ديوان المعاني/الاعتذار

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الاعتذار

الاعتذار - ديوان المعاني

الاعتذار

الإعتذار أيدك الله ذلة، ولا بد منه، لأن الإصرار على الذنب، فيما بينك وبين خالقك هلكة، وفيما بينك وبين صديقك فرقة، وعند سائر الناس مثلبة وهجنة، فعليك به إذا وقعت الذنب، وقارفت الجرم، ولا تستنكف من خصومك وتذللك فيه، فربما استثير العز من تحت الذلة، واجتنى الشرف من شجرة الندلة، ورب محبوب في مكروه.

والمجد شهد يجتني من حنظل

ومما خص به الإعتذار أن الحق لا يثبت لباطله، والحقيقة لا تقوم مع تخييله. وتمويهه، وإن رده لا يسمع من الكذب اللائح في صفحاته، وقالوا: المعاذير مكاذب، ويقولون مع ذلك لا عذر في رد الاعتذار والمعتذر من الذنب كمن لا ذنب له. وهذه خصلة لا يشركه فيها غيره، ولم يرو عن أحد قبل النابغة الذبياني في الاعتذار شعر فيه أجود منه، ومما نرويه له فيه قوله حين سعى به المنخل اليشكري إلى النعمان، وزعم أنه غشي المتجردة حظية النعمان وذلك حين وصفها النابغة فقال:

وإذا لمستَ أخثم جاثما

متحيزاً بمكانه ملءَ اليدِ

وإذا طعنتَ في مستهدفٍ

رابي المجسَّةِ بالعبيرِ مقرمدِ

وإذا نزعتَ نزعت عن مستحصفٍ

نَزْعَ الحزَوَّر بالرشاء المحصد

فقال المنخل للنعمان: هذا وصف من ذاقها. فوقر في نفس النعمان، ثم وفد عليه رهط من بني سعد بن زيد مناة بني قريع، فأبلغوه أن النابغة ما زال يذكرها ويصف فيها، فأجمع النعمان على الإيقاع بالنابغة، فعرفه ذلك عصام حاجب النعمان وهو الذي قيل فيه:

نفس عصام سَّودَتْ عصاما

فصار يتمثل به فيقال عصامي وليس بعظامي، وإذا كان يكسب المآثر لنفسه ولا يتكل على مآثر الأموات من أسلافه، ويقولون كن عصامياً لا عظامياً، فانطلق النابغة إلى آل غسان، وكانوا قتلوا المنذر ولد النعمان، فزادهم لحاق النابغة بهم حشمة ثم اتصلت به كثرة مدائح النابغة لهم، فحسدهم عليه فأمنه وراسله في المصير إليه، فصار إليه وجعل يعتذر مما قرف به ومن مدحه لآل غسان في قوله:

حلفتُ فلمْ أتركْ لنفسكَ ريبةً

وليسَ وراءَ اللَّهِ للمرءِ مَذْهبُ

لئنْ كنتَ قد بُلغتَ عني خيانَةً

لمبْلغُك الواشي أغشُّ وأكذب

ولستَ بمستبق أخاً لا تلمُّهُ

على شَعثٍ أيُّ الرجالِ المهذَبُ

وقد ذكرنا هذا في أول الكتاب، وقوله:

وعيدُ أبي قابوسَ في غيرِ كُنهه

أتاني ودوني راكسٌ فالضواجع

فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ

من الرُّقش في أنيابها السمُّ ناقعُ

أتاني أبيتَ اللعنَ أنك لمتني

وتلك التي تستك منها المسامعُ

إلى أن قال:

فإن كنت لا ذو الضغن عني مكذّبٌ

ولا حَلِفي على البراءة نافعُ

ولا أنا مأمُونٌ بشيء أقولهُ

وأنت بأمر لا محالةَ واقعُ

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خِلْتُ أنَّ المنتأى عنك واسعٌ

وقال:

أنبئت أنَّ أبا قابوس أوْعدَني

ولا قرار على زأرٍ من الأسدِ

مهلاً فِداءٌ لكِ الأقوام كلهم

وما أثمِّرُ من مال ومن ولد

لا تقذفَنِي بركن لِاكفاءَ له

وإن تأثّفكَ الأعداء بالرِّفَدِ

ما قلت من سيء مما أتيت به

إذاً فلا رفعتْ سوطي إليَّ يدي

ها إنَّ ذي عذرة إلا تكن نفعتْ

فإنَّ صاحبها قد تاه في البلد

فخلع عليه النعمان خلع الرضا، وكن حبرات خضرا مطرفة بالجواهر، وقد ذكرنا الحديث بطوله فيما تقدم. وما سلك أحد طريقته هذه فأحسن فيها كاحسان البحتري: أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا الصولي: سمعت عبد الله بن المعتز يقول: لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية في وصف إيوانه كسرى، فليس للعرب مثلها، وقصيدته في صفة البركة:

ميلوا إلى دار من ليلى نحييها

واعتذاراته في قصائده إلى الفتح التي ليس للعرب بعد اعتذارات النابغة مثلها، وقصيدته في دينار التي وصف فيها ما لم يصفه أحد قبله وهي التي أولها:

ألم تر تغليس الربيع المبكر

وصف حرب المراكب في البحر لكان أشعر الناس في زمانه، فكيف وقد انضاف إلى هذا صفاء مدحه، ورقة تشبيهه في قصائده ! فمن اعتذاراته قوله في قصيدته التي أولها:

لوت بالسلام بناناً خضيبا

فقال فيها:

فدَيْناكَ من أيِّ خطب عرا

ونائبة أوشكتْ أن تنوبا

وإن كان رأيك قد حالَ فيّ

فلقيتني بعد بشرٍ قطوبا

يريبني الشيء تأتي به

وأكبر قدرك أنْ أسترينا

وأكرهُ أن أتمادى على

سبيل اغترار فألقى شعوبا

أكذِّب نفسي بأن قد جنيت

وما كنت أعهد ظني كذوبا

ولو لمْ تكنْ ساخطاً لم أكنْ

أذُمُّ الزَّمانَ وأشكو الخطوبا

أيصبح ورديَ في ساحتيك

طرقاً ومرعايَ محلاً جديبا

وما كان سخطُك إلا الفراق

أفاضِ الدُّموعَ وأشجى القلوبا

ولو كنتُ أعرف ذنباً لما

تخالجني الشكُّ في أن أتوبا

سأصبرُ حتى ألاقي رضاك

إما بعيداً وإما قريبا

أراقبُ رأيكَ حتى يصحَّ

وأنظرُ عطفك حتى يثوبا

وقوله:

عذيري من الأيام رنقنٍ مشربي

ولقينني نحساً من الطيرِ أشأما

وأكسبنني سخط امرئ بتُّ موهناً

أرى سخطه ليلاً مع الليل مُظلما

تبلجَ عن بعض الرِّضا وانطوى على

بقية عتب شارفتْ أن تصرَّما

إذا قلت يوماً قد تجاوزَ حدّها

تلبثَ في أعقابها وتلوَّما

وأصيد إن نازَعْتَهُ الطرفَ ردَّهُ

كليلاً وإن راجعتهُ القولَ جمجما

ثناه العدى عني فأصبح معرضاً

وأوهمه الواشون حتى توهما

وقد كان سهلاً واضحاً فتوَّعرت

رُباه وطلقاً ضاحكاً فتجهما

أمتخذٌ عندي الاساءة محسنٌ

ومنتقمٌ مني امرءٌ كان منعما

ومكتسبٌ فيَّ الملامةَ ماجدٌ

يرى الحمدَ غنماً والملاحةَ مغرما

يخوفني من سوءِ رأيك معشرٌ

ولا خوف إلا أن تجورَ وتظلما

أعيذك أن أخشاك من غير حادث

تَبيَّن أو جرم إليك تقدَّما

ألست الموالي فيك نظم قصائد

هي الأنجم اقتادتْ مع الليل أنجما

أعِدْ نظراً فيما تسخطتْ هلْ ترى

مقالاً دنيئاً أو فعالاً مُذَمِّما

رأيت العراق ناكرتني وأقسمتْ

عليَّ صروف الدَّهر أنْ أتشأما

وكان رجائي أن أؤوبَ مملكا

فصار رجائي أن أؤوب مسلما

حياء فلم يذهب بي الغيُّ مذهبا

بعيداً ولم أركبْ من الأمر معظما

ولم اعرف الذَّنْب الذي سؤتني له

فأقتل نفسي حسرةً وتندما

ولو كان ما خبرتهُ أو ظننته

لما كان غرواً أن ألومَ وتكرما

أذكرك العهد الذي ليس سؤوداً

تناسيه والودَّ الصحيحَ المسلما

وما حمل الركبان شرقاً ومغرباً

وأنجدَ في أعلى البلادِ وأتهما

أقرُّ بما لم أجنهِ متنصلاً

إليك على أني أخالكَ ألوما

ليَ الذَِّنبُ معروفاً وإن كنتَ جاهلا

به فلك العتبى عليَّ وأنعما

ومثلك من أبدي الفعالَ اعادةً

وإن صنعَ المعروف زاد وتمما

ونحن نقول: إن لكل شيء ثمناً وثمن خضوع المعتذر قبوله. وكتبت:وسيلتي إليك الثقة بكرم أخلاقك، وشرف أعراقك، وقد طلبت المسامحة منك بك، وجعلت كرمك أقوى أسبابي إليك، وقد خفضت لك جناح الذل في التنصل مما فرط، فتفضل علي بالقبول، لئلا يلحقني هجنتان: هجنة تذللي لك، وأخرى ردك لي. وقد قيل: ارض لطالب الخضوع وللقارف ذنباً مذلة الإعتذار. وفي هذا المعنى ما كتب بعضهم:لما تعذر علي العذر، جعلت معولي على فضلك أبلغ عذر أقدمه وأقوى سبب أؤكده. وأخبرنا أبو أحمد، عن أبي روق، عن السكري، عن إبراهيم الندى قال: قلت لرجل: ما حملك على بذلك وجهك في حرائج الناس ؟ قال: إني لم أسمع شيئاً أحسن من بناء حسن، على رجل أحسن، ومن شكر حر، وشفاعة شفيع لطالب شاكر، ولأني لا أبلغ المجهود، ولا أسأل من لا يجود، وليس صدق العذر عندي بدون إنجاز الوعد، ولا إكداء السائل بأغلظ من الأجحاف بالمسؤول، ولا أرى الراغب إلي بالمسألة بحسن ظنه بي أوجب حقاً علي من المرغوب إليه الذي يتحمله من لدي، والعرب تقول: إن مع الهيبة الخيبة، والفرصة خلسه، فثبت عند صدور الأمور، ولا تتبع اعجازها. وقال ابن المعتز ؟ العذر مع التعذر واجب. ومن أعجب الأعتذار في التقاضي قول بعضهم:

هزَزْتك لا أني ظننتك ناسياً

لوعدٍ ولا أني أرَدْتُ التقاضيا

ولكن رأيتُ السيفَ في حالِ سله

إلى الهزِّ محتاجاً وإن كان ماضيا

ومن مليح ما يجري في هذا الباب: ما أخبرنا به أبو أحمد، عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن العتبي، عن أبيه، عن شيخ من قريش، قال: قال رجل لسليمان بن عبد الملك:إن القدرة تمنع الحفيظة، وأنت تجل عن العقوبة، وإن تعف فأهل ذلك أنت، وإن تعاقب فأهل ذلك أنا، فعفا عنه، فأخذه بعض المحدثين فقال:

فإن عاقبتني فبسوءِ فعلي

وما ظلمتْ عقوبةُ مستفيدِ

وإن تغفر فإحسانٌ جديدٌ

دعوتَ به إلى شكر جديدِ

تم الباب والحمد لله وحده. ^

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم عونك، جمع الله شملك، ووصل حبلك، ومعتك بأحبتك، وأعطاك مأمولك. في نفسك وأعزتك، وأعاذك من قطيعة أحبابك، وجنبك تجنب أودائك، ولا جعل للهجر عليك سبيلا، ولا للفراق عليك دليلاً، لينعم باللذة جسمك، ويعمر بالسرور قلبك، فتعيش في ضمان الفرح، ويبؤ حاسدك باعباء الترح، إنه حميد مجيد فعال لما يريد. العشق، أدام الله توفيقك، من شرائف أخلاق الفتيان، وكرائم سجايا الشبان، يطلق لسان العيي، ويفتق حيلة البليد، ويبعث على السخاء بما تسمح به نفس الكريم، وينحر دون بذله اللئيم، ويدعو إلى استعمال الفتوة، واظهار المروءة في تنظيف اللباس، وتحسين الرياش، ويجدد حب المساعدة والائتلاف، وكراهة التباين والاختلاف، إلى غير ذلك من محمود الحال، وممدوح الخصال، وإذا رزقت منه نصيباً جزلاً فوفه حقه، واسلك به طرقه، وتأمل ما أهديت إليك فيه فإنه يعينك عليه، ويحسن أسبابه لك، ويكبت لائمك فيه، ويكون جلاءً لناظرك، وشحذاً لخاطرك، إن شاء الله سبحانه وتعالى.

هذا

كتاب المبالغة في

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي