ديوان المعاني/الهجاء

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

الهجاء

الهجاء - ديوان المعاني

الهجاء قالوا: أهجى بيت قالته العرب قول جرير:

فغضَّ الطرفَ إنك من نميرٍ

فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا

أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا أبو بكر بن دريد، حدثنا أبو عثمان عن التوزي، عن أبي عبيدة، عن يونس، قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً وعنده جلساؤه: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودوا أنهم افتدوا منه بأموالهم، وشعر لم يسرهم به حمر النعم ؟ فقال أسماء بن خارجة: نحن يا أمير المؤمنين، قال وما قيل فيكم ؟ قال قول الحارث بن ظالم:

وما قومي بثعلبة بن سعدٍ

ولا بفزارة الشعر الرِّقابا

فوالله يا أمير المؤمنين، إني لألبس العمامة الصفيقة، فيخيل لي أن شعر قفاي قد بدا منها. وقول قيس بن الخطيم:

هممنا بالإقامةِ ثم سرنا

مسيرَ حُذيفة الخيرِ بن بدرِ

فما يسرنا أن لنا بها أو به سود النعم. فقال هانىء بن قبيصة أولئك نحن يا أمير المؤمنين، قال ما قيل فيكم ؟ قال قول جرير:

فغضَّ الطرفَ إنك من نميرٍ

فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا

والله لوددنا أننا افتديناه بأملاكنا، وقول زياد الأعجم:

لعمرك ما رماحُ بني نميرٍ

بطائشة الصدور ولا قصار

فوالله ما يسرنا به حمر النعم. قال أبو بكر وذكر أن جريراً لما قال:

والتغلبيُّ إذا تنحنحَ للقرى

حكَّ استهُ وتمثَّلَ الأمثالا

قال: قد قلت بيتاً فيهم لو طعن أحد في استه لم يحكها. وأخبرنا أبو القاسم، عن العقدي، عن أبي جعفر، عن المدائني، قال: مرت امرأة ببني نمير فتغامزوا إليها، فقالت: يا بني نمير لم تعملوا بقول الله تعالى ولا بقول الشاعر. يقول الله تعالى: 'قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم'. ويقول الشاعر:

فغض الطرف إنك من نمير

فخجلوا وكان النميري إذا قيل له ممن أنت ؟قال من نمير فصار يقول: من بني عامر بن صعصعة. ولو قيل: إن أهجى بيت قالته العرب قول الفرزدق لم يبعد وهو:

ولو تُرمى بلؤم بني كليبٍ

تجومُ الليلِ ما وضحتْ لساري

ولو يُرمى بلؤمهم نهارٌ

لدنَّسَ لؤمهُم وضحَ النهارِ

وهذا مثل قول الآخر:

ولو أنَّ عبدَ القيس ترمي بلؤمها

على الليل لم تبدُ النجومُ لمن يرى

وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الأعشى:

تبيتونَ في المشتى ملاءً بطونكم

وجاراتكم غرثَى يبتنَ خمائصا

وكان من حديث هذا الشعر، أن عامر بن الطفيل بن مالك، وعلقمة بن علاثة، تنازعا الزعامة فقال عامر: أنا أفضل منك، وهي لعمي ولم يمت وعمه عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب وكان قد اهتز وسقط وقال علقمة: أنا أفضل منك أنا عفيف وأنت عاهر، وأنا وفي وأنت غادر، وأنا ولود وأنت عاقر، وأنا أدنى إلى ربيعة. فتداعيا إلى هرم بن قطبة ليحكم بينهما، فرحلا إليه ومع كل واحد منهما ثلثمائة من الإبل، مائة يطعمها من تبعه، ومائة يعطيها الحاكم، ومائة يعقرها إذا حكم. فأبى هرم ابن قطبة أن يحكم بينهما مخافة الشر، وأبيا أن يرحلا فخلا بعلقمة وقال له: أترجو أن ينصرك رجل من العرب على عامر، فارس مضر أندى الناس كفاً، وأشجعهم لقاءً، لسان رمح عامر أذكر في العرب من الأحوص، وعمه ملاعب الأسنة وأمه كبشة بنت عروة الرحال، وجدته أم البنين بنت عمرو بن عامر فارس الضحياء، وأمك من النخع وكانت أمه مهيرة وأم علاثة من النخع، ثم خلا بعامر، فقال له: أعلى علقمة تفخر أأنت تناوئه ؟ أعلى ابن عوف بن الأحوص أعف بني عامر وأحلمه وأسوده وأنت أعور عاقر مشؤوم، أما كان لك رأى يزعك عن هذا، أكنت تظن أن أحداً من العرب ينصرك عليه. فلما اجتمعا، وحضر الناس للقضاء، قال أنتما كركبتي البعير، فرجعا راضيين. والصحيح أنه توارى عنهما ولم تقل شيئاً فيهما، ولو قال أنتما كركبتي الجمل، لقال كل منهما أنا اليمنى فكان الشر حاضراً. ولقد سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعد ذلك: لمن كنت حاكماً لو حكمت ؟ فقال: أعفني يا أمير المؤمنين، فلو قلتها لعادت جذعة. فقال عمر صدقت مثلك فليحكم. فارتحلوا عن هرم لما أعياهم نحو عكاظ، فلقيهم الأعشى منحدراً من اليمن، وكان لما أرادها قال لعلقمة: اعقد لي حبلاً قال: أعقد لك من بني عامر قال: لا تغني عني قال: فمن قيس قال لا قال: فما أنا رائدك. فأتى عامر بن الطفيل، فأجاره من أهل السماء والأرض، فقيل له: كيف تجيره من أهل السماء ؟ قال ابن مات وديته، فقال الأعشى لعامر أظهر انكما حكمتماني، ففعل، فقام الأعشى فرفع عقيرته في الناس فقال:

حكمتموهُ فقضى بينكمْ

أبلج القمر القمر الزَّاهرِ

لا يأخذُ الرَّشوةَ في حكمه

ولا يبالي غَبنَ الخاسرِ

علقمُ ما أنتَ إلى عامر

الناقضِ الأوتارَ والواترِ

واللامسِ الخيلَ بخيلٍ إذاً

ثارَ عجاجُ الكّبة الثائرِ

ساد وألفى رهطه سادةً

وكابراً سادوك عن كابرِ

وشد القوم على الإبل المائة فعقروها وقالوا عامر وذهبت به الغوغاء وجهد علقمة أن يردها فلم يردها فلم يقدر على ذلك فجعل يتهدد الأعشى فقال الأعشى:

أتاني وعيدُ الخوص من آل جعفرٍ

فيا عبدَ عمروٍ لو نَهيتَ الأحاوصا

فما ذنبنا أن جاشَ بحر ابن عمكم

وبحرك ساجٍ لا يُواري الدَّعامصا

كلا أبويكم كانَ فرع دعامةً

ولكنهم زادوا وأصبحتَ ناقصا

تبيتونَ في المشتى ملاءً بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتنَ خمائصا

يراقبن من جوع خلالَ مخافةٍ

نجومَ العشاءِ القائماتِ القوامصا

رمى بك في أخراهمُ تركك الندى

وفضل أقواماً عليك مراهصا

فعضَّ حدَيدَ الأرض ان كنت ساخطاً

بفيك وأحجارَ الكلابِ الرواهصا

فبكى علقمة لما بلغه هذا الشعر وكان بكاؤه زيادة في العار. والعرب تعير بالبكاء، قال مهلهل:

يبكى علينا ولا نبكي على أحدٍ

لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإبلِ

وقال جرير:

بكى دوبلٌ لا يرقأ الله دمعَهُ

ألا إنما يبكي من الذلِّ دوبلٌ

وكان الحطيئة مع علقمة وليد مع عامر فقال الحطيئة:

يا عام قد كنت ذا باعٍ ومكرمةٍ

لو أنَّ مسعاةَ من جاريتَهُ أمَمُ

جاريت قرماً أجادَ الأحَوصان بِه

ضخم الدسيعة في عِرنينِهِ شَمَم

لا يصعبُ الأمرُ إلا حيث يركُبه

ولا يبيتُ على مالٍ له قَسَمُ

وقال:

فما ينظر الحكامُ في الفصلِ بعدما

بدا واضحٌ ذو غُرَّةٍ وحُجُولِ

وهاتان القصيدتان جيدتان بارعتان في معنيهما، ولكن الناس استخفوا قول الأعشى:

علقم لالنت إلى عامر

فمر على ألسنتهم وسقط شعر الحطيئة. أخبرنا أبو علي بن أبي جعفر، أخبرنا جعفر بن محمد، حدثنا أبو عبيدة العسكري، حدثنا محمد، يعني ابن الوليد، حدثنا أبو زكريا عن الأصمعين قال: قال عبد الملك ابن مروان لأمية مالك وللشاعر إذ يقول:

إذا هتفَ العصفورُ طارَ فؤادهُ

وليثٌ حديدُ النابِ عند الثرائدِ

قال: أصابه حد من حدود الله تعالى فأقمته عليه، قال: فهلا درأته عنه بالشبهات ؟ قال: كان أهون علي من أن أعطل حداً من حدود الله تعالى، فقال: يا بني أمية أحسابكم أحسابكم، يسرني اني هجيت ببيت الأعشى حيث يقول:

تبيتونَ في المشتى ملاءً بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

ولي الدنيا بحذافيرها، ولو أن رجلاً خرج من عرض الدنيا، كان قد أخذ عوضاً لقول ابن حرثان:

على مكثريهم حَق من يعتريهم

وعندَ المقلينَ السماحةُ والبذل

هكذا رواه لنا والبيت لزهير. وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول الحطيئة في الزبرقان بن بدر:

دَعِ المكارِمَ لا تَرْحلْ لبغيتها

وأقعد فإنك أنتَ الطاعمُ الكاسي

وأخبرني أبو أحمد، سمعت بعض الشيوخ يقول: اجتمع مطيع بن إياس ويحيى بن زياد وحماد عجرد وجعفر بن أبي وزة، في مسجد الكوفة، فامتروا في أهجى بيت قالته العرب ثم اتفقوا على قول الفرزدق في جرير:

أنتم قرارةُ كل ّ معدنِ سَوءةٍ

ولكلِّ سائلةٍ تسيلُ قرارُ

أخذه أبو تمام فقال:

وكانت زفرةٌ ثمّ أطمأنت

كذاك لكلِّ سائلةٍ قرارُ

وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول الأخطل لجرير:

ما زال فينا رباطُ الخيلِ معلمة

وفي كليبٍ رباطُ اللؤمِ والعارِ

قومٌ إذا استنبحَ الأضيافَ كلبهم

قالوا لأمهم: بولي على النارِ

قالت بنو تميم: ما هجينا بشيء هو أشد علينا من هذا البيت. وهو يتضمن وجوها شتى جعلهم بخلاء بالقرى، وجعل أمهم خادمتهم، يأمرونها بكشف فرجها، وجعلهم يبخلون بالماء، أن يطفئوا به النار، فيأمرونها بأن تطفئها ببولها بينهم وبين المجوس لتعظيم المجوس النار، إلى غير ذلك، وان نارهم من قلتها كانت تطفئها ببولها. وقالت بنو مشاجع ما هجينا بشعر أشد علينا من قول جرير:

وبر حرحانَ غداةَ كبْلَ معبد

نكحتْ نساؤهمُ بغيرِ مهورِ

وقالت بنو كليب ما هجينا بشعر أشد علينا من قول الفرزدق:

ألستَ كليبياً إذا سيمَ سوءةً

أقرَّ كإقرارِ الحليلةِ للبعلِ

وقالوا بل أهجى بيت قالته العرب قول الطرماح:

تميمٌ بطرقِ اللؤمِ أهدى من القطا

ولو سلكت سُبلَ المكارمِ ضلْتِ

وقال بعض الشيوخ: لو أن هذا البيت لجرير أو لمن في طبقته، لحكم على جميع ما في معناه وبعده وهو أبلغ ما قيل في الاحتقار والتقليل والجبن:

ولو أن حرقوصاً على ظهرِ نملةٍ

تشدُّ على صفي تميمٍ لَوَّلتِ

ولو جمعت يوماً تميمٌ جُموعَها

على ذرةٍ معقولةٍ لاستقلتِ

ولو أنَّ أمَّ العنكبوتِ بنتْ لها

مظلتها يومَ الندى لاستظلتِ

ولو أنَّ برغوثاً يزقق مسكه

إذا نهلت منه تميم وعلتِ

وأبلغ ما قيل في الخمول قوله أيضاً:

لو كان يخفى على الرحمن خافيةٌ

من خلقهِ خَفيتْ عنهُ بنو أسدِ

قومٌ أقامَ بدارِ الذُلِّ أولهم

كما أقامت عليه جذمةُ الوتدِ

وقال ابن الأعرابي: قال أبو عمرو بن العلاء: أحسن الهجاء ما تنشده العاتق في خدرها، فلا يقبح بها مثل قول أوس:

إذا ناقة شعرت برحل ونمرقٍ

إلى حَكَمٍ بعدي فضلّ ضلالُها

وقال ابن الأعرابي: وأنا أقول مثل قول جرير:

ولو أنَّ تغلبَ جَمعتْ أحسابها

يوم التفاخرِ لم تزنْ مثقالا

وقيل أهجى ما قالته العرب قول الأعرابي:

اللؤم أكرمُ من وبر ووالدهِ

واللؤم كرم من وبر وما ولدا

قومٌ إذا جرّجانٍ منهم أمنوا

من لؤمهم أحسابِهم أن يقتلوا قودا

وقال النجاشي في بني العجلان:

قبيلة لا يغدرونَ بذمةٍ

ولا يظلمون الناسَ حبّة خردلِ

ولا يردون الماءَ إلا عشيةً

إذا صَدَرَ الورَّادُ عن كلِّ منهلِ

فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب فقال ما قيل فيكم ؟ فأنشدوه:

إذا الله عادَى أهل لؤمٍ ورقةٍ

فعادى بني العجلانِ رهطَ ابن مقبلِ

فقال عمر إن كان مظلوماً استجيب له، قالوا وقد قال:

قبيلة لا يغدرونَ بذمةٍ

ولا يظلمونَ الناسَ حبةَ خردلِ

فقال: ليت آل الخطاب هكذا. قالوا: وقد قال:

ولا يَردونَ الماءَ إلا عشيةً

إذا صدرَ الوُرَّادُ عن كلِّ منهلِ

قال عمر: ذاك أقل للكاك يعني الأزدحام قالوا: وقد قال:

تعاف الكلاب الضارياتُ لحومهم

ويأكلنَ من عوفٍ وكعبٍ ونهشلِ

قال أحيا القوم قتلاهم ولم يضيعوهم، قالوا وقد قال:

وما سُميَ العجلان إلا لقيلهم

خُذ القعبَ واحلبْ أيها العبدُ واعجل

فقال عمر: خير القوم خادمهم، ثم بعث إلى حسان فسأله فقال: ما هجاهم ولكن سلح عليهم، فتهدد النجاشي وقال إن عدت: قطعت لسانك ؟وكانوا يتمدحون بتقديم الورد، وكان أعزهم أسبقهم إلى الماء بإبله ومثل قوله:

تعاف الكلابُ الضارياتُ لحومهم

قول البحتري:

وردَّدتُ العتابَ عليك حتى

سئمت وآخر الودِّ العتابُ

وهانَ عليك سخطي حينَ تغدو

بعرضٍ ليسَ يأكلهُ الكلاب

ومن التناهي في الاحتقار والخمول قول بعضهم:

قالوا الأشاقر تهجوهمْ فقلت لهم

ما كنتُ أحسبهم كانوا ولا خلقوا

قومٌ من الحسبِ الزاكي بمنزلةٍ

كالفقعِ بالقاعِ لا أصلٌ ولا وَرَقُ

أنَّ الأشاقرَ قد حلوا بمنزلةٍ

لو يرهبونَ بنعلٍ عندنا علقوا

لا يكثرون وإن طالتْ حياتُهمُ

ولو تبولُ عليهم فأرةٌ غرِقوا

وقول الآخر:

لو يحلوا بالحرير ما وجدوا

وقول الآخر، أستغفر الله من قوله:

يكادُ من رقّةٍ ولؤمٍ

يخفى على البارىء القديمِ

وقول أبي الهيذام:

يا جعفرَ بن القاسم بن محمدٍ

ما لي أراك عن الندى معزولا

إني أقولُ مقالةً تجري بها

لو كنتَ من كرم لكنت قليلا

وقول أبي تمام:

ما كنت أحسبُ أنَّ الدَّهر يمهلني

حتى أرى أحداً يهجوهُ لا أحد

ونحوه قوله:

هبْ من له شيءٌ يريدُ حجابهُ

ما بالُ لا شيء عليه حجابُ

وقال:

وأنت أنزر من لا شيء في العدد.

وشكا رجل إلى أبي العيناء رجلا، فقال فاك دخل في العدد وخرج من العدد، يقول: هو يعد في الحساب ويخرج من عدد التحصيل، وهو من قول القائل:

خرجنا الغداةَ إلى نزهةٍ

وفينا زياد أبو صعصهُ

فستهُ رهطٍ به خمسةٌ

وخمسةُ رهطٍ بهِ أربعه

وقلت في معناه:

أنظر إليهمْ ولا تعجبك كثرتهم

فانما الناسُ قلوا كلما زادوا

ولا يهولنك من دهمائهم عددٌ

فليسَ للناس في التحصيل أعدادُ

عجبتُ من زهدهم فيما يزينهمُ

والناسُ مُذ خلقوا في الخيرِ زهادُ

ومن التناهي في صفة الخمول، قول عبد الصمد في أبي العباس محمد ين يزيد المبرد:

سألنا عن ثمالةَ كلَّ حيٍّ

فقالَ القائلونَ ومن ثمنالَهْ

فقلتُ محمدُ بنُ يزيد منهم

فقالوا زدتنا بهم جهالهْ

ومن الاستحقار الشديد قول مسلم:

أمويسُ قل لي أينَ أنتَ من الورى

لا أنتَ معلومٌ ولا مجهولُ

أما الهجاءُ فدقَّ عرضك دونهُ

والمدحُ عنك كما علمتَ جليل

فاذهب فأنتَ طليقُ عرضك إنهُ

عرضٌ عززتَ بهِ وأنتَ ذليل

فجعله دون الهجاء، والهجاء فوقه فلا يهجى لضعته وقلته. ومن ههنا أخذ ابراهيم بن العباس قوله:

فكنْ كيفَ شئتَ وقلْ ما تشا

وأبرقْ يميناً وأرغد شمالا

نجابك لؤم منجى الذباب

حمتهُ مقاذيرهُ أن ينالا

وهذه الأبيات، وإن كانت مشهورة، فإن لإيرادها ههنا معنى كبيراً وذلك أني لست أجد خيراً منها في معناها وأجود، وقد شرطت أن لا أضمن هذا الكتاب إلا كل جيد اللفظ بارع المعنى، وأنت أيضاً إذا احتجت إليه تتناوله من قرب. وأنشد الجاحظ:

ووثقتَ أنك لا تسبُّ

حماكَ لؤمكَ أن تُسبَّا

وقال الآخر:

بذلةِ والديك كسيتَ عزاً

وباللؤمِ أجترأتَ على الجوابِ

وقال غيره:

دناءَةُ عرضك حصنٌ منيع

تقيك إذا ساء منك الصنيعُ

فقلْ لعدُوِّكَ ما تشتهي

فأنتَ الرَّفيعُ المنيعُ الوضيعُ

وقلت:

لست الوضيعَ ولا الصغيرَ وإنما

أنتَ الوضيعُ عن الوضيع الأصغر

لا تفخرنَّ وإنْ غَدوْتَ مقدَّما

فعلى جبينك سيمياء مؤخر

وقال أبو نواس:

ما كان لو لم أهجهُ غالب

قامَ لهُ هجوي مقامَ الشرفْ

يقولُ قد أسرفَ في هجونا

وإنما زادَ بذاك السّرَفْ

غالبُ لا تسعى لتبني العلا

بلغتَ مجداً بهجائي فقفْ

قد كنتَ مجهولاً ولكنني

نَوَّهْتُ بالمجهولِ حتى عرف

فجعل شرفهم ونباهتهم بهجائه إياهم، وقوله:

وما أبقيتُ من غيلانَ إلا

كما أبقتْ من البظرِ المواسي

ومن قديم الهجاء لمن لا يقع في حياته وفي موته فجيعة قول بعضهم:

وأنتَ امرؤٌ منا خُلقتَ لغيرنا

حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجعُ

وقال ابن الرومي:

فلا تخش من أسهمي قاصداً

ولا تأمننَّ من العايرِ

ولكنْ وقاك معرَّاتها

تضاؤلُ قَدرِكَ في الخاطرِ

وقال غيره:

إني هجوتُ بكلَّ لفظٍ مقذعٍ

زيداً وكان لهُ الهجاءُ مديحا

وقلت:

يا أبا القاسم هل أبصرت

شبهاً لك في قبحكَ

ونظيراً لك في شؤمك

أو لؤمك أو شحك

إن من شبهك الكلب

فقد بالغَ في مدحكَ

وقلت:

أهنت هجائي يا بنَ عروةَ فانتحى

عليَّ ملامُ الناسِ في البعدِ والقربِ

وقالوا أتهجو مِثله في سُقوطهِ

فقلتُ لهم جريتُ سيفي على كلبِ

وقال ابن الرومي:

خسأت كلباً مَرَّ بيَ مرَّةٍ

فقال مهلاً يا أخا خالدِ

حسبكُم خزياً بني آدم

شركتكم إياه في الوالد

ومثله ما أنشدناه أبو أحمد قال أنشدني ابن لنكك لنفسه:

وعصبةٍ لما توسَّطتهمْ

صارت عليَّ الأرضُ كالخاتمِ

كأنهمْ من سوءِ أفهامهمْ

لم يخرجوا بعدُ إلى العالم

يضحكُ إبليس سروراً بهم

لأنهم عارٌ على آدم

وقلت:

قلتُ للكلبِ حينَ مرَّ بيَ اخسأ

فكأني كويتُ قلبك كيا

أترى أنني أعُدُّك كلباً

أنتَ عندي إذا نبحتَ الثريا

ومن التناهي في الاستصغار والخمول قول زياد الأعجم:

إذا ما اتقى الله امرؤٌ وأطاعَهُ

فليسَ به بأسٌ وان كان من جَرْمِ

ولو جمعتْ جَرْمٌ على رأسِ نملةٍ

لباتوا شِباعاً يضرطون من الشحم

ومن بليغ ما جاء في الاستصغار، ما رواه قدامة قال: قال محمد بن ناشد سألني فلان عن رجل فقلت يساوي فلساً، فقال: قد زدت في قيمته درهمين. ومن أبلغ ما قيل في الهجاء قول ذي الرمة:

وأمثلُ أخلاقِ امرىءِ القيسِ إنها

صلابٌ على طولِ الهوانِ جلودُها

وما انتُظرتْ غُيّابُها لملمةٍ

ولا استؤمرتْ في حلِّ أمر شهودُها

إذا أمرئياتٌ حللن ببلدة

من الأرض لم يصلح طهوراً صعيدها

وقال غيره:

لعمركَ ما تبلى سرابيلُ عامرٍ

من اللؤم ما دامتْ عليهِ ظهورُها

وقال أبو سعيد المخزومي:

يا ثابت بن أبي سعيدٍ إنها

دوَلٌ وأحراها بأنْ تتنقلا

هلا جعلتَ لنا كحرمةِ دعبلٍ

في أستِ أمِّ كلبٍ لا تساوي دعبلا

وقالوا أهجى بيت قاله محدث بيت حماد في بشار:

نُسبتَ إلى بُردٍ وأنتَ لغيره

فهبك لبرد نِلتَ أمك مَنْ بُردُ

وأخبرني أبو أحمد، أخبرني أبو الحسن الصيمري عن أبي العلاء، قال حماد عجرد:

نسبت إلى برد وأنت لغيره

قال بشار: تهيأ لحماد في هجائي في هذا البيت خمسة معان، أوردها جرير في الفرزدق، فلم يقدر عليها حيث يقول:

لما وضعتُ على الفرزدق ميسمي

وضع البعيثِ جدعتُ أنفَ الأخطلِ

ومن أجود ما هجي به الدعي قول الدعبل في مالك بن طوق:

الناسُ كلهم يسعى لحاجتهِ

ما بينَ ذي فرحٍ منها ومهمومِ

ومالكٌ ظلَّ مشغولاً بنسبتهِ

يرمُّ منها خَراباً غير مرمومِ

يبني بيوتاً خراباً لا أنيس بها

ما بينَ طوقٍ إلى عمرِو بنِ كلثوم

وقال إبراهيم بن إسماعيل النسوي:

لو أنَّ موتى تميم كلهم نُشِروا

وأثبتوك لقيل الأمرُ مصنوعُ

إنَّ الجديدَ إذا ما زيدَ في خَلَقِ

تبينَ الناسُ أنَّ الثوبَ مرقوعُ

وقالوا أهجى بيت قاله محدث قول الآخر:

قبحتْ مناظرُهمْ فحينَ خبرتهم

حسنتْ مناظرهم لقبح المخبرِ

ولست أعرف أبلغ في الهجاء من قول الأول:

إن يفخروا أو يغدروا

أو يبخلوا لم يحفلوا

وغَدَوْا عليك مرّجلي

نَ كأنهم لم يفعلوا

هذا أبلغ من ذكر الفروج والقول الفاحش المقذع في الأمهات والأخوات. ومن البليغ قول حسان:

أبناء طارف لنْ تلقى لهم شبهاً

إلا التيوس على أقفائها الشعرُ

إن نافروا نفرا أو كاثروا كثروا

أو قامروا الزَّنجَ عن أحسابهم قمروا

كأنَّ ريحهمُ في الناس إذ خرجوا

ريحُ الكلابِ إذا ما مسها المطرُ

قد استوفى المعنى عند قوله: ريح الكلاب ثم قال: إذا ما مسها المطر فجاء بتتميم حسن. وقالوا قول جرير:

نُتِفَتْ شواربُهُم على الأبوابِ

وقالوا قول حسان:

أبوك أبو سُوءٍ وخالك مثلهُ

ولستَ بخيرٍ من أبيك وخالِكا

وإنَّ أحقَّ الناسِ أنْ لا تلومَهُ

على اللؤمِ من ألفى أباهُ كذلِكا

ومن الأفراط في صفة البخل قول ابن الرومي في سليمان بن عبد الله بن طاهر:

تجنب سليمان قفل الندَى

فقد يئسَ الناسُ من فتحهِ

فلو كانَ يملكُ أمرَ استهِ

لما طمعَ الحشُّ في سلحهِ

وأبلغ ما قيل في الهجاء باللؤم قول الفرزدق:

ولو تُرمى بلؤم بني كليبٍ

نجومُ الليل ما وضَحتْ لسارِ

ولو لبسَ النهارُ بني كليبٍ

لدَنسَ لؤمهم وضحَ النهارِ

وما يغدو عَزيزُ بني كليبٍ

ليطلبَ حاجةً إلا بجارِ

وقد مر البيتان الأولان فيما تقدم. ومن الافراط في الهجاء قول الآخر:

لو اطَّلعَ الغرابُ على تميم

وما فيها من السوآتِ شابا

وقول الآخر:

سَل الله ذا المنِّ من فضْلهِ

ولا تسألنَّ أبا وائلهْ

فما سألَ الله عبدٌ لهُ

فخابَ ولو كانَ من باهلْه

وقال الآخر:

ولو قيل للكلبِ يا باهلي

لأعْوَلَ من قبح هذا النسبْ

وأنشدني أبو أحمد، أنشدني أبو مسلم بن بحر، لإبراهيم بن العباس، وهي أبيات مشهورة أوردتها لأني لست أجد مثلها في معناها:

ولما رأيتك لا فاسقاً

تهابُ ولا أنتَ بالزَّاهدِ

وليسَ عَدُوّك بالمتقي

وليس صديقك بالحامدِ

أتيت بك السوقَ سوقَ الرَّقيقِ

فناديتُ هل فيك من زائد

على رجلٍ غادرٍ بالصديقِ

كفورٍ لنعمائهِ جاحد

سوى رجلٍ حار منه الشقا

وحَلَّتْ به دَعْوةُ الوالد

فما جاءني رجلٌ واحدٌ

يزيدُ على درهم واحد

فبعتك منهُ بلا شاهدٍ

مَخَافَةَ أدرك بالشاهدِ

وأبتُ إلى منزلي سالماً

وحَلَّ البلاءَ على الناقدِ

وقد أحسن التصرف فيها فما قاربه في معانيها أحد. وأبلغ ما قيل في البخل قول ابن الرومي:

يُقترُ عيسى على نفسهِ

وليسَ بباقٍ ولا خالدِ

فلو يستطيعُ لتقتيرهِ

تنفس من منخر واحد

رضيت لتشتيت أمواله

يدا وارثٍ ليسَ بالحامدِ

والناس يظنون أن ابن الرومي ابتكر هذا المعنى، وإنما أخذه مما رواه الجاحظ أن فلاناً كان يقير أحدى عينيه ويقول: إن النظر بهما في زمن واحد من السرف. ومن الفرد الذي لا شبيه له قول بعضهم:

إلى الله أشكو أنني بتُّ طاهراً

فجاءَ سلوليٌّ فبالَ على رجلي

فقلتُ اقطعوها بارَكَ الله فيكُم

فإني كريمٌ غير مدخلها رحلي

وقلت:

وقفت لديكمْ للسلام عليكُم

وقوفي على أطلال سلمى وعاتكهْ

يرومك تسليم العفاة كأنه

بوادرُ طعن في الضلوع مواشكهْ

وما فيكُم حرٌّ يكرمُ ضيفهُ

ولكن إذا ما ساء أكرم نائلَهْ

وإن كنتم ناسا وما أنتمُ بهِ

فإن القرودَ والكلابَ ملائكةْ

وليس في هذا الباب أبلغ من هذا، ولا أعرفني سبقت إليه. وقال بعضهم:

سمعت المديح أناساً دون مالهم

رد قبيح وقول ليسَ بالحسنِ

فلمْ أفز منهمُ إلا بما حملتْ

رجلُ البعوضةِ من فخَّارةِ اللبن

وهكذا كما تراه بليغ جداً. وقال الآخر:

يعطيك ما تعطيك مكحلة

وأنشدنا أبو أحمد عن أبيه عن أبي طاهر لدعبل:

أتقفلُ مطبخاً لا شيءَ فيهِ

من الدُّنيا تخافُ عليه أكلُ

فهذا المطبخ استوثقتَ منه

فما بالُ الكنيفِ عليهِ قفلُ

ولكن قد بخلتَ بكلِّ شيءٍ

فحتى السلح منكَ عليك بخل

وأنشدنا:

وإنَّ له لطباخاً وخبزاً

وأنواعَ الفواكهِ والشرابِ

ولكن دُوَنه حبسٌ وضربٌ

وأبوابٌ تطابقُ دُونَ بابِ

يذودونَ الذُّبابَ يمرُّ عنه

كأمثالِ الملائكةِ الغضابِ

وقال الخليل بن أحمد:

لا تعجبنَّ لخيرٍ زلَ عن يدِهِ

فالكوكبُ النحسُ يسقي الأرضَ أحيانا

وقال أبو تمام:

صَدِّقْ اليَّتَهُ إن قال مُتجهداً

لا والرغيف فذاك البِر من قَسَمِهْ

وإن هممتَ به فافتك بخبزتهِ

فإن موقعها من لحمهِ ودمِهْ

قد كانَ يعجبني لو أنَّ غيرتهُ

على جرادقةٍ كانتْ على حُرَمِهْ

وقال آخر:

يَزْدادُ لؤماً على المديح كما

يَزدادُ نتنُ الكلابِ بالمطرِ

وقلت:

خُبزُ الأميرِ عشيَّةً

يَغْدوُ عليهِ يُلاعبُهْ

وإذا بَدَا لجليسهِ

أفضى إليه يعاتبُهْ

وتَحوطُهُ أحراسُهُ

وَتذبُّ عنهُ كتائبه

فالزورُ يُصفعُ عنده

والضيفُ ينتفُ شاربه

وقال آخر:

فتى لرغيفهِ فرط وشغف

واكيلانِ من دُرٍّ وشذرِ

إذا كسر الرَّغيف بكى عليهِ

بكا الخنساءِ إذا فجعتْ بصخر

ودونَ رغيفهِ قلعُ الثنايا

وحَرْبٌ مثل وقعةِ يوم بدرِ

وقال آخر:

إنَّ هذا الفتى يصون رغيفاً

ما إليه لآكلٍ من سبيلِ

هو في سفرتين من أدمِ الطا

ئف في سلتين في منديل

خُتمتْ كلُّ سلةٍ برصاصٍ

وسيورٍ قُددن من جلدِ فيلِ

في جرابٍ في جوف تابوتِ موسى

والمفاتيحُ عندَ ميكائيلِ

وقلت:

لنا سيدٌ واحدٌ ماجدٌ

يقتل في الجود آباءَهُ

لئيمٌ إذا جاءهُ طارقٌ

فقد جاءَه كلُّ ما ساءَهُ

وهل يطمعُ الناسُ في خبزه

إذا كن يمنعهم ماءَه

فما ولغ الكلب في لؤمه

لما زال يقذفُ أمعاءَه

وسمعت عن أبي حفص يقول: قال جعفر بن محمد العسكري: أبلغ ما قاله محدث في البخل قول بعضهم:

الحابس الرَّوْثَ في أعفاج بغلته

خوفاً على الحبِّ من لقطِ العصافيرِ

وأجود ما قيل في البخل قول بعضهم:

وعدت فأكدت المواعيد بيننا

وأقلعت إقلاع الجهام بلا وبلِ

وأجررت لي حبلا طويلا تبعته

ولم أدر أن اليأسَ في طرف الحبلِ

وقال أبو نواس:

رأيتُ قدور الناس سوداً من الصَّلى

وقِدر الرَّقاشين زهراء كالبدرِ

يُبيتُها للمعتفي بفِنائهمْ

ثلاثا كنقط الثاء من نُقَط الحِبرِ

إذا ما تنادَوا للرَّحيل سعى بها

أمامهمُ الحوليّ من ولد الذّر

ولو جئتها ملأى عبيطاً مجزراً

لأخرجت ما فيها على طرف الظفر

غيره:

يحصنُ زَاده عن كلِّ ضرس

ويعمل ضرسه في كلِّ زادِ

ولا يَرْوِي من الآداب شيئاً

سوى بيتٍ لأبرَهَةَ الأيادي

قليلُ المالِ تُصلحهُ فيبقى

ولا يبقى الكثيرُ مع الفسادِ

وقلت في مثله:

يطعمُ دُونَ الشبع أولادَهُ

ويختمُ البُرْمَةَ والجفنَه

لم يَرْوِ إلاَّ خبراً واحداً

قد تَذْهبُ البطنةُ بالفطنة

وقال آخر:

ظلمتك إذ سألتك ماءَ كرم

وماءُ الكرم للرَّجلِ الكريمِ

وقلت:

لك بُرْمَةٌ نَزَّهتها

من أن تدَنسَ بالدَّسَمْ

بيضاءَ يُشِرقُ نورُها

كالبدرِ في غَسقِ الظلم

لو كانَ عرضُك مثلها

كنتَ الممَدَّح في الأممْ

أو كانِ فعلك مثلَ قو

لك كنتَ تاريخَ الكرم

ومن أبخل بيت قيل:

وما رَوَّحْتَنَا لتذبَّ عنا

ولكنْ خفتَ مَرزئَةَ الذباب

وقل أبو نواس يصف قدراً:

يغصُّ بحلقومِ الجرادَةِ صدرُها

وينضجُ ما فيها بعودِ خلالِ

وتغلى بذكرِ النارِ من غير حرِّها

وتنزلها عفواً بغير جِعالِ

هي القدرُ قدرُ الشيخِ بكرِ بنِ وائلٍ

ربيعِ اليتامى عامَ كلِّ هزالِ

وقال ابن الرومي:

رأى البخلَ طباً فهو يحمي ويحتمي

فلستَ ترى في بيته غيرَ جائعِ

ومن أجود ما قيل في زيادة البخل والشح، مع زيادة المال قول ابن الرومي:

إذا غمر المالُ البخيلَ وجَدْتهُ

يزيد به يَبساً وإن ظنّ يرطُب

وليس عجيباً ذاك منهُ فإنَّهُ

إذا غمرَ الماءُ الحجارةَ تصلبُ

وهو مأخوذ من قول بعض حكماء الهند. وأنشدنا أبو أحمد عن أبيه عن أبي طاهر:

رغيفك في الحجابِ عليه قفلٌ

وحرّاسٌ وأبوابٌ منيعَهْ

رأوا في بيتِهِ يوماً رغيفاً

فقالَ لضيفهِ هذا وديعهْ

وأنشدنا عنه:

ه حاجبٌ دُونهُ حاجبُ

وحاجبُ حاجبهِ مُحتجبُ

وقال أبو تمام:

لا تكلفنَّ وأرضُ وجهك صخْرَةٌ

في غيرِ منفعةٍ مؤونةَ حاجبِ

وقال آخر:

لا تتخذْ باباً ولا حاجباً

عليك من وجهك حُجَّابُ

وأنشدنا:

أعجبت أن ركب ابن حزم بغلة

فركوُبه ظهرَ المنابرِ أعجبُ

وعجبت أن جعل ابن حزم حاجبا

سُبحانَ من جعلَ ابنَ حزم يحجب

وقال آخر:

إحتجب الكاتب في دَهْرِنا

وكان لا يحتجبُ الحاجب

القومُ يخلون بحجابهم

فينكحُ المحجوبُ والحاجب

وقال آخر وأحسن:

وصاحبٌ أسرفتُ في مدحه

وبخلُه يُسرعُ تكذيبي

حجابهُ ألزمني منزلي

وبخلُه أحسنَ تأديبي

وقلت في معناه:

مدحت فلم تصدق ولم تك مُذنبا

ولكنَّ دهراً لم يساعدك مذنب

وما الجهلُ إلا أن تقرِّظَ معشراً

خلائقهم يَشهدْنَ أنك تكذبُ

وأنشدنا أبو أحمد:

لا خيرَ في صاعدٍ فأذكرهُ

والخيرُ يأتيك من يدي عمرِ

ليسَ لهُ ما خلا اسمهِ نسبٌ

كأنَّهُ آدمٌ أبو البشر

ومن أظرف ما قيل في هذا الباب قول ابن الرومي:

لك وجهٌ كآخر الصكِّ فيهِ

لمحاتٌ كثيرة من رجالِ

كخطوطِ الشهودِ مشتبهاتٍ

معلماتٍ أن لستَ بابن حلالِ

وقلت:

إن كانَ شكلك غير مُتفق

فكذا خلالك غيرُ مؤتلفة

من عصبةٍ شتى إذا اجتمعوا

شبهت داركم به عرفَهْ

صورتَ من نطفٍ قد احتلفت

فأتتْ خلالُك وهي مختلفهْ

فورِثْتَ من ذا قبحَ منظرهِ

وورثت ذاك خناه أو صلفه

وأجود ما قيل في عظم الجسم، مع قلة العقل، من الشعر القديم قول حسان:

جِسُمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ

وقال ابن الرومي:

طولٌ وعَرْضٌ بلا عقلٍ ولا أدبٍ

فَليسَ يحسنُ إلا وهو مِصْلوبُ

وقال وأحسن:

إذا فقتَ الذَّميمَ بحسن جسمٍ

فلا يسبقك بالشيمَ الشريفة

فيصبح أفضلَ الرجلين نفساً

وتصبحُ أعظمَ الرجلينِ جيفه

وأنشدنا أبو أحمد أنشدني ابن لنكك لنفسه:

إثنان لم ينكرهما منكرٌ

بغضُ أبي إسحاق والموتُ

ويدعي العلمَ على أنهُ

قد طارَ بالجهلِ لهُ الصوتُ

لا يلتقي والعلم في مجلس

أو يلتقي الإدراكُ والفوتُ

وكتب ابن العميد:وليت شعري بأي حلي تصديت له، وأنت لو توجت بالثريا، وتمنطقت بالجوزاء، وتوشحت بالمجرة، وتقلدت قلادة الفكة، ما كنت إلا عطلاً، ولو توضحت بأنوار الربيع الزاهر، وشدخت في جبينك غرة البدر الباهر، واستعرت من الصباح ثوباً، وخضت أوضاح النهار خوضاً، ما كنا إلا غفلا. وأبلغ ما قيل في صفة ثقيل ما أنشدناه ابن أبي حفص عن جعفر:

وثقيل أشدّ من غصص المو

تِ ومن زفرةِ العذابِ الأليمِ

لو عصتْ ربَّها الجحيمُ لما كا

نَ سواهُ عقوبةً للجحيمِ

وأبدع ما قيل في هذا المعنى قول بشار:

ربما يثقل الجليسُ وإن كا

نَ خفيفاً في كفَّةِ الميزانِ

ولقد قلتُ حين طلّ على القو

مِ ثقيلٌ أربى على ثهلانِ

كيف لم تحملِ الأمانةَ أرضٌ

حملتْ فوقها أبا سفيانِ

أخذه ابن الرومي فقال:

أنتَ فضلٌ وفضلةُ الشيء لغوٌ

ثم أردفتَ ذلةَ التصغيرِ

حُقرَ الفضلُ ثم صُغَّرْتَ عنهُ

زادك الله يا صغيرَ الحقيرِ

ثم عَرَّجْتَ فاحتواكِ انتقاصٌ

في اسمِ سورٍ وجسمِ سوءٍ ضريرِ

ثم بردتَ فانتصفتَ من النا

ر ببردٍ يربى على الزمهريرِ

فقبولُ النفوس إياكَ عندي

آيةٌ فيك للطيفِ الخبيرِ

إنَّ قوماً أصبحتَ تنفقُ فيهم

لعلى غاية من التسخيرِ

أو أناس غدوا وراحوا من الظَّرْ

فِ على حالةِ الفقير الوقيرَ

فمتى ظفروا بزور ظريفٍ

أعجبتهم زخارفُ التزوير

كالأعاريب لم يروا درمك البُرِّ

فهم يعظمونَ خبزَ الشعير

وكذا القومُ لم يروا لجة البح

ر فهم يكبرونَ ماء الغدير

يا ثقيلا على القلوب خفيفاً

في الموازين دونَ وزن النقير

طر سخيفاً وقع مقتيا فطوراً

كسفاة وتارةً كثير

وله:

وثقيل سبحانهُ من ثقيل

وتعالى عن كلِّ مثلٍ وندِّ

حمل الله أرضه ثقيلها

وعلاها بثالث من أدِّ

وأجود ما قيل في تباعد الأشباه من الأقرباء ما أخبرنا به أبو أحمد، عن الصولي قال: سمعت المبرد يقول: لم يقل في تباعد الأشباه من الأقرباء أجود ما قول ابن أبي عيينه يهجو خالد بن يزيد المهلبي ويمدح أباه في كلمة:

أبوك لنا غيثٌ نعيشُ بفضله

وأنتَ جرادٌ ليس يبقى ولا يَذَرْ

له أثرٌ في المكرماتِ يسرُّنا

وأنت تعفي دائماً ذلك الأثر

لقد قنعتْ قحطان خزياً بخالد

فهل لك فيه يخزك اللَّهُ يا مُضرُ

فسمع المهدي بيته هذا فقال: بل تكرمون وتؤثرون. وله في مثل ذلك يقول في قبيصة بن روح بن حاتم يفضل عليه ابن عمه داود بن يزيد بن حاتم:

أقبيصُ لستَ وإن جهدتَ ببالغ

سعَى ابن عمك في الندى داودِ

شتانَ بينك يا قبيصُ وبينه

إنَّ المذَمَّمُ ليس كالمحمود

داودُ محمودٌ وأنتَ مُذَمَّمٌ

عجباً لذاك وأنتما من عودِ

ولربَّ عود قد يشقُّ لمسجد

نصفاً وسائرُهُ لحشِّ يهود

وقلت في خلاف ذلك:

كم حاجةٍ أزلَتها

بكريمِ قومٍ أو لئيمِ

فإذا الكريمُ من اللئي

م أو اللئيم من الكريمِ

سُبحانَ ربٍّ قادرٍ

قدرَ البريَّةَ من أديمِ

فشريفُهم ووضيعُهم

سيان في شرَفٍ ولومِ

قد قلَّ خيرُ غنيهم

فغنيهمْ مثلَ العديمِ

وإذا اختبرت حميدَهم

ألفَيتَه مثلَ الذميمِ

لا نفعَ فيه للصغي

رِ من الأمورِ ولا العظيمِ

أنظر إلى كبرِ الجسو

مِ ولا تسلْ رفعَ الجسيمِ

وقالوا: أنصف بيت قيل في الهجاء قول حسان:

هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه

وعندَ الله في ذاك الجزاءُ

أتهجوهُ ولستَ لهُ بكفءٍ

فشركما لخيرِكما الفداءُ

يقوله في أبي سفيان بن الحارث. وفيه يقول أيضاً:

أبوك أبٌ حرٌّ وأمُّك حُرَّةٌ

وقد يلدُ الحرَّانِ غيرَ نجيبِ

فلا يعجبنَّ الناسُ منك ومنهما

فما خَبَثٌ من فضةٍ بعجيبِ

أخبرنا أبو علي بن أبي حفص أخبرنا جعفر بن محمد قال أهجى ما قالت العرب قول الشاعر:

فصبراً على ذلّ ربيع بن مالك

وكلُّ ذليل خَير عادته الصبرُ

تحالفكم فقرٌ قديمٌ وذلة

وبئسَ الحليفان المذلةُ والفقرُ

ومن غير هذا الفن، ما أخبرنا به أبو أحمد، عن أبيه، عن عسل، قال: قال أبو سرح: سمعني أبو دلف أنشد:

لا يمنعنك خفضُ العيشِ في دَعةٍ

نزوعُ نفسٍ إلى أهلٍ وأوطانِ

تلقى بكلِّ بلادٍ إنْ حللتَ بها

أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيرانِ

فقال: هذا الأم بيت قالته العرب. والنزوع هنا رديء والجيد النزاع، وإنما جعل هذا البيت أبو دلف ألأم بيت قالته العرب، لأنه يدل على قلة رعاية وشدة قساوة، وحنين الرجل إلى وطنه من المناقب التي يعتد بها، ويمدح لأجلها، لما فيه من الدلائل على كرم الطينة ووفور العقل. وقد قالت الحكماء:حنين الرجل إلى وطنه من علامات الرشدة. وقال بزرجمهر:من علامات العاقل بره بإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، ومداراته لأمل زمانه. وقال أعرابي:لا تشك بلداً فيه قبائلك، ولا تجف أرضاً فيها قوابلك. وقالت العرب:وأكرم الخيل أشدها جزعاً من السوط، وأكيس الصبيان أشدهم بغضاً للمكتب، وأكرم الصفايا أشدها حنيناً إلى أوطانها، وأكرم المهارة أشدها ملازمة لأمهاتها، وأكرم الناس آلفهم للناس. وقلت:

إذا أنا لا أشتاقُ أرضَ عشيرتي

فليسَ مكاني في النهى بمكينِ

من العقل أن أشتاق أوَّلَ منزل

غنيتُ بخفضٍ في ذراه ولين

وروض رعاهُ بالأصائلِ ناظري

وغصن ثناه بالغداةِ يميني

وانيَ لا أنسى العهودَ إذا أتت

بنات النوى دونَ الخليطِ ودوني

إذا أنا لم أرْعَ العهود على النوى

فلست بمأمون ولا بأمينِ

وسنذكر من هذا الباب طرفاً فيما بعد إن شاء الله تعالى. ومما لا تكاد تجد أجود منه في معناه، ما أخبرنا به أبو أحمد، عن الصولي قال: دخل بعض الشعراء على بعض الأمراء ببرقعيد فجعل ينشده وجعل الأمير يعاتب جارية بين يديه، ولا يسمع منه فخرج وهو يقول:

أدبٌ لعَمركُ فاسدٌ

مما تُؤَدَّبُ بَرْقعيدُ

منْ ليس يعرف ما يري

دُ فكيفَ يَعرفُ ما نريدُ

منْ ليسَ يَضبطهُ الحدي

دُ فكيفَ يضبطهُ القصيد

مالي رأيتك مرسلاً

أينَ السلاسلُ والقيود

أغلا الحديدُ بأرضكم

أم ليسَ يصطك الحديدُ

وقلت في المعنى الذي تقدم:

قلَّ خيرُ ابن قاسم

فغناهُ كعدمهِ

كادَ منْ خشية القرى

يختبي في حِرامهِ

جازَ في اللؤم حَدَّهُ

كأبيه وعمه

كاد يعديك لؤمُهُ

لو تسميتَ باسمه

قلت:

قرانا بُقولاً إذ أنخنا ببابهِ

فأصبحَ فينا ظالماً للبهائمِ

وقفنا عليهِ الرَّكبَ نسألهُ القرى

ونحن على أعناق أغبر قائمِ

فصامَ وصوم الليلِ ليس بجائزٍ

وإن جازَ في فقهِ اللئامِ الأشائمِ

أجازَ صيامَ الليلِ حين استفزَّهُ

تعاورُ ضيفٍ في دُجى الليل عائمِ

فبتنا أديمَ الليلِ نطوي على الطوى

كأنا على غبراءَ من ظهر واشمِ

وأطعمنا لما مرقنا من الدُّجى

دحاريجَ لا تنساقُ في حلقِ طاعم

مُدَوّرَةًُ سودَ المتون كأنها

خصى الزَّنج لاحت تحت فِيَش قوائمِ

فأبشارها تحكي بطونَ عقاربٍ

وأرؤسها تحكي أنوفَ محاجم

ومن أعجب الهجاء، هجو الرجل نفسه وهو ما رويناه للحطيئة ثم قال ديك الجن:

أيها السائلُ عني

لستَ بي أخبرَ منّي

أنا إنسانٌ براني الله

في صورةِ جني

بل أنا الأسمجُ في العي

ن فدَع عنكَ التظني

أنا لا أسلم من نفس

ي فمن يسلم مِنّي

وهجا أبو نواس نفسه من حيث لا يعلم فقال في رجل وعده أبو نواس وعداً ثم مطله:

وأحوس ولاجٌ عليَّ ورائحٌ

رجاءَ نوال لو أعين بجودِ

زَوَيتُ له وجهاً قطوباً عن الندى

وأيأستهُ من وعدهِ بوعيد

فان كنتَ لاعن سوء فعلك مقلعاً

فدونك فاستظهر بنعلِ حديدِ

فعندي مطلٌ لا يطير غرابُه

مطير ولا يدعى له بوليد

ومن خبيث الهجاء قول ابن الرومي:

مني الهجاء ومنك الصبر فاصطبرِ

لشرِّ منتظر يا شرَّ منتظرِ

أنتَ اللئيم فان تصبر فمن قحة

على الهوان وإن تجزع فمن خورِ

رأيت عيبك شعري حين تالمه

شبيه عضِّ أخيك الكلب للحجرِ

فانظر إلى الكلبي مرمياً لتعلم أن

لم تترك شبهاً منه ولم تذر

وقال ابن الزمكدم:

وليلٍ كوجهِ البرقعيديّ ظلمة

وبرد أغانيه وطول قرونِهْ

سريت ونومي فيه نومٌ مشرِّدٌ

كعقل ابن هارون ورقة دينه

على أولق فيه اختبالٌ كأنه

أبو جابر في خبطه وجنونِهْ

ومن أبلغ ما قيل في الجبن من الشعر القديم قول الشاعر:

ولو أنها عصفورةٌ لحسبتها

مسَّمومةً تدعو عبيداً وأزلما

أي لو رأيت لحسبتها من جبنك خيلاً مسومة، ومثله قول عروة بن الورد:

وأشجع قد أدركتهمْ فوجدتهمْ

يحافونَ خطف الطير من كلِّ جانبِ

ومثله قول الآخر:

ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم

خيلاً تكرُّ عليهم ورجالا

وقال أبو تمام:

موكل بفضاءِ الأرضِ يشرفه

من خفة الخوف لا من خفة الطربِ

وأبلغ ما قاله محدث في ذلك قول ابن الرومي:

وفارس أجبن من صفره

يحول أو يعول من صفرِهْ

لو صاح في لليل به صائحٌ

لكانت الأرض له طفره

يرحمه الرحمن من جنبهِ

فيرزق الجندبه النصره

وقال في سليمان بن عبد الله بن طاهر:

قِرنٌ سليمان قد أضرَّ به

شوقٌ إلى وجههِ سيدنفهْ

لا يعرف القرن وجهه ويرى

قفاه من فرسخ فيعرفه

وقال فيه:

هو الأسدُ الوردُ في قصرِهِ

ولكنه ثعلبُ المعركة

ومن ظريف ما جاء في ذلك: قول أبي الغمر هارون بن محمد من أهل آمل، خرج عليه اللصوص فسلم إليهم متاعه وهرب: أنشدناه أبو أحمد عن الأنباري:

طلَّت تشجعني ضلاً بتضليل

وللشجاعة خطبٌ غير مجهولِ

هاتي شجاعاً بغير القتل مصرعه

أوجدك ألف جبان غير مقتولِ

والله لو أن جبريلاً تكفل لي

بالنصر ما خاطرت نفسي لجبريل

إسمع أحدثك عن بأسي بذي شكر

خلاف بأس المساعير البهاليل

لما بدتْ منهم نحوي جميعة

تسرع الذُّعر في عرضي وفي طولي

حتى أتقيهتهمُ طوعاً بذات بدي

وانصعت أطوى الفلا ميلا إلى ميل

الله خلصني منهم و

حتى تخلصت مخضوب السراويلِ

وهذا خلاف ما قاله المتنبي:

وإذا لم يكنْ من الموت بدٌّ

فمن العجزِ أن تموتَ جبانا

وقال سعيد بن العاصي حين هرب مروان بن محمد:

لجَّ الفرارُ بمروانٍ فقلتُ لهُ

عادَ الظلومُ ظليماً همُّهُ الهربُ

أنى الفرار وترك الحربِ إذ كشفت

عنك الهوينا فلا دينٌ ولا حسبُ

فراسه الحلم فرعون العذاب وان

تطلبْ نداه فكلبٌ دونهُ كلبُ

فشبهه بالنعامة في الجبن وهو من أنفر الحيوان. وقال بعض العرب:

نفرِجَهٌ ينفرُ من ظلِّ الشجرْ

فؤادُهُ أنثى وضرسُه ذكرُ

والنفرجة الجبان. ومن جيد ما قيل في التطير قول بعضهم:

الكوكب الذنبيُّ يخ

بر بالعجائب بعد سبعه

خلعوا عليه وبجلو

ه وصار في عزٍّ ومَنَعة

وكذاك يُفعلُ بالجذو

ر لنحرها في يوم جمعه

وقريب منه:

وزارة العباس منكوسةٌ

تقتلع الدَّولة من أسّها

كأنه حين غدا راكباً

في خلعة يعجزُ عنْ لبسها

جاريةُ السوء إذا جربت

ثيابَ مولاها على نفسِها

وأكسل ما سمعناه ما أنشدناه أبو أحمد عن ابن عماد عن سليمان عن يحيى بن سعيد الأموي لبعضهم:

سألت الله أن يأتي بسلمى

وكان الله يفعل ما يشاءُ

فيأخذها ويطرَحُها بجنبي

ويرقدها وقد كشف الغطاء

ويأخذني ويطرَحُني عليها

ويرقدها وقد قضَى القضاءُ

ويرسل ديمةً سحا علينا

فيغسلنا ولا يلقى عَناءُ

أخبرنا أبو أحمد، عن أبي عمر، عن ثعلب، قال: قلت لابن الأعرابي من أحمق الأعراب ؟ قال أعرابي سبق الناس إلى الموسم، وجعل يدعو الله لحاله وشأنه ويقول: اللهم اقض حاجاتي قبل أن يدهمك الوفد. قال ثعلب أفلا أدلك على أحمق منه الذي يقول:

خلقَ السماءَ وأرضَه في ستة

وأبوك يمدد حوضه في عام

وسألني بعض الأدباء من أهل البصرة فقال: أي الشعراء أشد حمقاً ؟ قلت الذي يقول:

أتيهُ على إنسِ البلادِ وجنّها

ولو لم أجدْ خلقاً لتهتُ على نفسي

أتيه فلا أدري من التيهِ من أنا

سوى ما يقول الناسُ فيَّ وفي جنسي

فإن صدقوا أني من الإنس مثلهم

فما فيَّ عيبٌ غيرَ أني من الإنسِ

فقال ما وعدت ما في نفسي. وقال بعضهم لابنه: إياك والكبر، وكيف الكبر مع النطفة التي منها خلقت، والرحم التي فيها حملت، والغذاء الذي به غذيت. ومن بليغ ما جاء في ذم الكبر قول بعضهم: التواضع مع السخافة والبخل، أحمد من السخاء والأدب مع الكبر والعجب. وقلت في مثل هذا:

وعندَهُمْ مُذنِبٌ مُنيبٌ

أحمدُ من محسنٍ مدلّ

وأبلغ ما قيل في صلابة الوجه قول الأعرابي: لو دق بوجهه الحجارة لرضها ولو خلا بالكعبة لسرقها. ومن المنظوم قول بعضهم:

لو كنت في شيء خلافك لم تكن

لتكون إلا مشجباً في مشجب

يا ليَت لي من جلد وجهك رقعة

فأقدّ منها حافراً للأشهب

والبيت الأول مأخوذ من قول بعضهم: فلان يشجب من حيث رأيته وجدت لا. وقد أحسن ابن أبي العتاهية في قوله:

قتلتْ لا فإنها

خلعتْ خلعةَ العدم

فهي تستهلك الجمي

ل وتأتي على الكرمِ

وقول أبي تمام:

وسابحٍ هطلِ التعداءِ هّتانِ

على الجزاء أمين غير خوانِ

أظمى الفصوصَ ولم تظمأ قوائمه

فخل عينيك في ظمآن ريانِ

فلو تراه مسيحاً في الحصى ريم

تحت السنابكِ من مثنى ووحدان

أيقنت ان لم تثبت أن حافرهُ

من صخر تدمر أو من وجه عثمان

وقال في معناه يمدح رجلاً ويهجو عثمان هذا:

عثمان لا تلهج بذكر محمد

يرضيك طولُ المجد عنك وعَرضُهُ

بَذْ لك كله امساكه

ويفوتُ بسطكَ في المكارم قبضه

وكأن عرضَك في السهولةِ وجهه

وكأنَّ وجهَك في الحزونِة عرضهُ

وقال أبو الشمقمق:

صلابةُ الوجهِ سلاحُ الفتى

ورِقَّةُ الوجهِ من الحرفهْ

من كانَ صلباً وجههُ محكماً

فأنت منه الدّهر في طرفه

ومن أبخل ما قاله محدث قول ابن طباطبا الأصبهاني يخاطب غلامه:

إجعل الزَّوج من سراجك فردا

واقتصد يا غلامُ والقصد أجدى

إن يكنْ فقدك الضياء رديئاً

فاقتصادي للزر أردى وأردى

وقد غير هذا البيت في وجوه الأبيات المقولة في البخل:ومن أملح ما قيل في مخالفة ظاهر الرجل باطنة قول بعضهم:

إذا ما جئتَ أحمدَ مستميحا

فلا يغررك منظرهُ الأنيقُ

لهُ خلقٌ وليس عليهِ خلقٌ

كبارقةٍ تروق ولا تريق

وممن ملح في الدعوة رزين العروضي:

لقد جئت يا بنَ أبي تبّع

بأمِّ الدَّواهي لدى المجمعِ

حلفت بأنك من حميرٍ

وليس اليمين على المدَّعي

وملح أيضاً في قوله:

إنْ فخرَ الناسُ بآبائهم

أتيتهمْ بالعجب العاجبِ

قلتَ وأدغمت أباً خاملاً

أنا ابن أخت الحسن الحاجبِ

ومن أملح ما قيل في إفشاء السر، قول بعضهم:

أوْدَعْتُهُ السرِّ فألفيتهُ

انمَّ منْ كأسٍ على راحِ

وقال السري:

ثنتني عنك فاستشعرتَ هجرا

خلالٌ فيك لست لها براضِ

وإنك كلما استودِعْتَ سرّا

أنمّ من النسيم على الرِّياضِ

وقد أحسن كعب بن زهير غاية الإحسان في قوله:

ولا تمسك بالعهدِ الذي عَهدَتْ

إلا كما يمسك الماءَ الغرابيلُ

وأخذه الحطيئة فقال:

أغربالاً إذا استُودِعت سِراً

وكانوناً على المتحدِّثينا

والكانون: الرجل الثقيل. قال الشاعر:

ليتَ الكوانينَ في زبل معلقة

تحتَ الثريا بحبل ثم ينقطع

وقد مر فيما تقدم بيت الحطيئة:ومدح ابن الرومي ابن المدبر فرد مديحه فقال فيه:

رَدَدْتَ عليَّ مدحي بعدَ مطلٍ

وقد دَنَّستْ ملبسه الجديدا

وقلت امدح بِه من شئتَ غيري

ومن ذا يقبل المدحَ الرَّدِ يدا

ولا سيما وقد أعلقت فيهِ

مخازيك اللواتي لن تبيدا

ثم أخنى عليه بالهجاء، حتى قال فيه، وقد ضربه الريح بالأهواز، ضربة في وجهه، مدحه بها البحتري مدحاً كثيراً فمن ذلك قوله:

ووجهٌ ضمان البشر فيه موقفٌ

على النجح والحاجاتُ تترى عجالُها

به من صفيح الهند وشمٌ تبنيهُ

صفيحةُ وضَّاح يروق جمالُها

متى ربدتها عزةٌ أو حفيظةٌ

أعيد إليها بالسؤالِ صقالها

متى ترَها يوماً عليها دليلها

تعجبك من شمسٍ عليها هلالُها

وذكرها ابن الرومي فأفحش في قوله:

بوجهِ أبي إسحاق صدعٌ كعرضةٍ

له قصةٌ غير الذي هو يظهرُ

يخبر عنه أنه أثرُ ضَربة

ببعضِ سيوفِ الزَّنجِ حينَ يخبر

وما ضربتهُ الزَّنجُ في الوجهِ بل رأى

أيورهمُ فانشقَّ في وجههِ حرُ

في أبيات سخيفة، فطلبه ابن المدبر أشد الطلب فلما ظفر به وأراد قتله أنشأ يقول:

حَقُّك الصفحُ عن ذُنوبي وحقي

أنَّ قتلي مُحَلَّلٌ لكَ طَلقُ

فاعفُ عن عبدكَ المسيءِ ولا تب

طلْ بما يستحقُّ ما تستحقُّ

فعفا عنه وأجازه. وقال يهجو بخيلاً:

نعماك عندي التي أقرُّ بها

أنك أصبحتَ لي من الغيرِ

وحبك الذمَّ لائقٌ بك ما

أشبهَ خطم الخنزير بالقذر

أبديتَ في أولياتٍ لؤمك ما

قذرتَ في أخرياتهِ الآخرِ

كالقطرانِ الذي يرى أبداً

في رأسهِ ما اقتنى من العكسرِ

وهو من قول الناس: أول الدن دردي. وقالت العلماء: البلاغة أن تجعل المعنى الدنيء رفيعاً والمعنى الرفيع وضيعاً. ومثل قول ابن الرومي قول الديلمي:

في أوانِ الشبابِ عاجلني الش

يبُ وهذا من أوَّل الدَّنِّ دُردي

وليس هذا بالمختار لابتذال لفظه. وقلت في بخيل:

قفعَ البردُ ضيف عمروٍ فأضحى

مثلَ من فيه مذ زمانِهْ

بات للبردِ في ظهارةِ سوءٍ

ومن الجوع والطوى في بطانه

وهو قدماً للضيف جُوعُ وقرٌ

ولمولاهُ ذِلَّةٌ ومهانه

جمع الرأس بين رأسه ورجلي

فكأني في بيته أرسانه

وقلت:

ضفت عمراً فجاءني برغيف

زادني أكلهُ على الجوع جوعا

ثمَّ ولّى يقولُ وهو كئيبٌ

لهف نفسي على رغيف أضيعا

كانَ خداعةَ الضيوفِ ولكنْ

رُبما أصبحَ الخدوعُ خديعا

كنتُ أنزلته محلاً رفيعاً

فغدا ذلك الرفيعُ وضيعا

عجباً منه إذ أتيحَ هجاهُ

كيفَ لم يمتنع وكان منيعا

^

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي