ديوان المعاني/ذكر النار

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر النار

ذكر النار - ديوان المعاني

ذكر النار

فأول ما نذكر فيها قول الله تعالى: 'أفرأيتم النار التي تورون' إلى قوله: 'نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين' فذكر منفعتها، وحسن عائدتها، في الدنيا والدين، فأما منفعتها في الدين فإنها تذكر ما أعد الله تعالى لعصاته منها في دار العذاب، فيكون ذلك مزجرة لمن تذكر، ومنهاة لمن تبصر، وأما منافعها في الدنيا وكثرة مرافقها فغير مجهولة، وقد خصر الإنسان بخيرها، دون سائر الحيوان، فليس يحتاج إليها شيء سواه، وليس به عنا غنى في حال من الأحوال، ولهذا عظمها المجوس وقالوا: إنها قد أفردتنا بنفعها، فينبغي أن نفردها بتعظيمنا، على أنهم يعظمون جميع ما فيه نعمة على العباد، فلا يدفنون موتاهم في الأرض، ولا يستنجون في الأنهار، رؤي على عهد كسرى، رجل يغتسل في دجلة فضربت رقبته، وكانت العرب إذا تحالفت، تحالفت على النار، ويدعون على من يغدر وينقض العهد بحرمان منافعها. وقد أحكمنا ذلك في كتاب الأوائل. ومن عجيب التشبيه في النار قول الأول:

كأنَّ الريحَ تقطع من سناها

بنايق حبةِ من أرجوانِ

وقول ابن المعتز:

وموقدات بتن يضرمنَ اللهبْ

يشبعنهُ منْ فحمٍ ومن حطبْ

يرفعنَ نيراناً كأشجارِ الذَّهبْ

وقال آخر:

كأنّ نيراننا في جنبِ قلعتهم

مصبغاتٌ على أرسانِ قصارِ

وقول أبي تمام في إحراق الأفشين:

نارٌ يساورُ جسمُهُ من حرَّها

لهبٌ كما عصفرتَ شقَّ إزارِ

صلّى لها حياً وكان وقودها

ميتاً ويدخلُها مع الفجارِ

أخبرنا أبو أحمد، عن الصولي، حدثنا أحمد بن اسماعيل، حدثني جعفر بن علي بن الرشيد، فقال: أنشدنا المعتصم قول بعض الهاشميين في فتحه هرقلة:

ريعتْ هرقة لما أن رأتْ عجبا

جو السما ترتمي بالنفطِ والقارِ

كأنَّ نيراننا في جنبِ قلعتهم

مصبغاتُ على أرسان قصارِ

فقال لابن داود، وقد أنشدنا شاعر طائي أوصلته إلى في حرق القادر أفشين شيئاً من هذا الجنس، استحسنته فقال أحمد: ما أحفظه، وإنما أحضر الشاعر فقال بعض أولاد الحجاب: أنا أحفظ القصيدة والموضع، فقال هات فأنشد:

ما زال سرُّ الكفرِ بينَ ضلوعهِ

حتى اصطلى سرَّ الزِّناد الوارى

ناراً يساورُ جسمهُ من حرِّها

لهبٌ كما عصفرتَ شقِّ إزارِ

طارتْ لها شرر يهدّمُ لفحها

أركانهُ هدماً منارِ

ففصلنَ منه كلِّ مجمع مفصل

وفعلنَ فاقرةً بكلِّ فقارِ

رمقوا أعالي جذعهِ فكأنما

رمقوا هلالَ عشيَّةِ الإفطارِ

كرّوا وراحوا في مُتونِ ضوامرٍ

قيدتْ لهمْ من مربطِ النجار

لا ينزلون ومنْ رآهمْ خالهم

أبداً على سَفرٍ من الأسفارِ

فقال المعتصم: أحسن ما شاء، قد أمرت له بعشرة آلاف درهم، ولهذا الذي حفظها بنصفها، قال فتعجبنا من فطنة المعتصم، ومن رزق هؤلاء على غير طلب ولا أمل، قال: فلم يبق في العسكر أحد إلا حفظ قصيدة أبي تمام:وقلت:

أوقدتُ بعدَ الهدوِّ نارا

لها على الطارقينَ عَينُ

شرارها إنْ علا نُضارٌ

لكنهُ إن هوى لجين

دعتهمُ فانثنى إليها

محبهم قرة رأين

إلى كريم الفعالِ سمح

عطاؤهُ للكريم زين

يقضي ديونَ العلا ببذلٍ

إذ ليسَ يقضى لهنَّ دينُ

وقال ابن المعتز:

وقد تعلى شررُ الكانون

كأنه نثارُ ياسمين

وقلت:

نار تلعب بالشقوقِ كأنها

حُللٌ مشققةٌ على حبسانِ

رَدَّتْ عليها الريحُ فضلَ دخانها

فأتَتْ بهِ سيحاً على عصان

فالجوُّ يضحك في ابيضاض شِرائر

منها ويعبسُ في اسوداد دخان

وقال أبو فضلة:

اشربْ على النار في الكوانين

إذ ذهبتْ دولةُ الرَّياحين

بَدَت لنا والرَّمادُ يحجبها

كجلنارٍ من تحتِ نسرينِ

وقلت في معناه:

قصرتُ يدَ الشتاء بحرِّ جمر

وأخت الجمر صافية الرَّحيقِ

ترى نبذ الرَّماد بوجنتيه

ككافور يذرُّ على خلوقِ

وقلت:

تحركت الشمالُ فقرَّ ليلى

فهاتِ الرَّاحَ من أيدي الملاح

جراد الجمر يسترهُ رمادٌ

كمثلِ الوردِ يسترهُ الأقاحي

وأنفاس الرِّياضِ معطراتٌ

تطيرُ بهنَّ أنفاس الرِّياح

وأرديةُ الظلام ممسكاتٌ

مطرَّزةُ الحواشي كالصباحِ

وقال ابن المعتز في سقوط الشرر على الثياب والبسط:

فترك البساط بعد الخمدِ

ذا نقطٍ سودٍ كجلدِ الفهدِ

وقال أيضاً:

وصيرت جبابهم مناخلا

وقلت:

كأنما النارُ بينهُ ذهب

والجمرُ من تحتهِ يواقيتُ

ومن بديع ما قيل في القدور على النار قول بعض العرب:

كأنَّ صوتَ غليهِ المستعجل

قصد الشبوح للشيوخ الجهلِ

وقال ابن المعتز:

والسيف راعي إبلي في المحلِ

يسلمها إلى قدورٍ تغلي

تُرقلُ فيها بالوقودِ الجُزْل

إرقالُها في السير تحت الرحلِ

وقالوا: أحسن ما قيل في الأثافي والرماد قول ابن هرمة:

نبكي على زمنٍ ونؤي هامدِ

وجواثم سفع الخدود رواكد

عرين من عقد القدور وأهلها

فعكفنَ بعدهم بهاب لابدِ

فوقينه عبثَ الصبا فكأنه

دنف يرن الدمع بين عوائدِ

وقال أبو تمام:

أثافٍ كالخدودِ لطمنَ حُزناً

ونؤيٌ مثلَ ما انفصمَ السوارُ

ومما يجري مع ذلك القول في الشمعة. ومن أجود ما قيل في قول السري:

شفاؤها إن مرضت ضرب العنق

وقول الآخر:

موقوفة بين حريق وغرق

وقلت:

كم قد جنيتُ اللهوَ من غصنهِ

ما بينَ أنوارٍ ونوّارِ

من روضةٍ بللَ أعطافَها

سقيطُ أنداءٍ وأمطارِ

وأوجهٍ تحسَبهُا أشمساً

في ليلِ أصداغٍ وأطرار

وشققتْ عنها ستورَ الدُّجى

نارٌ على نارٍ على نارِ

وقلت في السراج:

وحيةٌ في رأسها دُرَّةٍ

تعملُ في وجهِ الدُّجى غَّره

وجنتها أكبرُ من رأسها

فهي إذا أبصرتها عبره

كم من مريبٍ أهتكت ستره

وصيرتهُ في الورى شهره

يردفها أصفرُ في أصفر

يقدمها أسودُ في حمره

وقال السري في الكانون:

وكأنما الكانون ألهبَ جمره

أحداق أسدٍ يدَّرينَ أسودا

يكسو خدود الشربِ من نفحاتها

قبل الكؤوس وحسنها توريدا

وقلت في الكانون:

وبركةٌ مترعة الأرجاء

فارغةٌ من سبلِ الأنواءِ

يغسل فيها حلة الظلماء

أقامت النارَ مقامَ الماءِ

نارٌ كوجهِ غادةٍ حسناءِ

ترقصُ في مبدعة صفراء

والجمرُ في حلتهِ الحمراءِ

مثل بنانٍ عُلّ بالحناء

وأسهمٌ تصبغُ بالدماء

فهاكها ريحانةُ الشتاءِ

واشربْ عليها حلبَ الصهباء

فشربُ صهباءَ على شقراءِ

يطرف عينَ البؤسِ والضراء

ومن أجود ما قيل في الفحم قول بعضهم:

فحمٌ كيوم الفراقِ تشعله

نارٌ كنارِ الفراقِ في الكبدِ

أسود قد صارَ تحت حمرتهِا

مثلَ العيونِ اكتحلنَ بالرَّنجِ

الفصل الثاني من الباب الخامس

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي