ديوان المعاني/الافتخار

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الافتخار

الافتخار - ديوان المعاني

الافتخار

قالوا: أفخر بيت قالته العرب قول جرير:

إذا غضبت عليك بنو تميم

حسبت الناسَ كلهم غضابا

وقالوا: قال عبد الملك بن مروان للفرزدق وجرير والأخطل: من أتاني منكم بصدر هذا البيت: والعود أحمد، فله عشرة آلاف درهم، فما كان فيهم مجيب، فأدخل أعرابي من عذرة إليه، فأنشده:

فإن كان مني ما كرهتَ فإنني

أعودُ لما تهواهُ والعودُ أحمدُ

قال لم تصب ما أردت فأنشد:

وأحسن عمرو في الذي كان بيننا

فإن عاد بالإحسان فالعودُ أحمدُ

فقال عبد الملك: أحسنت، ولكن لم تصب ما أردت، فأنشد:

جزينا بني شيبانَ قِدماً بفعلهم

وعُدنا بمثل البدءِ والعودُ أحمدُ

فقال: هذا طلبت. ثم قال: أخبرني عن أهجى بيت قالته العرب. قال:قول جرير:

فغضَّ الطرفَ إنك من نميرٍ

فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا

ولو وضعت فِقاحُ بني نميرٍ

على خَبثِ الحديدِ إذاً لذابا

قال: فأخبرني عن أمدح بيت قالته العرب العرب ! قال:قول جرير:

ألستم خَيرَ من ركب المطايا

وأندى العالمينَ بُطونَ راح

قال: فما أفجز قالته العرب ؟ قال: قول جرير:

إذا غضبتْ عليك بنو تميمٍ

حسبتَ الناسَ كلّهمُ غِضابا

قال: فما أغزل بيت قالته العرب. ؟ قال: قول جرير:

إن العيونَ التي في طَرفها مرض

قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا

يَصرعنَ ذا اللبِ حتى لا حَراك بهِ

وهُنَّ أضعفُ خلق اللّه أركانا

قال: فما أحسن بيت قيل ؟ قال قول جرير:

وطوى الطراد مع القياد بطونها

طي التجار بحضرموت برودا

قال فما أقبح بيت قيل: قال قول جرير:

ألم تَرَ أنَّ جِعْثنَ وَسْطَ سعدٍ

تُسمى بَعدَ قِضتها الرحابا

ترى برَصاً بأسفل إسكتيها

كنفقةِ الفرَزْدَق حينَ شابا

قال: فما أهجن بيت قيل ؟ قال: قول جرير:

طرقتك صائدةُ القلو وليس ذا

حين الزيارة فارجعي بسلام

قال: فهل تعرف جريراً ؟ قال: لا ولكن ترد علينا أقاويل الشعراء، فلم أر شعراً أرق في الوزن، ولا أملأ للفم من شعره، فقام جرير فقبل رأسه، وجعل جائزته في هذا العام له، وأضاف عبد الملك إليها مثلها، وكتب إلى عامله باليمامة أن ينصف من خصم تظلم منه. وقد قال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:

بدأتم فأحسنتم فأثنيتُ جاهداً

وإن عدتمُ أثنيتُ والعودُ أحسن

وقال ابن المعتز أو غيره:

خليليَّ قد طابَ الشرابُ المبرَّدُ

وقد عُدتُ بعد النسك والعودُ أحمد

وقال ابن حبيب: دخل رجل من بني سعد على عبد الملك بن مروان فقال له: ممن الرجل ؟ قال من الذين قال لهم الشاعر:

أذا غَضبتْ عليكَ بنو تميمِ

حسبتَ الناسَ كلّهم غِضابا

قال: فمن أيهم أنت ؟ قال: من الذين يقول لهم القائل:

يزيد بنو سعد على عدد الحصى

وأثقل من وزن الجبال حلومها

قال: فمن أيها أنت ؟ قال من الذين يقول لهم الشاعر:

ثيابُ بني عوفٍ طهارى نقيةُ

وأوجههُم عند الشاهدِ غُرّانُ

قال: فمن أيهم أنت ؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر:

فلا وأبيك ما ظلمت قريع

بأن يبنوا المكارم حيث شاؤوا

قال: فمن أيهم أنت ؟ قال من الذين يقول لهم الشاعر:

قوم همُ الأنفُ والأذنابُ غيرهمُ

ومن يسوّي بأنفِ الناقةِ الذنبا

قال: اجلس لا جلست والله لقد خفت أن تفخر علي. وقالوا: أفخر بيت قالته العرب، قول الفرزدق:

ترى الناسَ ما سِرنا يَسيرونَ خلفَنا

وإن نحنُ أومأنا إلى الناس وقَّفوا

ورواه لنا أبو علي بن أبي حفص: أربأنا قال: والإرباء الإشارة إلى خلف والإيماء إلى قدام، والناس يجعلون هذا البيت لجميل في قصيدته التي يقول فيها:

وكانت تجيدُ الأسدُ عنا مُخافةً

فهل يقتلني ذو بنان يطرفُ

لقد أخلفت ظني وكانت مخيلة

وكم من مخيل يرتجي ثم يخلفُ

إذا انتهبَ الأقوامُ مجداً فإننا

لنا مِغرفا مجدٍ وللناسُ مغرفُ

وضعنا لهم صاعَ القصاصِ رَهينةً

بما سوفَ نُوفيه إذا الناسُ طفّفوا

ترى الناسَ ما سرنا يسيرونَ خلفنا

وإن نحنُ أومأنا إلى الناس وقَّفوا

وكان جميل جيد الافتخار قال:

والشاعر المتألي الشاعرون به

كي يلمسوه وأين اللمسُ من زُحَل

وعند الناس قصيدته الفائية أحسن وأسلس من قصيدة الفرزدق. وأخذ بعضهم قوله:

وكم من مخيل يرتجى ثم يخلف

فقال وأحسن:

ظننتُ به ظناً فقصّرَ دونهُ

فيا رُب مظنونٍ به الخيرُ يُخْلِفُ

وما الناسُ الذين عرفتهم

وما الدارُ بالدار التي كنتُ أعرف

وما كلُّ من تَهواه يَهواك قلبه

وما كلُّ من أنصفته لك منصف

أخبرنا أبو أحمد، عن المبرما، عن أبي جعفر بن العبسي عن العبسي قال: من أحسن ما مدح به الرجل نفسه قول أعشى ربيعة:

وما أنا في نفسي ولا في عَشيرتي

بمنهضمٍ حقي ولا قارع سني

ولا مسلمٍ مولايَ عند جنايةٍ

ولا خائف مولاي من شرِّ ما أجني

وإن فؤادي بينَ جنبيَّ عالمٌ

بما أبصرتْ عيني وما سمعتْ أذني

وفضلي في الشعر واللب أنني

أقولُ على علمٍ وأعلمُ ما أعني

فأصبحتُ إذا فضلت مروانَ وابنه

على الناس قد فَضلت خيرَ أب وابن

وأنشدنا أبو أحمد عن أبي بكر عن أبي حاتم عن الأصمعي قال وهو من أجود ما مدح به الرجل نفسه، قال أبو هلال وهو لمسكين الدارمي:

ورُبّ أمون قد بريت لحاءها

وقومت من أصلابها ثم رشتُها

أقيم بدارِ الحزمِ ما لم أهَن بها

فإن خفتُ من دار هوانا تركتها

وأصلحُ جل المال حتى حَسبتني

بخيلاً وإن حقُّ عرابي أهنتُها

ولستُ بولّاجِ البيوتِ لفاقَةٍ

ولكن إذا استغنيتُ عنها ولجتها

إذا قصّرت أيدي الكرامِ عن العلا

مددتُ لها باعاً طويلاً فنلتُها

وعوراءُ من قيل امرئ ذي عداوةٍ

تصاممتُ عنها بعد أن قد سمعتها

رجاء غدٍ أن يعَطفَ الودُّ بيننا

ومظلمة من بجنبي عركتُها

غيره:

ومالَي وجهٌ في اللئام ولا يدٌ

ولكنَّ وجهي في الكرام عريضُ

أصحُّ إذا لاقيتهم وكأنني

إذا أنا لاقيت اللئامَ مريض

وقلت في معناه:

وخلِّ الجهولَ وبُغضي له

فإنني لبيب أُحبُّ اللبيبا

يصادُفني الضيف طلقاً ضَحوكاً

وإن كنتُ لم أر بدعا عجيبا

وأستعملُ الحلمَ ما لم أكن

أصبتُ من الذلِّ فيه نصيبا

من الحلمِ ضربٌ إذا رُمته

لقيتَ من الذلِّ فيه ضروبا

وأنشدنا أبو أحمد قول أبي هفان:

فإن تسألي عنا فإنا حلى العلا

ثم قال: ليس لقوله:

فإنا حلى العلا

نظير، وأنشدنا له:

لعمري لئن بُيِّعت في دار غَربةٍ

ثيابيَ إذا ضاقت عليّ المآكلُ

فما أنا إلّا السيف يأكلُ جفنَه

له حِليةٌ من نفسهِ وهو عاطل

وقد زاد في هذا البيت على النمر بن تولب في قوله، وهو أول من أتى بهذا المعنى:

فإن تكُ أثوابي تمزق عن بلى

فإني كمثلِ السَّيفِ في خَلَقَ الغمدِ

ولأبي هفان أيضاً:

تعجّبَتْ دُرُّ من شيبي فقلتُ لها

تعجبي من بياضِ الصبحِ في السَّدف

وزادها عجباً أن رحتُ في سَملٍ

وما دَرَت دُرُّ أنّ الدرَّ في الصّدفِ

فرأيت في المعنى تكلفا فقلت:

عيرتني أن رحتُ في سَملٍ

والدرُّ لا تزري به الصدفُ

وله أيضاً في هذا المعنى:

يُعيرني عربي رجالٌ سفاهةً

فعزّيتُ نفسي مصدراً ثم مورِدا

بأني مثل السيف أحسن ما يُرى

وأهيب ما يُلقى إذا هو جُرّدا

في ألفاظه فضول لا يحتاج إليها. ومثله في المعنى قول علي بن الجهم أورده في مصراع وهو:

والسيف أهيبُ ما يُرى مسلولا

ولا أعرف في الافتخار أحسن ما أنشده أبو تمام:

فقل لزهيرٍ إن شتمتَ سَراتنا

فلسنا بشتّامِين للمتشتمِ

ولكننا نأبى الظلامَ ونعتصي

بكلِّ رقيقِ الشفرتين مصمصَم

وتجهلُ أيدينا ويَحلمُ رأينا

ونشتمُ بالأفعالِ لا بالتكلّم

هذا أحسن من كل شيء في الافتخار، وقريب من هذا المعنى قول لقيط بن زرارة:

أغركمُ أني بأحسنِ شيمةٍ

بصيرٌ وأني بالفواحشِ أخرقُ

وأنك قد ساببتنا فغلبتَنا

هنيئاً مريئاً أنت بالفحشِ أحذقُ

أخبرنا أبو أحمد قال: أخبرنا الجوهري عن عمر بن شبة قال: يروي أنه قيل للفرزدق أي بيت قالته الشعراء أفخر ؟ قال: قول امرىء القيس:

فلو أنّ ما أسعى لأدنى مَعيشةٍ

كفاني ولم أطلب قليلٌ من المالِ

ولكنني أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ

وقد يُدرِكُ المجدَ المؤثّلَ أمثالي

قيل له: فأيها أحكم ؟ قال قوله:

اللّه أنجحُ ما طلبتَ به

والبرُّ خيرُ حَقيبةِ الرّجُلِ

قال: فأيها أرق ؟ قال قوله:

وما ذَرّفت عيناكِ إلّا لتضربي

بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتّل

قال: فأيها أحسن ؟ قال قوله:

كأن قلوبَ الطيرِ رَطباً ويابساً

لدى وَكرِها العُنّابُ والحشَفُ البالي

وقالوا: أفخر بيت قالته العرب قول كعب بن مالك الأنصاري:

وببئرِ بدرٍ إذ يَرُدٌّ وجوهَكم

جبريلُ تحتَ لوائِنا ومحمد

ومن بليغ الافتخار قول الجحاف:

صبرت سليمٌ للطعانِ وعامرٌ

وإذا جَزِعنا لم نجد من يَصبرُ

نحن الذين إذا عُلوا لم يَضجروا

يومَ اللقّا وإذا عَلوْا لم يفخروا

وقال ضمرة بن ضمرة:

أذيق الصديقَ رأفتي وإحاطتي

وقد يشتكي مني العداةُ الأباعدُ

وذى تِرَةٍ أوجعتهُ وسبقته

فقصر عني سَعيهُ وهو جاهدُ

قصر وهو جاهد بليغ جداً، ومنه أخذ المحدثون. ومن جيد الافتخار بالجود وطيب النفس قول بعض العرب:

تُسائلني هوازنُ أينَ مالي

ومالي غير ما أنفقتُ مالُ

فقلتُ لها هوازن إنَّ مالي

أضرَّ به الملماتُ الثَّقالُ

أضر به نَعَمْ ونَعَمْ قديماً

على ما كان من مالٍ وبالُ

المعنى حسن جداً، وفي الألفاظ تكرير شائن. أبلغ ما افتخر به في كثرة العدد قول الأول:

ما تطلعُ الشمسُ إلاّ عند أولنا

ولا تغيبُ إلاّ عند أخرانا

وقول أبي جندب:

فلو نُزاد ألفٍ لم نزد

ولو فَقدنا مثلهم لم نفتقد

وهو من أبيات أخبرنا بها أبو أحمد قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد عن عمه، عن أبيه عن ابن الكلبي، وأخبرنا به غيره فأوردنا أجود اللفظين، وأصح الروايتين، قال:بلغني أن عبد الرحمن بن حسان كان يخبر أبيه قال: خرجت حاجاً في الجاهلية فإذا أنا بشاب حسن العينين، وضيء، وبشيخ يسابه، قال: فسبه الفتى، ثم إن الشيخ عيره بأن أمه من بني الأصفر فخزي الفتى، فبلغ ذلك أمه فأقبلت ترقل إرقال الناقة الصعبة حتى أخذت بمنكبي الشيخ وهزته وقالت:

سائل وخَلل في إياد بنِ معدْ

هل كانت الرومُ عبيداً لاحدْ

همُ الربيعُ والسَّنام المعتمدْ

والذُّروة العلياءُ والركن الأشدْ

وأنت حرميٌّ لئيمُ المستندْ

عُصارة اللؤمِ التي فيها تلدْ

فسألت عن الشيخ فقيل: المغيرة بن عبد الله المخزومي، وسألت عن الشاب، فقيل: ورقة بن نوفل. ثم مررت من فوري حتى آتي منى، فإذا رجل على جمل عظيم لا يمر يقوم إلا هجاهم، لأنه بالأوس والخزرج فهجاهم، لا هجوته، فنظر إلى قباب بيض في شرقي الجبل فقال: لمن هذه ؟ فقيل: لقرد بن تميم من هذيل، فأمها وقال:

هل ههنا من ولد قرد من أحدْ

أعطيهم من رجزي اليومَ وغدْ

فخرج أبو جندب وهو يقول:

نِعمَ غلامٌ منهمُ جَلد عَتَد

إني وربّ الراقصاتِ في السَّندْ

ينفرن من وقع العصبيّ والقدَد

إني لذو اليومِ وذو أمسِ وغَدْ

وابن هُذيلٍ وابن أشياخِ معدّ

ثم لِفَهَمٍ ولفهمٍ العدد

فلو نزادُ ألفَ ألف لم نزد

ولو فقدنا مثلهم لم نفتقدْ

فارجع إلى مِعزاك تيساً ذا جِيَدْ

أوفىِ على رأسِ يفاعِ فصخدْ

قال: فخلفت إني لا أهجو أحداً ما دام أبو جندب حياً. والعرب تفتخر بكثرة العدد وتذم قلته قال الأخطل:

الأكثيرن حصي والأطيبين ثرى

واحتج السمؤال لقلة العدد فأحسن:

تُعيرُنا أنا قليلٌ عَديدنا

فقلت لها إن الكرامَ قليلُ

وما قلَّ من كانت بقاياه مِثلنا

شبابٌ تسامى للعلا وكهولُ

وما ضَرَّنا أنا قليلٌ وجارُنا

عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليلُ

وهذه قصيدة في الافتخار ليس لها نظير، وإنما تركت إيرادها كلها لشهرتها. ومن أجود ما افتخر به محدث قول أبي تمام:

لنا جَوْهرٌ لو خالطَ الأرضَ أصبحْت

وبُطنانُها منه وظَهرانُها تِسبرُ

مقاماتنا وقفٌ على الحِلمِ والحِجا

وأمردُنا كهلٌ وأشيُبنا حَبرُ

إذا زينةُ الدنيا من المالِ أعرضتْ

فأزيَنْ منها عندنا الحمدَ والشكرُ

ليفخرَ بجودٍ من أرادَ فإنه

عوانٌ لهذا الخلقِ وهو لنا بِكر

جرى حاتمٌ في حلبةِ منه لو جرى

بها القطرُ يوماً قيلَ أيهما القطر

فتى ذخرَ الدنيا أناسٌ ولم يزل

لها باذلاً فانظر لمن بقيَ الذُّخر

ومنها:

كماةٌ إذا ظلَّ الكماةُ لدى الوغى

وأرماحهم حُمرٌ وألوانهم صفر

بخيلٍ لزيد الخيل فيها فوارسٌ

إذا نطقوا في مسهبٍ خرسَ الدهرُ

طوى بطنها الإسادُ حتى لو أنه

بدا لك ما شكَّكتَ في أنه ظَهر

صبيته ما أن تحدثُ نفسها

بما خلفها ما دامَ قُدّامَها وترُ

فإن ذَمَّتِ الأعداءُ سوءَ صباحها

فليس يؤدي شكرَها الذئُب والنسرُ

مساعٍ يضل الشِّعر في طُرقِ وصفها

فما يهتدي إلاّ لأصغرِها الشعرُ

وقوله:

مضوا وكأنّ المكرِماتِ لديهم

لكثرةِ ما أوصَوا بهنَّ شرائعُ

بهاليلُ لو عاينتَ فَيضَ أكفهم

لأيقنتَ أن الرزقَ في الأرضِ واسعُ

وأيُّ يدٍ في المجدِ مُدَّتْ فلم تكن

لها راحةٌ من جودهم وأصابع

أصارت لهم أرض العدوِّ قطائعا

نفوسٌ لحدِّ المرهَفاتِ قطائع

إذا ما أغاروا فاحتووا مالَ معشرٍ

أغارت عليهم فاحتوته الصنائعُ

فيعطي الذي يعطيهم الجود والقنا

أكفّ لإرث المكرماتِ موانعُ

يمدون بالبيض القواطع أيديا

وهنَّ سواء والسيوف القواطعُ

وقلما تجد في الافتخار شعراً يداني هاتين القطعتين. وقلت:

خليليَّ باعُ الدهرِ بالعرُفِ ضيقٌ

على كلِّ ذي عقل وبالنكرِ واسعُ

وواقعُ نُعماء عن الحرِّ طائرٌ

وطائر بلواه على الحرِّ واقعُ

متى ما يُصبني بالقوارع طرفهْ

أصابته هماتي وهُنَّ قوارع

وهماتُ مثلي للخطوب جوالبٌ

كما أنهنَّ للخطوبِ دوافع

تريك اشتغالاً بالنجومِ طوالعاً

وهُنَّ إذ لاحت نجومٌ طالع

وتزري على البيضِ الطوالع أن مضتْ

وهنّ على العّلاتِ بيضٌ قواطعُ

تخافنيَ الأيامُ فهي تخيفني

وللنكسِ تهديدٌ إذا ريعَ رائعُ

ولو كنّ في عيني لما قذيتْ بها

فكيف ترى أني إذا صلنَ خاشع

أتطلعُ منها في دياري طوالعٌ

بسوءٍ وهماتي عليها طلائع

يقارعُ مني باسلاً ذا حفيظة

يقومُ إزاء النصرِ حينَ يُقارع

فتى بأتمِّ الفضلِ ليس بقانعٍ

ولكن بأدنى بُلغهِ العيشِ قانع

فما صحبته للأنام صنيعةً

وبصحبهم منه وفيه صنائعُ

ولم يتواضع في مصاداةِ منّةٍ

وكلّ مصادي منةٍ متواضعُ

له شرفٌ في آلِ ساسانَ باذخٌ

وذكرٌ بأطرافِ البسيطةِ شائعُ

إلى أن قلت:

تؤدِّبُهُ الأيامُ حين تَضُّره

وكم ضَرَرٍ للمرءِ فيه منافعُ

وما ضاعَ مثلي حيثُ حلت ركابهُ

بلى حيثُ ضاعَ المجدُ مثلي ضائعُ

ومثلي مخضوعٌ له غيرَ أنه

إذا كان مجهولَ الفضائلِ خاضع

ومثليَ متبوعٌ على كلّ حالةٍ

فإن ينقلبْ وجهُ الزمانِ فتابعُ

وقال ديك الجن يفتخر بكلب:

كلبٌ قبيلي وكلبٌ خيرُ من وَلدت

حواءُ من عرب غُرٍ ومن عجمِ

وعيرتنا وما إن طلَّ را

كل وحدُّك والدينُ لم يُرم

غلاة موته والاشراكُ مكتهلٌ

والدينُ أمردُ لم ييفع فيحتلم

إن تعبسي لدمٍ منا هُريقَ بها

فقد حقَّنا دمَ الإسلام فابتسمي

أقعد وقم عالماً أن لو تطوقها

بغير أحمدَ لم تقعد ولم تقم

أقام حصنٌ عليهم حصن مكرمةٍ

يرتج طوداه: من نُعمى ومن نِقَم

إذا غدت خيلهم تستنجد المطي

لنجدة عُدّتِ الآجال في الحُوَم

كم عرَّضُوا أيدياً بيضاً مُكرَّمةً

للعدم من طولِ ما انتاشوا من العدم

أسدٌ يرون الردَى المفضي بأنفسهم

إلى الثرى عمراً يُفضي إلى الهرمِ

وقال الحماني:

ونحنُ سَننا الصبرَ في كلِّ موطنٍ

وحطّتْ مساعينا على حططِ الفجرِ

وقال:

بنا يستشارُ العزُّ عن مستقرِّه

وعن سخِطنا تدنى ألوفُ المتالفِ

وقال ابن المعتز:

فقري غنى وشبابي كهلُ

وكلُّ فضلٍ لي عليه فضلُ

أشكي لجودي حين يشكي البخلُ

وقرأت لقابوس بن وشمكير الختلي رسالة في الافتخار والعتاب ليس لها نظير في علوها وإفراطها وهي:الإنسان خلق ألوفا، وطبع عطوفا، فما بال الإصبهد لا يحيل عوده ولا يرجى عوده، ولا يخال لفيئه مخيلة، ولا يخال عن تنكره بحيلة، أمن صخر تدمر قلبه فليس يلينه العتاب ؟ أم من الحديد جانبه فلا يميله الاعتاب ؟ أخلق من صفاقه الدهر نبوه فقد نبا عليه غرب كل حجاج، أو من قساوته إباء مزاج إبائه فقد أبى على كل علاج. ما هذا الاختيار الذي يعد الوهم فهما ؟ وهذا التمييز الذي يحسب الجهل علما ؟ وهذا الرأي الذي يزين له قبح العقوق، ويمقت إليه رعاية الحقوق، وما هذا الإعراض الذي صار ضربة لازب، والنسيان الذي أنساه كل واجب ؟ أين الطبع الذي هو للصدور، وللتألف ألوف ودود وأين الخلق الذي هو في وجه الدنيا البشر وفي مبسمها الثنايا الغر ؟ وأين الحياء الذي يجلى به الكرم، وتحلى بمحاسنه الشيم ؟ كيف يزهد فيمن ملك عنان الدهر فهو طوع قيادة، وتبع مراده، ينتظر أمره ليمتثل، ويرتقب نهيه ليعتزل. وكيف يهجر من تضاءلت الأرض تحت قدمه فصارت له في الانقياد كبعض خدمه. إذا رأت منه هشاشة أعشبت، وإن أحست منه بجفوة أجدبت. وكيف يستغنى عمن خيله العزمات والأوهام، وأنصاره الليالي والأيام ؟ من هرب منه أدركه بمكائدها، ومن طلبه وجده في مراصدها. وكيف يعرض عمن تعرض رفاهة العيش بإعراضه ؟ وتنقبض الأرزاق بانقباضه ؟ وأضاء نجم الاقبال إذا أقبل، وأهل هلال المجد إذا تهلل ؟ وكيف يزهى على من تحقر في عينه الدنيا، وترى تحته السماء العليا ؟ وقد ركب عنق الفلك، واستوى على ذات الحبك، فتبرجب له البروج، وتكوكبت لعبادته الكواكب، واستجارت بعزته المجرة، وآثرت لمحاسنه أوضاح الثريا بل كيف يهون من لو شاء عقد الهواء، وجسم الهباء، وفصل تراكيب الأشياء، وألف بين النار والماء، وأخمد ضياء الشمس والقمر، وكفاهما عناء السير والسفر، وسد مناخر الرياح الزعازع، وأطبق أجفان البروق اللوامع، وقطع ألسنة الرعود بسيف الوعيد، ونظم صوب الغمام نظم الفريد، ورفع عن الأرض سطوة الزلازل، وقضى ما يراه على القضاء النازل، وعرض الشيطان بمعرض الإنسان، وكحل العيون بصور الغيلان، وأنبت العشب على البحار، وألبس الليل ضوء النهار، أو لم يعلم أن مهاجرة من هذه قدرته ضلال، ومنابذة من هذه صورته خبال وأن من له هذه المعجزات، يشتري رضاه بالنفس والحياة، ومن يأتي بهذه الآيات، يبتغي هواه بالصوم والصلاة، ومن لم يتعلق منه بحبل كان بهيماً لا شية به، ومن لم يأو منه إلى ظل ظليل ظل صريعاً لا عصمة له، ولم لا يسترد عازب الرأي فيعلم أنه ما لم يعاود الصلة مأفون، ويستعيد غائب الفكر فيفهم أنه إن أقام على الفرقة مغبون، أظنه يقدر أن الاستغناء عني هو الغناء والغنى، ولا يظن أن الالتواء علي هو البلاء والبلى، ويخال أنه مكتفٍ بماله وعرضه، ومتعزز بسمائه وأرضه، ولا يشعر أني كل لبعض، وطول في عرض وأن قوة الجناح بالقوادم دون الخوافي، وعمل الرماح بالأسنة دون العوالي، ليس إلحاحي على سيدي مستعيداً وصاله ومستصلحاً بالالحاف خصاله، وعدي عليه هذه العجائب، لاستمالته من جانب إلى جانب، لأني ممن يرغب في راغب عن وصلته، أو ينزع إلى نازع عن خلته، أو مؤثل حالاً عند من ينحت أثلته ومقبل بوده على من لا يجعله قبلته، فإني لو علمت أن الأرض لا تسف تراب قدمي لما وضعت عليها جانباً، وإن السماء لا تتوق إلى تقبيل هامتي لما رفعت إليها طرفاً، ولكني أكره أن يعرى نحره من قلادة الحمد، ويجنب جبينه إكليل المجد، ويظل وجه الوفاء بقبضه على يده مسوداً، وركن الإخاء بفته في عضده منهداً، ولا يعجبني أن يكسو ضوء مكارمه كلف الخمول، ويأذن لطوالع بالأقوال، فإن فضل سيدي الخمود على الوقود، والعدم على الوجود، ونزل من شامخٍ إلى خفضٍ، ومن حالقٍ إلى دحضٍ، وجاهر بهجره، وأصر على صرمه، ومال إلى الملال، ولم يصل نار الوصال، حللت عنه معقود خنصري، وشغل عن الشغل به خاطري، بل محوت ذكره من صفحة فؤادي واعتددت وده فيما سال به الوادي:

وفي الناس إن رثَّت حبالُكِ واصلٌ

وفي الأرضِ عن دارِ القِلى مُتحوَّلُ

وفي بعض ألفاظ هذه الرسالة تكلف إلا أني أوردتها لعلو معانيها. وقال بعضهم:

ومن يَفتقر منا يَسلُّ حُسامه

ومن يَفتقر من سائرِ الناس يَسألهُ

وقال ابن المعتز:

سألتكما بالله ما تُعلمانني

ولا تكتما شيئاً فعندكما خُبري

أأرفع نيرانَ القِرى لعْفاتها

وأصبرُ يومَ الروعِ في ثغرةِ الثّغر

وأسألُ نيلاً لا يُجادُ بمثلهِ

فيفتحُهُ بِشري ويختُمه عُذري

ويا رُبَّ يومٍ ما توارى نجومُهُ

مددتُ إلى المظلومِ فيه يدَ النصرِ

وقال:

وقمت إلى اللوم الصفايا بمنصلي

فصيرتُها مجداً لقومي وأحسابا

وأنشدنا أبو القاسم، عن العقدي، عن أبي جعفر، لعبد العزيز بن زرارة:

قد عشتُ في الدهرِ أطواراً في طُرُقٍ

شتى فصادفتُ فيه اللينَ والقطعا

لا يملأ الأمرُ صدري قبلَ موقعهِ

ولا يضيقُ به ذَرعي إذا وقعا

كُلاًّ لبستُ فلا النعماءُ تُبطرني

ولا تخشعتُ من لأوائها جَزعا

وسألني بعض أدباء البصرة فقال: ما أدل بيت على عقل صاحبه وحزمه ؟ فقلت: قول الأقيبل القيني:

إذا لم أجد بُداً من الأمرِ خِلتني

كأنَّ الذي يأبى عليَّ يَسيرُ

فقال: ما عدوت ما في نفسي:ومثله قول أبي النشناش:

على أيّ شيء يصعبُ الأمر قد ترى

بعينك أن لا بدَّ أنك راكبه

وفي ألفاظ هذا البيت زيادة. وقلت في معناه:

علامَ تستصعبُ الأم

رَلا ترى منهُ بُدا

بادر وخلِّ الهوينا

وجدَّ كيما تجدا

فلن تلاقيَ جداً

حتى تلاقيَ كدّا

ومن بليغ الافتخار بذلاقة اللسان قول جرير:

وليس لسيفي في العظام بقيةٌ

ولا السيفُ أشوى وقعةً من لسانيا

وهي من قول حسان:

ويبلغ ما لا يبلغُ السيفُ مِذودي

وقلت:

ولي لسانٌ إذا أطلقتهُ عرضا

سعى مساعيَ ضرغامٍ وثعبانِ

وقد نمتنيَ أمجادٌ جحاجحةُ

من نجلِ ساسانَ تزهو نجل ساسانِ

همُ الكواكبُ في أطرافِ داجية

أو القنان على أثباج أعنانِ

قومٌ إذا ما أتوا بالسوءِ ما اعتذروا

ولا يمنونَ إن منوا بإحسانِ

وقلت:

من يكن صائلاً بمثلِ لساني

لم يضرهُ أن لم يَصُلْ بسنانِ

وأخبرنا أبو القاسم عن العقدي، عن أبي جعفر، عن المدائني قال: قلت لرجل من جذام، وأكثر من وصف ملوك الحيرة: لو كان هؤلاء الأنصار لم ترد ! فقال: لئن كان هؤلاء القوم نصروا الدين، لقد نصر أولئك الكرم، ولئن كان هؤلاء خصوا بالاسلام، لقد خص أولئك بالإنعام، ولئن حاز هؤلاء شرف اليوم وغد، لقد سبق لأولئك شرف هو باق على الأبد، ولو علا فعل هؤلاء على الهواء، لجازت مكارم أولئك أعنان السماء، ومن يقرن بالبلد الخراب اليباب بلداً تحل به السحاب في كل مغدى ومآب ؟ ومن جيد الافتخار قول مبشر بن هذيل الشمخي:

ألم تعلمي يا عَمرِك الله أنني

كريمٌ على حين الكرامُ قليلُ

وإني لا أخزى إذا قيل مُملقٌ

جوادٌ وأخزى أن يُقالَ بخيلُ

فإن لم يكن عظمي طويلاً فإنني

له بالخصال الصالحاتِ وصول

وإن أكُ قَصْداً في الرجالِ فإنني

إذا حلَّ أمرٌ سَاحتي لجليلُ

إذا كنتُ في قومٍ طوالٍ فضلتهم

بعارفةٍ حتى يُقالَ طويل

ولا خيرَ في طولِ الجسومِ وعَرضِها

إذا لم تَزِنْ طولَ الجسومِ عقولُ

ولم أرَ كالمعروفِ أمَّا مَذاقهُ

فحلوٌ وأما وجههُ فجميلُ

وقلت:

غنايَ غنى نفسي ومالي قناعتي

وكنزيَ آدابي وزيي عفافيا

وفخريَ أسلامي وذخري أمانتي

وجنديَ أشعاري وسيفي لسانيا

ولي عزَماتٌ كالسيوفِ قواضِبا

إذا عَنَّ خطبٌ والحتوفُ قواضيا

وتغشى صدورَ النائباتِ صدورُها

كما غشيتْ سُمرُ العوالي التراقيا

ألا لا يذمُّ الدهرَ من كان عاجزاً

ولا يعذلُ الأقدارَ من كان دانيا

فمن لم تبلِّغُهُ المعاليَ نفسُهُ

فغير جديرٍ أن ينالَ المعاليا

ولا أعرف في افتخار الجاهلية أجود ولا أبلغ من قول عمرو بن كلثوم:

ونحنُ العاصمون إذا أُطعنا

ونحن العازمون إذا عصينا

ونحنُ التاركونَ لما سخطنا

ونحن الآخذون لما رضينا

وقد أحسن إبراهيم بن العباس في قوله:

أما تَرينَي أمامَ القوم متبعاً

فقد أرى من وراء الخيل أتبعُ

يوما أنيخُ فلا أدعى على نشبٍ

واستبيحُ فلا أبقى ولا أدعُ

لا تسألي القومَ عن حيٍّ صحبتهمُ

ماذا صنعت وماذا أهله صنعوا

وقال:

أميلُ مع الذمامِ على ابن عمي

وأقضي للصديقِ على الشقيقِ

أفرقُ بين معروفي ومني

وأجمع بين مالي والحقوق

فإما تلفني حُراً مطاعا

فإنك واجدي عبدَ الصديقِ

وهذا من قول الأول:

وإني لعبدُ الضيفِ ما دامَ ثاويا

وما فيَّ إلاَّ ذاك من شيمة العبدِ

وقال الآخر:

وعبد للصحابة غير عبد

وسمعت بعض الشيوخ يقول: أبلغ شيء قيل في الافتخار قول الآخر:

أبَني حنيفة أحكموا سُفَهاءَكم

إني أخافُ عليكمُ أن أغضبا

قوله أخاف عليكم أن أغضب بليغ في الوعيد، وفي دلائل القدرة على ما يسؤوهم، قال أبو هلال: هو لجرير فهدد فيه بالهجاء، ولو كان لمن يتمكن من القتل والاسر والنكاية لكان أفخر بيت قيل. وأخبرنا أبو أحمد عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه قال: ذكر أعرابي قوما فقال: ما نالوا بأطراف أناملهم شيئاً إلا وطئناه بأخامص أقدامنا، وان أقصى مناهم لأدنى فعالنا. وقال أبو دلف العجلي:

وكن على الدَّهرِ فارساً بطلا

فإنما الدهرُ فارسٌ بطلُ

لا بُدَّ للخيلِ أن تحولَ بنا

والخيلُ أرحامنا التي نصلُ

فمرةً باللّجين ننقلها

ومرةً بالدماء تنتقلُ

حتى ترى الموت تحتَ رايتنا

تُطفأ نيرانُها وتشتعلُ

الفصل الثالث من الباب الأول في

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي