ديوان المعاني/القول في الحنين إلى الأوطان

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

القول في الحنين إلى الأوطان

القول في الحنين إلى الأوطان - ديوان المعاني

القول في الحنين إلى الأوطان أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان قال: قال أبو سرح: سمعني أبو دلف أنشد:

لا يمنعنك خفض العيش في دعةٍ

نزوع نفس إلى أهلٍ وأوطانِ

تلقى بكلِّ بلادٍ أنتَ ساكنها

أهلاً بأهل وجيراناً بجيرانِ

فقال: هذا ألأم بيت قالته العرب. قال أبو هلال رحمه الله: النزوع ههنا رديء والجيد النزاع، وإنما جعل أبو دلف هذا البيت الأم بيت لأنه يدل على قلة رعاية، وشدة قساوة، وحنين الرجل إلى أوطانه منقبة، من علامات الرشد لما فيه من الدلائل على كرم الطينة وتمام العقل. وقالت الحكماء:حنين الرجل إلى وطنه من علامات الرشد. وقال بزرجمهر:من أمارت العاقل بره بإخوانه وحنينه إلى أوطانه، ومداراته لأهل زمانه. وقال أعرابي: لا تشك بلداً فيه قبائلك ولا تجف أرضاً فيها قوابلك. وقالت العرب:أكرم الخيل أشدها خوفا من السوط، وأكيس الصبيان أشدهم بغضاً للمكتب، وأكرم الصفاي أشدها حنيناً إلى أوطانها، وأكرم المهارة أشدها ملازمة لأمهاتها، وأكرم الناس آلفهم للناس. وقد بين الله تعالى فضل الوطن، وكلف النفوس به في قوله تعالى: 'ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم' فجعل خروجهم من ديارهم كفؤ قتلهم لأنفسهم. ومنه قوله تعالى: 'وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون انفسكم من دياركم' وقوله تعالى: 'ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا' فجعل إخراجه إياهم من ديارهم بدلاً من العذاب المستأصل لهم لشبهه به عندهم. وقال بعض الحكماء:الخروج من الوطن أحد السبابين والجلاء أحد القتلين. وقال يحيى بن طالب:

إذا ارتحلتْ نحو اليمامة رفقةٌ

دعاني الهوى وارتاح قلبي إلى الذكرِ

يقولونَ إنَّ الهجرَ يشفي من الهوى

وما ازددتُ إلا ضعف ما بي على الهجرِ

وكان كثيرٌ من العرب ممن يعتزى إلى فضل كرم ولا ينتجعون وكذلك كانت قريش:وقال الحارث بن ظالم:

رفعتُ الرُّمح إذ قالوا قُريشٌ

وشبهت الشمائل والقبابا

ولو أني أطاوعُ كنتُ فيهم

وما سيرتُ أتبع السحابا

وقال الحويدرة:

وتقيمُ في دار الحفاظ بيوتنا

زمناً ويظعنُ غيرنا للأمرعِ

والأمرع: جمع لا واحد له من لفظه، وكانوا يسمون منزلهم دار الحفاظ لأنهم كانوا يقيمون فيه لقرى الأضياف، وإعطاء الفقير، وصلة المسكين وابن السبيل. وقال أبو تمام:

كم منزل في الأرضِ يألفهُ الفتى

وحنينهُ أبداً لأوّل منزلِ

وقد قالت الهند:حرمة بلدك عليك مثل حرمة أبويك، لأن غذاءك منهما وغذاءهما منك. وقال آخر:أرض الرجل ظئره ودار مهده. وقال آخر:الحنين إلى الوطن ورقة القلب من رقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشد، وطهارة الرشدة من كرم المحتد. وقال الشاعر:

لقربُ الدَّار في الاقتار خيرٌ

من العيش المُوسّع في اغترابِ

وقال جالينوس:يتروح العليل بنسيم أهله، كما تتقوت الحبة ببل المطر إذا أصاب الأرض. وقال أفلاطون:غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها. وقال: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تتطلع إلى هوائها وتنزع إلى غذائها. وقلنا: ليس الانسان أقنع بشيء منه بوطنه، لأنه يتبرم بكل شيء رديء ويتذمم من كل شيء، كريه، إلا من وطنه وإن كان رديء التربة، كريه الغذاء، ولولا حب الناس للأوطان، لخرب أخابث الأرض والبلدانوقال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تحننَّ ناقتي

بصحراء من نجران ذات ثرى جعدِ

وهل تنفضنَّ الريحُ أفنانَ لمتي

على لاحقِ الأطلين مطمر ورد

وهل أردن الدهر حسمي مزاحم

وقد ضَربْتهُ نفحةٌ من صبا نجد

وذكر ابن الرومي العلة التي يحب الوطن لأجلها وليس لها في ذلك امام إلا أحمد بن إسحاق الموصلي فإنه قال:

أحبُّ الأرضَ تسكنها سليمى

وإن كانتْ بواديها الجدوب

وما دهري يحب تراب أرض

ولكنْ من يحلُّ بها حبيبُ

وقال ابن الرومي:

ولي وطنٌ آليتُ أن لا أبيعهُ

وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا

عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً

كنعمةِ قوم أصبحوا في ظلالكا

فقد ألفتهُ النفسُ حتى كأنهُ

لها جَسَدٌ لولاهُ غودرْتُ هالكا

وحبّبَ أوطانَ الرجالِ إليهم

مآربُ قضاها الشبابُ هُنالكا

إذا ذكروا أوطانهمْ ذكرتهمُ

عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

وقد ضامني فيها اللئيم وغرَّني

وها أنا منهُ معصمٌ بحبالكا

فإن أخطأتني من يمينك نعمة

فلا تخطئنه نقمةٌ من شمالكا

وقلت في نحو ذلك:ثوى في حفرة العانات يمنٌ تغلغل في المنازل والرباع

وإن تهوَ البقاع فليس غرواً

هوى أهل البقاع هوى البقاعِ

وقال ابن الرومي:

فإذا تصوَّر في الضمير وجدتهُ

وعليه أفنانُ الشباب تميدُ

وقيل لأعرابي: كيف تصنع بالبادية، إذا اشتد القيظ، وانتعل كل شيء ظله ؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك ؟ يمشي أحدنا ميلا ويرفض عرقاً، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، ويجلس يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى. وذكر أعرابيٌ فقال: رملةٌ كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها. وقالت أعرابيةٌ: إذا كنت في غير أهلك، فلا تنس نصيبك من الذل. وقال الشاعر في معناه:

نصيبك من ذلِّ إذا كنت خاليا

وقلت:

حسبتُ الخيرَ يكثر في التنائي

فكانَ الخيرُ أكثر في التداني

ذكرتُ مقامنا بسراة حُزوى

فسرت مع الوساوس في عنانِ

ألا الله حزمٌ واصطبارٌ

تقاسمه بنياتُ الزَّمان

عزيزٌ أضمرتهُ نوى شطون

فظلَّ من المهانةِ في ضمان

يُناط إلى العزيز إذا تبوَّى

بمنزل غربةٍ طرف الهوانِ

وقال آخريحن اللبيب إلى وطنه كما يحن النجيب إلى عطنه. وقلت:

إذ أنا لا أشتاقُ أرض عشيرتي

فليسَ مكاني في النهى بمكين

من العقل أن أشتاقَ أوَّلَ منزلٍ

غنيتُ بخفضٍ في ذُراهُ ولينِ

ورَوْض رعاهُ بالأصائِل ناظري

وغصن ثناهُ بالغداةِ يميني

وقال ابن المولى:

سُرِرتُ بجعفرٍ والقرب منه

كما سُرَّ المسافر بالإيابِ

كممطور ببلدتهِ فأضحى

غنياً عنْ مطالعة السحابِ

وهو من قول الآخر:

فكنتُ فيهمْ كممطور ببلدتهِ

فسرَّ أن جمعَ الأوطانَ والمطرا

وفضل بعضهم السفر على المقام واحتج بقول الله تعالى:'علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله'. قال: فقسم الحاجات فجعل أكثرها في البعد. وقال تعالى:'فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله'. قال: فاخرج الكلام مخرج العموم، ولم يخص أرضاً دون أرضٍ، ولا قرباً دون بعد، وينشد في هذا المعنى قول أبي تمام:

وطولُ مُقام المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ

لديباجتيهِ فاغتربْ تتجدَّدِ

فإني رأيتُ الشمسَ زِيدتْ محبةً

إلى الناس إذ ليستْ عليهم بسرمدِ

وقال في الحث على الأسفار والطلب والتزهيد في المقام والدعة: الراحة عقلةٌ، والبركات في الحركات، ومن إلى دماغه في الصيف، غلت قدره في الشتاء. وقال عبد الله بن وهب: حب الهوينا يكسب الضنى. وقال أبو المعافى:

وإنَّ التواني أنكحَ العجزَ بنته

وساقَ إليها حينَ أنكحها مهرا

فراشاً وطيئاً ثمَّ قال لها اتكي

فقُصراً كما لا بُدّ أن تلد الفقرا

وقال نهيك بن أساف:

أأمّ نُهيك إرفعي الطرفَ صادِقاً

ولا تيأسِي أن يثرَي الدهر بائس

سيغنيك سعي في البلادِ وغربتي

وبعل التي لم تحظَ في البيتِ جالس

وأخبرنا أبو أحمد، عن ابن دريد، عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: قال أكثم بن صيفي: ما يودني أني مكفي، وأني أسمنت وألينت، قيل ولم ذاك قال مخافة عادة العجز. وفي الحديث المرفوع سافروا تغنموا. وقال الشاعر وذم طول الضجعة:

فإن تأتياني بالشتاء وتلمسا

مكان فراشي فهو بالليل باردُ

وقال آخر:

أبيض بسَّام برودٌ مضجعه

واللقمةُ الفردُ مراراً تُشبعه

وقال الحطيئة يهجو القعود والراحة:

دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وقال أبو عبادة البحتري:

وقد سألتُ فما أُعطيتُ مرغبةً

وكان حقيَ أن أُعطي ولم أسلِ

أرمي بظني ولا أعدو الخطاءَ به

فاعجبْ لاخطاءِ رامٍ من بني ثُعَلِ

أسيرُ إذ كنت في طولِ المقام بها

أكدي لعليَ أجدى عند مُرتحلي

شرق وغرب فعهد العاهدين بما

طالبت في ذَمَلان الأينق الدملِ

ولا تقل أُممٌ شتَّى ولا فرق

فالأرض من تربةٍ والناس من رجلِ

وقال بشار بن برد:

تخاف المنايا إذ ترحَّلَ صاحبي

كأنَّ المنايا في المقام يناسبه

أخذه من قول الأعشى:

وكم مِن رَدٍ أهلَه لم يَرِمْ

والأول أجود سبكاً وأفصح لفظاً. وأخبرنا أبو أحمد، عن الجوهري، عن أبي زيد، قال: قال أبو الحسن: كان خالد بن عبد الله القسري يطعم الأعراب في حطمه أصابتهم، في كل يوم يطعم ثلاثين ألف انسان خبزاً وسويقاً وتمراً فقيل لأعرابي: لو أتيت خالداً فإنه يطعم الأعراب فقال:

يقولُ ابنُ حجاج تجهزْ ولا تمت

هُزالا بحرَّان تعاوى كِلابها

فقد خبرَ الركبان أنَّ جديدَه

تباح ورغفانا شباعاً رِغابُها

وماء فراتٍ ما اشتهيتُ وقرية

تدبُّ دبيبَ النملِ فيك شرابُها

فأقسم لا أبتاعُ رُغفانَ خالد

بأرواحِ نجدٍ ما أقامَ تُرابُها

إذا باحت بالعُرمتين وصارةٌ

رِياح الخزامى حينَ تندى رِحابها

وأخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو بكر بن دريد، قال: حدثنا الفضل بن محمد العلاف قال: لما قدم بغاببني نمير، كنت كثيراً ما آتيهم، فلا أعدم أن ألقى منهم الفصيح، فجئت يوماً إليهم في عقب مطر فإذا شابٌ جميلٌ، قد نهكه المرض فليس به حراكٌ وإذا هو ينشد:

ألا يا سنى برقٍ على قللِ الحمى

ليهنك من برقٍ عليّ كريمُ

لمعتَ اقتداء الطرفِ والقومُ هُجَّع

فهيجت أسقاماً وأنت سقيمُ

فهل من مُعير طرفَ عينٍ خلية

فإنسانُ طرف العامريّ كليمُ

رمى قلَبه البرقُ اليمانيُّ رميةً

بذكر الحمى وهناً فباتَ يهيمُ

قال: إن فيما بك لشغلاً عن الشعر. قال: صدقت ولكن البرق أنطقني. وقال عبد الله بن محمد الفقعسي:

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة

بسلع ولم تغلقْ عليَّ دروبُ

وهل أحدٌ باد لنا وكأنه

حصان أمام المقربات جنيب

يحول السراب الطلح بيني وبينه

فيبدو لعيني تارةً ويغيب

فإني لأرعى النجمَ حتى كأنني

على كلِّ نجمٍ في السماء رقيبُ

وأشتاقُ للبرقِ اليماني إذا بدا

وأزدادُ شوقاً إن تهبّ جَنوب

وله أيضاً:

ومنْ حاجتي لولا الحياءُ وأنني

أرى الناسَ قد أغروا بعيب صبا الكهلِ

مسيري مع الفتيان في طلقِ الهوى

أباري مطاياهم على سلسلٍ رسلِ

فلم يبقَ من تلك اللذاذةِ عندهم

وعنديَ غيرُ الذكر للعهدِ والأهلِ

وقال أعرابيٌ:

أمُغترباَ أصبحتَ في رَامَهُرْمُزٍ

ألا كل كعبيّ هناك غريبُ

إذا راحَ ركبٌ مصعداً إنَّ قلبهُ

مع الرائحينَ المصعدينَ جنيبُ

وإنَّ الكثيبَ الفردَ من أيمن الحمى

ليحلو بسمعي ذكرُهُ ويطيبُ

تفوقتُ ذرّات الصبا في ظلالهِ

إلى أن أتاني بالفطام مشيبُ

إذا هبَّ عُلويُّ الرِّياح استمالني

كأني لعلويِّ الرياح نسيبُ

ومما يجري مع ذلك قول الآخر

إذا عقدَ القضاءُ عليك أمراً

فليسَ يحلهُ غيرُ القضاء

فما لكَ قد أقمتَ بدارِ ذُلٍّ

ودارُ العزِّ واسعة الفضاءِ

تبلغْ بالكفاف فكلُّ شيءٍ

من الدنيا يؤولُ إلى انقضاء

وقال امرؤ القيس:

وقد طَوَّفْتُ في الآفاقِ حتى

رضيتُ من السلامةِ بالإيابِ

وقال البحتري:

وكانَ رجائي أن أؤوبَ مُمَلَّكاً

فصارَ رجائي أنْ أؤوب سليما

^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي