ديوان المعاني/ذكر العلل والأمراض والمراثي والتعازي والزهد

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر العلل والأمراض والمراثي والتعازي والزهد

ذكر العلل والأمراض والمراثي والتعازي والزهد - ديوان المعاني

ذكر العلل والأمراض والمراثي والتعازي والزهد

أحسن ما قيل في الرمد: قال الواثق، أنشدناه أبو أحمد، عن الصولي قال: وجدت مع هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، من شعر الواثق بالله في خادم له قد اشتكت عينه:

لي حبيبٌ قد طال شوقي إليه

لا أسميهِ من حذاري عليه

لم تكن عينهُ لتجحدَ قتلي

ودمي شاهدٌ على جفنيه

ومن ههنا أخذ هذا المعنى فتدوول قال ابن الرومي أو الناجم:

قالوا اشتكت عينهُ فقلتُ لهم

من كثرةِ القتلِ مسها الوَصَبُ

حُمرَتها من دماء من قتلت

والدمُ في النّصلِ شاهدٌ عجب

ومن بديع ذلك وغريبه ما أنشدناه أبو أحمد، عن الصولي أيضاً:

يكسِر لي طرفاً به حمرةٌ

قد خلطَ النّرجِسَ في وردهِ

ما احمرت العينُ ولكنه

يكحلها من وردتيْ خدِّهِ

أخذه من بعض أهل زمانه:

قالوا بدت في عينه حمرةٌ

قد حازها من وردةِ الخدِّ

فقلت لم يرمدْ ولكنه

يصاحفُ النرجسَ بالوردِ

ومن مليح ما قيل في شكاية الحبيب قول العباس بن الأحنف:

زعموا لي أنها صارتْ تحم

ابتلى الله بهذا من زعمْ

اشتكتْ أكمل ما كانت كما

يكسف البدر إذا ما قيل تم

ومما قيل في اصفرار اللون من العلة قول أبي تمام:

معدنُ الحسنِ والملاحةِ قد أص

بح للسّقم مَعدِناً وقراراً

لم تشنْ وجههُ الجميلَ ولكنْ

جَعلتْ وَرْدَ وجنتيهِ بهارا

ونحوه قول أحمد بن إسحاق الطالقاني:

لقد حلّتِ الحمّى بساحةِ خَدّهِ

فأبدلتِ التّفاحَ بالسوسنِ الغضِّ

والأصل في ذلك، قول عبد بني الحسحاس، أخبرنا أبو أحمد، قال أخبرنا أبو إسحاق الشطبي، قال حدثنا ابن أبي سعيد، قال: حدثنا الخزامي، قال: حدثنا عبد الملك الماجشون، عن يوسف بن عبد العزيز الماجشون، قال: كتب عبد الله بن عامر إلى عثمان بن عفان: إني اشتريت لك عبداً حبشياً شاعراً. فكتب إليه عثمان: لا حاجة لي فيه، فإن قصارى الشاعر منهم، أن يهجو أعراضهم، ويشبب بكريماتهم. فاشتراه بنو الحسحاس، وكان يكسر في كلامه، فقال يوسف: فحدثني من رآه في شجرة واضعاً إحدى رجليه على الأخرى يقرض الشعر وينسب بأخبث نسيب ويقول:

ماذا يُريدُ السقامُ من قمرٍ

كلُّ جمالٍ لوجههِ تبعُ

ما يبتغي خابَ من محاسنها

أمالهُ في القباحِ متسّع

لو كانَ يبغي الفِداءَ قلتُ له

ها أنا دونَ الحبيبِ يا وجعُ

ثم يقول لنفسه: أحسنك الله يريد أحسنت. وكان كما حدث عثمان رضي الله عنه. فإنه ما زال يهجو مواليه، ويشبب بفتيانهم، حتى قتلوه فضحكت منه امرأةٌ وقد ذهبوا ليقتلوه فقال فيها:

فإن تضحكي مني فيا ربَّ ليلةٍ

جعلتكِ فيها كالقباء المفرّجِ

وقال أيضاً:

ولقد تحدَّرَ من جبينِ فتاتكم

عَرَقٌ على وجهِ الفراشِ وطيبُ

ومن عجيب ما يروى له قوله يمدح نفسه:

إن كنتُ عبداً فنفسي حُرَّةٌ كرماً

أو أسودَ اللونِ إني أبيضُ الخلقِ

وهذا أحسن ما مدح به أسود. ومن أحسن ما وصف به نحول العليل، قول أبي نواس الحسن بن هانىء:

يا قمراً للنصفِ من شهرهِ

أبدى ضياءً لثمان بقين

ومن أحسن ما قيل في تهوين الحمى على المحموم قول محمد بن زياد الكاتب:

قالوا محمدٌ المحمدُ مُوجعُ

والشمسُ تُكسَفُ ساعةً وتعودُ

فلئن حُمِمْتُ فلا حُممت فإنها

داءُ الأسُودِ وفي الرجالِ أسودُ

وهذا عندي أحسن من قول البحتري:

وما الكلبُ محموماً وإن طال عُمرهُ

ألا إنما الحمى على الأسدِ الوردِ

على أنه معنى مولد وشيء تدعيه العامة ولا تعرف صحته. وقلت:

وقد سرَّني أني رأيتُكَ واطئاُ

على عقبي داءٍ تراخَى فأدبرا

وقد ظلّ يبغي رائدَ البرءِ مورداً

لديكَ ويبغي فارِطَ السّقمِ مصدرا

ولا غرْوَ أن يغشاك عَارضُ علّةٍ

فإني رأيتُ الوردَ يغشى الغضنفرا

ولو كنتَ نجماً ما كسفتَ وإنما

كسوفُك إن أمسيتَ بدراً مُنوّرا

ومن ذلك قول علي بن العباس النوبختي:

لئنْ تخطّتْ إليك نائبةٌ

حطّتْ بقلبي ثقلاً من الألمِ

فالدهرُ لا بُدّ محدِثٌ طبعاً

في صفحتيْ كلِّ صارمٍ خَذمِ

وفي ألفاظ هذا البيت زيادة على معناه. وقال أيضاً في رجل اعتل:

طالَ فكري تعجّباً لمصوغٍ

ذهباً كان يقبلُ الأقذاءَ

والحسامُ الهذاذ يزدادُ حُسناً

كلما زادَهُ الصِّقَالُ جلاءً

والرغبة من هذين البيتين في معناهما، وأما سكبهما ووصفهما فلا خير فيه، والبيت الثاني أصلح، والبيت الأول متكلف جداً. وقال عبد الصمد بن المعذل يذكر الحمى:

فطرواً ألقيها سُخنةً

وطوراً ألقيها فَتره

وقد أعقبتْ خلفي حِدَّةً

وأورثني إلفها ضجره

فللعبدِ إن غاظني لطمةٌ

وللحرِّ إن ساءني زجره

ويربو الطحالُ إذا ما شبعت

فتعلو الترائب والصدره

وأمسى كأني من معدتي

لبستُ ثيابي على ذُكره

أسائلُ أهلي عن سحنتي

وأمنحهم نظرةً نظره

وأجزع إن قيل بي صفرةٌ

وأشفقُ إن قيل بي حُمره

ومن أجود ما قيل في الفصد قول ابن الرومي:

أيها البدرُ لم تَزَلْ في كمال

الأمرِ وفي النماء هلالاً

كيفَ كانت عقبى افتصادك كانت

صحةً مستفادةً واندمالا

واعتدالاً بينَ المزاج كا أو

تيتَ في الخلقِ والخلاقِ اعتدالا

فعلَ الله ذاك أنك ما زل

تَ المرضيّ ما ارتضى فعَّالا

وفي الفصد، شعرٌ كثيرٌ ليس في أكثر ما مر بي، مختارٌ إلا ما أنشدته لعلي بن عبد العزيز الجرجاني:

يا ليتَ عيني تحملتْ ألمك

وليتَ نفسي تقسمتْ سقمكْ

أو ليتَ كفّ الطبيب إذ فصدتْ

عرقك أجرى من ناظريَّ دمك

أعرتهُ حسنَ وجنتيك كما

تعيره إن لثمتَ من لثمك

طرفك أمضى من حدِّ مبضعهِ

فالحظ بهِ العرقَ واغتنم ألمك

ومن مليح ما قيل في الزكام، ما أخبرنا به أبو أحمد، عن الصولي، عن أبي ذكوان الجرمي، قال: دعا عيسى بن علي عبد الله المقفع إلى الغداء فقال:أعزك الله لست يومي هذا للكرام باكيل، قال ولم ؟ قال لأني مزكومٌ، والزكمة قبيحة الجوار، مانعة من عشرة الأحرار. قال: وكانت عجوز من بني عجل تقول: حقر من يحقر الزكام. ولم يمر بي في الصداع شيء مليح أثبته لك غير أني سمعت لبعضهم أبياتاً في صغر العمامة، حتى أشبهت عصابة، يعصب بها الصداع وهي هذا الأبيات:

وقدّمتَ إلي وعداً بأنك مُلبسي

ثياباً إليهنَّ المحاسنَ تُنسبُ

فلا تكسني منهنَّ إلا عمامةً

بأمثالها في النقص تضرَبُ

يقولُ أناسٌ لي إذا ما لبستها

أرأسك هذا من صداع مُعصَّبُ

على أن رصفها ليس بمختار. ولبشار بيت حسن فيه ذكر الصداع وهو وقوله:

حلَّ من قلبهِ مَحَلَّ شرابٍ

يشتهى شرْبهُ ويخشى صُدَاعهْ

وقد قارب الآخر:

لطيرتي بالصداعِ نالتْ

فَوْقَ منالِ الصداعِ مِني

وجدتُ فيهِ اتفاقَ سوءٍ

صدَّعنّي مثل صدَّعني

وقلت في المعنى الأول:

يقومُ بقامةٍ كنواةِ قسبٍ

وينشر لحية مثلَ الشراعِ

عليهِ عمامةٌ قَصرَتْ ودّقتْ

فتحسبهُ تعصبَ من صُداعَ

وقال بعضهم في الجدري:

وجههُ للحسنِ معدنْ

فتأملْ وتبيّنْ

نقَطٌ من جُدرِيّ

كد باقي معَيَّنْ

وأما النقرس، فقد مربي فيه أبيات جياد، أخبرنا أبو أحمد، عن الصولي، عن سوار بن أبي شراعة عن عبد الله بن محمد الدمشقي الكاتب، عن محمد بن الفضل بن إسماعيل بن علي عبد الله، أن أبا الفضل ناله نقرس في رجله فدخل إليه أبوه إسماعيل يعوده فقال له كيف أنت يا بني ؟ فقال:

أشكو إلى الله ما أُصبتُ بهِ

من ألمٍ في أناملِ القدمِ

كأنني لم أطأ بها كَبِداً

من حاسدٍ سرَّ قلبهُ ألمي

والحمد لله لا شريكَ لهُ

لحمي للأرضِ بعدها ودمي

ما مِنْ صحيحٍ إلا ستنقله

الأّيامُ من صحة إلى سقمِ

أخبرنا أبو أحمد، عن الصولي، عن المبرد وأبي العيناء، قال: كان أبو علي الحرمازي في ناحية عمرو بن مسعدة، وكان يجري عليه فخرج عمرو إلى الشام مع المأمون وتخلف الحرمازي ببغداد لنقرس باله فقال:

أقامَ بأرض الشام فاختلَّ جانبي

ومطلبهُ بالشام غيرُ قريبِ

ولا سيما من مفلسٍ حلفَ نقرس

أما نقرسٌ في مفلسٍ بعجيب

وأخبرنا أبو أحمد، عن الصولي، عن محمد بن زكريا، قال: ذكر الأعرابي رجلاً قد أثرى فقال: قد تنقرس، وذلك لقول الناس: إن النقرس يعرض لذوي النعمة والترفة، ومنه قول الأعرابي:

فصرتُ بعدَ الفقرِ والتأيس

يخشى عليَّ القومُ داءَ النقرسِ

ويقال للرجل العالم نقرس، وللداهية نقرس قال المتلمس:

ويخشى عليك من الحباء النقرس

ومن مليح النوادر ما أخبرنا به أبو أحمد، عن الصولي، عن يموت بن المزرع، قال: حضر الجماز عند أبي يوماً، ودخل رجلٌ فقال له: ما أخرك عنا ؟ فقال: أصابتني خلفه أما تري وجهي ؟ فقال الجماز: ما أبين الاختلاف على وجهك. وقال المتنبي في الحمى:

وزائرتي كأنَّ بها حياءً

فليسَ تزورُ إلا في الظلامِ

جعلتُ لها المطارفَ والحشايا

فعافتها وباتتْ في عظامي

إذا ما فارقتني غسَّلتني

كأنا عاكفانِ على حرام

وهذا البيت معيب، لأن الغسل غير مقصور على الحرام وحده، بل هو من الحلال والحرام جميعا، فليس لتخصيص الحرام به وجه. وقلت في حمى نالتني:

وأخبر أني رحتُ في حلة الضنى

لياليَ عشراً ضامها الله من عشرِ

تنفضني الحمَّى ضحى وعشيةً

كما انتفضتْ في الدّجنِ قادمتيْ نَسر

تذرُّ عليّ الورس في وضح الضحى

وتبدله بالزعفرانِ لدَى العصرِ

إذا انصرفتْ جاء الصداع مشمراً

فأربى عليها في الأذيةِ والشرِّ

وتجعلُ أعضائي عيوناً دوامعا

تواصل بين السكت والسجم والهمرِ

فتحسبه طلاًّ على أقحوانة

وعهدي به يحكى حباباً على خمرِ

ولما تمادتْ عذتُ منها بحميّة

كمنْ ترك الرمضاء وانفل في الجمرِ

وما منهما إلا بلاءٌ وفتنةٌ

وضرٌّ على الأحرار يا لك من ضر

من مرض لمرض الجفون:أنشدني أبو أحمد، عن الصولي، قال: أنشدني أبو عبيد الله ابن عبد الله لنفسه:

تمارضتَ لما تكنْ لك علةٌ

وقلتَ شهيدي ما بطرفي من السقم

فلا تجعلنْ سقماً بطرفك علةً

فقد كانَ ذاك السقم في صحةِ الجسمِ

وقال غيره:

أحببتُ من أجلهِ منْ كان يشبهه

وكلُّ شيء من المعشوقِ معشوقُ

وقد جلبتُ بجسمي سُقْم مقلته

كأنَّ جسمي مِن عينيهِ مسروقُ

وقال الأخيطل:

كيف يضني بعد ما كا

ن الضَّنى عوناً لعينهْ

وقال ابن الرومي وقد مرض فتخلف اخوانه عن عيادته:

عليلكم لا يعادُ من عللهْ

وضيفكم لا يسَدّ من خللهْ

لا إن جفوتم دنا المماتُ ولا

إن زُرتمُ تُنسؤنَ في أجلهْ

ما ضرَّ مجفوَّكم جفاؤكمُ

بالأمس في جسمه ولا أملهْ

وأنشدني أبو أحمد، عن الصولي، لمحمد بن محمد بن إبراهيم اليزيدي:

ما لي مرضتُ فلم تعدْ

ورغبتُ فيك فلم تجُدْ

الحبُّ يُذهِبُه الأذى

فاحذرْ عليه ولا تعد

وهذا شعرٌ مطبوعٌ مختار، والبيت الأخير مأخوذ من قول الأعرابي:

فإني رأيتُ الحبَّ في القلب والأذى

إذا اجتمعا لم يلبث الحبُّ يذهبُ

وقلت:

وقد عادني الإخوانُ من كلِّ جانب

وما قصروا في العرفِ والفضل والبرِّ

فلمْ لم تكنْ فيهم فيكمل حسنهم

أيا ظالماً أخلى النجومَ من البدرِ

وإذ كنتَ لم تنهضْ إليَّ ولم تكد

فلم لمْ تسلْ عني فتخبر عن أمري

ومالك لم تبعثْ إليَّ بأسطرٍ

تمجمجها إحدى يمينك في ظهرِ

تضنُّ بتسليم وزرةِ ساعةٍ

فكيف يُرجَّى جودُ بادرةِ الشعرِ

إذا لمْ تكونوا للحقوقِ فمنْ لها

وأنتم كرامُ الناسِ في البدوِ والحضر

وأنتَ إذا أنحيتَ تفري أديمَها

فما ذنبُ ذي جهلٍ فرَى مثلَ ما تفري

وما لعداةِ العلم تذكرُ عيهمْ

وأنت على أمثالِ غايرهم تجري

ومن الغريب البديع مدح الموت وهو قول ابن الرومي:

قد قلت إذْ مدحوا الحياةَ فأكثروا

للموتِ ألفُ فضيلةٍ لا تُعرفُ

فيها أمانُ لقائهِ بلقائهِ

وفراقُ كلِّ مُعاشرٍ لا يُنصِفُ

ومن أحسن ما قيل في مكابدة النفس عند الموت قوله أيضاً:

بات الأميرُ وبان بدرُ سمائنا

هذا يُودَّعنا وهذا يكسفُ

ولعل ذلك مأخوذ من قول الأول:

ألمْ يبلغك والأنباء تنمى

وللدنيا بأهليها صروفُ

صريعٌ لم يُوَسِّدهُ قريب

ولم يشركه في الشكوى أليفُ

يظلُّ كأنه قمرٌ مُنيرٌ

يجولُ على محاسنهِ كسوفُ

ولهذا البيت رونق عجيب وطلاوة حسنة. ومن عجيب ما جاء في وصف المصيبة قول حذيفة بن اليمان:إن الله تعالى لم يخلق شيئاً إلا صغيراً ثم يكبر، إلا المصيبة فأنها خلقت كبيرة ثم تصغر. وهذا قول مصيب لا يتمارى به ومنه أخذ قوله:

وكما تَبلى وجوهٌ في الثّرى

فكذا يَبلى عليهنَّ الحزنُ

ولا أعرف في التعزي عن المصيبة، كلاماً أحسن تقسيماً، من قوله الأعرابي ومات له ثلاثة بنين، في يوم واحد، فدفنهم وعاد إلى مجلسه، فجعل يتحدث كأن لم يفقد واحداً فليم على ذلك فقال:ليسوا في الموت ببدع ولا أنا في المصيبة بأوحد، ولا جدوى للجزع فعلام تلومونني. فهذه الثلاثة الأقسام لا رابع لها. وعزي رجل رجلاً، وقد ولدت امرأته ابناً وماتت في نفاسها، فقال أعظم الله أجرك فيما أباد وأجزل فيما أفاد:ولا أعرف أحداً أجاد هذا المعنى، كما أجاده عبد الملك بن صالح الكاتب:أخبرنا أبو أحمد، عن الصولي قال: قيل للرشيد إن عبد الملك بن صالح، يعد كلامه، ويفكر فيه، فلذلك بانت بلاغته، فأنكر ذلك الرشيد، وقال: هو طيع فيه، ثم أمسك حتى جاء يوماً، ودخل عبد الملك فقال للفضل بن الربيع: إذا قرب من سريري، فقل له ولد لأمير المؤمنين في هذه الليلة ابن، ومات له ابن فقال له الفضل في ذلك، فدنا عبد الملك فقال:يا أمير المؤمنين، سرك الله فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعلها واحدة بواحدة ثواب الشاكرين، وأجر الصابرين. فلما خرج، قال الرشيد: هذا الذي زعموا أنه يتصنع للكلام ما رأى الناس أطبع من عبد الملك في الفصاحة قط. وعزى أعرابي رجلاً فقال: لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها. وأحسن ما قيل في مدفون، قول ابن الرومي في بستان جارية أم علي بنت الراس:

لله ما ضمنتْ حفيرتُها

من حُسنِ مرأىً وطُهرِ مُختبرِ

أضحتْ من الساكني حفائرِهمْ

سُكنى الغوالي مداهنَ السُّررِ

لو علمَ القبرُ من أتِيحَ له

لانخفضَ القبرُ غير محتفرِ

وهذا البيت مأخوذ من قول الأول:

لو علمَ القبرُ من يواري

تاهَ على كلِّ مَنْ يليه

وقالوا أحسن مرثيه للعرب ابتداءً قول أوس بن حجر:

أيتها النفسُ أجملي جَزَعاً

إن الذي تحذَرِينَ قد وقعا

وأحسن مرثية لمحدث ابتداءً قول أبي تمام الطائي:

أصمَّ بك الداعي وإن كانَ اسمعا

وأصبحَ مغنى الجود بعدك بلقعا

فقال فيها:

فتىً كان شرباً للعُفاةِ ومرتعى

فأصبح للهنديةِ البيضِ مرتعا

إذا ساءَ يوماً في الكريهةِ منظراً

تصلاهُ علماً أن سيحسنُ مسمعا

فإن ترم عن عُمرٍ تدانى به المدى

فخانك حتى لم يجدْ فيك منزعا

فما كنتَ إلا السيفَ لاقى ضريبةً

فقطعها ثم انثنى فتقطعا

وقالوا: أرثى بيت قالته العرب، قول متمم بن نويرة، في أخيه مالك، قتل في الردة، قتله خالد بن الوليد:أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد، عن أبي حاتم، عن الأصمعي، قال: كان متمم بن نويرة، قدم العراق فأقبل لا يرى قبراً إلا بكى عنده، فقيل له: يموت أخوك بالملا وتبكي على قبره بالعراق ! فقال:

لقد لامني عند القبورِ على البكا

رفيقي لتذارفِ الدموعِ السوافكِ

وهذا البيت غير مختار الرصف عندي وفي ألفاظه زيادة على معناه:

أمنْ أجلِ قبرِ بالملا أنت نائحٌ

على كلِّ قبر أو على كلِّ هالكِ

فقلت له إنَّ الشجي يبعثُ الشجى

فدعني فهذا كلهُ قبرُ مالك

يقول: قد ملأ الأرض مصابه عظماً، فكأنه مدفون بكل مكان. وهذا أبلغ ما قيل في تعظيم الميت. ومنه أخذ القائل قوله أخبرنا به أبو أحمد، عن أبن الأنباري، عن ثعلب عن الرياشي لرجل يرثي عمر بن عبد العزيز، وهو عندي من أرثى ماقيل:

لهفي عليك للهفة من خائف

كنتَ المجيرَ لهُ وليسَ مجيرُ

عمتْ صنائعهُ فعمَّ مُصابهُ

فالناسُ فيهِ كلهم مأجورُ

فالناسُ مأتمهمْ عليهِ واحِدٌ

في كلِّ وادٍ رَنَّةٌ وزفيرُ

يثني عليك لسان من لم تولِه

خيراً لأنك بالثناءِ جدير

ردَّتْ صنائعه إليه حياتَه

فكأنه من نشرها منشورُ

والصحيح أن يقول منشر لأنه يقال انشرالله الموتى فنشروا هم. وقالوا أرثى بيت قالته العرب قول المحدث:

على قَبْرِهِ بينَ القبورِ مُهابّةٌ

كما قبلها كانَتْ على صاحبِ القبرِ

وقالوا بل قول الآخر:

أادوا ليخفوا قَبرَهُ عن عَدُوِّهِ

فطيبُ تُرابِ القبرِ دَلَّ على القبرِ

وقالوا أرثاه قول ابن مناذر:

أنعى فتَى الجودِ إلى الجود

ما مثل من أنعى بموجودِ

أنعى فتًى مصَّ الثرى بعده

بقيّة الماءِ من العودِ

وأخبرنا أبو أحمد، قال: سمعت محمد بن يحيى، قال: سمعت محمد بن يزيد يقول:لو سئلت عن أحسن أبيات تعرف في المراثي لم أختر على أبيات الخريمي:

ألم تراني أبني على الليث بنيةً

وأحثي عليهِ التربَ لا أتخشعُ

وأعددته ذُخراً لكلِّ مُلِمَّةٍ

وسهمُ المنايا بالذَّخائرِ مُولعُ

وأني وإن أظهرتُ مني جلادةً

وصانعتُ أعدائي عليه لموجعُ

ولو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتهُ

عليهِ ولكن ساحةُ الصبرِ أوسعُ

وقال أبو عمرو بن العلاء أرثى بيت قول عبدة:

فما كانَ قيسٌ هُلكهُ هُلك واحد

ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما

وقال خلف الأحمر أرثى بيت:

الآن لما كنت أكمل من مشى

وافتر نابك عن شباة القارح

وتكاملت فيك المروءة كلها

وأعنت ذلك بالفعال الصالح

وقال الأصمعي أرثى بيت للعرب:

ومن عجبٍ أن بتَّ مستشعرَ الثّرى

وزدت بما زودّتني مُتمتعا

ولو أنني أنصفُتك الودَّ لم أبتْ

خلافك حتى ننطوي في الثرى معا

ومن أحسن ما قيل في بقايا آثار الميت قول الحسين بن مطير:

فتى عيش معروُفهِ بعدَ مَوْتهِ

كما كانَ بعدَ السيلِ مجراه مرتعا

وفي هذه القصيدة:

أيا قبرَ معنٍ كنت أولَ حفرةٍ

من الأرض خطتْ للسماحة مضجعا

ويا قبرَ معن كيفَ واريتَ شخصه

ولو كان حياً ضقتَ حتى تصدعا

فلما مضى معن مضى الجودُ والندى

وأصبحَ عرنينُ المكارم أجدعا

وأنا أقول: إن هذه الأبيات أرثىماقيل في الجاهلية والاسلام. وقالوا: أرثى بيت قيل قول مهلهل في كليب:

نبئتُ أنَّ النارَ بعدك أوقدتْ

واستبَّ بعدك يا كليبُ المجلسُ

وتكلموا في أمر كل عظيمة

لو كنتَ شاهدهم إذاً لم ينبسوا

وكان كليب إذا أوقد ناراً، لم يوقد أحداً ناراً، ولم ينزل ضيف إلا عليه، وإذا جلس مجلساً، لم يتكلم فيه أحد إلا هو. وقالوا: أحسن ما قيل في المراثي قول متمم بن نويرة في أخيه مالك:

وكنا كندْمانَي جُذيمةَ حقبةً

من الدهرِ حتى قيلَ لن تتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكاً

لطول اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا

وليس في المحدثين أحسن مراثي من أبي تمام فمن ذلك قوله:

غدا غدوةً والمجدُ نسجُ ردائِه

فلم ينصرفْ إلا وأكفانهُ الأجرُ

فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رجلَهُ

وقال لها من تحتِ أخمصكِ الحشر

فتى ماتَ بينَ الضّربِ والطعن ميتةً

تقومُ مقامَ النّصرِ إنْ فاتَه النصرُ

فتى سلبتْه الخيلُ وهو لها حمى

وبزَّتهُ نارُ الحربِ وهو لها جمر

كأنَّ نبي نبهانَ يومَ وفاتهِ

نجومُ سماءٍ خرَّ من بينها البدرُ

مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ روضةٌ

غداةَ ثوى إلا اشتهتْ أنها قبرُ

وكيف احتمالي للسحابِ صنيعة

بإسقائه قبراً وفي لحدهِ البحرُ

ولولا كراهة الإطالة، لأوردت القصيدة كلها، إذ ليس فيها إلا مختارٌ. وقوله في إدريس بن بدر السامي:

أإدريسُ ضاع المجدُ بعدك كلُّه

ورأي الذي يرجوهُ بعدك أضيعُ

وضلَّ بك المرتادُ من حيث يهتدي

وضرَّبْ بك الأيامُ من حيث تنفعُ

وتبسطُ كفاً في الخطوبِ كأنما

أناملُها في البأس والجودِ أدَرعُ

ولم أنسَ سَعيَ الجودِ حولَ سريرهِ

باكسفِ بالٍ يستقيمُ ويظلعُ

وقد كانَ يدعى لابس الصبرِ حازماً

فقد صار يُدعى حازماً حين يجزعُ

وقوله في بني حميد:

عهدي بهم تستنيرُ الأرضُ إن نزلوا

فيها وتجتمعُ الدُّنيا إذا اجتمعوا

ويضحكُ الدَّهرُ منهمْ عنْ غطارفة

كأنَّ أيامَهم منْ أُنسِها جُمَعُ

فيما الشماتة إعلاناً بأسد وغى

أفناهُم الصبرُ إذْ أبقاهم الجزعُ

وقوله أيضاً:

إذا فُقدَ المفقودُ من آل مالكٍ

تقطّعَ قلبي رحمةً للمكارمِ

خليليَّ من بعد الأسى والجوَى قفا

ولا تقفا فيضَ الدُّموع السّواجمِ

ألمّا فهذا مصرعُ البأسِ والندى

وحسبكما إن قلتُ مصرعُ هاشمِ

ألم تريا الأيامَ كيفَ فجعننا

به ثمَّ قد شاركتنا في المآتمِ

خطوْنَ إليه من نداهُ وبأسِه

خلائقُ أوقى من سيورِ التمائمِ

وقد كثرت علي محاسنه في هذا الباب فما أدري ما أورد وما أترك. وقد أحسن القائل:

وسميته يحيى ليحيا ولم يكنْ

إلى ردِّ أمرٍ اللهِ فيهِ سبيلُ

تيممتُ فيه الفالَ خين رزُقته

ولم أدرِ أنَّ الفالَ فيه يفيلُ

وأخذ أبو تمام قول الفرزدق في جارية له ماتت وفي بطنها غلام:

وجفن سلاح من معدّ رُزئته

والبيت:

وفي جوفه من دارم ذو حفيظة

لو أنَّ الليالي أنسأته لياليا

وكان وجه الكلام أن يقول: وفي جوفه ذو حفيظة من درام. فقال أبو تمام وزاده زيادة أسقط بها بيت الفرزدق حتى صار لا قيمة له معها وهو قوله في ابنين لعبد الله بن طاهر قد ماتا صغيرين في يومٍ واحدٍ:

نجمانِ شاءَ الله أن لا يطلعا

إلا ارتدادَ الطرفِ حتى يأفَلا

إنَّ الفجيعةَ بالرِّياضِ نواضراً

لأَجَلُّ مها بالرياضِ ذوابلا

لو ينسيان لكان هذا غاربا

للمكرُماتِ وكان هذا كاهلا

لهفي على تلك الشواهدِ فيهما

لو أمهلتْ حتى تكونَ شمائلا

لغدا سكونُهما حِجاً وصباهما

حِلماً وتلك الأريحيّةُ نائلا

إنَّ الهلالَ إذا رأيتَ نموَّهُ

أيقنتَ أنْ سيكونَ بدراً كاملا

ثم قال يؤسيه:

إن ترزَ في طَرفيْ نهارٍ واحدٍ

رُزءين هاجا لوعة وبلابلا

فالثقل ليس مضاعفاً لمطيةٍ

إلا إذا ما كان وهماً بازلا

ثم قال أيضاً:

شمخت خلالُك أن يُؤسيك امرؤٌ

أو أن تذكّرَ ناسياً أو غافلا

إلا مواعظَ قادها لك سمحة

أسجاح لُبِّك سامعاً أو قائلا

هل تكلفُ الأيدي بهزّ مُهّندٍ

إلا إذا كان الحسامُ الفاصلا

وقالوا: ليس للعرب مرثية أجود من قصيدة كعب بن سعد، التي يرثي فيها أخاه أبا المغوار ويقول فيها:

أتى دونَ حلوِ العيشِ حتى أَمرَّهُ

نُكوبٌ على آثارهِنَّ نُكوبُ

هوتْ أمهُ ما يَبعثُ الصبحُ غاديا

وماذا يؤدِّي الليلُ حينَ يؤوبُ

حليمٌ إذا ما الحلمُ ريّنَ أهلَه

مع العلمِ في عينِ العدوِّ مهيبُ

هوتْ أمهُ ماذا تضمنَ رحلهُ

من الجودِ والمعروفِ حينَ ينوبُ

فتى أريجيٌّ كيف يهتزُّ للندى

كما اهتزَّ من ماءِ الحديدِ قضيب

حليفُ الندى يدعو الندَى فيجيبهُ

قريباً ويدعوه الندَى فيجيب

فإن تكنِ الأيامُ أحسَنَّ مرَّة

إليّ فقد عادتْ لهنَّ ذنوبُ

وحدَّثتماني إنما الموتُ بالقرى

فكيف وهذي هضبة وكثيبُ

وقال فيها:

وداعٍ دعانا من يجيب إلى الندى

فلما يجبه عند ذاك مجيب

فقلت ادع أخرى وارفض الصوت مسمعا

لعلَّ أبا المغوارِ منك قريبُ

ومن عجيب المراثي قول الرقاشي في البرامكة:

الآن استرحنا واستراحتْ ركابنا

وقلَّ الذي يجدي ومن كان يجتدي

فقلْ للمطايا قد أمنتِ من السُّرَى

وطيِّ الفيافي فدفداً بعد فدفدِ

وقلْ للمنايا قد ظفرتِ بجعفر

ولن تظفري من بعدهِ بمسّود

وقلْ للعطايا بعدَ فضل تعطلي

وقل للرزايا كلّ يوم تجدَّدي

ودونك سيفاً برمكياً مُهنّداً

أصيبَ بسيفِ الهاشميّ المهندِ

ومن جيد المراثي قول الآخر:

سأبكيك للدُّنيا وللدِّين أنني

رأيتُ يدَ المعروفِ بعدك شُلَّتِ

ربيعٌ إذا ضنَّ الغمامُ بمائهِ

وليثٌ إذا ما المشرفيةُ سُلَّتِ

وقد أحسن أبو الحسن الأنباري القول في ابن بقية حين صلب:

عُلوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ

بحقٍ أنتَ إحدى المعجراتِ

كأنَّ الناسَ بعدك حينَ قاموا

وفودُ نداك أيامَ الصِّلاتِ

وهذا البيت مأخوذٌ من وقول ابن المعتز في عبد الله بن سليمان حين توفي:

وصلوا عليه خاشعين كأنهم

قيامٌ خضوعٌ للسلامِ عليه

كأنك قائمٌ فيهم خطيباً

وكلهمُ قيامٌ للصَّلاةِ

مددتَ يديك نحوهمُ جميعا

كمدِّكها إليهمْ بالهباتِ

ولما ضاقَ بطنُ الأرضِ عن أن

يضمَّ عُلاك من بعدِ المماتِ

أصاروا الجوَّ قبرَك واستنابوا

عن الأكفانِ ثوبَ السافياتِ

فلم أرَ قبل جذعِك قطُّ جذعاً

تمكّنَ من عِناقِ المكرُماتِ

ومن جيد ما قيل في عظم شأن الميت قول ابن المعتز:

هذا أبو القاسم في نعشهِ

قوموا انظرُوا كيف تزُولُ الجبالُ

وقول أبي تمام:

بني مالك قد نيّهَتْ خاملَ الثرى

قبورٌ لكم مستشرفات المعالمِ

رواكد قيد الكفِّ من متناولٍ

وفيها عُلاً لا يرتُقى بالسلالمِ

وقلت:

سائل القبرَ كيفَ أضمرتَ قدساً

وأباناً ويَذّبُلاً وحِراءَ

من رأى البدرَ بالتراب توارَى

أو على ذروةِ النعوشِ تراءَى

وقال ابن المعتز وأحسن:

تعالوا نَرُرْ قبرَ السماحةِ والرِّفدِ

ولا نعتذرْ مع دمعِ عينٍ على خدِّ

لقد عشتَ لم يَعَلَقْ بفعلكِ ذِمَّةٌ

ومُتَّ على رغمِ المحامدِ والمجدِ

وقال أيضاً:

ألستَ ترى موتَ العلى والمحامد

وكيفَ دفّنا الخلقَ في قبر واحدِ

وللدَّهرِ أيامٌ يُسئنَ عوامداً

ويحسنَّ إن أحسنَّ غير عوامدِ

وقال دعبل بن علي الخزاعي:

حنَّطَتهُ يا نَصرُ بالكافور

ورفعتهُ للمنزلِ المهجورِ

هلاّ ببعضِ خلالهِ حنَّطتهُ

فيضوعُ أفقُ منازلٍ وقبورِ

وقلت:

على الرغم من أنف المكارم والعلى

غدتْ داره قفراً ومغناه بلقعا

ألم ترَ أن البأسَ أصبحَ بعدَهُ

أشلَّ وأنَّ الجودَ أصبحَ أجدعا

فمرا على قبرِ المسوّدِ وانظرا

إلى المجدِ والعلياءِ كيف تخشعا

فإن يكُ واراه الترابُ فكبّرا

على الجودِ والمعروفِ والفضلِ أربعا

ولا تسأما نَوْحاً عليه مُكرَّراً

ونَوحاً لفقدِ العارفاتِ مُرجّعا

فما كان قيسٌ هلكهُ هلكُ واحد

ولكنّه بنيانُ قوم تضعضعا

ولا تحسبا أني أورايهِ وحدَه

ولكنني واريتُهُ والنَّدَى معا

ومن بارع المراثي قول ديك الجن الحمصي:

ماتَ حبيبٌ فمات ليثٌ

وغاضَ بحرٌ وباخَ نجمُ

سَمَتْ عيونُ الرَّدَى إليهِ

وهي إلى المكُرماتِ تسمو

ما أمك اجتاحتِ المنايا

كلٌّ فؤاد عليك أمُّ

ومما جاء في صفة القبر قول الشاعر:

ورَسمُ دارٍ مُقفرُ الجنابِ

يزدادُ عُمراناً على الخرابِ

وقالوا أصدق ما قيل في صفة الدنيا قول أبي نواس:

إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ تكشَّفتْ

له عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ

وهو مأخوذٌ من قول جرير في وصف النساء:

دعينَ الهوى ثم ارتمينَ قلوبَنا

بأسهمِ أعداءٍ وهُنَّ صدِيقُ

وقال بل أصدق ما قيل في صفة الدنيا قول الأول:

حُتوفها رَصَدٌ وعيشُها نكَدٌ

وصفوها رتَقٌ وملكُها دُوَلُ

وقلت:

ما بالُ نفِسك لا تهوَى سلامتَها

فأنت في عَرَضِ الدنيا ترغبها

دارٌ إذا أتتِ الآمالُ تعمُرها

جاءت مقدمةُ الآجالِ تخرِبها

أصبحتَ تطلبُ دنيا لستَ تدركُها

فكيف تُدركُ أخرى لستَ تطلبها

ومن جيد ما قيل في الزهد قول ابن المعتز:

نسيرُ إلى الآجال في كلِّ لحظةٍ

وأيامُنا تطوَى وهُنَّ مراحلُ

ولم أرَ مثلَ الموتِ حقاً كأنه

إذا ما تخطته الأمانيُّ باطل

وقلت:

ألستَ تَرى موتَ العلا والفضائل

وكيفَ غروبُ النجم بين الجنادلِ

فما للمنايا أغفلتْ كلَّ ناقصٍ

ونقبنَ في الآفاقِ عن كلِّ فاضل

على الرِّغم من أنفِ العُلا سبقَ الرَّدَى

بكلِّ كريمِ الفعلِ حرِّ الشمائل

على أنَّ من أبقتْهُ ليسَ بخالدٍ

وليسَ امرؤٌ يرجو الخلودَ بعاقل

رأيتُ المنايا بينَ غادٍ ورائحٍ

فما للبرايا بينَ ساهٍ وغافل

ولم أرَ كالدنيا حبيباً مُضرّةً

ولم أرَ مثلَ الموتِ حقاً كباطلِ

وقال ابن المعتز:

كم بدارِ الموتِ من ذي إرْبَة

عجزتْ منهُ على الموتِ الحِيَلْ

ومُلوك بليتْ أيديهم

ولقد كانتْ مطايا للقبلْ

وقلت:

فتعجبتُ كيفَ لا نحذرُ المو

تَ وأنفاسُنا خُطانا إليه

وقرأت للجاحظ كلاماً مفقود النظير، معدوم الشبيه، لا أعرف لأحد مثله، وهو:أيها المستدل على أمور الدنيا، كفاك بها على نفسها دليلاً، ويومها لك من غدها تشبيهاً وتمثيلاً، تالله لقد أطلعتك بمؤتلفاتها على حدوث تأليفها، وأثبتت لك الصانع بآثار صنعته فيها، ووقفتك على معرفة كمالها، بما توافى فيك من أجزائها، ودلتك بتحليل المركبات فيها، على انحلال تركيبها، ووقفتك بقطع الشمس والقمر قطرها على إدبارها وانقطاعها، فكشف لك انتهاء حدودها عن تناهي أمدها، وأبان لك دؤوب اطراد نهارها وليلها، وتتابع دوران بروجها ونجومها، وتعاقب أزمنة بردها وحرها واعتدالها، وحركات نيرانها ورياحها ومياهها، أنها مسوقة محثوثة إلى أمدها، كما تحت براياها بالأوقات الجارية إلى آجالها. ثم قال:وتحدث ما تخوفك به طوارق أحداثها، وتوطنك على إيطان جثمانها، حدثاً من أحداثها، لا تمسك منها بعروة إلا شهدت على أشكالها، فأية نصيحة أصدق لك من نصيحتها، أو عظة أشفى وأبلغ من عظتها، أو شهادة أصح وأعدل من شهادتها، بالفناء على نفسها، ألم تر أجزاءها مؤتلفة بالاجتماع، مختلفة بالطباع، يهلك بعضها بعضاً ويعود إبرامها نقضاً، فيا ناسياً للصخر مفارقك، وأنه وإن جددته مخلقك، وأنك تطلقه في شهواته ويوثقك، ويبقى عليه من التعب ويوبقك، ففيم تشتغل به عن مصلحتك، وعلام تتكل في عقبيك، إلى أن قال:وتقوى على الزهد فيما يتنافسه الجهال بذكر الموت وفجأته، وبغتاته ووضوح آياته، وغموض ميقاته، وانخذال المحالة عن دفعه، ويأس النفوس من منعه، عند غوصه عليها في الأبدان، وتخليله لها من الأعظم والأعصاب، والعروق واللحم والإهاب، حتى يسوقها من الأغماض والأوصال، سياق مضيق للخناق، محقق للفراق مؤيس من التلاق، عند إحساسه بموت جسده عضواً فعضواً، وفقدان قوته جزءاً جزءاً وهي تمرح في الصدر حشرجة، وفي الجوانح رجرجة، وفي اللهوات غرغرة، وفي الحلقوم خرخرة، بالنزع الجاذب، والعلن الكاذب، والفواق الدائب، الانفاس الذواهب، فهناك تنفس الصعداء وتوقد البرحاء، وفي سمعه وبصره بقية يرمق بها أولاده يتامى، ونساء أيامي وأمواله نهبى، وجموعه شتى، ووجوه الشامتين به مشرقة، والدموع من أحبته مستبقة، والجيوب عليه مشققة، والشعور مقطعة، والخدود باللطم مبقعة، وذلك غير عائد عليه ولا عليهم بمنفعة في كلام طويل:ومن جيد ما قيل في إفضاء السلامة بصاحبها إلى الهلاك قول النمر بن تولي:

تداركْ ما قبلَ الشبابِ وبعدَهُ

حوادثَ أيامٍ تمرُّ وأغفل

يودُّ الفتى طولَ السلامةِ والغنى

فكيفَ ترى طولَ السلامة يفعل

يُرَدُّ الفتى بعد اعتدالٍ وصِحّةٍ

ينوءُ إذا رام القيامَ ويُحمَلُ

وقيل لرجل من الأوائلأ: ما كان سبب موت أخيك ؟ قال: كونه. فأحسن ما شاء. وقال بعضهم في معناه:

ما بالُ من آفته بقاؤهُ

نغصَ عيشي كلهُ فناؤُهُ

وقال آخر في نحوه:

فإنَّ الداء أكثر ما تراهُ

من الأشياء تحلو في الحلوقِ

ومن جيد ما قيل في موت الولد قول ابن الرومي:

بكاؤكما يشفي وإن كانَ لا يجدي

فجودا فقد أوْدَى نظيرُ كما عندي

توفى حمامُ الموتِ أوسطَ صبيتي

فللَّه كيفَ اختارَ واسطةَ العِقدِ

طواهُ الرّدَى عني فأضحى مَزَارهُ

بعيداً على قرب قريباً على البعدِ

عجبت لقلبي كيفَ لم ينفطِرْ له

ولو أنه أقسى من الحجر الصَّلدِ

وما سرَّني أن بعتهُ بثوابهِ

ولو أنه التخليد في جنّةِ الخلدِ

ولا بعتهُ طوعاً ولكنْ غُصِبتُه

وليسَ على ظلمِ الحوادثِ من مُعدي

وأما موت الأخ، فقد روينا فيه خبراً مليحاً، أخبرنا به أبو طاهر، محمد بن يوسف، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن بكر، قال: حدثنا أيوب بن سليمان، قال حدثني يوسف قال: حدثنا صهيب بن محمد قال حدثنا إسماعيل بن عمرو قال حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن دينار، قال: قدم لقمان من سفرٍ، فلقى غلاماً له فقال له: ما فعل أبي ؟ قال: مات. قال: ملكت أمري. فما فعلت أمي ؟ قال: ماتت قال: ذهب همي قال: فما فعلت أختي ؟ قال: ماتت. قال: سترت عورتي قال: فما فعلت امرأتي ؟ قال: ماتت قال: جدد فراشي قال: فما فعل أخي ؟ قال: مات. قال: أوه انقطع ظهري. انتهى. وذكر قدامة بن جعفر أن أبا جعفر المنصور لما دفن ابنه جعفر الأصغر قال للربيع كيف قال مطيع بن إياس: فأنشده:

يا أهل بكوا لقلبيَ القرحِ

وللدُّموعِ الذوارفِ السُّفُحِ

راحوا بيحيى ولو تطاوعني الأ

قدارُ لم تبتكرْ ولم ترحِ

يا خيرَ من يحسُنُ البكاءُ له ال

يومَ ومنْ كانَ أمسِ للمِدَحِ

قد شمتُ الحزنَ بالسرورِ وقد

أديلَ مكروهُه من الفرحِ

فبكى المنصور ثم قال: صاحب هذا القبر أحق بهذا الشعر، ثم أذن للناس فدخلوا ونصبت الموائد فلم يقدر أن يمد يده من الجزع الذي كان خامره فقال شبيب بن شيبة فأنشده قول الثقفي في ابنه علي، وكان شرطة عبيد الله بن العباس باليمن فقتله بسر بن أرطأة فقال يرثيه:

لعمري لقد أوْدَى ابنُ أرطأةَ فارساً

بصنعاءَ والليث الهزبر أبي الأجر

تأملْ فإن كانَ البكا رَدَّ هالكاً

على أحدٍ فاجهدْ بُكاك على عمرِو

فسري عنه وأكل مع الناس ورفع الحزن مع رفع الطعام. ومن عجيب المراثي قول الأشجع:

مضى ابن سعيد حين لم يَبقَ مَشرقٌ

ولا مغربٌ إلا له فيهِ مادحُ

وما كنتُ أدري ما فواضلُ كفه

على الناس حتى غيبتهُ الصفائحُ

فأصبحَ في لحدٍ من الأرضِ ميتاً

وكانَ بهِ حياً تضيقُ الأباطحُ

سأبكيك ما فاضتْ دُمُوعي وإن تغض

فحسبك مني ما تحنُّ الجوانحُ

كأنْ لم يمتْ حيٌّ سِواكَ ولم تقمْ

على أحدٍ إلا عليك النوائحُ

لئن حسنتْ فيك المراثي وقيلها

لقد حسنتْ من قبلُ فيك المدائحُ

وما أنا من رزءٍ وإن جَلّ جازعٌ

ولا بسرورِ بعدَ موتك فارحُ

وأنشدنا أبو القاسم عبد الوهاب بن إبراهيم قال: أنشدنا العقدي، قال: أنشدنا أبو جعفر عن المدائني لعرفجة بن شريك يرثي أوساً:

رأيتُ المنايا تصطفي سَرَواتنا

كأنَّ المنايا تبتغي من تفاخِره

فما كانَ قيسٌ عاجزاً غير أنهُ

حمى أنفه من أن يضيعَ مجاورُه

وطابَ لوردِ الموتِ نفساً ولم يخمْ

وقد ضاقَ بالنكس اللئيم مصادِرُه

فصادفَ رق الموت حراً سميدعاً

إذا سئلَ المعروفَ لانت مكاسره

حمى أنفه أوس ولم يثن وجههُ

ويفني الحياءُ المرءَ والرمح شاجِره

ومن ههنا أخذ أبو تمام قوله:

وقد كانَ فوت الموتِ سهلاً فرَدَّهُ

عليه الحفاظ المرُّ والخلقُ الوعرُ

وعزى ابن السماك الرشيد عن ابن له مات فقال:أما بعد فإن استطعت أن يكون شكرك لله حين أخذه، أكثر من شكرك لله حين وهبه فافعل، فإنه حين قبضه أحرز لك هبته ولو بقي لم تسلم من فتنته، عجباً لجزعك على ذهابه، وتلهفك على فراقه، أرضيت الدار لنفسك، فترضاها لولدك، أما هو فقد خلص من الكدر، وبقيت معلقاً بالخطر. والسلام. ^

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً لا يحصى عدده ولا يبلغ أمده، وصلواته على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين المختارين وسلم.

هذا كتاب المبالغة في

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي