ديوان المعاني/المعاتبات

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

المعاتبات

المعاتبات - ديوان المعاني

المعاتبات

فمن أوائل ذلك، ما أخبرنا به أبو القاسم، عن العقدي، عن أبي جعفر، عن المدائني، قال: قال عليه رسول عليه الصلاة والسلام لطلحة، حين رأى تلون عليه: 'فراقٌ جميلٌ خيرٌ من صحبةٍ على دخن' والدخن والدخل: الفساد والمدخول: الفاسد، وقد دخل فسد، وروي على دخل، ومن قديم ما جاء في ذلك قول أبي ذؤيب:

تُريدينَ كيما تجمعيني وخالداً

وهل يُجمعُ السيفانِ ويحك في غمدِ

يقول لأم عمرو امرأة من هذيل، وكان رجل منهم يقال له وهب بن عمرو وقيل وهب بن جابر هويها فامتنعت عليه، فخرج يوماً يتصيد، فختل ظبية، فلما أخذها أنشد:

فمالكِ يا شبيهةَ أمِّ عمروٍ

إذا عاينتنا لا تأمنينا

فعينُك عينُها إذ تنظرينا

وجيدُك جيدُها لو تنطقينا

وساقك ساقها ولأمِّ عمروٍ

خدلّجةٌ يضيقُ بها البرينا

ورأسُك أزعر ولأمِّ عمروٍ

غدائرُ ينعفرنَ وينثنينا

ثم خلا منها فبلغ ذلك أم عمرو، فواصلته، وكان رسوله إليها أبو ذؤيب، فلما أينع وترعرع، رغبت إليه، واطرحت وهباً، وخشي أبو ذؤيب الفضيحة، فقصر عنها وجعل يرسل إليها خالد بن إبراهيم فلم تلبث أن علقت خالداً وتركت أبا ذؤيب، فجعل أبو ذؤيب يعاتب خالداً، مثل قوله:

فنفسكَ فاحفظها ولا تُبْدِ للعدى

من السرِّ ما يُطوَى عليهِ ضميرُها

رعى خالدٌ سرِّي لياليَ نفسُهُ

توالى على قصدِ السبيلِ أمورها

فلما تراماهُ الشبابُ وغيّهُ

وفي النفس منهُ غَدرة ونحورها

لوى رأسهُ عني ومال بودِّهِ

أغانيجُ خَوْدٍ كان فينا يزورها

تعلقهُ منها دلالٌ ومُقلةٌ

تَظلُّ لأصحاب الشقاءِ تُديرها

وما أنفسُ الفتيانِ إلا قرائنُ

تبينُ ويبقى هامُها وقبورُها

فأجابه خالد:

لا يبعدن الله حلمك إذ غزا

وسافرَ والأحلام جمٌّ عثورُها

لعلك إما أمُّ عمرو تبدلت

سواك خليلاً شاتمي تستخيرها

فلا تجزعن من سنةٍ أنت سرتها

فأول راضيُ سنة من يسيرها

وهذا جواب لا نرى أقطع منه، لأنه ذكر أنه إنما جوزي بمثل فعله:

فإن التي فينا زعمتَ ومثلها

لفيك ولكني أراك تجوزُها

ألم تتنقذها من ابنِ عُويمر

وأنت صَفيُّ نفسه وسجيرُها

فان يك يشكو من قريب مخانة

فتلك الجوازي عَقبها ونُصورها

وفيه يقول أبو ذؤيب:

يُرى ناصحاً فيما بدا فإذا خلا

فذلك سكينٌ على الحلق حاذقُ

ثم إن وهباً بعث ابنه عمراً، فوهب لها ذات يده، فواصلته، وكان لعمرو علانيتها، ولخالد سرها، فجاء خالد ليلاً، وعمرو معها، على شراب فقتله وهرب، فبلغ الخبر وهباً، فركب في جمع، فتبعوه حتى لحقوه فقتلوه، فقال أبو ذؤيب يرثيه:

لعمرو أبي الطيرِ المرية غدوة

على خالدٍ أن قد وقعنَ على لحمِ

كليه وربي لن تعودي بمثله

عشيةَ لامته المنيةُ بالردم

فإنك لو أبصرتِ مصرعَ خالدٍ

بجنب الستارَ بين أظلم فالحزم

علمت بأن النابَ ليست رزيه

ولا البكر لاضمت يداك على غنم

ضَروب لهامات الرجالِ بسيفهِ

إذا التفت الأبطالُ مجتمعَ الحزمِ

ومن قديم العتاب الممزوج بالشكوى قول جميل:

لحى اللَّهُ من لا ينفعُ الودُّ عندهُ

ومن حبلهُ إن مُدَّ غير متينِ

ومن هو إن تحدث له العينُ نظرةً

تقصب لها أسباب كل قرين

ومن هو ذو لونينِ ليس بدائم

على العهدِ خوانٌ لكل أمين

ومن هو عند العينِ أما لقاؤهُ

فحلوٌ وأما غيبهُ فظنون

وكتب بعض الكتاب: لو كنت أعلم أنك تعتب، إذا عاتبتك، سلكت في ذلك مذهباً، لا أبلغ فيه القصوى، ولا اقتصر على الأدنى، ولا أخليتك من الاستزادة في غير شكوى، والتعريف في غير تعنيف، والاحتجاج في غير تنكيت ولا توقيف، ولكن شر القوم ما لا يسمع، وليس لقائله فيه منتفع، وأشبه البر بالعقوق، ما استكرهت عليه النفوس، وقد قال الشاعر:

وليس بمغن في المودةِ شافعٌ

إذا لم يكن بينَ الضلوعِ شفيعُ

وكتب الكرخي: قد واصلت أياماً تباعاً غدواً إليك ورواحا، حتى ملني البكور، وسئمني التهجير، وشكاني الطريق، ولحاني الصديق، في كل ذلك أعاق بالحجاب، وتستقبلني ردة البواب:

ولا خيرَ في ودِّ امرىء متكارهٍ

عليك ولا في صاحبٍ لا توافقُه

وهذا ذرء عتاب جاش به الصدر، وضاق عن كتمانة الصبر، فإن عطفك حفاظ، فأهل الفضل والبر أنت، وإلا فإني على العهد الذي بيننا، ولا أقول كما قيل:

فما ملني الإنسانُ إلا مللتهُ

ولا فاتني شيءٌ فظلت له أبكي

ولا أقول كما قيل:

وإني على عهدِ الأخلاءِ دائم

ولستُ إذا مالَ الصديقُ على حرفِ

إذا أنا لم أصفح وأغضض على القذى

فلا انبسطتُ في الحادثاتِ إذاً كفى

ومن ألطف الكلام، قول بعض الكتاب:أنفذ إلي أبو فلان كتاباً منك، فيه ذرء عتاب، كان أحلى عندي من تعريسة الفجر، وألذ من الزلال العذب، فلك العتبي ولبيك وسعديك داعياً مستجاباً له، وعاتباً معتذراً إليه، ولو شئت مع ذلك أن أقول: إن العتب عليك أوجب، والاعتذار لك ألزم لقلت، ولكني أسامحك ولا أشاحك، وأسلم لك ولا رادك، لأن أفعالك عندي مرضية، وشيمك لدي مقبولة، ولولا أن للحجة موقعها، لقصرت العنان عما أجريت إليه من هذا العتاب، وكففت اللسان عما أطلقته فيه من مر الخطاب. وقلت:

إذا مرضتم أتيناكم نعودكمُ

وتذنبونَ فنأتيكم ونعتذرُ

ولا ترى كلاماً ألطف من هذا ولا أحسن في معناه. وكتب بعضهم لست أقتضى الوفاء بكثرة الالحاح فأثقل عليك، ولا أقابل الجفاء بترك العتاب فأغتنم القطيعة منك، والمثل السائر ويبقى الود ما بقي العتاب. وقلت:

أمنعاً إذا جئتكمْ أستعيرُ

فكيفَ إذا جئتُ أستوهبُ

ومثلي إذا كان في مَعشرٍ

فللعزِّ عندَهُم منكب

يُقرِّب مثلي إذا ما نأى

ويكرمُ مثلي إذا يقرب

عتبتك للودِّ لا للقلى

وواصلْ صديقاً ما تعتب

وما يجري مع هذا الباب قول الآخر:

إذا رأيتُ أزوراراً من أخي ثقةٍ

ضاقتْ عليَ برحبِ الأرضِ أوطاني

فإن صَدَدْتُ بوجهي كي أكافئَهُ

فالعين غضبى وقلبي غيرُ غضبانِ

وقد أحسن العباس بن الأحنف في قوله:

كنا نعاتبكم لياليَ عودكم

حلو المذاقِ وفيكمُ مستعتبُ

فالآن إذ ظهرَ التعتبُ منكمُ

ذهبَ العتابُ وليس عنكم مذهب

ومن مشهور العتاب قولهم:

طال المطالُ فلا خلودَ فحاجةٌ

مقضيةٌ أو برُّ ينفعُ

واعلمْ بأني لا أسرُّ بحاجة

إلا وفي عمري بها مستمتع

ومن جيد المعاتبات قولُ أبي تمام في أبي دُلف:

يا أيها الملكُ النائي بغرَّتهِ

وجودهُ لمرجِّي جودِه كثبُ

ليس الحجابُ بمقصٍ عنك لي أملاً

إنَّ السماءَ تُرجَّى حِين تتجِبُ

ما دونَ بابك لي بابٌ ألوذُ به

وما وراءَك لي مثوَىً ومطلبُ

وقوله في أبي سعيد:

لعمرك لليأسُ غيرُ المريثِ

خيرٌ من الطمع الكاذبِ

وللريبُ تحصره بالنجاحِ

خيرٌ من الأملِ الخائب

وقال يعاتب موسى بن إبراهيم الرافعي في ضنه عنه بجاهه:

سأقطع أرسانَ العتابِ بمنطق

قصيرُ عناءِ الفكر فيهِ يطولُ

وانَّ امرأ ضنت يداهُ على امرىءٍ

بنيلِ يدٍ من غيره لبخيل

أخذه من قول مسلم:

وأحببتُ من حبها الباخلينَ

حتى رمقتُ ابن سلم سعيدا

إذا سئل عرفاً كسا وجهه

ثياباً من البخل صفراً وسودا

يغارُ على المالِ فعلَ الجوادِ

وتأبى خلائقه أن يسودا

وقول أبي تمام:

لآل وهبٍ أكفٌّ كلما اجتديتْ

فعلنَ في المحلِ ما لم تفعل الديمُ

قومٌ تراهم غيارَى دُونَ مجدهم

حتى كأنَّ المعالي عندهم عرمُ

ومنها:

دنيا ولكنها دنيا سَتنصرم

وآخرُ الحيوانِ الموتُ والهرمُ

ومنها:

فلا تقل قدمٌ أزرى ببهجتهِ

لبس العلا طللا يزري به القدمُ

وقد أحسن ابن الرومي وأجاد، في قوله لقوم إستعان بهم فأعانوا خصمه:

تخذتكم درعاً وترساً لتدفعوا

نِبالَ العدى عني فكنتم نصالها

وقد كنت أرجو منكم خيراً ناصر

على حين خذلانِ اليمين شمالها

فإن أنتمُ لم تحفظوا لمودتي

ذماماً فكونوا لا عليها ولا لها

قفوا موْقفَ المعذور مني بمنزلٍ

وخلوا نبالي للعدى ونبالها

هي النفسُ إما أن تعيش عزيزةً

وإلا فغنمٌ أن تزولَ زوالها

عفاءٌ على ذكر الحياة إذا حمت

على المرءِ إلا رفقها وسمالها

وهذا مثل قوله أيضاً:

عفاءٌ على الدنيا إذا مستحقها

بغاها ولن يرجى لديه منوعها

وسأل بعض الرؤساء أن يكتب له كتاباً إلى رئيس فقال:

أتبخلُ بالقرطاسِ والخطِّ عن أخ

وكفاكَ أندى في العطايا من المزنِ

فلا يكن المبذول للوم سمعه

وقرطاسهُ بينَ الصيانةِ والخزنِ

وقال جحظة يعاتب على شدة الحجاب:

لله يعلمُ أنني لكَ شاكرٌ

والحرُّ للفعلِ الجميلِ شكورُ

لكن رأيتُ بباب دارك جفوةً

فيها لصفو صنيعة تكديرُ

ما بال دارك حين تدخلُ جنة

وبباب دارك منكرٌ ونكير

غيره:

سأترك هذا البابَ ما دامَ إذنه

على ما أرى حتى يلينَ قليلا

إذا لم أجد يوماً إلى الأذنِ سلما

وجدتُ إلى تركِ المجيء سبيلا

وقول أبي تمام:

إن السماء ترجى حين تحتجب

مأخوذ من قول الأول:

وأني لأرجوكم على بطءِ سعيكم

كما في بطونِ الحاملاِ رجاءُ

وقد أحسن أبو تمام في معاتبة ابن أبي دؤاد واستبطائه إياه في قوله:

رأيت العلا معمورةً منك دارها

إذا اجتمعتْ يوماً وقرَّ قرارُها

وكم نكبةٍ ظلماءَ تحسبُ ليلةً

تجلى لنا منْ راحتيك نهارها

فلا جارك العافي تناولَ محلها

ولا عرضك الوافي تناولَ عارها

فلا تمكننَّ المطلَ من ذمةِ الندى

فبئس أخو الأيدي الكبار وجارها

فإن الأيادي الصالحات كبارها

إذا وقعت تحتَ المطالِ صغارها

وما نفع من قد بات بالأمسِ صادياً

إذا ما سماءُ اليوم طالَ انهمارها

وخيرُ عداتِ المرءِ محتضرَاتها

كما أنَّ خيرات الليالي قصارها

وما العرفُ بالتسويف الا كخلةٍ

تسليتَ عنها حينَ شطّ مزارها

وقد أحسن في هذه الأبيات ما شاء، وفي قوله أيضاً لمالك بن طوق، وقد حجبه:

قل لابنِ طوقٍ رحا سعدٍ إذا خبطتْ

نوائبُ الدَّهرِ أعلاها وأسفلَها

أصبحت حاتمها جوداً وأحنفَها

حِلماً وكيّسها علماً ودغفلَها

ما لي أرى الحجرةَ الفيحاء مقفلةً

عني وقد طالَ ما استفحتُ مقفلَها

كأنها جَنةُ الفردوسِ معرضةً

وليس لي عملٌ زاكٍ فأدخلَها

وليس لهذا التمثيل نظير في حسنه وبراعته. وكتب الصاحب أبو قاسم، إلى بعضهم يعاتبه في صغر كتابه إليه:كتابي وعندي نعم من أعظمها خلوص ودِّك، وبقاء عهدِك، ورد لي كتاب، حسبته يطير من يدي لخفته، ويلطف عن حسي لقلته، وعهدي بك تروي إذا سقيت، وتجزل إذا أعطيت، فما الذي أحالك وبدل حالك: أملال أم كلال أو إقلال ؟ وليس عندي أنك تملُّ صديقاً صدوقاً، وشفيقاً شقيقاً، ولا عندي أنك تكل، ولو ملأت الأرض كلاماً، وشحنت صفحات الجوِّ نظاما، ولا عندي أنك تقلُّ، وبحر فضلك فياض، وثوب علمك فضفاض، فما أملك وقد نبوت وزهدت وجفوت، إلا أن أصبر على هجرتك، كما تمتعت بصلتك، لتكون عني نسخة أخلاقك إذا قربت وبعدت، ووصلت وصددت، وأكره أن أطيل وقد قصرت، وأكثر وقد أقللت فتسأمني، كما سئمت عادتك، وتتركني وقد تركت شيمتك، فأحب أن تطالعني بأخبارك، وعوارض أوطارك، إن شاء الله تعالى:

إذا أنتَ عاتبتَ الصديقَ ولم يكنْ

يودُّك لم يعتبك حينَ تعاتُبه

ومن يرعَ شرقيَّ البلادِ سَوامُه

وغربيها يملكه صاحبه

ومن يخلط الماءَ الزُّلال بآجنٍ

من الماء تخبث ما تطيب مشاربه

وقفت على الفصل المؤذن بالجفاء، المشتمل على سوء الجزاء، وعلى ما احتواه من دنيء الخطاب، ووضيع الدعاء، وعجبت كيف حططت الدعاء من رتبته المعروفة، وخفضت الخطاب عن درجته المألوفة، وأنت على منزلتك لم تزدد نقيرا، وأنا في درجتي لم أنقض قطميرا، فكيف لو زدت زادك الله بصراً بمالك وعليك، وأراك من عيبك ما لا يتصور لديك، وكفاك من شر نفسك ما هاصر عليك، من كيد عدوك، وشماتة حسودك، ولا أختار لك أن تتكبر كلما تكبر، وتتجبر كلما تجبر، فقد سمعت ما قال يحيى بن خالد:من بلغ رتبة فتاه أخبر أن محله دونها، ومن بلغها فتواضع، أعلم أن حقه فوقها، فكيف والأحوال على ما كانت عليه، لم يصر الهلال بدراً، ولا الشبل ليثاً، ولا الغصن ساقاً، ولا القطوف معتاقاً. والعرب تسمى الكبر تيهاً، وهو الحيرة، لأن صاحبه لا يهتدي لرشاد، ولا يصل إلى سداد، ولو لم يكن إلا التطير من اسمه، دون التحلي بقبح سمته ورسمه، لكان العاقل حقيقاً بتركه وخليقاً برفضه، وقد قيل: ليس لمعجب رأي، ولا لمتكبر صديق، فإياك أن تحرم نفسك بكبرك الذي يضرك ولا ينفعك، ويحطك ولا يرفعك، استفادة الإخوان الذين هم أبلغ في الخير والشر من البيض الحداد، وأحضر عناء في الأمن والخوف من الطرائف والتلاد، فإن ذلك غبن كبير، وحرمان جسيم، وقد قال الأول:

ما بالُ من أولهُ نطفةٌ

وآخره جيفةٌ يفخرُ

ولبعض بني هاشم وهو الرضى رحمه الله تعالى:

ولربَّ مولى لا يغضُّ جماحَهُ

طولُ العتابِ ولا عناءُ العذَّلِ

يطغى عليك وأنت تلأمُ شعبه

والسيفُ يأخذ من بَنانِ الصيقلِ

ضاقَ الزَّمانُ فضاقَ فيه تقلبي

والماءُ يجمعُ نفسَه في الجدولِ

وقال بعضهم في يزيد بن المهلب:

فمن يلازم النازلون محله

فمنزلكم للحمدِ والشكرِ منزلُ

رأى الناسُ فوقَ المجد مقدارَ مجدكم

فقد يسألوكم فوقَ ما كان يسألُ

وقصّر عن مسعاكُم كلُّ آخرٍ

وما فاتكم ممن تقدَّمَ أوَّلُ

بلغتُ الذي قد كنتُ آمله لكم

وإن كنتُ لم أبلغ بكم ما أؤمِّلُ

وماليَ حقٌّ واجبٌ غير أنني

إليكم بكم في حاجتي أتوسَّلُ

فان أنتمُ أنعمتمُ وبررتمُ

فقد يستتمُّ النعمةَ المتفضلُ

وان كنتمُ أو ليتموني تفضلا

جميلاً فان العودَ بالفضلِ أفضلُ

وكم مُلحفٍ قد نالَ منكم رغيبةً

ويمنعنا من أن نُلحَّ التجملُ

وعودتموني قبل أن أسأل الغنى

ولا يكمل المعروفُ والوجه يبذلُ

وقال ابن الرومي:

من الحيفِ تخسيسُ النوال ومطله

فعجلْ خسيساً أو فأجِّل موفرا

وكن نخلةً تُلوي وتُسني عطاءَها

وإلا فكن عَفصاً أقلّ ويسرا

وقال:

يا شبيةَ البدرِ في الح

ن وفي بعدُ المثالِ

جُدْ فقدْ تنفجرُ الصخ

رةُ بالماءِ الزُّلالِ

وله في المعاتبات ما لا أعرف لغيره - قال:

يا بن الوزير الذي تمَّتْ وزَارَتهُ

لا تجمعنَّ عليَّ العارَ والنارَا

إن كنتُ أحسنتُ في وصفي مآثركم

فاثّروا فيّ بالإحسانِ آثارا

وإن أكن قلت ما لا أستحقُّ بهِ

منكم ثواباً فردُّوهُ وما سارا

إنّ المديح إذا ما سارَ مُنفردا

من الثوابِ كسى من قالهُ عارا

فقد يعزُّ بليغ في بلاغته

وقد يظنُّ سوى المختار مختارا

أسهبتُ فيكم لكي أعلى فطأطأني

تقصيركم بي فقد أزمعت إقصارا

إنَّ السلاليمَ لا تبني أطاولها

يوماً ليهبطَ بانيهنَّ اغوارا

لكنْ ليصعدَ انجاداً تشرِّفُه

حتى يمدَّ إليها الناس أبصارا

وقد هبطتُ بما شيدتُه لكمُ

من حالقٍ ولعلَّ الله قد خارا

كم هابطٍ صاعدٍ من بعد مهبطه

وغائرٍ منجد من بعد ما غارا

ثقلتَ في كَفَّهِ الميزان فانكدَرَتْ

تهوي وشالَ خفاف الناس أقدارا

صبراً فكم ناهضٍ من بعدِ وقعتهِ

يوماً وكمْ واقع من بعد ما طارا

لابني سميرٍ صروفٌ غير غافلةٍ

يحْسنَّ نقضاً كما أحسنَّ امرارا

وقال:

وتابع بعد الفتح قوماً سبقتهم

فلِمْ أنا في نُعماكَ ردِفٌ وهم صدرُ

ولم يصفُ من شيءٍ صفاءَ طوَّيتي

فلم شربهم صفوٌ ولم مشربي كدرُ

وما جاء مدحٌ مثلَ مدحيَ فيكمُ

فلم كسبهم مدٌّ ولم مكسبي جزرُ

وما ليَ لا أنفكُّ أنعي مسنداً

ولي منكُم ظهرُ وما مثلكم ظهرُ

لعمري لقد غوثت غيرَ مقصرٍ

لتجبر من مالي وقد أمكن الجبرُ

وكم قائلٍ أبلغتَ فيما تقوله

فقلت له غنيتُ لو ساعدَ الزَّمرُ

وقلت:

قد كنتَ تولينيَ الحسنى وتُكرِمني

وكنت أشكرُ ما تأتي من الحسن

ما بدا لك في جُودٍ ومَكرمةٍ

تجري من المجد مجرى الروح في البدنِ

رجع إلى الحالةِ الأولى فإنّ لنا

شكراً يكونُ لها من أوْفَرِ الثمنِ

وحسنَ أحدوثةٍ لو كنتَ تبصرها

حسبتها غُرَّةً في جبهة الزَّمنِ

أزكى منَ المسكِ في أصداغ غانيةٍ

كأنها قمرٌ أوفى على غصن

وللصاحب بن عباد في الإستزادة والعتاب، أبيات لم يمر بي من شعره أجود منها فمنها:

سيشهدُ أبناءُ المفاخرِ كلهم

بأنّ مضيعَ الأكرمينَ مُضيّعُ

يزعزعك الواشونَ عن حومةِ العلا

وكان بعيداً أن يزعزعَ لعلع

وقد طرف البحتري في قوله يستبطئ محمد بن العباس الكلابي:

المئةُ الدنيارِ منسيةٌ

في عِدَةٍ أشبعتها خلفا

لا صدقَ إسماعيل فيها ولا

وفاء إبراهيم إذ وفى

إن كنت لا تنوي نجاحاً لها

فكيفَ لا تجعلها ألفا

وقوله:

عمرتَ أبا إسحاق ما صلح العمرُ

ولا زال مَزهواً بآبائك الدَّهرُ

فأنتَ ندى نحيا به حيث لا ندى

وقطرٌ يرجَّى جودُهُ حيثُ لا قطرُ

على أنني بعدَ الرِّضا مُتسخطٌ

ومستعتبٌ من خطةٍ سهلها وعرُ

وقد أوحشتني ردَّةٌ لم أكن بها

بأهلٍ ولا عندي بتأويلها خبرُ

فلم جئت طوعَ الشوقِ من بعد غايتي

إلى غيرِ مشتاقٍ ولم رَدّني بشرُ

وما باله يأبى دخولي وقد رأى

خروجيَ من أبوابِه ويدي صفرُ

ومن جيد ما قيل في حسن الإقتضاء قول أبي تمام:

وإذا المجدُ كان عوني على المر

ءِ تقاضيتهُ بتركِ التقاضي

وقول الآخر:

أروح بتسليم وأغدو بمثله

وحسبك بالتسليم مني تقاضيا

وفي خلاف ذلك قول بعضهم:ثقتي بكرمك تمنع من لإقتضائك، وعلمي بشغلك يحدو على إذكارك. ومما يجري مع هذا الباب قول الآخر:

أنتَ أمضى من أن تحرَّكَ للمج

دِ ولكنْ شراهةُ الشعَراءِ

وفي خلاف ذلك قول الآخر:

أروحُ وأغدو نحوكم في حوائجي

فأصبحُ منها غدوةُ كالذي أمسى

وقد كنتُ أرجو للصديقِ شفاعتي

فقد صرتُ أرضى أن أشفعَ في نفسي

وقول الآخر:

وللموتَ خيرٌ من حياةٍ زهيدةٍ

ولَلمنعُ خيرٌ من عطاءٍ مكدَّرِ

ومن مليح الإستبطاء ما كتب بعضهم:كتابي ليس باستطباء، وإمساكي ليس بإستغناء، ولكن كتابي تذكرة لك، وإمساكي ثقة بك. وكتب عثمان إلى علي رضي الله تعالى عنهما:أما بعد فقد بلغ الماء الزبى، والحزام الطبيين، وطمع فيّ من لا يدفع عن نفسه:

فإن كنتُ مأكولاً فكن خيرَ آكل

وإلاّ فأدركني ولما أمزَّق

ومما جاء في ذم العتاب، قول بعض الحكماء:العتاب رسول الفرقة وداعي القلى وسبب السلوان وباعث الهجران. وقال بعضهم: العتاب التجني، والتجني ابن المحاجة، والمحاجة أخت العداوة، والعداوة أم القطيعة. وقال بعضهم: سبيل من يأخذ على أيدي الأحداث، أن لا يكدرهم بالتوبيخ، لئلا يضطروا إلى القحة. وقال غيره: العتاب داعية الإجتناب، فإذا انبسطت المعاتبة انقبضت المصاحبة. وقال آخر: حرك إخوانك ببعض العتاب لئلا يستعذبوا أخلاقك، وأغض عن بعض ما تنكر منهم لئلا يوحشهم إلحاحك. وهذا أقصد ما قيل في هذا المعنى. وكتب في فصل لي:العتاب مقدمة القطيعة، وطليعة الفرقة، فتجنبه قبل أن يجنبك حظك من السرور، برؤية أحبابك، وانتقل عنه قبل أن ينتقل بك عن مقر غبطتك، بمشاهدة أودائك، وإن لم تجد منه بداً، فاقتصد فيه ولا تكثر منه، فإن الكثير من المحبوب مملول، فكيف من المكروه، والإقتصاد في المحمود ممدوح فكيف من المذموم. وقال ابن الرومي:

أرَفِّه ما أرَفِّهُ في التقاضي

وليسَ لديكَ غيرُ المطلِ نقدُ

خلا وعدٍ مددت إليهِ كفي

فأعرضَ دونهُ مطلٌ يُمدُّ

إذا إنجازُ وعدِك كانَ وعداً

فيكفيني من الوعدينِ وعدُ

وقال:

سألتُ قفيزين من حنطةٍ

فجدتَ بكرٍّ من المنعِ وافِ

وأتبعتَ منعَكَ لي بالحجابِ

مهلاً هُديتَ ففي المنعِ كافِ

كأني سألتُكَ حَبَّ القلوبِ

ذاك الذي من وراءِ الشغافِ

وقد أجاد الآخر حيث يقول:

وكنْ عندَ ما نرجوهُ منك فإننا

جميعاً لما أوْليتَ من حسن أهلُ

ولا تعتذرْ بالشغلِ عنا فإنما

تناطُ بك الآمالُ ما اتَّصلَ الشغلُ

الفصل الثاني من الباب الثالث في

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي