ديوان المعاني/ذكر ظلمة الليل وطوله وقصره

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر ظلمة الليل وطوله وقصره

ذكر ظلمة الليل وطوله وقصره - ديوان المعاني

ذكر ظلمة الليل وطوله وقصره

وما يجري مع ذلك من سائر أوصافه

فمن أحسن ذلك قول ذي الرمة:

وليلٍ كجلبابِ العروس ادرعته

بأربعةٍ والشخصُ في العين واحدُ

أحمُّ علافيٌّ وأبيض صارمٌ

وأعيسُ مهريٌّ وأروع ماجدُ

فأخذه ابن المعتز ونقله إلى ما هو أظرف لفظاً منه وهو قوله:

وليلٍ كجلبابِ الشبابِ قطعتهُ

بفتيان صدقٍ يملكونَ الأمانيا

جلباب الشاب أظرف من جلباب العروس. قالوا: من أبلغ ما قيل في ظلمة الليل قول مضرس بن ربعي:

وليلٍ يقولُ الناسُ من ظلماتهِ

سواء صحيحاتُ العيونِ وعورُها

كأنَّ لنا منهُ بيوتاً حصينةً

مسوحٌ أعاليها وساج كسورها

وقريب من هذا قول الأعرابي:خرجنا في ليلة حندس، قد ألقت على الأرض أكارعها، فمحت صورة الأبدان، فما كنا نتعارف إلا بالأذان. وقلت في هذا المعنى:

وليلةٍ كرجائي في بني زمني

مُسوَدَّة الوجهِ منسوباً إلى الفحمِ

سَدَّتْ على نظرِ الرائينَ منهجهُ

حتى تعارَفَت الأشخاصُ بالكلم

لا أسامُ الجهدَ فيها أن أكابدهُ

ولا ترى صاحبَ الحاجاتِ ذا سأم

أحاولُ النجحَ في أمرٍ أزاولهُ

والنجحُ في دلجاتِ الأينقِ الرُّسمِ

ومن جيد التشبيه قول أبي تمام:

إليكَ هتكنا جنحَ ليل كأنه

قد اكتحلتْ منه البلادُ باثمدِ

أخذه من قول أبي نواس:

أينْ لي كيفَ صِرتَ إلى حريمي

وجنحُ الليلِ مكتحِلٌ بقارِ

وقول أبي تمام أجود، لأن الاكتحال بالإثمد لا بالقارة. وأظرف ما قيل في ذلك قول مسلم بن الوليد:

أجدك ما تدرينَ أنْ ربَّ ليلةٍ

كأنَّ دُجاها من قرونِك تُنشرُ

صبرتُ لها حتى تجلتْ بغُرَّةٍ

كغرَّةِ يحيى يومَ يذكرُ جعفرُ

وقد طرف القائل في قوله:

لا تَدْعني لَصبُوحٍ

إنَّ الغبوقَ حبيبي

فالليلُ لوّن شبابي

والصبحُ لوّن مشيبي

ومن الاستعارة قول ذي الرمة:

ودَوَّيَّةٍ مثلِ السماءِ عسفتها

وقد صبغَ الليلُ الحصى بسوادِ

أخذه البحتري فقال وقصر:

على باب قنسرين والليلُ لاطخٌ

جوانبهُ من ظلمةٍ بمداد

ليس البيت على السكة المختارة وقوله لاطخ جوانبه من ظلمة بمداد من بعيد الاستعارة. وأخذ ابن أبي طاهر قول مسلم:

كأن دجاها من قرونك تنشر

فقال:

سقتني في ليلٍ بشعرِها

شبيهةَ خَدَّيها بغيرِ رقيبِ

فوقع بعيداً عنه واختل في النظم وأقلق القافية. وقلت في معناه:

تسقيك في ليلٍ شبيهٍ بفرعِها

شبيهاً بعينيها وشكلاً بخدِّها

فتسكر من عين وكأسٍ ووجنةٍ

تحييك أعقابُ الكؤوسِ بوردِها

ومن البديع في هذا المعنى قول ابن المعتز:

أرِقت له والرّكبُ ميلُ رؤوسهم

يخوضونَ ضحضاحَ الكرى وبهم قرُّ

علاهمْ جليدُ الليل حتى كأنهم

بُزاةٌ تجلى في مراقبها قمرُ

إلى أن تعرَّى النجم من حُلةِ الدُّجى

وقالَ دليلُ القومِ قد نقبَ الفجرُ

وقدوا أديمَ الفجرِ حتى ترفعت

لهم ليلةٌ أخرى كما حوّمَ النسرُ

وقال ديك الجن:

سيرضيك أني مسخطٌ فيك كاشحاً

ومرتقبٌ هولان موت مرقبُ

وجانب ليلٍ تعلق قطعة

بقطعة صبحٍ لانثنتْ وهي غيهبُ

وقلت:

ومَدَّ علينا الليلُ ثوباً منمّقا

وأشعلَ فيهِ الفجر فهو محرقُ

وصبّحنا صُبحاً كأنَّ ضياءَهُ

تعلّم مِنّا كيف يبهى ويشرقُ

وقال ابن المعتز:

فخلتُ الدُّجى والليلُ قد مَدَّ خيطه

رداءً موشى بالكواكب معلما

وهو من قول الله تعالى: 'الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر'. ومن أتم أوصاف الظلمة، الذي ليس في كلام البشر، مثله قول الله عز وجل: ' أو كظلمات في بحرٍ لجي يغشاه موج من فوقه موجٌ من فوقه سحابٌ ظلماتٌ بعضها فوق بعض'. وقال الأصفهاني العلوي:

وَرُبَّ ليلٍ باتتْ عساكرُهُ

تحملُ في الجوِّ سودَ راياتِ

لامعة فوقها أسنتها

مثل الأزاهير وسطَ رَوضاتِ

ولست أورد أكثر شعره، إلا لإصابة معناه، دون لفظه، لأن أكثر لفظه متكلف، وجل صنعته فاسد، وهذا من العجب، لأنه من أكثر الناس نقداً لشعر غيره، وقد صنف كتاب عيار الشعر فأجاده، وهو إذا أراد استعمال ما ذكرناه، لم يكمل له، فهو كالمسن يشحذ ولا يقطع. ومن أحسن الاستعارة في ذكر الليل قول ابن أبي فنن:

أقولُ وجنحُ الدجُّى ملبدُ

ولليل في كلِّ فجٍّ يدُ

ونحنُ ضجيعان في مسجدٍ

فللَّه ما ضمنَ المسجدُ

أيا ليلة الوصل لا تنفدي

كما ليلةُ الهجر لا تنفذُ

يا غدُ إن كنت لي راحماً

فلا تدنُ من ليلتي يا غدُ

وقال السري:

وشرَّد الصبحُ عنا الليلَ فاتضحت

سطورُه البيضُ في راياتِه السودِ

وقلت:

ليلٌ كفرعِ الخودِ تخلفه ضحى

زهراءُ مثل عوارض الزهراءِ

عبقت بأنفاس الرِّياض كأنما

نفض الرَّقيب غلالة الدلتاءِ

وقلت:

والليلُ يمشي مشيةَ الوئيد

في الخضرِ من لباسهِ والسودِ

والصبحُ في أخراه ثاني الجيدِ

فأما أجود ما قيل في طول الليل، من الشعر القديم فقول امرىء القيس:

وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولَه

عليَّ بأنواع الهمومِ ليبتلي

فقلتُ له تمطى بصلبه

وأردف أعجازاً وناءَ بكلكلِ

ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجل

بصبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ

وهذا من أفصح الكلام وأبرعه، إلا أن فيه تضميناً يلحق به بعض العيب، وهو من أدل شيء على شدة الحب، والهم، لأنه جعل الليل والنهار سواء عليه، فيما يكابده من الوجد والحزن، وجعل النهار لا ينقصه شيء، من ذلك، وهذا خلاف العادة، إلا أنه دخل في باب الغلو. والذي أخبرنا بما في العادة الطرماح في قوله:

ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا أصبح

بصبح وما الإصباحُ منك بأروحِ

فهذا معنى قول امرىء القيس، ثم استدرك فقال:

على أنَّ للعينينِ في الصبح راحةً

بطرحيهما طرفيهما كلَّ مطرحِ

فجاء بما لا يشك أحد في صحته، إلا أن لفظه لا يقع مع لفظ امرىء القيس موقعاً، والتكلف في قوله:

بطرحيهما طرفيهما كل مطرح

بين والكراهة فيه ظاهرة. وقال ابن الدمينة في معنى قول الطرماح:

أظلُّ نهاري فيكم متعللاً

ويجمعني والهمّ بالليلِ جامع

وقال المجنون:

يضمُّ إليَّ الليلُ أطفالَ حبها

كما ضمَّ أزرارَ القميصِ البنائقُ

جعل ما ينشأ من الهم بالليل أطفالا، وفي هذا المعنى يقول النابغة:

كليني لهمٍّ يا أميمةُ ناصب

وليل أقاسيهِ بطيء الكواكبِ

تطاول حتى قلتُ ليس بمنقضٍ

وليل الذي يرعى النجومَ بآيبِ

وصدرٍ أراحَ الليل عازبَ همه

تضاعف فيه الحزن من كلِّ جانبِ

فجعل الهم يأوي إلى قلبه بالليل كالنعم العازبة، تريحها الرعاة مع الليل إلى أماكنها، وهو أول من ذكر أن الهموم تتزايد بالليل. وقلت:

وذكرنيهِ البدرُ والليل دونهُ

فبات بحدِّ الشوق والصبر يلعبُ

كذكرى الحمى والحي في منعج اللوى

وذكر الصبا والرأس أخلس أشيب

فأزدادُ في جنح الظلامِ صَبابةً

فلا صعبَ إلاّ وهو بالليلِ أصعبُ

وقلت:

ورأيتُ الهمومَ بالليلِ أدهى

وكذاك السرورُ بالليلِ أعذبُ

ومما استجدت من شعر أبي بكر الصولي في معنى امرىء القيس قوله:

أسرَ القلب في هواهُ وسارا وتجنى

عليّ ظلماً وجارا

فنهاري أراهُ للبعدِ ليلاً

وأرى للسهادِ ليلي نهارا

أنتَ فرَّقتَ بالتفرُّقِ صبري

فأعرني لما عراني اصطبارا

ويستجاد هذا، بالإضافة إلى جملة شعره، فأما لنفاسته لنفسه فلا. وقال إسحاق الموصلي في معنى النابغة:

إنَّ في الصبح راحةً لمحبّ

ومع الليلِ ناشئاتُ الهمومِ

وهذه اللفظة مأخوذة من قول الله تعالى: 'إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا'وقال طاهر بن علي بن سليمان:

إذا لاحَ لي صبحٌ فهمي مقسم

وفي الليلِ همي بالتفرُّدِ أطولُ

وتمنى بعض المثقلين بالدين، المبتلين بالفقر، دوام الليل لما يلقى بالنهار مع الغرماء ولما يحتاج إليه من النفقة في كل يوم فقال:

ألا ليتَ النهارَ يعود ليلاً

فإنَّ الصبحَ يأتي بالهمومِ

حوائجُ لا تطيقُ لها قضاءً

ولا رداً وروعات الغريم

قوله ولا رداً من التتميم الحسن. وقال التنوخي في طول الليل:

وليلةٍ كأنها طولُ الأملْ

ظلامُها كالدَّهرِ ما فهي خللْ

كأنما الإصباحُ فيها باطل

أزهقه اللَّهُ لحقٍّ فبطلْ

ساعاتها أطولُ من يوم النّوى

وليلةِ الهجرِ وساعاتِ العذَلْ

موصدة على الورى أبوابها

كالنار لا يخرجُ منها من دخل

وهذا يستملح وإن لم يكن مختاراً من التشبيه لأن إخراج المحسوس إلى ما ليس بمحسوس في التشبيه رديء. ومن التشبيه الغريب في ذلك قول بعض العرب:

ويوم كظلِّ الرُّمح قصرَ طولهُ

دم الزّقِّ عنا واصطكاك المزاهرِ

وقال البحتري:

قاسينَ ليلاً دونَ قاسان لم تكد

أواخرهُ من بعدٍ قطريه تلحقُ

وقال ابن المعتز في نحوه:

وحلتْ عليه ليلةٌ أرحبيةٌ

إذا ما صفا فيها الغديرُ تكدَّرا

بعيدة ما بين البياضين لم يكد

يصدق فيها صبحها حينَ بشرا

وقال:

بمخشية الأقطار حيلية الصدى

معطلة الآيات محذورة القصدِ

كأنَّ نجومَ الليلِ في حجراته

دراهمٌ زيف لم يجزن على النقدِ

يريد أن نجومه واقفة، ليست تسير، فكأنها زيفت ليست تنقد. وقد أبر بعض المحدثين، على من تقدم حيث يقول في طول الليل على دناءة لفظه:

عهدي بنا ورداءُ الليل منُسدلٌ

والليلُ أطولهُ كاللمحِ بالبصرِ

والآن ليلى مذ بانوا فديتهم

ليلُ الضريرِ فصبحي عير منتظر

وهذا أبلغ معنى من قول امرىء القيس الذي تقدم، إلا أنه لا يدخل في مختار الكلام، لابتذال لفظه، وزيادة على معناه، وسوء صنعته، والمعنى أن ليله ممدود بلا انقضاء، كالليل للضرير كله عند الضرير ليل. وقال علي بن الخليل:

لا أظلمُ الليلَ ولا أدَّعي

أنَّ نجومَ الليلِ ليستْ تعول

ليلي كما شاءَتْ قصيرٌ إذا

جادَتْ وإن ضنّت فليلي طويلْ

فأغار عليه ابن بسام فقال:

لا أظلمُ الليلَ ولا أدَّعي

أنَّ نجومَ الليلِ ليستْ تعورُ

ليلي كما شاءَتْ فإنْ لم تَزُر

طالَ وإنْ زارَتْ فليلي قصير

إلا أن بيته الثاني أحسن تقسيماً من بيت الخليل. وسمعت كافي الكفاة يقول لأبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد وقد أنشده:

جُلُّ همي وهمتي جُرجانُ

فقال هذا المصراع خطبه، قال أبو هلال العسكري: وأنا أقول إن قوله: ليلى كما شاءت خطبه. وقال سعيد بن حميد:

يا ليلُ بلْ يا أبدُ

أنائمٌ عنك غَدُ

وقال ابن الرومي وأحسن التشبيه:

ليست تزول ولكن تزيد

وقلت:

غابوا فلم أدرِ ما ألاقي

مسٌّ من الوَجْدِ أو جنونُ

ليليَ لا يبتغي براحاً

كأنهُ أدهمٌ حَرونُ

أجيلُ في صفحتيهِ عيناً

ما تتلاقى لها جُفون

وملح ابن الأحنف في قوله:

حَدِّثوني عن النهار حديثاً

وصِفوهُ فقد نَسيتُ النهارا

وقد أنبأ بشار عن العلة التي يستطال لها الليل وهو السهر فقال:

لم يطلْ ليلي ولكنْ لم أنمْ

ونفى عني الكرى طيفٌ ألمّ

ولا أرى في قلة النوم أجود من قول المجنون:

ونوم كحشرِ الطيرِ بتنا ننوشه

على شعبِ الأكوارِ والليل غاسقُ

على أن زهيراً قد قال:

وكصفقة بالكف كان رقادي

والأول أفصح. وأنبأ العجاج أيضاً، عن العلة التي لها يطول الليل:

تطاول الليل على من لم ينم

وقال بشار:

لخدَّيك من كفيك في كلِّ ليلةٍ

إلى أنْ ترى ضوء الصباح وسادُ

وهذا مأخوذ من قول أبي ذؤيب:

نام الخلي وبت الليل مشتجرا

والاشتجار وضع اليد على الخد والاعتماد عليها وهو جلسة المتفكر:

نبيتُ نراعي الليلَ نرجو نفادهُ

وليس لليلِ العاشقينَ نفادُ

وقال:

خليليَّ مات بالُ الدُّجى لا تزحزحُ

وما بال ضوءِ الصبحِ لا يتوضحُ

كأن الدجى زادت وما زادت الدُّجى

ولكنْ أطالَ الليلَ همٌّ مبرِّحُ

وقال ديك الجن:

من نامَ لم يدرِ طالَ الليلُ أم قصرا

ما يَعرفِ الليلَ إلاّ عاشقٌ سهرا

وقد أجاد ابن طباطبا العلوي القول في طول الليل وهو:

كأنَّ نجومَ الليل سارَتْ نهارها

ووافتْ عشاءً وهي أنضاءُ أسفارِ

فخيّمنَ حتى تستريحَ ركابها

فلا فلكٌ جار ولا فلكٌ ساري

وذكر خالد الكاتب أنه ليس يدري أطال ليله أم قصر لتحيره وتبلده فقال:

لستُ أدري أطال ليلي أم لا

كيف يدري بذاك من يتقلى

لو تفرَّغتُ لاستطالةِ ليلي

ولرعي النجومِ كنتُ مخلى

وتبعه أبو بكر الصولي فقال:

وطولتُ ليلي لو دَرَيتُ بطولهِ

ولكنه يمضي لما بي ولا أدري

وقال بشار:

طالَ هذا الليلُ بلْ طالَ السهرْ

ولقد أعرفُ ليلي بالقصَرْ

لم يطلْ حتى دهاني بالهوى

ناعمُ الأطرافِ فَتَّانُ النظر

فكأنَّ الهجرَ شخصٌ ماثلٌ

كلما أبصرَهُ النومُ نفر

وقلت:

صيّرني البينُ عرضة الحين

لا أربحَ اللَّهُ صفقةَ البينِ

قد طالَ يومي وليلتي بهمُ

لما يزالا بهمْ قَصيرَينِ

كان قليلاً لديَّ مكثهما

فكنتُ أدعوهما الجديديْنِ

فطال بعدَ الحبيبِ لبثهما

فصرتُ أدعوهما عتيقينِ

وقال آخر:

يا ليلة طالتْ على عاشقٍ

منتظرٍ في الصبح ميعادا

كادتْ تكونُ الحولَ في طولها

إذا مضى أوَّلها عادا

أجود ما قيل في قصر الليل وأشده اختصاراً قول إبراهيم بن العباس:

وليلة من الليالي الزُّهر

قابلتُ فيها بدرها ببدري

لم تكُ غيرَ شفقٍ وفجر

حتى تولَّتْ وهي بِكرُ الدَّهرِ

وقال غيره:

وليلةٍ فيها قِصَر

عشاؤُهِا مثلُ السّحَرِ

وهذا على غاية الاختصار. وقال العلوي الأصفهاني في قصر الليل واليوم:

ويوم دَجنٍ ذو ضميرٍ متهم

مثل سرور شابَهُ عارضُ غمّ

صحوٌ وغيمٌ وضياءٌ وظُلْم

كأنَّهُ مستعرٌ قد ابتسمْ

ما زلتُ فيه عاكفاً على صنمْ

مُهفهفِ الكشحِ لذيذِ الملَتزم

تفاحه وقفٌ على لثمٍ وشمّ

وبانة وقفٌ على هصرٍ وضَم

يا طيَبه يوم تولى وانصرمْ

وجُوده من قصرٍ مثل العدمْ

وقلت:

قصر العيشُ بأكناف الغضا

وكذا العيشُ إذا طابَ قصر

في ليالٍ كأباهيم القطا

لستَ تدري كيف تأتي وتمرّ

وقلت:

إذا البرق من شرقيِّ دجلة ينبري

على صفحات البارق المتألق

أشبهه دهراً أغرَّ محجلا

نعمنا به في ظلِّ فينان مورق

فمرَّ كرجعِ الطّرفِ ليس يرده

حنينٌ إلى مخبورة المتعشقِ

وقد يعرض المحذور من حيث يرتجى

ويمكنك المرجوّ من حي تتقي

أخبرنا أبو أحمد أبو أحمد عن الصولي، عن محمد بن سعيد، عن أبي عكرمة قال:أنشدت اعرابياً قول جرير:

أبُدلِّلَ الليلُ لأنسرى كواكبهُ

أم طال حتى حسبت النجمَ حيرانا

فقال: هذا حسن وأعوذ بالله منه ولكن أنشدك في ضده من قولي وأنشدني:

وليلٍ لم يقصرهُ رقاد

وقصّره لنا وصلُ الحبيبِ

نعيم الحبِّ أوْرقَ فيه حتى

تناولنا جناهُ من قريبِ

بمجلس لذَّةٍ لم نقوَ فيه

على الشكوى ولا عدِّ الذُّنوبِ

بخلنا أن نقطعهُ بلفظٍ

فترجمت العيونُ عن القلوبِ

فقلت له: زدني فما رأيت أظرف منك شعراً، فقال أما من هذا فحسبك ولكن غيره. وأنشدني:

وكنت إذا علقتُ حبالَ قومٍ

صحبتهمُ وشيمتيَ الوفاءُ

فأحسنُ حينَ يحسنُ محسنوهم

وأجتنب الاساءَةَ إنْ أساؤوا

أشاءُ سوى مشيئتهم فآتي

مشيئتهم وأترك ما أشاءُ

وأنشدنا عن محمد بن يزيد:

لله ليلتنا بجوِّ سويقةٍ

والعيشُ غضٌّ والزمانُ غريرُ

طابتْ فقصرَ طيبها أيامها

فكأنما فيها السنونُ شهور

وأنشدنا عن عون بن محمد بن إسحاق الموصلي:

للنا في جوارِ أبي الجناب

بيوم مثل سالفة الذبابِ

يقصره لنا شغفُ التلاقي

ويوم فراقنا يوم الحسابِ

وأخبرنا عنه، عن محمد بن الحسن أبي الحسن العتابي، عن عيسى بن إسماعيل، قال: سمعت الأصمعي يقول: قرأت على خلف شعر جرير فلما بلغت إلى قوله:

ويومٍ كإبهامِ القطاةِ محبب

إليَّ هواهُ غالبٌ لي باطله

رزقنا به الصيد العزيز ولم نكن

كمنْ نبله محرومةٌ وحبائِلهُ

فيا لك يوم خيره قبلَ شرِّه

تغّيبَ واشيه وأقصرَ عاذله

فقال: ويله وما ينفعه خير يؤول إلى شر ؟ فقلت: كذا قرأته على أبي عمرو، قال: صدقت وقال: كذا قال جرير، وكان قليل التنقيح مشرد الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع، قلت: كيف كان يجب أن يقول ؟ قال: الأجود له لو قال:

فيا لك يوماً خيره دون شره

فاروه هكذا، وكانت الرواة قديماً تصلح من شعر القدماء، فقلت: والله لا أرويه بعدها إلا هكذا. ومثل ذلك أن أبا الفضل بن العميد أنشد قول أبي تمام:

وكشفت لي عن صحفةِ الماءِ الذي

قد كنتُ أعهدهُ كثيرَ الطحلبِ

فقال: إنما قال عن جلدة الماء فقال: إذا أمكن أن يصلح قصيدته بتغيير لفظة، فمن حقها وحق قائلها أن تغير. قال أبو هلال وبين الصفحة والجلدة بون بعيد. وقال ابن طباطبا:

بأبي من نعمتُ فيهِ بيوم

لم يزلْ للسرورِ فيه نموُّ

يوم لهوٍ قد التقى طرفاهُ

فكأنَّ العشيَّ فيه غدوُّ

ومن قول إبراهيم بن العباس والناس يروونه لغيره:

ليلةٌ كاد يلتقي طرفاها

قصراً وهي ليلةُ الميلادِ

وقلت:

وطال عمُرك في دهرٍ به قصرٌ

تعدُّ فيه شهور العيش أياما

وقال القضاعي:

ذكرتكم ليلاً فنوَّر ذكركم

دجى الليل حتى انجاب عنا دياجرُهْ

فوالله ما أدري أضوءٌ مسجر

لذكركم أم يسجرُ الليلُ ساجره

وبتُّ أسقي الشوق حتى كأنني

صريعُ مدام لم ينهنه دائره

وظلتْ أكفّ الشوق لما ذكرتكم

تمثَّل لي منكم خيالاً أسايره

فلو كنتمُ أقصى البلاد لزرتكم

إلى حيث يعيي وردُه ومصادُره

أرى قصراً بالليلِ حتى كأنما

أوائله مما تداني أواخره

وقد أحسن ابن المعتز في صفة ليلة طيبة فقال:

يا ليلة نسي الزَّمانُ بها

احداثَهُ كَوني بلا فجر

راحَ الصباحُ ببدرِها ووشتْ

فيها الصّبا بمواقعِ القطرِ

ثم انقضتْ والقلبُ يتبعها

في حيث ما سقطتْ من الدَّهرِ

وقلت:

وصلت نعم ولكن صلةً

تشبهُ اللحظة في انتقالها

لستُ أدري أتمتعتُ بها

أم بزورِ الزور من خيالها

ومضى الليلُ سريعاً مثلما

أنشطتْ دهماء من عقالها

الفصل الثالث من الباب السادس

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي