ديوان المعاني/ذكر الخط والقلم والدواة والقرطاس

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر الخط والقلم والدواة والقرطاس

ذكر الخط والقلم والدواة والقرطاس - ديوان المعاني

ذكر الخط والقلم والدواة والقرطاس

وما يسلك مع ذلك.

من أحسن الاستعارة في ذكر الخط: قول عبيد الله بن العباس بن الحسن العلوي:الخط لسان اليد. وقال جعفر بن يحيى:الخط سمط الحكمة به يفصل شذورها، وينظم منثورها. وقلت في معناه:

الكتبُ عُقلُ شواردِ الكلم

والخطُّ خيطُ فرائدِ الحكم

بالخطِّ نظِّمَ كلُّ منتثر

منها وفُصلَ كل مُنتظمِ

والسيفُ وهو بحيثُ تعرفهُ

فرضٌ عليه عبادةُ القلمِ

واختلف الناس في الخط واللفظ، فقال بعضهم: الخط أفضل من اللفظ، لأن اللفظ يفهم الحاضر، والخطو يفهم الحاضر والغائب. وقال بعضهم: الخط كلامٌ ميت، والمخاطب به حي يمكن صاحبه أن يبصره، حتى يبلغ منه غرضه. ومن أعاجيب الخط كثرة اختلافه، والأصل واحدٌ، كاختلاف صور الناس، مع اجتماعهم في الصفة، وخط الانسان كحليته ونعته في اللزوم له، والدلالة عليه، والإضافة إليه كإضافة القافة الآثار إلى أصحابها. ومن أحسن ما قيل في حسن الخط والشكل قول أحمد بن إسماعيل:

مستودعٌ قِرطاسَهُ حكما

كالروضِ مَّيز بينهُ زَهَرهُ

وكأنَّ أحرُفَ خطهِ شجرٌ

والشكلُ في أضعافهِ ثمره

ووصف أحمد بن صالح جاريةً كاتبةً فقال:كأن خطها أشكال صورتها، وكأن مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قلمها بعض أناملها، وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها سيف لخطها، وكأن مقطها قلب عاشقها. وقلت:

وخط من التصحيح فيه معالمٌ

من الحسن إذ يبدو عليه سبيبُ

يُعَبرُ عنه الروضُ وهو مُنمنمٌ

ويخُبر عنهُ الوشيُ وهو قشيبُ

سوادُ مدادٍ في بياض صحيفةٍ

يقول شبابٌ بالمشيبِ مَشوبٌ

كأنَّ ظلامَ الليلِ أذرَى دموعَه

فظلَّت على خدِّ الصباح تصوب

ومن غريب ما قيل في الشكل، ما أنشدناه أبو أحمد، قال: أنشدنا الصولي قال: أنشدني عبد الله بن المعتز لنفسه:

فدونَكَهُ مُوشَّى نمنمتْهُ

وحاكتهُ الأناملُ أيَّ حوكِ

بشكلٍ يؤمن الاشكالُ فيهِ

كأنَّ سُطورَهُ أغصانُ شوكِ

وقلت:

بياضُ صحيفة تلتاحُ حُسناً

كمتنِ السيفِ في كفِّ المليحِ

كغيم رقَّ في أطرافِ جوٍّ

وماء ساحَ في قاعٍ فسيح

ويحكي أرض كافور صريح

بها نَبْذٌ من المسكِ الذبيح

كمثلِ الليلِ في صُبحٍ صديعٍ

ومثلِ الصُّدغ في وجهِ صبي

وبين سُطورهِ عجْمٌ مُصيبٌ

كمثلِ الخالِ في الخدِّ المليحِ

وأحسن ما قيل في صفة الخط الجيد، ما أخبرنا به أبو أحمد، قال: أخبرنا الصولي قال: سئل بعض الكتاب عن الخط، متى يستحق أن يوصف بالجودة ؟ فقال:إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه وأظلمت انقاسه، ولم تختلف أجناسه، وأسرع في العيون تصوره، وإلى العقول تثمره، وقدرت فصوله، واندمجت وصوله، وتناسب دقيقه وجليله، وخرج عن نمط الوراقين، وبعد عن تصنع المحررين، وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية، كان حينئذ كما قيل في صفة الخط:

إذا ما تجلل قرطاسَه

وساوَرَه القلمُ الأرقشُ

تضمنَ من خطهِ حُلةً

كمثلِ الدنانير أو أنقش

حروفاً تُعيدُ لعين الكليل

نشاطاً ويقرؤها الأخفشُ

ومن ههنا أخذ المتنبي قوله:

أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من بهِ صِممُ

إلا أنه أحسن الأخذ وأجاد اللفظ. ومن مليح التشبيه قول الأعرابي، وقد قال له هشام بن عبد الملك: أنظر كم على هذا الميل من عدد الأميال، ولم يكن الأعرابي يحسن القراءة فمضى فنظر ثم عاد فقال: رأيت شيئاً كرأس المحجن، متصلاً بحلقة صغيرة، تتبعها ثلاث كأطباء الكلبة، يفضي إلى هنةٍ كأنها قطاةٌ بلا منقار. ففهم هشام بالصفة أنها خمسة. أخبرنا أبو أحمد، عن الصولي عن أبي العباس الربعي، عن الطلحي عن أحمد ابن إبراهيم، قال:دخل أعرابيٌّ إلى الرشيد، فأنشده أرجوزةً وإسماعيل يكتب بين يديه كتاباً، وكان أحسن الناس خطاً، وأسرعهم يداً وخاطراً، فقال الرشيد للأعرابي: صف هذا الكتاب. فقال: ما رأيت أطيش من قلمه، ولا أثبت من كلمه، ثم قال ارتجالاً:

رقيقُ حواشي الحلمِ حينَ تَبورُهُ

يريك الهوينا والأمورُ تطيرُ

له قلما بُؤسَى ونُعمى كلاهما

سحابتهُ في الحالتينِ دَرُورُ

يناجيك عما في ضميركَ لحظهُ

ويفتحُ بابَ الأمر وهو عسيرُ

فقال الرشيد:قد وجب لك يا أعرابي حق عليه، هو يقضيك إياه، وحق علينا فيه نحن نقوم به، ادفعوا إليه دية الحر، فقال إسماعيل وله على عبدك دية العبد. قوله: رقيق حواشي الحلم، رديء لأن الحلم يوصف بالرزانة لا بالرقة، واستعمل أبو تمام هذا اللفظ فعيب به. وقوله: يريك الهوينا والأمور تطير رويناه لمنصور النمري. وفاخر صاحب قلم صاحب سيف، فقال صاحب القلم:أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على غرر. قال صاحب السيف:القلم خادم السيف، إن بلغ مراده وإلا فإلى السيف معاده، أما سمعت قول أبي تمام:

السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ

في حدِّهِ الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ

وأبي ذلك ابن الرومي فقال:

كذا قضى الله للأقام مُذْ بُريَتْ

إنَّ السيوفَ لها مُذْ أُرهِفَتْ خَدَمُ

وقال أيضاً:

لعمرك ما السيفُ سيفُ الكميّ

بأخوفَ من قلمِ الكاتبِ

له شاهدٌ إنْ تأمّلْتَهُ

ظهرتَ على سرِّه الغائبِ

أداةُ المنيّةِ في جانب

وسيفُ المنيّةِ في جانبِ

ألم تَرَ في صَدرهِ كالسنانِ

وفي الرِّدفِ كالمرهَفِ العاضِبِ

وقد أحسن الخالدي في قوله:

ففي كفِّ ليث الورَى للندَى

وفي كفِّ ليث الشرى في الغياضِ

وقلت:

أبيت بالليلِ غريب الكرى

يأخذُ مني الدرسُ والكتبُ

وقيِّمُ الحكمةِ في أنملي

يصوغُ ما يسبكهُ اللُّبُّ

أنفُ ضميري حينَ أرعفُته

أفرغ ما استوعبَهُ القلبُ

لسانُ كِفي حينَ أنطقتهُ

أرضاك منهُ المنطقُ العذبُ

مُنحَّفٌ في خَلقهِ ذابلٌ

مُعظَّمٌ في فعلهِ نَدبُ

إن لم يكن كالعضبِ في حَدِّهِ

فإنه في فعله عضبُ

ينكسُهُ المرءُ فيعلو به

ورُبَّ نِكسٍ غِبُّهُ نصبُ

ومُذْ عرفنا لذَّةَ العلمِ لا

يُعجبنا الحلوُ ولا العذبُ

وقال البحتري في تفضيل السيف على القلم:

ولما التقت أقلامكم وسيوفهم

أبدت بُغاثَ الطير زرقُ الجوارحِ

فلا غرّني من بعدكم عِزُّ كاتبٍ

إذا هو لم يأخذ بحجزة رامحِ

ومن أحسن ما وصف به القلم قول أبي تمام في محمد بن عبد الملك الزيات:

لك القلمُ الأعلى الذي بشباتهِ

تُنالُ من الأمر الكلى والمفاصلُ

لعابُ الأفاعي القاتلات لعابهُ

وأرْيُ جنى شارته أيد عواسل

له ريقةٌ طَلٌّ ولمن وقعها

بآثارهِ في الشرقِ والغربِ وابلُ

فصيحٌ إذا استنطقتهُ وهو راكبٌ

وأعجمُ إن خاطبتهُ وهو راجلُ

إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغتْ

عليه شِعابُ الفكر وهي حوافلُ

أطاعته أطراف الرماحِ وقوِّضتْ

لنجواه شِعابُ الفكر وهي حوافلُ

إذا استفزر الذهن الذكي وأقبلت

أعاليهِ في القرطاس وهي أسافل

وقد رفدته الخنصرانِ وسَدَّدت

ثلاثَ نواحيهِ الثلاثُ الأنامل

رأيت جليلا شأنه وهو مُرهَفٌ

ضنى وسميناً خطبه وهو ناحلُ

وقد أحسن القائل في تشبيه أنامل الكاتب، على القلم بالقلم، أنشدناه أبو أحمد، عن الصولي، عن أحمد بن محمد بن إسحاق:

ما ضرّ مَنْ أضنى بهجرانهِ

قلتَ كئيب القلبِ حرَّانهِ

لو فرج الكربةَ عن مَدنَفٍ

تشُفُّهُ لوعة أحزانه

بِرقعةٍ ينْظمها كفه

نظمَ لآليه ومَرجانهِ

بمرهفِ الأحشاءِ ذي حُلةٍ

مَوْشيَّةٍ ترفعُ من شانهِ

لعابُهُ يسرٌ وعسرٌ إذا

جاد به تفليجُ أسنانهِ

إذا امتطاه بشبيهاتهِ

كشَّف أسراراً بإعلانهِ

يركض في ميدان قرطاسهِ

ركضَ جوادٍ وسطَ ميدانهِ

وأحسن القصار في هذا المعنى يصف جاريةً كاتبةً اسمها علم:

أفدى البنانَ وحسن الخطِّ من علمٍ

إذا تقمعن بالحناءِ والكتمِ

حتى إذا قابلت قرطاسها يَدُها

ترى ثلاثةَ أقلامٍ على قلمِ

ومن أحسن ما قيل في الدواة والأقلام قول أحمد بن إسماعيل:

في كفهِ مثلُ سنانِ الصعده

أرقش بزَّ الأفعوانُ جِلدَه

يلتهمُ الجيش اللُّهام وحده

لو صادمَ الطودَ المنيفَ هَدّه

لو صافحَ السيفَ الحسامَ قدّه

يأوي إلى ظئر لهُ مُحتدّه

يمُزَجُ فيها صَبرٌ بشُهدهِ

يُرضعها من مقلةٍ مُسوده

يَمُدُّها جارٍ كثيف العُدّه

كأنّه الليلُ إذا استمدّه

مُقلتُها مكحولة بِنَدّه

وقلت في القلم:

أنظر إلى قلمٍ تنكسَ رأسُهُ

ليَضُمَّ بينَ موصلٍ ومُفَصَّلِ

تنظر إلى مخلابِ ليثٍ ضيغمٍ

وغرارِ مسنونِ المضاربِ مفصلِ

يبدو لناظرهِ بلونٍ أصفرٍ

ومدامعٍ سودٍ وجسمٍ مُنحلِ

فالدُّرجُ أبيضُ مثل خدٍ واضحٍ

يثنيهِ أسودُ مثل طرفٍ أكحلِ

قسم العطايا والمنايا في الورى

فإذا نظرتَ إليه فاحذرا وأمل

طعمان شوبُ حلاوةٍ بمرارةٍ

كالدهرِ يخلطُ شَهدَهُ بالحنظلِ

فإذا تصرَّفَ في يديك عِنانُه

ألحقت فيهِ مُؤمّلاً بمؤمِّلِ

ومُذلّلاً بِمُعزَّرٍ ولربّما

ألحقت فيهِ معزَّراً بمذَلّلِ

وقلت:

لك القلمُ الجاري ببؤسٍ وأنعم

فمنها بوادٍ ترتجى وعوائدُ

إذا ملأ القرطاس سود سطوره

فتلك أسودٌ تُتقى وأساودُ

فتلك جنانٌ تُجتنى ثمراتُها

ويلقاك من أنفاسهنّ بوارِدُ

وهنّ برودَّ ما لهنَّ مناسِجٌ

وهنَّ عقودٌ ما لهنَّ معاقِدُ

وهنَّ حياةٌ للوليّ رضيةٌ

وهُنَّ حتوفٌ للعدوِّ رواصدُ

وأنشدنا أبو أحمد، قال: أنشدنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الفضل الطائي قال أنشدني أبو الحسين بن أبي البغل:

لهم هِمِمٌ تُناطُ إلى الثريا

وتحكم في الطريفِ وفي التلادِ

وأقلامٌ تشبهها سُيوفاً

مُهنَّدةٍ هوادٍ في الهوادي

يُخطُّ بها سوادٌ في بياضٍ

فتحسبهُ بياضاً في سوادِ

إذا فزِغَ الصريخُ أمدَّ خيلاً

بخيل تستثارُ من المدادِ

وقد أحسن ابن الرومي في وصف الكتاب حيث يقول:

متمنطقٌ من جلدهِ

متختمٌ من خصره

أبداً تراهُ وصدره

في بطنه أو ظهره

وقال ابن المعتز يذكر أرضةً أكلت كتاباً:

شغلي إذا ما كان للناسِ شغل

دفترُ فقهٍ أو حديث أو غَزَل

أرقطُ ذو لونٍ كشيبِ المكتهلِ

تخالهُ مكتحِلاً وما اكتحل

راكبُ كفٍّ اينَ ما شاءَ رحل

وهو دليلٌ لمقال أو عمل

يقيمُ وزن العقل حتى يعتدل

ويُذكرُ الناسيَ ما كان أضل

كأنه ينشرُ عن نقش حلل

يخاطب اللحظَ بنطقٍ لا يكل

ولا يملٌّ صاحباً حتى يمل

ثم قال في وصف الأرضة:

تأكل أثمار القلوب لا أكل

وكتب الصاحب في وصف كتاب:وصل كتابك، فجعلت يوم وصوله عيداً أؤرخ به أيام بهجتي، وأفتح به مواقيت غبطتي، وعرفت من خبر سلامتك، ما سألت الله الكريم أن يصله بالدوام، ويرفعه على أيدي الأيام. وكتب أيضاً:وصل كتابه، أيده الله، يضحك عن أخلاقه الأرجة، ويتهلل عن عشرته البهجة، ويخبر عن رعاية الله إياه عما رأيت شمل الحرية به منتظماً، وشعب المروءة له ملتئماً، ويتحمل من أنواع بره ما أقصر عن ذكره، ولا أطمع في شكره، ويؤدي من لطيف اعتذاره، في أثناء عتبه، ما تزداد به أسباب السرور تمهداً. وقلت في كتاب أكلته الأرضة:

وجليسٍ حسنُ المح

ضرِ مأمونُ المغيبِ

ميتٌ يُخبرُ حياً

بخفيّاتِ الغيوبِ

أبلهٌ غيرُ لبيبٍ

وهو في حالِ اللبيب

جاهلٌ غيرُ أديب

وهو عونٌ للأديبِ

أخرسٌ غيرُ خطيبٍ

ولهُ لفظُ الخطيبِ

مفحمٌ ينظمُ شِعراً

مثلَ إقبالِ الحبيبِ

ساكتٌ يروي حديثاً

مثلَ إعراضِ الرقيبِ

نمقتهُ الكفُّ حتى

هو كالوشي القشيب

من سوادٍ وبياضٍ

كشبابٍ ومَشيب

فيهِ إمتاعٌ لأبصا

رٍ وأنسٌ للقُلوب

دبَّ فيهنّ دبيبٌ

كان من شرِّ الدبيب

من صغيرات جسوم

وكبيرات الذنوب

أخذت منها نصيباً

فالتوى منها نصيبي

أفرحَت قلبَ جهولٍ

وكوت قلبَ لبيبِ

ويل هاتيك المعاني

من بديعِ وغريبِ

وأفانينِ كلامٍ

بين سهلٍ وصليب

من بديعٍ وفصيحٍ

وصحيحٍ ومُصيبِ

بُدّلَ الإصلاحُ منه

نّ بإفسادٍ عجيبِ

فنجومُ العلمِ والفه

مِ تهاوت للغُروبِ

كلُّ شيءٍ سوفَ يفنى

عن بعيدٍ وقريبِ

ومن بديع ما وصف به الوراق: ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي، عن أحمد بن يزيد المهلبي، عن أبي هفان قال: سألت وراقاً عن حاله فقال:عيشي أضيف من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، وخطي أخفى من شق القلم، ويدي أضعف من قصبة، وطعامي أمر من العفص، وشرابي أسود من الحبر، وسوء الحال ألزم من الصمغ. فقلت: عبرت عن بلاءٍ ببلاء فحسبك. وقلت في المحبرة والأقلام:

مَنهلةٌ من أشرفِ المناهلِ

تضمنُ ريَّ الصفرِ الذوابلِ

مَركبها ذوائبُ الأناملِ

إذا مشت عاليةَ الأسافل

بكت على الطرسِ بدمع هاملِ

فارتبطت شوارد المسائل

وكشفت عن غُرر الدلائل

بيضاء تبدو في لباسِ الثاكل

لكنها تلبسهُ من داخل

ومما لا أعرف في معناه خيراً منه قول كشاجم الكاتب:

لا أحبُّ الدواةَ تحشى يراعاً

هي عندي من الدُّويّ معيبه

قلمٌ واحدٌ وجودَةُ خطٍ

فإذا زدتَ فاستزدْ أنبوبه

هذه قعدةُ الشجاعِ عليها

أبداً سيرهُ وتلك جَنيبه

ومن البديع الظريف قول أحمد بن إسماعيل:

كأنما النقسُ إذا استمده

غاليةٌ مذوقةٌ بنده

ونتن الكرسف مما يعاب به. ومن البديع المشهور ما أنشدناه أبو أحمد، عن الصولي، عن أحمد بن إسماعيل، للحسن بن وهب:

مِدادٌ مثلُ خافية الغراب

وأقلامٌ كمرْهفةِ الحرابِ

وقرطاسٌ كرَقراقِ السرابِ

وألفاظٌ كأيام الشبابِ

وقلت:

أكثرُ ما تُشبته الأقلامُ

لم تسع في زواله الأيامُ

يا لك من خُرسٍ لها كلامُ

موتى إليها النقضُ والإبرامُ

قِوامُ مجد ما لهُ قِوامُ

نِظامُ ملكٍ خانه النظامُ

أصاغرٌ شؤونها العظامُ

ومن المختار في معناه قول الآخر:

إنما الزعفرانُ عطرُ العذارى

وسوادُ الدّوِيّ عطرُ الرجالِ

وقلت في سكين:

انجاز وعدك في السكين مكرمةٌ

غراء فضلك فيها غيرُ مجحودِ

أحسنْ بهِ أزرقاً في أبيضٍ يَققٍ

له مناطق من بيضٍ ومن سودِ

خلفُ الوعيدِ حميدٌ لا يذمُّ بهِ

ولم يكن خلف موعودٍ بمحمود

وكتب كافي الكفاة في ذم قلم فأبدع:وليس العجب إلا من قلم منيت به، لا يستقر إذا تأنيت، ولا يستمر إذا جريت، طوله عرض، وابرامه نقض، تستغيث الحروف من التوائه، وتستأنس السطور من استوائه، إن قلت سر وقف، وإن حثثته بالأنامل قطف، فألفاظي من سنيه مأسورة، ومعاني في شقيه محصورة، وقد صبرت عليه، ألبسه مع سوء عشرته، واستمنحه مع فضل عسرته، وأقول لعله يصلح بطول المداراة، وعساه ينجح بكثرة المناواة، وهو يزداد نفاراً، ويتضاعف زللاً وعثاراً. ومما يدخل في هذا الباب، قول كشاجم في غلام، رآه يكتب ويخطىء، فيمحو ما يخطه بريقه وهو:

ورأيتهُ في الطِّرسِ يكتبُ مرةً

غلطاً يواصلُ محوَهُ برُضابهِ

فوددتُ أني في يديهِ صحيفةٌ

وودتهُ لا يهتدي لصوابهِ

وأخبرنا أبو أحمد، عن الصولي، عن محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدثنا مهدي ابن سباق قال: رأى المأمون في يد جارية له قلماً، وكان ذا شغف بها واسمها منصف فقال:

أراني منحتُ الودَّ من ليسَ يعرف

فما أنصفتني في المحبةِ منُصفُ

وزادتْ لديَّ حظوةً يومَ أعرضت

وفي أصبعيها أسمرُ اللونِ أهيف

أصمّ سميعٌ ساكنٌ متحركٌ

ينالُ جسمياتِ المدى وهو أعجفُ

عجبتُ له أني ودهرك معجبٌ

يٌقوِّمُ تحريفَ العباد مُحرَّفُ

وكتب الصاحب أبو القاسم في وصف كتاب:ومن هذا الذي لا يحب أن يواصل علم الفضل، وواسطة، وقرارة الأدب، والعلم ومجمع الدراية والفهم، أم من لا يرغب في مكاثرة من ينتسب الربيع إلى خلقه، ويكتسب محاسنه من طبعه، ويتوشح بأنوار لفظه، ويتوضح بآثاره ويده، ووصل كتابه فارتحت لعنوانه قبل عيانه، حتى إذا فضضت ختامه، أقبلت الفكرة تتكاثر، والدرر تتناثر، والغرر تتراكم، والنكت تتزاحم، فإذا حكمت للفظة بالسبق أتت أختها تنافس، وأقبلت لدتها تفاخر، حتى استعفيت من الحكومة، ونفضت يدي من غبار الخصومة، وأخذت أقول كلكن صوادرٌ عن أصول، بل أصلٌ واحدٌ فتسالمن، ونواقد عن معدنٍ فاردٍ فتصالحن، وقد وليت النظر بينها من كمل لنسج برودها، ووفي نظم عقودها. ومثل ما تقدم من قوله في ذم القلم قوله أيضاً:على أني يا مولاي أنشأت هذه الأحرف، وحولي أعمالٌ وأشغالٌ، لا يسلم معها فكرٌ، ولا يسمح بينها طبعٌ، وتناولت قلماً كالابن العاق، بل العدو المشاق، فإذا أدرته استطال، وإذا قومته مال، وإذا حثثته وقف، وإذا أوقفته انحدر، أجدل الشق، مضطرب الشق، متفاوت البري، معدوم الجري، محرف القط مثبج الخط، ثم رأيت العدول عنه ضرباً من الانقياد لأمره، والانخراط في سلكه فجهدته على رغمه، وكددته على صغره، لا جرم أن جناية اللجاج بادية على صفحات الحروف لا تخفى، وعادية المحك لائحةٌ على وجوه تتجلى. وكتبت في وصف كتاب. الله أعلم أني أخبرت بورود كتابه فاستفزني الفرح قبل رؤيته، وهز عطفي المرح قبل مشاهدته، فما أدري أسمعت بورود كتاب، أم ظفرت برجوع شباب، ثم وصل بعد انتظار له شديد، وتطلع إلي وروده طويل عريض، فتأملته فلم أدر ما تأملت أخطاً مسطوراً، أم روضاً ممطوراً، أم كلاماً منثوراً، أم وشياً منشوراً، ولم أدر ما أبصرت في أثنائه. أبيات شعر أم عقود در، ولم أدر ما حملته، أغيث حل بواد ظمآن، أم غوثٌ سيق إلى لهفان. وكتب الصاحب:ووصل كتاب القاضي، فأعظمت قدر النعمة في مطلعه، وأجللت محل الموهبة بموقعه وفضضته عن السحر الحلال، والماء الزلال، وسرحت الطرف منه في رياض رقت حواشيها، وحلل تأنيق واشيها، فلم أتجاوز فصلاً إلا إلى أخضر منه فضلاً، ولم أتخط سطراً إلا إلى أحسن منه نظماً ونثراً. ورفع رجلٌ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر قصةً يعتذر فيها، فرأى خطه رديئاً فوقع:قد أردنا قبول عذرك، فاقتطعنا دونه ما قابلنا من قبح خطك، ولو كنت صادقاً في اعتذارك، لساعدتك حركة يدك، أو علمت أن حسن الخط يناضل عن صاحبه بوضوح الحجة، ويمكن له درك البغية. وقال علي رضي الله عنه:الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً. وقيل:حسن الخط إحدى البلاغتين. ووصف الجاحظ الكتاب فقال:الكتاب وعاءٌ ملىء علماً وظرفٌ حشي ظرفاً، وإناء شحن مزاجاً وجداً، إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت شجتك مواعظه، ومن لك بواعظٍ ملهٍ، وبزاجرٍ مغرٍ، وبناسكٍ فاتكٍ، وبناطقٍ أخرس، وبباردٍ حار، ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغث والسمين، والشكل والمثل وخلافه، والجنس وضده. ودخل المأمون على بعض بنيه، فوجده ينظر في كتابٍ. فقال:يا بني ما في كتابك ؟ قال بعض ما يشحذ الذهن ويؤنس الوحدة. فقال: الحمد لله الذي رزقني ولداً يرى بعين عقله، أكثر مما يرى بعين جسده، وظل مفكراً في قول ولده الطفل. ^

الفصل الثاني من الباب التاسع

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي