ديوان المعاني/ذكر الشراب

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر الشراب

ذكر الشراب - ديوان المعاني

ذكر الشراب

وما يجري معه من رقيق المعاني

للقدماء في صفة الخمر قول الأعشى:

تريك القذى من دونها وهي دونه

يريد أنها من صفائها، تريك القذى عالية عليها وهي في أسفلها. ومن أطرف ما قيل في صفاء الخمر قول أبي نواس:

ترى حيثما كانت من البيت مشرقا

وما لم تكن فيه من البيتِ مغربا

إذا عبَّ فيها شاربُ القوم خلتهُ

يقبلُ في داج من الليل كوكبا

أخذه ابن الرومي فقال وأحسن:

ومهفهفٍ تمتْ محاسنُهُ

حتى تجاوزَ منيةَ النفسِ

وكأنهُ والكأسُ في فمهِ

قمرٌ يقبلُ عارض الشمسِ

فجعل الشارب قمراً، وليس هذا في بيت أبي نواس. وقال أبو نواس، يذكر صفاء الخمر ورقتها وحبابها:

فإذا ما اجتليتَها فهباءٌ

يمنعُ الكفّ ما يبيحُ العيونا

ثم شجتْ فاستضحكت عن جمان

لو تجمعنَ في يدٍ لاقتنينا

في كؤوس كأنهنَّ نجومٌ

دئرات بروجها أيدينا

طالعاتٌ مع السقاةِ علينا

فاذا ما غربنَ يغربنَ فينا

لو ترى الشَّربَ حولها من بعيدٍ

قلتَ قومٌ من قِرّةٍ يصطلونا

وقلت في لطافة الخمر والزجاجة:

قلتُ والرَّاحُ في أكفِّ الندامى

كنجوم تلوحُ في أبراجِ

أمداماً فرطتمُ لمدامٍ

أم زجاجاً سكبتمُ في زجاجِ

وكأنَّ النجومَ والليلُ داج

نقشُ عاج يلوحُ في سقف ساجِ

ومن أعجب ما قيل في صفاتها قول الناشىء:

فليس شيء عندها إلا القذى

وقلت:

ومشمولةٍ دارت عليَّ كؤوسها

فرحتُ كأني في مدارِ الكواكبِ

أنازِعُها بدارً مع الليلِ طالعاً

وليسَ بمردودٍ مع الصبحِ غاربِ

وقد شابَ لينا بالشماسِ وإنما

تطيبُ لك الصهباءُ من كفِّ قاطب

وأنشدني أبو أحمد:

فنبهتني وساقي القوم يمزجها

فصارَ في البيتِ للمصباح مصباحُ

قلنا على علمنا والشكُّ يغلبنا

أراحنا دارنا أم دارنا الرَّاحِ

ومثله قول البحتري:

فأضاءت تحتَ الدُّجّنة للشّرْ

بِ وكادتْ تضيءِّ للمصباحِ

وأحسن ما وصفت به كأس على فم قول ابن المعتز:

ظبيٌ خليٌّ من الأحزانِ أودعني

ما يعلمُ اللَّهُ من حزنٍ ومن قلقٍ

كأنَّهُ وكأنَّ الكأسَ في فمه

هلالُ أوَّلِ شهر غابَ في الشفقِ

وقلو الآخر:

كأنما الكأسُ على ثغرها

موصولةً بالأنملِ الخمسِ

ياقوتةٌ صفراءُ قد صيرتْ

واسطةً للبدرِ والشمسِ

قد ذهبتْ نفسي على نفسها

وآفةُ النفس من النفسِ

وقلت:

فيسقيني ويشربُ من عقيق

خليق أن يَشبّهَ بالخلوقِ

كأنَّ الكأسَ من يده وفيه

عقيقٌ في عقيقٍ في عقيقِ

الكأس الحمراء مثل العقيق، واليد المخضوبة كالعقيق، والشفة مثل العقيق، في لونها. وقلت:

ودَارَ الكأس في يدِ ذي دلال

رشيق القدِّ يعرفُ بالرّشيقِ

يحلي بالتبسم درَّ ثغر

تخلله شوابيرُ العقيقِ

رأيتُ الكأسَ في يده وفيه

وجنحُ الليل منصرف الفريقِ

ففي فمه هلالٌ في غروبِ

وفي يدهِ الثريا في شروقِ

وأحسن ما قيل في الشروق وأتمه، قول ابن الرومي، وأتى بشيء لم يسبق إليه، وهو تشبيه الحباب بفلق اللؤلؤ، وهو على الحقيقة تشبيهه والناس قبله، إنما شبهوه باللؤلؤ الصحيح، وهو قوله:

لها صريحٌ كأنهُ ذهبُ

ورغوةٌ كاللآلىء الفِلقِ

فشرحت ذلك وقلت:

وكأس تمتطي أطرافَ كفٍّ

كأنَّ بنانها من أرجوانِ

أنازعها على العَلاّتِ شرباً

لهنَّ مضاحكٌ من أقحوانِ

يلوحُ على مفارقها حبابٌ

كأنصافِ الفرائدِ والجمانِ

وفيه هذا زيادة، لأن في الحباب، ما هو كثير يشبه بأنصاف الفرائد، وهي كبار اللؤلؤ، ومنه ما هو صغير يشبه بأنصاف الجمان وهي صغار اللؤلؤ:

وطالعني الغلامُ بها سحيراً

فزادَ على الكواكبِ كوكبانِ

ووافقها بخدٍّ أرجوان

وخالفها بفرع أرجواني

وأغرب ما قيل في الحباب قول أبي نواس:

فإذا علاها الماءُ ألبسها

حبباً كمثلِ جلاجلِ الحجلِ

حتى إذا سكنتْ جوامُحها

كتبتْ بمثلِ أكارعِ النّملِ

ومن غريب ذلك وبديعة الأول ويقال إنه ليزيد بن معاوية:

وكأس سباها التجر من أرضِ بابلٍ

كرقَّةِ ماءِ المزنِ في الأعينِ النُّجلِ

إذا شجّها الساقي حسبتَ حبابها

عيونَ الدبا من تحت أجنحةِ النملِ

وأبدع ما قيل في الحباب قول أبي نواس:

قامت تريني وأمرُ الليلِ مجتمعٌ

صُبحاً تولدَ بينَ الماءِ واللهبِ

كأنَّ صغرى وكبرى من فراقعِها

حصباءُ دُرٍّ على أرضٍ من الذهبِ

وخطأه النحويون في قوله كبرى وصغرى من فواقعها أخذه ابن المعتز فقال:

يا خليلي سقياني فقد لا

حَ صباحٌ وأذَّنَ الناقوسُ

من كميتٍ كأنها أرضُ تبرٍ

في نواحيه لؤلؤٌ مغروسُ

وقلت:

راحٌ إذا ما الليل مّدَّ رواقَهُ

لاحَتْ تطرِّزُ حُلةَ الظلماءِ

حتى إذ مُزِجَتْ أراك حبابها

زهراتِ أرضٍ أو نجوم سماءِ

وقلت في المعنى الأول:

تَبيتُ لي اللذاتُ معقودةَ العرى

إذا ما أدَارَ الكأسَ أحُوَرُ عاقدُ

يدبُّ الدُّجى عن وجهٍ نارٍ تحلهُ

كؤوس لأعناقِ الليالي قلائدُ

وقال ابن المعتز:

قد حثني بالكأسِ أوَّلَ فجره

ساق علامةُ دينهِ في خصره

فكأنًّ حمرةَ لونها من خدّه

وكأنَّ طيبَ نسيمها من نشره

حتى إذا صَبَّ المِزاجَ تبسّمت

عن ثغرِها فحسبتهُ من ثغره

وقال:

للماء فيها كتابةٌ عجبُ

كمتل نقشِ في فصِّ ياقوتِ

وقلت:

دارَ في الكأس عقيقٌ فجرى

واطفُ الدُّرِّ عليه فطفح

نصب الساقي على أقداحها

شبكَ الفضةِ تصطادُ الفرح

وقال ابن الرومي في لطافتها:

لطفتْ فقد كادَتْ تكونُ مشاعةً

في الجوِّ مثل شعاعها ونسيمها

ومن الاستعارة البديعة قول ابن المعتز:

فأضحك عن ثغر الحباب فم الكأس

وقلت:

وشراب طوى الزَّمانَ فحاكى

نفسَ الوردِ رقَّةً ونسيما

إن يكنْ بالعقول غيرُ رحيم

فهو بالروُّح لا يزالُ رحيما

ومن أحسن ما قيل، في خيال الكأس، على اليد قول بعض المحدثين:

كأنَّ المديرَ لها بالميين

إذا قام للسقي أو باليسارِ

تَدَرَّعَ ثوباً من الياسمين

لهُ فردُ كم من الجلنارِ

وقال السري في معناه:

وبكر شربناها على الورد بُكرةً

فكانت لنا ورداً على خيرِ مورِدِ

إذا قامَ مبيضُّ الجبين يُديرها

توَهمته يسعى بكمٍّ مُوَرَّدِ

وقال البحتري:

ألا ربما كأس سقاني سلافها

رهيفُ التثني واضح الثغر أشنبُ

إذا أخذتْ أطرافه من قنوها

رأيت اللجينَ بالمدامة يذهبُ

وقلت:

شغلت كلتا يديه بقهوة

فقلت أرى نجمين أم قدحينِ

كأنَّ خيالَ الكأسِ فوْقَ ذراعه

غشاءٌ من العقيان فوْقَ لجينِ

وقلت أيضاً:

يسعى إليّ مُقرطَقٌ في كفهِ

كأسٌ وبَينَ جُفونهِ كأسانِ

وتناسبتْ فيها بغيرِ قرابةٍ

كفُّ المديرِ ووجنةُ الندمانِ

ومن أحسن ما قيل في الزجاجة ورقتها وصفائها قول بعضهم:

رَقَّ الزُّجاجُ وراقت الخمرُ

وتشابها فتقاربَ الأمرُ

فكأنها خمرٌ ولا قدَحٌ

وكأنّهُ قدَحٌ ولا خمرُ

وقال ابن المعتز في رقة الخمر وصفائها وذكر الكأس ولطافتها:

وكأس تحجبُ الأبصارُ عنها

فليسَ لناظرٍ فيها طريقُ

كأنَّ غمامةً بيضاءَ بيني

وبين الرَّاح تحرقها البروقُ

وقلت:

وندمان سقيت الرَّاح صرفاً

وجنحُ الليل مرتفعُ السجوفِ

صفتْ وصفتْ زجاجتها عليها

لمعنى دَقَّ في ذهنٍ لطيف

وليس هذا التشبيه بالمختار، ولو أن بعض الناس يستملحه لأنه أخرج ما يرى بالعيان إلى ما يعرف بالفكر. وقال بعضهم:

خفيتْ على شرابها فكأنهم

يجدون رَيّا من إناءٍ فارغِ

وقال غيره:

وزَّنا الكأسَ فارغةً وملأى

فكان الوزْنُ بينهما سواء

وقال ابن الرومي:

لطفتْ فقد كادتْ تكونُ مشاعةً

في الجوِّ مثل شعاعِها ونسيمِها

وقلت:

حملتْ بخنصرها إناءَ مدامةٍ

صفراء تلمعُ في زجاجٍ أقمرِ

فكأنها واللحظُ ليس يحورها

شمسُ النهار تختمتْ بالمشتري

ومن أجود ما قيل في الأباريق، وفضول الكأس، وأنشده إسحاق:

كأنَّ أباريقَ المدام لديهم

ظباءٌ بأعلى الرَّقمتينِ قيامُ

وقد شربوا حتى كأنَّ رقابهم

من اللينِ لم يخلقْ لهنَّ عظامُ

وقد أحسن مسلم في قوله:

إبريقنا سلبَ الغزالةَ جيدها

وحكى المديرُ بمقلتيه غزالا

وأحسن الآخر وينسب إلى بشار:

كأنَّ إبريقنا والقطرُ في فمه

طيرٌ تناول ياقوتاً بمنقارِ

إلا أن قوله طير رديء والجيد طائر، وأجازه أبو عبيد ولم يجزه غيره. وقلت:

تضحك في الكأس أباريقنا

وحسب ما يضحكن يبكينا

كأنَّ أعلاها إذا أسفرَتْ

تعقد في الكأس تلابينا

وأول من شبه الابريق بالأوزلبيد في قوله ولم يذكر الخمر:

تُضَمَّنُ بِيْضاً كالإوَزِّ ظروفُها

إذا تأقوا أعناقها والحواصلا

فأخذه بعضهم فقال:

ويوم كظلِّ الرُّمح قصرَ طولهُ

دمُ الزِّقِّ عنا واصطكاكُ المزاهرِ

كأنَّ أباريقَ المدام عشيةً

إوزٌّ بأعلى الطفِّ عوجُ الحناجرِ

وقال أبو الهندي:

سيغنى أبا الهنديِّ عن وطب سالم

أباريق يعلقْ بها وضرُ الزبدِ

مقدمة قزاً كأنَّ رقابها

رقابُ بناتِ الماء تفزع للرَّعدِ

وقوله تفزغ للرعد زيادة على ما تقدم. وأما فضول الكؤوس فأحسن ما قيل في قول أبي نواس:

قرارتهُا كسرى وفي جنباتها

مهاً تدريها بالقسيِّ الفوارسُ

فللخمر ما زرَّتْ عليه جيوبهم

وللماء ما دارت عليه القلانسُ

وقال السري الموصلي:

كأنَّ الكؤوسَ وقد كللتْ

بفضلاتهنَّ أكاليلُ نورِ

جيوبٌ من الوشيِ مَزُرورَةٌ

يلوحُ عليها بياضُ النحورِ

فجئت به في بيت وقلت:

وبيضٌ تهاوى في مُزَعفرةٍ صفرٌ

وهبتُ لها قلبي وأخذمتهُا فكري

فدارتْ بأقداح كأنَّ فضولها

سوالفٌ تبدو من معصفرةٍ حمرٍ

وقال السري أيضاً:

وصفراءُ من ماءِ الكرومِ شربتُها

على وجهِ صفراءِ الغلائلِ غضّةِ

تبدَّتْ وقضلُ الكاس يلمع ساطعا

كأترَّجة زينتْ بإكليل فضةِ

وقال الناشىء:

ملوك ساسانَ على كأسها

كأنها في عزِّ سلطانها

فخمرُها من فوْقِ أذقانها

وماؤها من فوْقِ تيجانها

يصف كأساً نقش فيه صور ملوك ساسان. ومن أجود ما قيل في صفة الإناء، وحسنه، مع صفاء الخمر، قول ابن المعتز:

غدا بها صفراءِ كرخيةً

كأنّا في كأسِها تتّقِد

فتحسبُ الماءَ زجاجاً جرى

وتحسبُ الأقداحُ ماءً جمدْ

ومن أجود ما قيل في صوت الأباريق ما أنشدناه أبو أحمد:

وقد حجب الغيم السماء كأنها

يمدُّ عليها منهُ ثوبٌ ممسكُ

ومجلسنا في الجوِّ يهوي ويرتقي

وإبريقنا في الكأس يبكي ويضحكُ

ومن أحسن ما قيل في ابتداء السكر قول بعضهم:

ولها دبيبٌ بالعظام كأنَّه

فيضُ النعاسِ وأخْذهُ بالمفصلِ

عبقت أكفهمُ بها فكأنما

يتنازعونَ بها سخاب قرنفلِ

وقول أبي نواس:

فأرسلتْ من فم الابريق صافيةً

كأنما أخذُها بالعينِ إغفاءُ

وقوله:

ثم لما مزَجوها

وَثبَتْ وثْبَ الجرادِ

ثم لما شربُوها

أخذَتْ أخْذَ الرّقادِ

ومن شعر المتقدمين قول الأخطل:

أناخوا فجرُّوا شاصياتٍ كأنها

رجالٌ من السودانِ لم يتسربلوا

لم يتسربلوا تتميم حسن، والبيت من أحسن ما قيل في الزقاق:

فقلت اصبحوني لا أبا لأبيكم

وما وضعوا الأثقالَ إلا ليفعلوا

تدبُّ دبيباً في العظام كأنهُ

دبيبُ نمال في نقاً يتهيلُ

أحسن ما قيل في خروج الخمر من المبزال قول أبي نواس:

وخندريسٌ باكرت حانتها

فودّجوا خصرها بمبزالِ

فسالَ عرقٌ على ترائبها

كأنَّ مجراهُ فتلُ خلخالِ

وقال ابن المعتز:

تخرج من دنَّها وقد حدبت

مثل هلالٍ بدا بتقويسِ

قوله بدا بتقويس فضل لا يحتاج إليه، لأن الهلال لا يبدو إلا بتقويس. وقال:

جاءتك من بيتِ خمارٍ بطينتها

صفراء مثل شعاع الشمسِ تتقدُ

فأرسلتْ من فم الإبريق فانبعثت

مثل اللسانِ بدا واستمسك الجسدُ

إلا أن هذا في وصفها جارية من فم الإبريق، وقال في المعنى الأول:

سعى إلى الدَّنَّ بالمبزال يبقره

ساق توشح بالمنديل حينَ وثب

لما وجاها بدّتْ صفراء صافية

كأنَّه قدَّ سيراً من أديم ذهب

وقلت:

قد بزل الدَّنّ فقومي انظري

زنجيةً تفتلُ خلخالا

واسقنيها واشربي واطربي

وجرّري في الهواء أذيالا

تنعمي ما اسطعتِ واستمتعي

إنَّ وراءَ المرِء أهوالا

أبلغ ما قيل في الكبر الذي يعتري المنتشي قول الأخطل يخاطب عبد الملك:

إذا ما نديمي علني ثمَّ علّني

ثلاث زجاجاتٍ لهنَّ هديرُ

خَرَجتُ أجرُّ الذيلَ حتى كأنني

عليك أميرَ المؤمنينَ أميرُ

وإنما صار ذلك، أحسن من غيره، لأنه خاطب به ملك الدنيا وقال: أنا أمير عليك في ملك الحال. والأصل فيه. قول حسان:

ونشر بها فتتركنا ملوكا

وأسداً ما ينهنهنا اللقاءُ

ومنه قول المخبل اليشكري:

وإذا سكرتُ فإنني

رَبُّ الخورنقِ والسريرِ

وإذا صحوتُ فإنني

ربُّ الشويهةِ والبعيرِ

وأجاد ابن الرومي القول في تفسيح أمل السكران حتى يأمل ما لا يجوز وجوده وهو قوله:

ومدامةٍ كحشاشةِ النفسِ

لطفتْ عن الإدراك والحسِّ

لنسيمها في قلبِ شاربِها

روحُ الرَّجاءِ وراحةُ النفسِ

وتمدُّ في أمل ابن نشوتها

حتى يؤمل مرجع الأمسِ

وأجود ما قيل في صفة السكران قول عبد الله بن عبد الله بن عتبة:

وشربك من ماءِ الكرومِ كأنهُ

إذا مجَّ صرفا في الإناء خضابُ

صريعُ مدامٍ والندامى يلونهُ

وفي الشَّدقِ قيءٌ سائلٌ ولعابُ

وقريب منه قول الآخر في حماد الراوية:

نِعم الفتى لو كانَ يعرفُ ربَّهُ

ويقيمُ وْقتَ صلاتهِ حمادُ

هدلتْ مشافرُه المدامَ وأنفهُ

مثل القدُوم يسنها الحدادُ

وابيضَّ من شربِ المدامةِ وجهُهُ

فبياضهُ يومَ الحسابِ سوادُ

وأبدع ما قيل في صفة أنف السكران إذا تورم من السكر قول الآخر:

وشربتَ بعد أبي ظهير وابنه

سكر الدِّنان كأنَّ أنفك دمَّلُ

ومن جيد ما قيل في مبادرة اللذات قول أحمد بن أبي فنن:

جَدِّدَ اللذاتِ فاليوم جديد

وامض فيما تشتهي كيفَ تريدُ

اله إن أمكنَ يوم صالح

إنَّ يومَ الشربِ لا كان عتيدُ

وقال ديك الجن:

تمتع من الدُّنيا فإنك فاني

وإنك في أيدي الحوادثِ عاني

ولا تنظرن اليوم في لهو غد

ومن لغدٍ من حادث بأمانِ

فإني رأيتُ الدَّهرَ يسرعُ بالفتى

وينقله حالينِ يختلفان

فأما الذي يمضي فأحلامُ نائم

وأما الذي يبقى له فأماني

ونحوه قول عمران بن حطان:

يأسفُ المرء على ما فاتهُ

من لباناتٍ إذا لم يقضها

وتراهُ فرحاً مستبشراً

بالتي أمضى كأنْ لم يمضها

عجباً من فرح النفسِ بها

بعدَ ما قد خرجتْ من قبضها

إنها عندي وأحلام الكرى

لقريب بعضها من بعضها

وقال ابن المعتز:

وبادر بأيام السرورِ فإنها

سراعٌ وأيامُ الهموم بطاءُ

وخَلِّ عتابَ الحادثاتِ لوجهها

فإنَّ عتابَ الحادثاتِ عناءُ

تعالَوا فسقوا أنفساً قبل موتها

ليأتي ما يأتي وهنَّ وراءُ

ونحر عجير السلولي جمله لأصحابه وجعل يشرب معهم ويقول:

عللاني إنما الدُّنيا عللْ

واتركاني من عتاب وعذلْ

وانشلا ما اغبرَّ من قدريكما

واسقياني أبعد اللَّهُ الجمل

وقال أحمد المادرائي:

عاقر الرَّاحَ ودع نعتَ الطللْ

واعصِ من لامك فيها وعذْل

غادها واسعَ لها واغرَبها

وإذا قيلَ نصاباً قل أجلْ

إنما دنياك فاعلمْ ساعةٌ

أنتَ فيها وسوى ذاك أملْ

ولابن بسام:

واصلْ خليلك إنما الدُّ

نيا مواصلةُ الخليلِ

وانعمْ ولا تتعجل ال

مكروهَ من قبلِ النزولِ

بادرْ بما تهوى فما

تدري متى وقتُ الرَّحيلِ

وارفضْ مَقالةَ لائم

إنَّ الملامَ من الفضولِ

وقد أجاد ديك الجن في قوله يصف السكر، واسمه عبد السلام بن رغبان الحمصي:

أستغفرُ الله لذنبي كله

قتلتُ إنسانا بغيرِ حلَّه

وانصرَمَ الليلُ ولم أصله

والسكرُ مفتاحٌ لهذا كلِّه

قد أوطأ إلا أنه أصاب المعنى. وقال أيضاً:

مشعشعة من كفِّ ظبيِ كأنما

تناولها من خَدِّهِ فأدارها

فظلتْ بأيدينا نتعتعُ روحها

وتأخُذُ من أقدامنا الرَّاحُ ثارها

وهذا معنى بديع حسن أخذه أبو تمام منه وكان كثير الأخذ منه فقال:

إذا اليدُ نالتها بوترٍ توَقَّدَتْ

على ضعفها ثم استقادَتْ من الرجلِ

وبيت عبد السلام أجود منه. أحسن ما قيل في وصف الساقي إذا أخذ الكأس قول الآخر:

كأنَّهُ والكأسُ في كفهِ

بدْرٌ إلى جانبهِ كوكبُ

وقلت:

وطالعني الغلامُ بها سحيراً

فزادَ على الكواكبِ كوكبانِ

ومما يدخل في مختار هذا المعنى قول ابن الرومي:

ومهفهف تمت محاسنه

وقد مر. ولم أسمع في هذا المعنى أجود ما قول الآخر:

فكانه وكأنها وكأنهم

قمرٌ يدورُ على النجومِ بأشمسِ

ومثله في الجمع قول الآخر:

فالكفُّ عاجٌ والحبابُ لآلىءٌ

والرَّاحُ تبرٌ والزُّجاجُ زبرجدُ

وأجود ما قيل في قيام السقاة بين الندامى قول ابن المعتز:

بينَ أقداحِهمْ حديثٌ قصير

هو سحرٌ وما سواهُ الكلام

وكأنَّ السقاةَ بينَ الندامى

ألِفاتٌ بينَ السطورِ قيامُ

فشبه اصطفاف الشرب جلوساً بالسطر والسقاة بينهم بالألفات فأحسن. ومن البارع الداخل في هذا الباب قول عنترة:

وإذا سكرتُ فإنني مستهلكٌ

مالي وعرضي وافرٌ لم يُكلَمِ

وإذا صحوتُ فما أقصر عن ندى

وكما علمتِ شمائلي وتكرُّمي

أخذه البحتري فزاد عليه في قوله:

وما زلتَ خلاً للندامى إذا انتشوا

وراحوا بدوراً يستحثونَ أنجما

تكرَّمتَ من قبلِ الكؤوس عليهم

فما اسطعنَ أن يحدثن فيك تكرُّما

والزيادة أن عنترة ذكر أنه يستهلك ماله إذا سكر، والبحتري ذكر أنه تكرم قبل الكؤوس فيبالغ حتى لا تستطيع الكؤوس أن تزيده تكرماً. ومن أطرف ما قيل في حسن الندامى قول بعضهم:

لقد علَم الرَّيحانُ والرَّاحُ أنني

على الكأس والندمانِ غير جهولِ

فإن ساءني منهمْ مقامٌ غفرتهُ

ولستُ إلى ما ساءَهم بعجولِ

قوله:

لقد علم الريحان والراح أنني

في غاية الظرف. وشبيه البيت الثاني قول الآخر:

ليسَ من شأنهِ إذا دارتِ الكأ

س فأزرى إدمانهُ بالحلومِ

قولُ ما أسخط النديمَ وإن أس

خطهُ عند ذاك قولُ النديم

إلا أن في هذين البيتين عيبين: أحدهما التضمين والآخر قوله عند ذاك وهي زيادة لا يحتاج إليها. وقال يحيى بن زياد:

ولستُ له في فضلة الكأسِ قائلاً

لأصرفهُ عنها تحس وقد أبى

ولكن أحيِّيه وأكرِمُ وجهه

وأشربُ ما أبقى وأسقيهِ ما اشتهى

وليسَ إذا ما نام عندي بموقظٍ

ولا سامع يقظان شيئاً من الأذى

وهذا جامع جداً. ومن جيد ما قيل في مدح النديم قول أعرابي وقد قيل له: كم تشرب من النبيذ ؟ قال على قدر النديم. ومن المنظوم قول بعضهم:

ورضيع راضعت في كبرِ السن

فأضحى أخاً لديَّ مطاعا

لم يكنْ بيننا رَضاعٌ ولكنْ

صيرتْ بيننا المدامُ رضاعا

وهو من قول الناشىء: المدام الرضاع الثاني. ويقولون: ذكر الرجل عمره الثاني. وروى ابن عون، عن ابن سيرين، أنه قال: لا تكرم أخاك بما يشق عليه، قالوا: معناه لا تسقه من النبيذ ما لا يقوم به. وجعل آخر النديم قطب السرور في قوله:

أرَى للرَّاح حقاً لا أرَاهُ

لغير الرَّاحِ إلا للنديمِ

هو القطبُ الذي دارَتْ عليهِ

رَحا اللذَّاتِ في الزَّمنَ القديمِ

وقلت:

لما تبدَّى وَجْههُ

كالبدرِ من خلل الغمامِ

وكأنَّهُ ضَوءُ الصبا

ح يميسُ في خلع الظلامِ

آثرتُ طاعَةَ حبه

واخترتُ معصيةَ المدام

لا أستفيدُ من المدا

م سوى منادمةِ الكرامِ

فإذا حننتُ إلى الندا

م فقد حننت إلى المدامِ

خلق النديم إذا صفا

أغناك عن صفو المدامِ

وفاخر كاتب نديماً فقال:أنا معونة وأنت مؤونة، وأنا للجد وأنت للهزل، وأنا للشدة وأنت للرخاء، وأنا للحرب وأنت للسلم. فقال النديم:أنا للنعمة وأنت للخدمة، وأنا للحظوة وأنت للمهنة، تقوم وأنا جالس، وتحتشم وأنا مؤانس، تدأب لمرضاتي، وتسعى لما فيه سعادتي، فأنا شريك وأنت معين، كما أنا تابع وأنا قرين فغلبه. وقلت:

ما أعافُ النبيذَ خيفةَ إثم

إنما عفتهُ لفقدِ النديمِ

ليس في اللهو والمدامةِ حظٌّ

لكريمٍ دونَ النديمِ الكريمِ

فتخيرْ قبلَ النبيذِ نديماً

ذا خلالٍ معطراتِ النسيم

وجمالٍ إذا نظرتَ بديع

وضميرٍ إذا اختبرتَ سليم

وأحسن ما قيل في احمرار لون الشارب من الشعر القديم قول الأعشى:

وسبيئةٍ مما تعتقُ بابلُ

كدمِ الذَّبيحِ سلبتها جريالها

الجريال: اللون. وقال بعض المحدثين:

نفضت على الأجسام حُمرةَ لونها

وسرتْ بلذَّتها إلى الأرواحِ

وأخذ الناجم قول الأعشى سلبتها جريالها فقال:

فخذها مشعشعةَ قهوة

تصبُّ على الليلِ ثَوْبَ النهارِ

ويسلُبها الخدُّ جريالَها

فتهديه للعينِ يومَ الخمارِ

إلا أن هذا فيه زيادة وهو قوله:

فتهديه للعين يوم الخمار

وهو من صفة حمرة العين من الخمار جيد إلا أن قوله مشعشعة قهوة رديء، ووجه نظم اللفظ أن يقال قهوة مشعشعة، ألا ترى أنك تقول خمر ممزوجة ولا تقول ممزوجة خمر، وإن كان جائزاً، فليس كل جائز حسن فاعلم ذلك. وقلت:

شقائقٌ كناظرِ المخمور

وأقحوانٌ كثغور الحورِ

ونرجسٌ كأنجم الدَّيجورِ

فشبهت ما يعتري بياض العين والحماليق، من الحمرة عند الخمار، مع سواد الحدقة بحمرة الشقائق حول سوادها. وقد أحسن أبو نواس في ذكر مزاج الكأس حيث يقول:

ألا دارها بالماءِ حتى تُلينها

فلنْ تُكرِمَ الصّهباء حتى تهينَها

أغالي بها حتى إذا ما مَلَكُتها

أدلت لإكرامِ الصديق مصونها

وصفراء قبلَ المزج بيضاءَ بعدَهُ

كأنَّ شعاعَ الشمسِ يلقاكَ دونها

ترى العينَ تستعفيك من لمعانِها

وتحسرُ حتى ما تُقل جفونَها

أخذه ابن دريد فقال:

وحمراء قبلَ المزج صفراء بعده

بَدَتْ بينَ ثوبي نرجس وشقائقِ

حكتْ وجنةَ المعشوقِ صرفاً فسلطوا

عليها مزاجاً فاكتستْ لونَ عاشق

ومن أجود ما قيل في صفة القيان:

بَدَتْ في نشوةٍ مثلَ ال

مها أدمجنَ إدماجا

يجاذبنَ من الأردا

فِ كثياناً وأمواجا

وقضباناً من الفض

ةِ قد أثمرتِ العاجا

ويسترنَ من الأبشا

رِ في الدِّيباج ديباجا

وقد لاثتْ من الكورِ

على مفرقها تاجا

فلما طفنَ بالمجل

سِ أفراداً وأزواجاً

تجاذبنَ فغيّينَ

كَ أرمالاً واهزاجا

وحركنَ من الأوتا

ر أمساداً وأدراجا

فلا لومَ على قلب

ك إن هيجَ فاهتاجا

ومن جيد ما قيل في بحة حلق المغني قوله أيضاً:

أشتهي في الغناء بحة حلقٍ

ناعم الصوت متعب مكدودِ

كأنين المحبِّ أضعفهُ الشو

قُ فضاهى به أنينَ العودِ

لا أحبُّ الأوتارَ تعلو كما لا

أشتهي الضربَ لازماً للعودِ

وأحبُّ المجنبات كحبي

للمبادي موصولة بالنشيدِ

كهبوبِ الصبا توسط حالاً

بينَ حالينِ شدَّة وركودِ

وقد أحسن ابن المعتز في صفة أنامل القينة:

وتلفظُ يمناها إذا ضربتْ بها

وتنثرُ يسراها على العودِ عُنّابا

وقلت:

وهيّجتْ ليَ من شوقٍ ومن فرحٍ

أيدٍ نثرنَ على الأوتار عُنّابا

لا عيبَ في العيش إلا خوفُ غيبتِكم

إنَّ السرورَ إذ ما غبتمُ غابا

ومن أحسن ما قيل في وصف المغني قول ابن المعتز:

ومغن ملحقٌ كلَّ نفسٍ

بهواها وهو للسكر عذرُ

لا يمدُّ الصوت فيه نفورٌ

لا ولا يقطعنه منه بهرُ

وأجمع من ذلك قول ابن الرومي:

تتغنى كأنها لا تغني

من سكون الأوصالِ وهي تجيدُ

مدَّ في شأوِ صوتها نفسٌ كا

فٍ كأنفاسِ عاشقيها مديدُ

ولها الدَّهر لاثمٌ مستزيد

ولها الدَّهر سامعٌ مستعيدُ

وللناجم من أبيات:

مندرة في كلِّ أصواتها

لا كالتي تندرُ في الندره

وقول الآخر:

إذا وقَّع بالعودِ

زمرنا بالكؤوس له

فأما أعجب ما قيل، في ذم المغني، والتنائي من سماعه، فقول ابن الرومي:

فظلتُ أشربُ بالأرطال لا طرَباً

عليه بل طَلَباً للسّكرِ والنومِ

ومن أحسن ما قيل في مجالس الشرب قول أبي نواس:

في مجلسٍ ضحكَ السرورُ بهِ

عن ناجذَيه وحلتِ الخمرُ

وقد أحسن ديك الجن في قوله:

كأنما البيتُ بريحانه

ثوبٌ من الندس مشقوقُ

ومثله قول الصنوبري:

وقد نظم الروض سمطيه من

سنان نؤيق إلى زجه

كفرجك خفتان وشي بد

بياضُ الغِلالة من فرجِهْ

ورأيت قوماً يستحسنون هذين البيتين وهما بالاستهجان أولى لا لرداءة معناهما ولكن لتكلف ألفاظهما، وليس التكلف أن تكون الألفاظ غريبة وحشية، بل وقد يكون الكلام متكلفا وإن كان ظاهر اللفظ إذا لم يوضع في موضعه وخولف به وجه الاستعمال. وقال السري، ولا أعرف في معناه أحسن منه، يدعو صديقاً له:

ألستَ ترى ركبَ الغمامُ يُساقُ

وأدمعه بين الرَّياضِ تُراقُ

وقد رقَّ جلبابُ النسيمِ على الثرى

ولكنْ جلابيبُ الغيومِ صفاقُ

وعندي من الرَّيحانِ نوع تحية

وكأسٌ كرقراق الخلوقِ دهاق

وذو أدب جلتْ صنائع كفه

ولكن معاني الشعرِ فيه دقاق

لنا أبداً من نثره ونظامهِ

بدائعُ حليٍ ما لهنَّ حقاق

وأغيد مهتزٌّ على صحنِ خدِّه

غلائلُ من صبغِ الحياءِ رقاقُ

أحاطتْ عيونُ العاشقينَ بخصرهِ

فهنَّ له دونَ النطاقِ نطاقُ

هذا البيت من قول المتنبي:

وخصرٍ تثبتُ الأبصار فيه

كأنَّ عليه من حدق نطاقا

وقد مر، وبيت السري أجود منه سبكاً ونظماً ورصفاً:

وقد نظم المنثور فهو قلادة

علينا وعقدٌ مذهبٌ وخناقُ

وعرفتنا بينَ السحائب تلتقي

لهن علينا كلة ورواقُ

تقسم زوارٌ من الهند سقفها

خفاف على قلب النديم رشاقُ

وليس في هذه الأبيات عيب إلا هذا الإيطاء، وهو من أسهل العيوب التي تعتري القوافي عندهم:

أعاجم تلتذُّ الخصام كأنها

كواعبُ زنجٍ راعهنَّ طلاقُ

أنسن بنا أنسَ إلا ماء تحببت

وشيمتها غدرٌ بنا وإباقُ

مواصلة والوردُ في شجراته

مفارق إلف حانَ منه فارق

فزرْفتيةً بردُ الشرابِ لديهمُ

حميمٌ إذا فارقْتَهم وغساقُ

وقلت:

وليلٍ ابتعتُ به لذَّةً

وبعتُ فيه العقلَ والدِّينا

أصابَ فيه الوصلُ قلبَ الجوى

وباتَ فيه الهمُّ مسكينا

وقد خلطنا بنسيم الصبا

نسيمَ راح ورياحينا

وأكؤسٌ الرَّاحِ نجومٌ إذا

لاحتْ بأيدينا هوتْ فينا

تضحك في الكأس أباريقنا

وحسبما يضحكنَ يبكينا

كأن أعلاها إذا كفرتْ

يعقد الكأس ثلاثينا

وقلت:

هذا حبيبٌ وصول

وذا رقيبٌ صرومُ

وذاك شرخُ شبابٍ

أغرّ وهو بهيم

وقهوةٌ وغناءٌ

وسامرٌ ونديمُ

فخذ نصيبك منه

فليس شيءٌ يدومُ

وهذا من أجمع ما قيل في هذا الباب. وقال الصنوبري:

يومٌ ذيولُ مزنه

على الثرى منسحبه

بروقهُ سافرةٌ

وشمسه منتقبه

فما سى سماءه

ضاحكة منتحبه

طلبتُ أقصى أملي

منه فنلتُ الطُلبه

بسيدينِ ارتقيا

منقبةً فمنقبه

واتفقا في كنيةٍ

والتقيا في مرتبه

نشربها عذراءَ قد

قامتْ بحقّ الشربه

أكرمُ ذخرٍ ذخرته

قامتْ بحقّ الشربه

في مجلس أطنابه

على العلا مطنبه

أكرمْ به يوماً مضتْ

ساعاتهُ المستعذبه

كلحظةٍ مخلوسةٍ

وقبلة مستلبه

وقلت:

عندنا طيبٌ وريحا

نٌ ونقلٌ وغناءُ

ومن المشروبِ لونا

نِ شمولٌ وطِلاءُ

ومن اللحم خليطا

ن طبيخٌ وشواءُ

ومن الحلواء ألوا

نٌ أحاد وثناء

ولنا غلمانُ صدقٍ

أدباءٌ أرباء

أرسلوا في الصحن ماءً

فكأنَّ الصحنَ ماء

وانثنا للحسنِ عدواً

فحواشيه رداءُ

فأت ننفِ الهمّ عنا

إنما الهمُّ بلاءُ

واغتنمْ لذَّةَ يومٍ

قد تخطاهُ العناءُ

فهو يطويك ويمضي

ليسَ للدُّنيا بقاءُ

ومن المشهور في صفة السكارى قول بعضهم:

مشوا إلى الرَّاح مشيَ الرَّخّ وانصرفوا

والرَّاحُ تمشي بهم مشيَ الفرازين

غدوا إليها كأمثالِ السهامِ مَضتْ

عن القسيّ وراحوا كالعراجين

وكانَ شربُهمُ في صدرِ مجلسهم

شربَ الملوكِ وناموا كالمساكين

ومثل البيت الأول:

راحوا عن الرّاح وقد بدَّلوا

مشىَ الفرازينِ بمشيِ الرّخاخِ

ومما يجري مع هذا قول الآخر:

تزيدُ حسا الكأس السفيهَ سفاهةً

وتتركُ أخلاقَ الكريمِ كما هيا

وإنَّ أقلَّ الناسِ عقلاً إذا انتشى

أقلهمُ عقلاً إذا كانَ صاحيا

ومن أحسن ما أنشد في الخيش: ما أنشدناه أبو أحمد، ولم يسم قائله، ورأيته بعد في ديوان السري:

وقد نشأتْ بينَ الكؤوس غمامةٌ

من النّدِّ إلا أنها ليسَ تهطلُ

وعلَّ بماء الوردِ خيش كأنهُ

على جلدهِ ثوبُ العروس المصندلُ

وقلت:

ظبيٌ يروقُ الناظرينَ بأبيضٍ

وبأسودٍ وبأخضرٍ وبأشكلِ

ومقوَّمٍ مميل القضيبِ مهفهفٍ

ومعوّجٍ كالصولجانِ محبلِ

ومفرَّج من خدِّه ومكفر

ومخلق من شعره ومسلسل

وبياض وجه بالصباح مقنع

وسواد فرع بالظلام مكلل

علقتْ أباريقُ المدام بكفه

كالبدرِ يعلق بالسماك الأعزل

وعلا دخانُ الندِّ أبيض ساطعاً

مثل الغمامةِ غير أن لم يهمل

فكأنما الكاساتُ في حافاته

شقرُ الخيولِ تجولُ تحت القسطلِ

ومن أبدع ما قيل في لذة الغناء قول الناجم:

شدْوٌ ألذُّ من ابتدا

ءِ العينِ في إغفائها

أحلى وأشهى من مُنى

نفسٍ وصدقِ رجائِها

وأجود ما قيل في الاصغاء إلى الغناء والسكوت له قول الآخر:

وأصغوا نحوها الآذانَ حتى

كأنهمُ وما ناموا نيامُ

ومن عجيب المعاني في الغناء قول أبي تمام:

حمدتُكَ ليلة شرفُتْ وطابتْ

أقام سهادُها ومضى كراها

سمعتُ بها غناءُ كان أولى

بأن يقتادَ نفسي من عناها

ومسمعةً تفوتُ السمع حسناً

ولم تصممهُ لا يصممْ صداها

مرتْ أوتارها فشفتْ وشاقت

ولو يسطيعُ حاسدها فداها

ولم أفهم معانيها ولكنْ

ورتْ كبدي فلم أجهل شجاها

فكنتُ كأنني أعمى معنى

بحبّ الغانياتِ ولا يراها

وكان ينبغي أن يقول فاداها حاسدها وليس لقوله فلا يسطيع حاسدها معنى مختار. وأول من أتى بهذا المعنى حميد بن ثور في قوله:

عجبتُ لها أنى يكون غناؤها

فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما

ولم أرَ محقوراً لها مثل صوتها

أحس وأشجى للحزين وأكلما

ولم أرَ مثلي شاقه صوتُ مثلها

ولا عربياً شاقَه صوتُ أعجما

ومن أحسن أوصاف العود إذا احتضن تشبيههم إياه بالولد في حجر أمه وتشبيه إصلاحه بعرك أذنه فمن أحسن ما قيل في ذلك وأجمعه قول بعضهم:

فكأنه في حجرها ولدٌ لها

ضمتهُ بينَ ترائبٍ ولبان

طوراً تدغدغ بطنه فإذا هفا

عركتْ له أذناً من الآذان

ومثله قول الناجم:

إذا احتضنتْ عابثٌ عودَها

وناغتهُ أحسنَ أن يعربا

تدغدغُ في مهلٍ بطنهُ

فتسمعنا مضحكاً معجبا

وذكر الضحك مع الدغدغة جيد. ونظم كشاجم قول الحكماء إن العود مركب على الطبائع الأربع فقال:

شَدَتْ فجلتْ أسماعنا بمخفّف

يحدِّثها عن سرِّها وتحدثه

مشاكلة أوتارهُ في طباعها

عناصر منها أحدثَ الخلقَ محدثه

فللنار منه الزيرُ والأرض بمُّه

وللريح متناهُ وللماءِ مثلثه

وكلُّ امرىء يرتاحُ منهُ لنعمةٍ

على حسب الطبع الذي منهُ يبعثه

شكا ضربَ يمناها فظلتْ يسارها

تطوقهُ طوراً وطوراً ترعِّثه

فما برحَتْ حتى أرتنا مخارقا

يجاذبهُ في أحسنِ النقرِ عثعثه

وحتى حسبت البابليين القنا

على لفظها السحر الذي فيه تنفثه

وأجود ما قيل في اتفاق الضرب والزمر قول هارون بن على المنجم:

غصن على دعصِ نقا منهالِ

سعى بكأسٍ مثل لمعِ الآلِ

وفاتناتِ الطرفِ والدَّلالِ

هيفِ الخصورِ رجح الأكفال

يأخذنَ من طرائفِ الأرمال

ومحكمِ الخفافِ والنعال

يجري مع الناسِ بلا انفصال

مثل اختلاط الخمرِ بالزّلال

يدعو إلى الصّبوةِ كلّ سال

يصرعُ كلَّ فاتكٍ بطّال

ومن حرام اللهو والحلالِ

أكرم من مصارعِ الأبطال

وقال كشاجم في وصف العود والقينة وأحسن:

تميسُ من الوشي في حُلةٍ

تجرِّرُ من فضل أذيالِها

وتحملُ عوداً فصيحَ الجواب

يضاهى اللحونَ بأشكالها

لهُ عنقٌ مثل ساقِ الفتاة

ودستانةٌ مثل خلخالها

فظلتْ تطارحُ أوتارَهُ

بأهزاجها وبأرمالها

وتعملُ جساً كجسَّ العروق

وتلوى الملاوي بأمثالها

وقيل لرجل أي المغنين أحذق ؟ قال: ابن سريج كأنه خلق من كل قلب فهو يغني لكل إنسان بما يشتهيه. وأخبرنا أبو القاسم عن العقدي عن أبي جعفر عن المدائني قال: قال المغيرة للوليد بن يزيد بن عبد الملك: إني خارج إلى العراق فاستهد ما أحببت فقال: إهدلي بربطا من عمل زلزل فأهدي إليه عوداً وكتب إليه: قد بعثت به أرسح البطن، أحدب الظهر، صافي الوتر رقيق الجلد، وثيق الملاوي كهيئة طاليه، وملاحة محتضنه، وحسن الضارب به، وطرب المستمع له. ومن أحسن ما قيل في جس الضارب ما تقدم ذكره وهو قول الناشىء:

وكأن يمناها إذا ضربت بها

وقال ابن الحاجب:

إذا هي جستهُ حكتْ متطبباً

يجيلُ يديه في مجسِّ عروقِ

وقد استحسن الناس هذا البيت، وأجازوه، وليس في طريقة الاختيار، لأن الطبيب يجس بيد واحدة، وكذلك الضارب فليس لذكر اليدين وجه. ومن جيد ما قيل في صحة عبارة العود عن الغناء قول ابن أبي عون:

تناجيك بالصوت أوتارهُ

فتوفيك ألسنهُ أحرفه

وأبين منه قول الناجم:

إذا نَوت الضربَ قبلَ الغناء

أنشدنا شعرَها عودُها

وقلت:

رُبَّ ليل كساكَ ثوبَ نعيم

بينَ ساقٍ وسامرٍ ونديمِ

وكؤوس جرَتْ وراءَ كؤوس

وأعانتْ على طريق الهموم

ولنا مزهرٌ كمثلِ فطيم

في يدي مطرب كأمِّ الفطيم

وسَموا صدرَهُ بعاجٍ وذيل

فزهتهُ محاسنُ التوسيم

مثل أرضٍ تحبرتْ بأقاح

أو سماء تكللتْ بنجوم

ذو ملاوٍ سودِ الفروع وحُمر

مثل أطرافِ فرحةٍ ونعيم

ووسانين لا تجولُ عليهِ

كخلاخيل ماردٍ وظلوم

أحمر الزير أسود البم أحوى

هلْ رأيتم جداولَ التقويم

ومن جيد ما قيل في سرعة الضرب والجس قول كشاجم:

وترى لها عوداً تحركهُ

وكلامه وكلامها وفقا

لو لم تحركهُ أناملها

كانَ الهواءُ يفيدُهُ نطقا

جستهُ عالمةً بحالتهِ

جسِّ الطبيبِ لمدنفٍ عرقا

فحسبت يمناها تحرِّكهُ

رعداً وخلت يمينها برقا

وقال بعضهم في رقاص:

عجبتُ من رجليهِ تتبعاته

يعلوهما طوراً ويعلوانه

كأنَّ أفعيين تلسعانه

ومما لم يقل مثله في إزالة الخمار، بمعاودة الشرب قول الأعشى:

وكأس شربتُ على لذَّة

وأخرى تداويتُ منها بها

كل من أخذ هذا المعنى منه قصر في العبارة عنه، ولا يجوز أن يؤتى بمثله. قال أبو نواس:

وداوني بالتي كانت هي الداء

فحشا الكلام بما لا وجه له وهو قوله كانت هي الداء. وقال المجنون:

كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

ولا يقع هذا مع قول الأعشى موقعاً. ومثله قول البحتري:

تداويتُ من ليلى بليلى فما اشتفى

من الداء من قد باتَ بالداءِ يشتفي

ومن جيد ما قيل في الدنان والزقاق قول الأخصل:

أناخوا فجروا شاصيات

وقد مر. وقد أحسن ابن المعتز في صفة الدنان:

ودنانٍ كمثلِ صفِّ رجالٍ

قد أقيموا ليرقصوا دستنبدا

وقال العلوي الأصفهاني في الزق:

عجبتُ من حبشيّ لا حَراكَ به

لا يدركُ الثأرَ إلا وهو مَذْبُوحُ

طوراً يرى وهو ين الشرب مضطجعٌ

رغو الزقاقٍ وطوراً وهو مشبوحُ

وفي ألفاظ العلوي زيادة على معناه في أكثر شعره، وأخذ البيت الأول من قول بشار يصف ركب المرأة:

وصاحب مطرق في طولِ صحبتهِ

لا ينفعُ الدَّهرَ إلا وهو محمومُ

وإن كان المعنيان مختلفين، إلا أن حذو الكلامين حذو واحد. وقال ابن المعتز:

إن غدا ملآن أمسى فارغاً

كأسير الزِّقِّ أدى فعتق

وقال القطامي:

استودعتها رواقيداً مقيرةً

دكن الظواهر قد برنس بالطينِ

مكافحات لحرِّ الشمس قائمة

كأنهنَّ نبيطٌ في تبابين

وقال آخر:

تحسبُ الزقَّ إذا أسندته

حبشياً قطعتْ منهُ الشوى

وقال العلوي الأصفهاني يصف شراباً في ظرف خزف:

مخدَّرَةٌ مكنونةٌ قد تكشفتْ

كراهبةٍ بينَ الحسانِ الأوانسِ

وأترابُها يلبسنَ بيضَ غلائل

هيَ العُريُ مقرورٌ بها كلُّ لابسِ

مشعشعةٌ مرهاءُ ما خِلتُ أنني

أرى مثلها عذراءَ في زيِّ عانسِ

المعنى جيد وفي الألفاظ زيادة وليس لها حلاوة. وقال آخر في الراووق:

كأنما الرَّاووقُ وانتصابه

خرطومُ فيلٍ سقطتْ أنيابهُ

وفيه:

سماء لاذ قطرَها رحيقُ

رَحْبُ الذُّرى ينحط فيه الضيقُ

ماء حقيق لو جرى العقيقُ

حتى إذا ألهبها التصفيقُ

صحنا إلى جيراننا الحريقُ

وأنشد أبو عثمان:

فبتُّ أرى الكواكبَ دانياتٍ

ينلنَ أناملَ الرَّجلِ القصيرِ

أدافعهن بالكفين عني

وأمسحُ عارضَ القمرِ المنيرِ

أبو حكيم فمن حكمت كأسك فيه فاحكم له بإقالة عند العثار. في ضعف السكر:

فديتك لو علمتَ بضعفِ سكري

لما سقيتني إلا بمسعط

بحسنك أنَّ خماراً بجنبي

أمُرُّ ببابهِ فأكادُ أسقط

ولابن الرومي في نبيذ حامض:

قد لعمري اقتصصتَ من كلِّ ضرس

كان يجني عليك في رغفانك

قد ردَدناهُ فاتخذهُ لسكبا

جك والنائبات من أدقانك

واتخذهُ على خوانكِ خلا

فهو أولى بالخل من إخوانك

أضرستنا حموضةٌ فيه تحكي

رعدة تعتريك من ضيفانك

معنى آخر:

إسقني بالكبير إني كبير

إنما يشربُ الصغيرَ الصغيرُ

لا يغرنك يا عبيد خشوعي

تحتَ هذا الخشوع فسقٌ كثيرُ

وكان ابن عائشة ينشد:

لما رأيتُ الحظّ حظَّ الجاهلِ

ولم أرَ المغبونَ غيرَ العاقلِ

رحلت عنا من كروم بابل

فبتُّ من عقلي على مراحلِ

وقال غيره في نبيذ الدبس:

علني أحمد من الدوشاب

شربة نفضت سوادَ الشبابِ

لو تراني وفي يدي قدحُ الدو

شابِ أبصرتَ بازياً في غرابِ

وقال بعضهم في كيزان الفقاع:

لستُ بناف خمار مخمور

إلا بصافي الشرابِ مقرورِ

يطيرُ عن رأسهِ القناع إذا

نفست عنه خناق مزرور

يميلُ أعلاهُ وهو منتصبٌ

كأنهُ صولجانُ بللورِ

وقلت:

وأبيض في أحشاء خضر كأنها

قصارُ رجال في المسول قعودُ

وبعضهم في الطنبور:

مخطفُ الخصرِ أجوفُ

جيدُهُ نصفُ سائره

أنطقتهُ يدا فتى

فاتنِ اللحظِ ساحره

فحكى عن ضميرهِ

ما جرى في خواطره

وقال آخر في المعزفة:

معلنةُ الأوتارِ صخّابةٌ

لها حنينٌ كحنينِ الغريبِ

مكسوَّةٌ أحشاؤها حُلّةً

بيضاءَ من جلدِ غزالٍ ربيب

كأنما تسعةُ أوتارهِ

نُصبنَ أشراكاً لصيد القلوبِ

آخر الباب والحمد لله وحده. آخر الباب والحمد لله وحده. ^

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل السماء سقفاً محفوظاً، شيد بنيانها، ووثق أركانها، فأمنها من التهافت، وبراها من التفاوت: 'فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين، ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير'. وصير لونها أوفق الألون لأبصار الناظرين، وأحلاها في أنفس المتوسمين، وحبرها بالنجوم، وطرزها بالرجوم، وبيض أعلام صبحها، وسود ذوائب ليلها، وجلا غرة شمسها، ومسح صفحة قمرها، وقدره في منازله، وخالف بين مناظره، لتعملوا عدد السنين والحساب، ما خلق الله ذلك إلا بالحق. وصلى الله على سيدنا محمد، سيد الأنبياء، وأكرم الأصفياء، وعلى عترته وأصحابه المختارين وسلم تسليماً كثيراً.

هذا كتاب المبالغة في

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي