ديوان المعاني/الشباب والشيب والخضاب

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الشباب والشيب والخضاب

الشباب والشيب والخضاب - ديوان المعاني

الشباب والشيب والخضاب

وما يتصل بهما

فأول ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد، عن الصولي قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: لا أعرف في التفجع على الشباب وفي ذم الشيب أحسن من قول أبي حازم الباهلي على قرب عهده:

لا تكذبنَّ فما الدُّنيا بأجمعها

من الشبابِ بيومٍ واحدٍ بَدلُ

شَرْخ الشبابِ لقد أبقيتَ لي أسفاً

ما جدَّ ذكرك إلا جّدَّ لي ثكلُ

كفاك بالشيب ذنباً عند غانيةٍ

وبالشبابِ شفيعاً أيها الرَّجُلُ

وأحسن منه عندي قول منصور النمري:

ما تنقضي حسرةٌ ولا جَزعُ

إذا ذكرتُ شباباً ليس يُرتجَعُ

بانَ الشبابُ ففاتتني بشرَّتهِ

صروفُ دهرٍ وأيام لنا خُدعُ

ما كنتُ أوفي شبابي كُنهَ غِرّتِه

حتى انقضى فإذا الدنيا لهُ تبع

قوله: فأذا الدنيا له تبع من أشرف كلام وأنبله وأجمعه وأوجزه، وسمعه الرشيد فقال: نعم، لا خير في دنيا لا يخطر فيها ببرد الشباب. وقال محمود الوراق:

لا يحسن النسك والشباب

ولا البطالاتُ والخضابُ

كلُّ نعيمٍ وكلُّ عيشٍ

قبلَ الثلاثينَ يُستطابُ

وقال غيره:

فقالتْ وهل بَعدَ الثلاثينَ مَلعب

فقلتُ وهل قبلَ الثلاثينَ ملعبُ

وأخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا الصولي قال: حدثنا الفضل بن الحباب الجمحي، قال: حدثنا محمد بن سلام قال: من كلام يونس بن حبيب:الكبر وكل عيب، والعزل وكل ذم، والولية وكل مدح، والشباب وكل صحة، واليسار وكل فضيلة، والفقر وكل ذلة. وقال ابن المعتز:

لهفي على دَهرِ الصبا القصيرِ

وغُصنهِ ذي الوَرَقِ النضيرِ

وسُكرهِ وذَنْبهِ المغفورِ

وَمَرَحَ القلوبِ في الصُّدورِ

وطولِ حبل الأملِ المجرورِ

في ظلِّ عيشٍ غافلٍ غريرِ

أغدو وجنى الصبا أميري

ملء العيونِ الغانياتِ الحورِ

وقال الحماني:

وأيامهُ الغُرُّ مثلُ الخطوطِ

في المسكِ فوقَ خُدودِ الحسانِ

لياليَ أنت جُذيلُ الصِّبا

وأيامه وعُذيق الغواني

وقال أيضاً:

أيام كنتُ من الغواني

كالسوادِ من القلوبِ

فإذا استطعنَ خبأنني

بين المخانقِ والجيوب

وقال أبو عبد الله بن المعتز:

يا قلبُ ليسَ إلى الصبا من مرجعٍ

فاحزنْ فلستَ بمثلهِ مفجوعا

وقال يصف نفسه في شبيبته:

من بعدِ ما قد كنتُ أيَّ فتىً

كقضيبِ بانٍ ناعمٍ رَطْب

فإذا رأتني عَينُ غانِيةٍ

قالتْ أوابدُ طرفها حسبي

ونحوه قوله:

إذا ما تمشت فيَّ عينُ خريدةٍ

فليستْ تخطّاني إلى من ورائيا

وقال أعرابي:

سقى اللُّه أياماً لنا وليالياً

لهنَّ بأكنافِ الشبابِ ملاعبُ

إذ العيشُ غضُّ والشبابُ بغرةٍ

وشاهدُ آفاتِ المحبينَ غائبُ

وإنما آتي بالبيت والبيتين، لأني أعتمد الفقرة فأوردها، وأقصد النادرة فأكتبها، وأتوخى المعنى الشريف، واللفظ الظريف، فأزفهما إليك، وأجلوهما عليك، ولو تحذلقت في المعاني، وأضفت إلى كل شيء منها شكله، وقرنت إليه مثله، أو أكثرت من عدد ما أوراده من الأبيات. لصار كل فصل من فصول كتابنا باباً طويلاً، وكل باب منه كتاباً كبيراً، حتى يكون جديراً بالإملال والإضجار وداخلاً في حد الإكثار والإهذار، ونعوذ بالله منهما. وقلت في معنى ابن المعتز:

تذكرُ إذ أنتَ قضيبٌ رطيب

عليه للحسنِ رِداءٌ قشيبْ

خالطَ ماءَ الحسنِ في وجههِ

ماءُ شبابٍ لم يَرقه المشيبْ

إذا مشى يخطر في بردِهِ

غايرَ فيه الشكل حسنٌ رطيبْ

كنتَ قضيبَ البانِ لم يقتضبْ

وأنتَ من بَعدُ قضيبٌ قضيبْ

فاللهو مُغبرٌ مقادِيمه

مُعفّرُ الوجهِ حريبٌ سليبْ

خذ بنصيبٍ من سرورِ الصبا

فما لشيخٍ من سُرورٍ نصيبْ

وأول من بكى الشباب، وذم المشيب عبيد بن الأبرص فيقوله:

والشيبُ شَينٌ لمن أمسى بساحتهِ

للّه دَرُّ سوادِ اللّمةِ الخالي

وقال مزاحم العقيلي:

عزاء على ما فاتَ من وصلِ خلّةٍ

وريق شبابٍ سَلّهُ الشيبُ منجلي

ومثل ليالينا بخطمة فاللوى

بلينَ وأيام قصار بمأسلِ

وقد أحسن أبو العتاهية في قوله:

عريتُ من الشبابِ وكان غضّاً

كما يَعرى من الوَرَقِ القضيبُ

ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً

فأخبرَهُ بما فعلَ المشيبُ

وقلت:

قوامٌ كما شاءَ المشيبُ معوّجٌ

ووجهٌ كما لا تشتهيه مُشنّجُ

وفرعٌ جلاه الشيبُ حتى كأنّما

تغشَّاه معروفٌ من الصُّبحِ أبلجُ

وعهدي به بالأمس جَوْناً كأنما

تجلّله عُرفٌ من الليلِ أدعجُ

لياليَ جاءتك الليالي عرائساً

تَروقُ وتصبي أو تضوعُ وتأرجُ

حسانَ الوجوهِ كالرياضِ أنيقة

تخيطُ لها كفُّ الغمامِ وتنسج

رِقاقُ جلابيبِ النسيم أريجةٌ

لها نكهةٌ كالمسكٍِ إبَّانَ يُمزَجُ

وقال رؤبة وأحسن في ذلك:

كرَّ الجديدانِ بنا وانطلقا

ولا يجدَّانِ إذا ما أخلقا

ولو يبيعانِ الشبابَ أنفقا

والشيب لا سوقَ له إن سُوِّقا

وقال المقنع أظنه:

وذادت عن هواه البيض بيضٌ

لها في مَفرقِ الرأسِ انتشلرُ

جديدٌ واللبيسٌ أعزُّ منه

وأحرَى أنْ ينافسَهُ التجار

وقد أحسن الفرزدق في قوله:

وفي الشيبِ لذّاتٌ لخادعِ نفسهِ

ومن قبلهِ عيشٌ تعلّلَ جادبُهْ

ومن الشعر الجذل السهل، المطيع الممتع، القريب البعيد، الممكن المتعذر قول النمري:

ومنازل لك بالحمى

وبها الخليطُ نزولُ

أيامهنَّ قّصيرةٌ

وسُرورُهنَّ طويلُ

وسعودهنَّ طوالع

ونحوسُهُنَّ أفولُ

والمالكية والشبا

ب وقَيْنَةٌ وشَمولُ

ومن أبلغ ما قيل في كراهة الشيب قول البحتري:

وددتُ بياضَ السيفِ يومَ لقينني

مكانَ بياضِ الشيبِ حَلّ بمفرقي

وقد أحسن أبو تمام الاحتجاج للشيب في قوله:

فأصغري أنّ شيباً لاحَ بي حدثاً

وأكبري أنني في المهدِ لم أشبِ

لا تنكري منه تجديداً تجلله

فالسيفُ لا يُزدرَى إن كان ذا شطبِ

ولا يروعنك إيماضُ القتير بهِ

فإنَّ ذاك ابتسامُ الرأي والأدب

ووجدت بيتاً فاسد السبك فأصلحته وقلت:

نجومُ مَشيْبٍ في ظلامِ شَبيبةٍ

وما حُسنُ ليلٍ ليسَ فيهِ نجومُ

وقال أبو عبد الله الأسباطي:

لا يَرُعْكِ المشيبُ يا بنةَ عبد اللّه

فالشيبُ زينةٌ ووَقارُ

إنما تحسنُ الرياضُ إذا ما

ضحكت في خلالها الأنوار

وقال الخوارزمي متأخر:

وقالوا أفِقْ من سكرةِ اللهو والصِّبا

فقد لاحَ صُبحٌ في دُجاكَ عجيبُ

فقلت لهم: كفُّوا الملامَ وأقصروا

فإنَّ الكرّى عندَ الصباحِ يطيبُ

وهذا معنى مليح أظنه ما سبق إليه. وأول من تهاون بالشيب جرير في قوله:

يقولُ العاذلاتُ عَلاكَ شَيبٌ

أهذا الشيبُ يمنعني مراحي

وتبعه الناس فمن أحسنهم قولاً فيه ابن الرومي حيث يقول:

لاحَ شيبي فرحتُ أمرح ُفيهِ

مَرَحَ الطرفِ في العذارِ المحلى

وتولى الشبابُ فازددت غياً

في ميادين باطلي إذ تولّى

إنَّ من ساءَهُ الزَّمانُ بشيءٍ

لأحقُّ امرىءٍ بأن يتسلى

وهذا من قول أحمد بن زياد الكاتب:

ولما رأيتُ الشيبَ حل بياضُه

بمِفرَقِ رأسي قلتُ للشيب مرحبا

ولو خلتُ أني إن كففتُ تحيتي

تنكبَ عني رمتُ أن يتنكَّبا

ولكنْ إذا ما الكرهُ حلَّ تسامحتْ

بهِ النفس يوماً كان للكرهِ أذهبا

وفي ألفاظ هذه الأبيات زيادة على معناها، وأبيات ابن الرومي متوازنة اللفظ والمعنى مع إصابة تشبيهه في قوله:

مرح الطرفِ في العذار المحلى

وقد بالغ في ذم الشيب أبو تمام فقال:

دقةٌ في الحياةِ تدْعى جمالاً

مثل ما سمِّيَ اللديغُ سليما

غرَّةٌ مرّةٌ ألا إنما كن

ت أغرّاً أيامَ كنت بهيما

وقال ابن المعتز:

لقد أبغضتُ نفسي في مشيبي

فكيفَ تحبّني الخَوْدُ الكَعابُ

وقلت:

فلا تعجبا أن يعبنَ المشيبَ

فما عِبْنَ مِنْ ذاك إلا معيبا

إذا كانَ شيبي بغيضاً إليَّ

فكيفَ يكون إليها حبيبا

وقد كنتُ أرفُلُ بردَ الشبابِ

قشيباً وأرفُلُ وشْياً قشيبا

إذا ملتُ ملتُ قضيباً رطيبا

وإن صلت صلت قضيباً قضوبا

ومن مليح ما قيل في الشيب وهزء النساء من صاحبه. قول كشاجم:

ضَحكتْ من شيبةٍ ضحكتْ

في سوادِ اللِّمةِ الرجلهْ

ثم قالتْ وهي هازلةٌ

جاءَ هذا الشيبُ بالعجله

قلتُ: من حبيبك لا كِبر

شابَ رأسي فانثنتْ خجلهْ

وثنتْ جَفناً على كحلٍ

هي منه الدهرَ مُكتحله

أكثرتْ منهُ تُعجُّبها

وهي تجنيهِ وتضحكُ لهْ

ومن مليح ما قيل في ذلك وغريبه قول الآخر:

فظللتُ أطلبُ وصلها بتعطفٍ

والشيبُ يغمزُها بان لا تفعلي

وذكر مسلم بن الوليد كراهة الشيب، وكراهة مفارقته، إذا جاء فأحسن حيث يقول:

الشيب كُرهٌ وكُرهٌ أن يُفارقني

أحْببْ بشيءٍ على البغضاءِ مودُودُ

فتبعه علي بن محمد الكوفي فقال:

بكى للشيبِ ثم بكى عليهِ

فكانَ أعزّ فقداً من شبابِ

فقلْ للشيبِ لا تبرح حميداً

إذا نادَى شبابُك بالذهاب

ونقله إلى موضع آخر فقال:

لعمرك للمشيبُ عليَّ مما

فقدتُ من الشبابِ أشدّ فَوتا

هذا البيت مضطرب اللفظ والرصف والصنعة فاعتبره:

تملّيْتُ الشبابَ فكانَ شيباً

وأبليت المشيبَ فصارَ مَوتا

وكان من تمام الصنعة أن يقول أشد فقداً لقوله فقدت من الشباب. وقلت:

والشيب زورٌ يجتوى وقربُه

لا يرتضى وفقدُهُ لا يُشتهى

قد يشتهي كلُّ امرىءٍ بُلوغَه

وقلَّ من يبلغه إلا شكا

كأنما الشبابُ كانَ فرقةً

له من الأنفسِ حبُّ وقِلى

وقد أجاد الأعرابي في قوله في صفة الشيب:أكره ضيف، وأبغض طيف، أحب غائب، وأفجع آيب. وقلت:

تكلف مدحَ الشيبِ عندي مُعَّمرٌ

وهل يمدحنَّ الشيبُ إلا تكلفا

فقلت انظرني أوّلا منه مؤلماً

لقلبِ فتًى أو آخراً منه مُتلفا

تصرَّم من عمري ثلاثونَ حِجةً

لبستُ بها ثوبَ الشبّابِ مُطرَّفا

شبابٌ أطارَ الوجدَ عنّي غيابُهُ

وصرفُ زمانٍ لم أجد عنه مصرفا

أقمتُ به صدرَ السرورِ فلم يَزَلْ

به الشيبُ حتى ردّه مُتحنِّفَا

فطِرْ بجناحِ اللهوِ في زَمَنِ الصِّبا

فأخِلق به إنْ شئتَ أنْ يتحيفا

تناولَ وخْط الشيب أطرافَ عارضي

فأصبحَ ليلاً بالصباحِ مُشنَّفا

ومن المشهور قول دعبل الخزاعي:

لا تعجبي يا سلمَ من رجلٍ

ضحك المشيبُ برأسهِ فبكى

ومما يحتج به للمشيب على الشباب، أن الشباب قلما يبقى أكثر من أربعين سنة وقد يعيش المرء في الشيب التسعين والمائة، وقال امرؤ القيس في ذلك:

ألا انَّ بعدَ الفقرِ للمرءِ قنوةَ

وبعد المشيبِ طولَ عُمرٍ ومَلبَسَا

وقال أعرابي:

ما بالُ شيخ قد تخدّد لحمهُ

أبلى ثلاثَ عمائم ألوانا

سوداءُ داجيةٌ وسحقٌ مفوّفُ

وأجدّ لوناً بعد ذاك هجانا

قصّر الليالي خطوُهُ فتدانى

وحَنَوْنَ قائمَ ظهرهِ فتحاني

والموتُ يأتي بعد ذلك كلِّهِ

وكأنما يعني بذاك سوانا

لا أعرف في وصف الشيب، من أول ما يبتدىء إلى أن ينتهي أحسن من هذا، وقوله وكأنما يعني بذاك سوانا من أبلغ ما يكون من الموعظة. وقلت:

وشبابٍ خفَّ نازله

ليته عادَ كما كانا

ومشيب آبَ نازلهُ

ليته إذ كان ما بانا

خانني دهرٌ وثقت بهِ

رُبَّ موثوقٍ به خانا

وأنشدنا أبو أحمد:

وأنكرتُ شمسَ الشيبِ في ليلٍ لمتي

لعمري لليلي كانَ أحسنَ من شمسي

كأنَّ الصبا والسمتُ بطمسُ نُورَهُ

عروسُ أناسٍ ماتَ في ليلةِ العُرسِ

ومن بديع الاستعارة في الشيب قول البحتري:

في الشيبِ زَجْرٌ لهُ لو كانَ ينزجرُ

وبالغٌ منهُ لولا أنه حَجَرُ

إبيضَّ ما اسودَّ من فوديهِ وارتجعتْ

جلية الصُّبحَ ما قد أغفلَ السَّحرُ

وللفتى مُهلةٌ في الحبِّ واسعةٌ

ما لم يمتْ في نواحي رأسهِ الشَّعَرُ

ولا أعرف في الشيب أجمع من قول أبي تمام:

غدا الشيبُ مختَطاً بفوديَّ خُطةً

سبيلُ الرّدَى منها إلى النفسِ مهيعُ

هو الزورُ يجفى والمعاشرُ يُجتوى

وذو الالف يُقلى والجديدُ يُرقَّعُ

لهُ منظرٌ في العينِ أبيضُ ناصع

ولكنهُ في القلبِ أسودُ أسفعُ

ونحن نرجّيهِ على الكُرهِ والرِّضا

وأنفُ الفتى في وجههِ وهو أجدعُ

ومن أعجب ما سمعت في الخضاب قول بعضهم:

عجبَتْ لمّا رأتني

غادةٌ ما بين غيدِ

ضحكَتْ إذ أبصرتْني

قد تزينْتُ لعيدِ

ثم نادينَ جميعاً

يا عتيقاً في جديدِ

غرَّنا منكَ خُضابٌ

قد تراءى من بعيدِ

لا تغالطْنا فما تص

لحُ إلا للصُّدُودِ

وقال ابن الرومي:

فدعتْهُ إلى الخضابِ وقالتْ

إنّ دفنَ المعيبِ غيرُ مُعيبِ

وقال:

عذارٌ كمثل الأتحمي مطرّزٌ

وفرعٌ كلونِ العبقر محبرُ

وقد كانَ من صبغِ الشبابِ ممسّكاً

فأصبحَ في كفِّ المشيبِ مكفرُ

فقلْ للعذولِ أقصرِ الآن إنني

على الرَّغمِ من أنفِ الصبَّابة مُقصرُ

كَفَاك تكاليفُ الملامِ كواكبٌ

من الشيبِ في ليلِ الشبيبة تزهرُ

لوائح من تحت الخضابِ كأنما

سنى الصبح في وجهِ الدُّجنَّة يكشر

وأول من ذلك أنه شاب من غير كبر ابن مقبل في قوله:

ما شبتُ من كبرٍ ولكني أمرؤٌ

عالجت قرعَ نوائبِ الدهرِ

فرأيتها عضلا موقحة

عزت فما تُسطاع بالكسرِ

فلذاك صرت معَ الشبيبة نازلا

في غير منزلتي من العمر

ومن أجود ما قيل في تقارب الخطو قول أبي الطمحان:حنتني حادثات الدهر حتى كأني خاتلٌ أدنو لصيد:

قريب الخطو يحسبُ من رآني

ولستُ مقيداً أني بقيد

وقد أحسن الآخر في قوله أيضاً:

الدَّهرُ أبلاني وما أبليتُهُ

والدَّهرُ غيّرني وما يتغيّرُ

والدَّهرُ قيّدني بقيدٍ مُبرَمٍ

فمشيْتُ فيه وكلِّ يومٍ يقصرُ

وقوله: وكل يوم يقصر من أحسن العبارة، عن ازدياد الضعف وتقاصر الخطو في كل يوم. ومن أعجب ما قيل في الصلع قول الأعرابي:

قد ترك الدهر عصاتي صفصفا

فصار رأسي جبهةً إلى القفا

كأنما قد كان ربعاً فعفا

يمسي ويضحي للمنايا هدفا

ومثله قول الآخر:

ثم حسرت عن صفاةٍ تلمع

فأقبلتْ قائلةً تسترجعُ

ما رأس ذا إلا جبيناً أجمع

ومثله أيضاً:

جلاه عن أهل الهوى قبح الجلا

جبين وجهٍ وجبينّ في القفا

وقال ابن الرومي في معناه يهجو رجلاً يجذب طرته من قفاه إلى وجهه:

يجذبُ من نقرته طُرَّةً

إلى مدى تقصرُ عن نيله

فوجههُ يأخذ من رأسه

أخذَ نهارِ الصيفِ من ليلهْ

وأنشدنا أبو أحمد، عن الصولي لخلف بن خليفة:

وقام إلى رأسهِ حاذقٌ

فصيرَ من رأسهِ قرعَهْ

يُريك بريقاً كطست الجلا

بيض كما نصب الطلعه

فما شوق عيني إلى قرة

كشوقِ يميني للصَّلْعه

يكاد وإن لم يردها الضميرُ

تشوقُ الحليم إلى صَفْعه

فملنا عليهِ بأيماننِا

نسائلهُ عن خبرِ الوقْعَه

قال مالك بن أسماء:

أواري بذيّال على العقبِ جُثّتي

إذا الصُّلعُ وارَوا هامَهم بالقلانسِ

تودُّ النساء المبصراتي أنَّهُ

يعار فيستأجرنه للعرائسِ

وقلت في مدح الحلق:

قُتل الشعرُ من خَفيفٍ ثقيلٍ

كثيرٍ على الرؤوسِ قليل

ضِيق الشعر حينَ طال قليلاً

ضامَه الله من قصيرٍ طويل

إنما الحلقُ راحةٌ وجمالٌ

فاشدُدِ الكفّ بالمريحِ الجميلِ

ما أرى للحسامِ يصدأ حُسناً

إنما الحسنُ للحسامِ الصقيلِ

ويشبهون الرأس المحلوق بالصخرة، أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد، عن عبد الرحمن، عن عمه قال: كان يزيد بن الطثرية زير النساء، يتحدث إليهن فتحدث إلى امرأة من بني أسد فهويها وهويته، فخطبها إلى أبيها فرده، وخطبها ابن عم له فزوجه فدخل عليها ابن عمها وهي تقول:

لم يبق إلا شبحاً وعظما

وأدمعاً تنهلُّ منها سجما

علمت ما بي فجفوت علماً

من سَئمَ الوصل تجني الجرما

فنهاها زوجها أن تتمثل فأنشأت تقول:

تمثلتُ بيتاً ثم أذريتُ دمعةً

فمن لامني فيه فبدَّل ما بيا

فما أشرف الايفاع إلا صبابةً

وما أضربُ الأمثال إلا تداويا

فأتى الزوج أباها فأخبره، فأتاها أبوها فقال والله لأن تمثلت لأضربن ظهرك وبطنك، فدخل عليها زوجها وهي تقول:

فإن تضربوا ظهري وبطني كلاهما

فليس لقلب بين جنبيَّ ضاربُ

فاشتد ذلك على زوجها، وهم بطلاقها، وخرج مغضبا وإذا يزيد بفنائه وهو يقول:

تراءتْ وأستارٌ من البيتِ دونَها

إلينا وحانت غفلةُ المتفقدِ

بعيني مهاةٍ تحدرُ الدمعُ منهما

بريمين شتى من دموعٍ واثمدِ

فجمع أهل بيته وإخوته وأتى أخاه واستعداه عليه فضربه أخوه وحلقه. فقال وهو يحلق:

أقول لثورٍ وهو يحلقُ لمتي

بعقفاءَ مردُودٌ عليها نصابها

تَرفقْ بها يا ثورُ ليس ثوابُها

بهذا ولكن غير هذا ثوابها

فيا رُبّ يوم قد تغلل وسطها

أنامل رخصات حديث خضابها

تولى بها ثورٌ تزفُ كأنها

سلاسل جرع لينها وانسكابها

وأصبح رأسي كالصخيرةِ أشرَفتْ

عليها عقابٌ ثم طارت عقابها

وقد أحسن الفرزدق الاستعارة في وصف الشيب وهو قوله:

والشيب ينهضَ بالشبابِ كأنه

ليلٌ يَصيَحُ بجانبيهِ نَهارُ

ولأبي إسحاق الصابي أبيات في الصلع لم يسبق إلى معناها قالها على وجه المجون:

لما رماني الزمانُ بالصّلعِ

وقلَّ مالي وضاقَ مُتّسعي

حاسبتُ عن لمتي مزينها

حسابَ شيخ للحقّ متبعِ

قلتُ له اقنع من أصلِ واجبها

بالثلثِ مما به عملتَ معي

واعملْ على أنها مُزارَعةُ

شكوتُ فيها شكاةَ مُتضع

فاحطط خراجَ الذي أصبتَ به

واستوفِ مني خراجَ مُزدرَعِ

ومما جاء في مدح الصلع، ما أخبرنا به أبو أحمد، عن ابن الأنباري، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: ألح رجلٌ النظر إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام فقال له: إلى أي شيء تنظر ؟ قال إلى بطن مندح، وهامةٍ صلعاء، فقال عليه السلام: أما البطن فأسفله طعم، وأعلاه علم، وأما الهامة فكما قال الشاعر:

بنى لنا المجدَ آباءٌ لهم شرفٌ

صُلعُ الرؤوسِ وسيما السؤددِ الصلعُ

وقال آخر:

كفى حزناً أني أدبُّ على العصا

فيأمنُ أعدائي ويبغضني أهلي

ويوصي بي الوَغدُ الضعيفُ مخافةً

عليَّ وما قام الحواضنُ عن مثلي

أقيم العصا بالرجلِ والرجلَ بالعصا

فما عدّلت ميلي عصايَ ولا رجلي

وقال محمود الوراق في ذم الخضاب:

يشيبُ الناسُ في زمنٍ طويل

ولي في كلِّ ثالثةٍ مشيبُ

وأخفي الشيبَ جهدي وهو يبدو

كما غطى على الريبِ المريبُ

وقلت:

جريت لعارضِ غيثِ الليالي

تحالك لونه فابيضَّ جُلُّه

وصرت تقصّ ما يبيضُّ منه

أتحلقه إذا ما ابيضَّ كلُّه

تعزّ عن الشبيبةِ والهَ عنها

فإن الليلَ ليسَ يدوم ظله

وخلِّ الشيبَ يضحكُ ناجذاهِ

فإنَّ الصبحَ لا يخفى مطله

وإن حلّتْ عُرى اللذاتِ فيهِ

فلستَ بعاقدٍ ما جذّ حبله

الفصل الثاني من الباب الحادي عشر

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي