لنفسٍ لا يجادُ بمثلها

أقلِّي شكوكا إنني غيرُ مدبرِ

وأجود ما قيل في صدق اللقاء مع قلة العدد قول أبي تمام:

قلّوا ولكنهم طابوا فانجدهم

جيشٌ من الصبر لا يُحصى له عددُ

إذا رأوا للمنايا عارضاً لبسوا

من اليقين دُروعاً مالها زردُ

ناء عن المصرحِ الأدنى فليس لهم

إلا السيوفُ على أعدائهم مددُ

وأجود ما قيل في وصف الفتى الشجاع وصاحب الحرب من شعر المحدثين، قول مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد الشيباني:

لولا يزيد لأضحى الملكُ مضطرداً

أو مائلَ الرأس أو مسترخيَ الطَوَلِ

حاطَ الخلافةَ سيفٌ من بني مَطَرٍ

أقام قائمَهُ مَنْ كان ذا مَيَلِ

سدَّ الثغورَ يزيدٌ بعد ما انفرجت

بقائم السيف لا بالختل والحِيَلِ

موف على مهجٍ في يوم ذي رهَجٍ

كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ

ينالُ بالرفقِ ما يَعْيَا الرجالُ به

كالموتِ مستعجلاً يأتي على مَهَلِ

يكسو السيوفَ نفوس الناكثين به

ويجعل الهام تيجان القنا والذُبُلِ

يغدو فتغدو المنايا في أسنّتِه

شوارعاً تتحدى الناسَ بالأجلِ

قد عودَ الطيرَ عادات وثقنَ بها

فهن يَتّبعَنهُ في كلِّ مُرتحلِ

إذا انتضى سيفَهُ كانت مسالكهُ

مسالكَ الموتِ في الأبدان والقُلَلِ

الزائدُّيون قومٌ في رماحهم

خوفُ المخيفِ وأمن الخائفِ الوَجِلِ

كبيرهُم لا تقومُ الراسياتُ له

حلماً وِطفلُهُم في هُدى مُكتهِل

إسلم يزيدُ فما في الملكِ من أوَدٍ

إذا سلمتَ ولا في الدينِ من خلل

وافخر فمالك في شيبانَ من مثلٍ

كذاك ما لبني شيبانَ من مثلِ

لله من هاشمٍ في أرضهِ جبلٌ

وأنت وابنُك ركنا ذلك الجبلِ

وقوله:

سلَّ الخليفةُ سيفاً من بني مطر

يمضي فيخترقُ الأحشاءَ والهاما

كالدهرِ لا ينثني عمَّا يهُمُّ به

قد أوسعَ الناسَ إنعاماً وإرغاما

تظلمَ المال والأعداء من يده

لا زالَ للمالِ والأعداءِ ظلاَّما

إذا بدا رفعَ الأستار عن ملك

تُكسى العيونُ به نُوراً وإظلاما

تمضي المنايا لما تمضي أسنّتهُ

كأنّ في سَرجهِ بدراً وضِرغاما

وله أيضاً:

يلقى المنّية في أمثال عُدتِها

كالسيلِ يقذفُ جُلموداً بجلمودِ

كالليثِ بل مثلهُ الليثُ الهصُورُ إذا

غنَّى الحديدُ غناءً غير تغريدِ

وقالوا: أشجع بيت قاله محدث قول أبي تمام:

فما بلّ في مستنقع الموتِ رجله

وقال لها من تحتِ أخمصك الحشرُ

وقد كان فوتُ الموت سهلاً فردَّهُ

عليه الحِفَاظُ المرُّ والخُلُقُ الوعرُ

غدا غَدْوَةً والحمد نسجُ ردائهِ

فلم ينصرف إلا وأكفانُهُ الأَجرُ

أخذ معنى البيت الأول من قول عوف بن قطن بقوله يوم الجمل:

لا أبتغى اللَّحدَ ولا أبغي الكفنْ

من ها هنا محشرُ عوفِ بن قطنْ

وأجود ما قيل في سكون الجأش في الحرب، قول البحتري:

لقد كانَ ذاك الجأش جأشَ مسالمٍ

على أنَّ الزيَّ زيُّ محاربِ

تسرَّعَ حتى قالَ من شهدَ الوغى

لقاء عداءٍ أم لقاء حبائب

وصاعقة في كفه ينكفي بها

على أرؤسِ الأقران خمسُ سحائب

وهذا البيت أجود ما قيل في معناه، جعل السيف صاعقة، وأصابع الضارب سحائب تجود على مؤملين بغيتها، وتقتل معاوية بصاعقتها. ^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي